تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

"المصارع" لدارن أرونوفسكي وميكي رورك في الصالات اللبنانية

مونودراما الجسد المتهالك

ريما المسمار

هل كانت عودة الممثل ميكي رورك في فيلم دارن أرونوفسكي "المصارع" لتحمل المعاني نفسها لو ان الشخصية التي يلعبها لا تشبهه الى هذا الحد؟ سؤال يتبادر الى الذهن خلال مشاهدة الفيلم او بعدها متنبهين الى تلك الحالة الفريدة التي يطرحها العمل من التناغم شبه الكامل بين "الشخصية" والممثل" وانتشال كل منهما للآخر. على الرغم من ان المخرج لا يعترف بأن ذلك الشبه كان الدافع وراء اصراره على ان يلعب رورك الدور، غير ان النتيجة والانتظار الطويل لتمويل المشروع يشيان بذلك. في مطلق الأحوال، لا يصرفنا ذلك السؤال ولا البحث عن اجابة له عن الفيلم. بل انه يصب في مصلحته تماماً.
يحمل فيلم أرونوفسكي الشيء وضده وينسحب ذلك على عالم الفيلم وشخصياته وعلى السينما نفسها. انه شريط عن الحياة والموت، عزة النفس والمهانة، المجد والسقوط، الحقيقة والزيف، البطولة والخسارة... وهو يعالج تلك الثنائيات ليس من موقع ضدي بل احتوائي. انها الحياة التي تعانق الموت والبطولة التي تتطلب خسارة والزيف المبني على حقيقة... وميكي رورك هو محور ذلك كله من خلال شخصية راندي روبنسن المصارع الملقب ب "الكبش". عرف الأخير سنوات مجد على حلبة المصارعة في الثمانينات قبل ان يتحول رجلاً مسناً ومصارعاً من الدرجة الثانية لحفنة من هواة المصارعة الاصليين. ولكنه مازال "بطلاً" انما من طينة ودرجة مختلفة. يخال المشاهد للوهلة الأولى ان ما يدفع "الكبش" الى خوض مباريات محلية صغيرة من تدبير متعهدين صغار هو الكسب المادي. والا لماذا قد يرهق نفسه الى هذا الحد ويعرض تاريخه للشفقة؟ لعله هو نفسه لا يدرك لماذا يفعل ذلك في البداية. يكفي المشهد الأول لنفهم اين أصبح الرجل الذي كان في ما مضى قيمة حقيقية في مجاله. في كواليس الحلبة، بعد مباراة ملاكمة خاضها، وبينما يفك الاربطة الكثيرة التي تطوق جسده، يسلمه المتعهد مبلغاً زهيداً من المال مشفوعاً باعتذار وتمتمة "كنت أتوقع بيع بطاقات أكثر". لا ينبس "الكبش" بكلمة بينما وجهه ومعظم جسده المتهالك على الكرسي مازالا غير ظاهرين للكاميرا. تلاحقه الاخيرة بينما يغادر الكواليس بثيابه الرثة ومشيته المتثاقلة. يقابل مجموعة شبان يطلبون توقيعه على ملصقات احدى مبارياته الشهيرة في الثمانينات. يقوم بالعمل بخفة روح ويتبادل معهم بعض الحديث عن عظمة تلك المباراة. من الواضح ان الرجل يمثل ذلك الماضي وما حاضره الا بقايا ماضيه. يظهر وجهه للكاميرا للمرة الاولى، محفوراً بأخاديد عميقة من آثار عنف مهنته والعقاقير التي تناولها. الى منزله يعود ليجد ان المقطورة التي يقطنها محكمة الاقفال. نفهم انها فعلة المالك كعقاب له على عدم دفع الايجارف في ما يبدو انها عملية متكررة كما يظهر من سيارته التي تحول جزءها الخلفي منامة. هناك يحتسي الجعة ويدخن سيجارته في عالم مغلق ضيق وينزع سماعة أذنه قبل ان يغط في نوم عميق. تتشكل الصورة الاولى: رجل يحيا حياة يتواتر فيها صخب الحلبة وسكون الوحدة.

على صيحات أطفال الجوار، يصحو "الكبش" في صباح اليوم التالي. يحرج من سيارته كأسد فتح باب عرينه لينقض على الصبية... ملاعباً بروح مرحة توحي بأن تلك لعبة قديمة بينه وبينهم. يظهر الوجه الرقيق للوحش في ما يشكل اضافة الى الصورة الاولى.

تسير الكاميرا مع "الكبش" في يومه الاول أمام الجمهور في استعارة تشي بأن ثمة عودة الى الواقع الفظ بعد كل مباراة يخوضها. يزور المتجر الذي يعرف مديره جيداً ليطلب العمل في مناوبة يتقاضى أجرها بشكل يومي. ثمة في كاميرا أرونوفسكي ومناخ العمل ما يجرد ذلك الواقع الذي يحياه "الكبش" ـ أو "راندي" في حياته خارج الحلبة ـ الا من القليل القليل. ليست القسوة هي الوصف الملائم لكينونة ذلك الرجل المشطورة بين عملين. فما ينقله "راندي" من أحاسيس لا يعبر عن شفقة على نفسه او شعور بالمهانة. انه فقط العيش بأقل ما يمكن وبالاسلوب الصعب. بالنسبة الى رجل قضى سبابه في حلبة المصارعة، لا شيء أقسى من استهلاك جسده وطاقاته. هذا هو راندي كما يصف نفسه "قطعة لحم ميتة". في محطته الثانية، يعرج على كواليس الحلبة من جديد. يحيي زملاءه المصارعين بمحبة تبدو متبادلة وبنبل من يفهم تماماً ان أيامه قد ولت. يوزع التعليقات الايجابية على مصارعين شباب وينصحهم. انه المعلم والملهم ولو ان الرياضة التي يخوضها كانت مختلفة كان ليكون في مصاف "محمد علي" في الملاكمة. ولكنها "المصارعة" ذلك المزيج من الرياضة والاستعراض والتمثيل والمخاطرة. بعيداً من عالم المصارعة البراق في "روكي"، ينزلف أرونوفسكي بفيلمه الى العالم السفلي لهذه الرياضة السفلية ايضاً. نشاهد المصارعين في الكواليس يتفقون على اسلوب اللعب والعرض بينما مسألة الربح والخسارة محسومة. والهدف واحد: اشعال الجمهور وامتاعه مهما تطلب ذلك من عنف ومخاطرة. مفارقة مثيرة ان تقوم هذه اللعبة على الاستعراض والعنف في آن. انها ليست مسألة تنافس ولا ربح بل فقط الخروج بأفضل استعراض كل لاعب يؤدي فيعه دوراً مرسوماً مسبقاً انما بأدوات حقيقية. انه كالتمثيل اذا ما سيق الى تخوم ترجمة المشهد بواقعية. وكأن الملاكم هنا في وصفه ممثلاً يتلقى ضربات حقيقية وينزف دماً وليس صباغاً. في أحد المشاهد، تشير "كاسيدي" (ماريسا توماي) راقصة التعري الى فيلم "آلام المسيح" بتلاوة حوار منه. الاستعارة هنا قد تكون بعيدة ولكن جسد "راندي" المفلّع بعد المباراة يشبه الى حد بعيد جسد "المسيح" المحفور بالسياط. كلاهما نموذجان للتضحية الاول في عالم سفلي من أجل امتاع قلة من الهواة الاوفياء والثاني في العالم السماوي من أجل خلاص شعبه. كلاهما اختارا الألم وسيلة للخلاص .

عالم المصارعة

على الرغم من تحول العنف مثار جدل في عالمنا المعاصر كعنصر جذب واستهلاك في الصورة والاعلام بشكل عام، وعلى الرغم من ان امكانية قراءة تلك العلاقة بين المصارعة وهواتها في ضوء هذا الجدل، لا يبدو المخرج ولا "راندي" بطبيعة الحال معنيين بذلك الجدل. وتلك نقطة تُحسب لأرونوفسكي وفيلمه لجهة ابتعادهما من اي خطاب آني او حكم مسبق. ليس العنف هنا مادة استهلاكية ولا عنصر جذب. انه كذلك بالنسبة الى "الكبش" ورفاقه ولكن في اطار طقوسي يحمل الشريط الى مصاف أفلام "الكالت" ويموه المسافة بين نظرة الفيلم ومخرجه الى ذلك العالم ونظرة شخوصه اليه. بمعنى آخر، لا يتخذ أرونوفسكي مسافة من موضوعه وشخصياته وذلك ليس رديفاً لاية موضوعية او محاولة مفتعلة للتماهي مع عوالم بعيدة من الواقع. ولكن الفيلم يبدو برمته عملاً أصيلاً متجذراً في عالم المصارعة السفلي وطالعاً منه. انه ليس نظرة "على" ذلك العالم او "عنه" بل هو فيلم "منه" بامتياز. ربما من هنا نفهم التوصيفات التي وجدت في الفيلم مزجاً بين التوثيقي والتخييلي او مقاربة المتخيل بأسلوب توثيقي. وذلك كلام يعني من بين ما يعنبه ان ثمة مقاربة واقعية للموضوع تتجسد في نقله كما هو. بعيداً من الغوص في التعريفات والتوصيفات للوثائقي والمتخيل، نقول ان هذا الفيلم يترك خلفه كل خطاب جاهز ويختزل نفسه بكاميرا تلتصق بجدران عالم "راندي" تتحسسه عن كثب وتتحرك بتماس معه. لذلك تكثر لقطات الفيلم بكاميرا محمولة ولذلك آثر المخرج استخدام كاميرا سوبر 16 يسهل تحريكها وتلتقط بخفة ذلك العالم المتحرك لراندي. ليس العنف فقط ما اعتزم المخرج على تحريره من قيود الخطابية والمفاهيم الجاهزة بل كذلك "راندي" الذي يبثه بشحنات من الكبرياء والروح والقدرة على الاستمتاع وهي كلها صفات تتناقض مع فكرة "الرجل المنتهي" التي يختزلها المصارع. المدهش في فيلم "المصارع" انه يتخذ من عناصره الاكثر حسية ونمطية مادة انسانية وطازجة كأنها تطرح للمرة الاولى. كذلك هي الحال مع حكاية "كاسيدي" راقصة التعري، تؤديها ماريسا توماي بشكل مذهل. في مشهد مبكر، يدافع "راندي" عنها من اهانة بعض الشبان لها. وبعض دقائق تؤدي له رقصة خاصة بينما يبادلها هو الحديث حول أمور عادية. تتقاطع الشخصيتان حول فكرة زوال "المجد". مثل "راندي"، "كاسيدي" هي الاخرى مشرفة على نهاية مهنتها. في أربعينياتها، لم تعد مثيرة كما يجب بحسب مدونة مهنتها ولم تعد مطلوبة تماماً مثل "راندي" الا من قبل حفنة ربما تقدر جمالها الزائل او خبرتها او تاريخها. ويصدف ان يكون "راندي" من بين اولئك، مقدراً تماماً جمالها الناضج وحسيتها غير المفتعلة. تكتنز شخصية "كاسيدي" الكثير من الآلام هي الاخرى التي تعرف كيف تقصيها الى مكان لا يراه الزبائن. ولكنه يظهر امام "راندي" بوضوح. انها لعبة مرايا بين الشخصيتين حيث ان المشاهد يرى "راندي" بأفضل ما هو عليه من خلال عيني "كاسيدي" ويفهم "كاسيدي" بشكل أفضل من وجهة نظر "راندي". ولكن حتى رقصة التعري تفضح مشاعرها لتتحول في لحظة ما الى ما يشبه الرقص التعبيري المشحون بأحاسيس جياشة. وعلى الرغم من ان هذا فيلماً عن جوهر الاشياء (العنف، الحسية، المصارعة...) الا اننا نرى ال أبعد من مجرد الاثارة في أداء "كاسيدي" والى أبعد من العتف في استعراض "راندي".

راندي ورورك

يمضي الفيلم في بث متعة الغوص على الاعماق من خلال تحسس عالم المصارعين بحساسية وشغف يوازي شغف المصارعين أنفسهم تجاه عالم هو كل ما يملكون. فمن طقوس حلق الشعر تحت إبطيه الى زيارة صالونات التجميل لصبغ شعره واكتساب السمرة، نتحسس جدية "راندي" تجاه مهنته وارتهانه لها بالكامل. كأن ذلك العيش النهاري ليس سوى خروج من عالمه الحقيقي لبعض الوقت استعداداً للعودة اليه من جديد. بخلافه، تبدو "كاسيدي" متنكرة تماماً في مهنتها تواقة الى الخروج منها. هي تعمل لتكسب قوتها بينما هو يصارع كفعل حياة. لعل هذا الفارق الاساسي- "كاسيدي" تريد ان تنسى كاسيدي لتكون "بام" اسمها الحقيقي بينما المصارع يريد ان ينسى "راندي" ليكون "الكبش"- بين الاثنين هو المؤشر المبكر الى انهما لا يستطيعان الارتباط وان طريقيهما لا يلتقيان. يقول "راندي" ذلك بوضوح في آخر الفيلم حين يعترف لكاسيدي بأن "هذا هو عالمي" مشيراً الى حلبة المصارعة "العالم الخارجي يؤذيني". نفهم اذاً ان كل العنف الجسدي الذي يواجهه على الحلبة لا يوازي العنف المعنوي الذي يصيبه به العالم الخارجي. ولكن تلك حقيقة ما كان لراندي ان يكتشفها لولا توقفه القسري عن المصارعة بسبب اصابته بنوبة قلبية. كأن المصارعة لم تكن سوى هروباً من حياة اجتماعية وعائلية مفككة. هكذا يحاول بعد ان يؤكد له الطبيب ان العودة الى المصارعة تعني موته ان يعيد ربط الاواصر مع ابنته المراهقة التي لم يرافقها على درب طفولتها ولا مراهقتها. كذلك يحاول التقرب من "كاسيدي" ليس بوصفها راقصة تعري بل امرأة يجد فيها حبية ورفيقة. يتشكل نصف الفيلم الثاني من محاولات "راندي" الانسلال الى العالم الواقعي بممارسو دور الاب والعاشق والموظف في متجر. ولكن الامور تتهاوى شيئاً فشيئاً. فمن رفض ابنته له ومرارتها تجاه اهماله المتكرر لها الى ابتعاد "كاسيدي" منه انسجاماً مع مدونة مهنتها بعدم الخلط بين عالميها الليلي والنهاري، تبوء محاولات "راندي" بالفشل. ومما يزيد الطين بلة تعرف أحد زبائن المتجر عليه في ما هو يعمل ببيع اللحومات. لحظة حاسمة تلك التي يكشف فيها الزبون عن هوية "الكبش" خارج الحلبة. هنا فقط يصيبه الخزي ويختبر للمرة الاولى مشاعر المذلة والاشفاق على الذات فيثور كحيوان تعرض للاساءة.

تصاحب كاميرا أرونوفسكي تلك التحولات بما يلزم من المفردات فتخرج من المساحات الضيقة كالحلبة وكواليسها والمقطورة الى أماكن أوسع واكثر عمومية. تبقى الوحدة رفيقة هذا الرجل حتى في محاولات التقرب من الآخرين. يحاول بعد عملية جراحية لقلبه ان يستعيد لياقته. تلاحقه الكاميرا في مشهد شديد الجمالية والتعبير يدور في حقل موازٍ لمقطورته. يحاول ان يركض ولكن قلبه يخونه فيسقط بين الاشجار العارية في صباح رمادي بارد بينما نسمع تنفسه البطيء والمخنوق. في مشهد آخر مماثل، يسير مع ابنته بمحاذاة البحر ويقصدان مكاناً مهجوراً كان في ما مضى مدينة ملاهٍ. لحظات انسانية معبرة ومفعمة بالأمل، بأمل ان يستعيد "راندي" كل ما خسره اذا ما منح فرصة جديدة. ولكن الناس ليسوا ملائكة. ومنح فرصة جديدة ليس دائماً بالأمر السهل. هكذا وبعض سلسلة خيبات، يقرر العودة الى الحلبة ليخسر للمرة الأولى خاتماً مسيرته بكلمات مؤثرة: "...في هذه الحياة، قد تخسر كل ما تحبه وكل من يحبك. كثيرون قالوا لي انه لم يعد بامكاني المصارعة... ولكن انتم وحدكم ستقولون لي متى انتهي".
التقاطع بين مسيرة رورك وراندي مذهل هنا. فكلماته الاخيرة في الفيلم يصعب الجزم في ما اذا كانت صادرة عن "رورك" او "راندي". كلاهما عائدان من مجد عشرين سنة الى الوراء. ولكن هل تكون عودة رورك عودة أخيرة كما هي عودة "راندي" في المشهد الأخير؟ لاشك في ان أداء رورك يكتسب جاذبية خاصة من ذلك التقاطع بينه وبين الشخصية. ولكن ليس ذلك كل ما في الأمر. بل ان ما يفعله رورك في هذا الفيلم يتطلب جرأة وانفتاحاً. انه يتجرد امام الكاميرا وأعين المشاهدين. يتعرى مثل "كاسيدي" فاضحاً جسده المترهل ووجهه المرمم ليشاهد نفسه في مرآة السينما. انها واحدة من معارك كثيرة يخوضها "زاندي" و"رورك" داخل الفيلم وخارجه معارك مع مهنته وحياته والحب...

 

عودتان لرورك وأورنوفسكي

على الرغم من ان سجل ميكي رورك السينمائي يتضمن نحواً من خمسين فيلماً، الا ان سنوات مجده كانت في الثمانينيات حيث عرف بوسامته وجاذبيته وصوته الهامس في أفلام مثل Rumble Fish و91/2 Weeks وBarfly وِAngel Heart وWild Orchid وغيرها. تحول رورك في مطلع التسعينيات الى الملاكمة المحترفة الامر الذي تسبب بتضرر وجهه ودماغه كما يشاع. حاول العودة الى هوليود في العام 1994 معلناً انتظاره فرصة ثانية لاحياء مسيرته التمثيلية من جديد. ولكن تلك الفرصة لم تأتِ الا في ادوار عابرة ابرزها كان ظهوره في العام 2005 في فيلم Sin City. لذلك يعد "المصارع" عودة فعلية للممثل في دور يشبهه الى حد بعيد استحق عنه ترشيح أوسكار لأفضل ممثل هذا العام ولكنه خسره امام شون بن عن دوره في Milk. تطلب ظهور رورك في دور "الكبش" عملاً مرهقاً من زيادة الوزن الى رفع الاثقال والتمرين اليومي في المصارعة.

بدوره، يحقق المخرج دارن أورنوفسكي عودة من نوع آخر في هذا الشريط. فالشاب المولود في بروكلين عام 1969 أنجز عدداً من الافلام القصيرة التي حازت استقبالاً جيداً قبل تقديم باكورة أفلامه الروائية الطويلة في العام 1997 في عنوان Pi وألحقه في العام 2002 بفيلم Requiem for a Dream. بين 2002 و2006 ابتعد اورنوفسكي عن الاضواء بسبب فشل مجموعة من المشاريع السينمائية الضخمة مثل Batman Begins الذي انتهى الى كريستوفر نولن. في عام 2006، قدم فيلمه الطموح The Fountain الذي لم ينل اعجاب النقاد بسبب خليطه الهجين. مع The Wrestler عاد المخرج الى الواجهة لاسيما بعد فوز الفيلم بأسد البندقية الذهب.

 

DVD

Righteous Kill (2008)

عندما التقى الممثلان الكبيران روبرت دينيرو وآل باتشينو في العام 1995 للمرة الاولى على الشاشة بإدارة المخرج مايكل مان في شريطه التشويقي المحكم Heat، كان الجميع في انتظار ذلك اللقاء التاريخي الذي لم يتحقق من قبل الا في شكل بعيد من أن يكون تعاوناً او حتى مبارزة. فاللقاء الاول بين الممثلين جاء في الجزء الثاني من "العراب" مع دينيرو في دور "كورليوني" الشاب وباتشينو في دور "مايكل" الابن. بمعنى آخر، لم يلتقِ الاثنان عملياً على الشاشة لانتماء كل منهما الى حقبة زمنية مختلفة. بهذا كان Heat لقاءهما الفعلي الاول في السينما. على الرغم من ان الحدث كان ذلك اللقاء بالذات الا ان مايكل مان جعل منه لقاءً وأكثر حيث تكاملت العناصر كافة لتصنع فيلماً بمستوى ممثليه ومخرجيه... وفوق ذلك ظهر النجمان كندين وليس كحليفين كما هي الحال في فيلمهما الجديد ـ لقائهما السينمائي الثاني.

بخلاف المرة الاولى، كانت التوقعات في المرة الثانية أكثر تشدداً. فهنالك تجربة سابقة جديرة بأن تكون مرجعية بما يعني ان الفيلم الجديد لباتشينو ودينيرو كان عليه اما ان يوازي Heat في المستوى واما ان يتخطاه. كذلك يعود سقف التوقعات العالي الى مسألة أخرى مهمة تتعلق بمسيرة كل من الممثلين على حدا. ذلك ان كلاً من باتشينو ودينيرو انزلق خلال العقد الاخير الى تقديم أفلام دون المستوى وبالتالي كان التعويل على مشروعهما المشترك لاعادتهما الى سابق عزهما.

غير ان Righteous Kill جاء بغيلر ما تشتهي التوقعات وعلى غير هوى الآمال والرغبات. على الرغم من ان كاتب السيناريو هو راسل غويتز الذي كتب قبل عامين Inside Man الا ان الفيلم لم يرتقِ الى مستوى ممثليه بل لعله كان أقرب الى تحية لهما لاسيما انهما يلعبان شخصيتين حليفتين بما يفقد الحكاية عنصر التشويق الاساسي. ولا يستثنى المخرج جون أفنيت من المسؤولية هو الذي طالما
تفوق كمنتج في حين ظلت الأفلام التي أخرجها في خانة العادية وما دون وآخرها 88
Minutes الذي أدار فيه باتشينو في دور وحكاية باهتتين.

تدور أحداث الفيلم الجديد حول محققين من قدامى المحققين في شرطة نيويورك يلاحقان قاتلاً متسلسلاُ. على بعد أيام قليلة من التقاعد، لا يبدو الشريكان دايفيد فيسك وتوماس كوان مستعدين للتخلي عن شارتيهما لاسيما حين يطلب اليهما التحقيق في جريمة قتل قوّاد شهيريبدو انها على صلة بجريمة أخرى كانا قد حلا لغزها قبل سنوات. يُعثر على القتيل وقد كتبت على جثته أربعة أبيات من الشعر تبرر قتله. تتكرر الجرائم التي تشير الى اسلوب واحد حيث يختار القاتل مجرمين لم تتمكن الشرطة من ادانتهم لتحقيق العدالة بنفسه. ولكن عناصر الشبه بين هذه الجرائم والجريمة السابقة تطرح بقوة السؤال: هل أدانا في الجريمة الاولى الرجل الخطأ؟

 

The Battle For Haditha (2008)

شكل العراق وحربه موضوع العديد من الأفلام الروائية خصوصاً التي تواترت على الظهور منذ العام 2007 بشكل أكثر تكثيفاً. فكان في "وادي الإله" In the Valley of Elah وGone With Grace وRedacted وهذا الشريط، "معركة حديثة" The Battle for Haditha، الذي تبدأ عروضه المحلية في الثامن عشر من أيلول/سبتمبر الجاري. يعيد الفيلم خلق حادثة واقعية بأسلوب أقرب الى سينما الحقيقة وقعت في العام 2005 في بلدة حيثة وسط المثلث السني المشتعل. في تشرين الثاني من العام 2005، أدى انفجار عبوة ناسفة وضعت الى جانب الطريق بحياة عنصر من المارينز وجرح اثنين آخرين مما دفع بفرقة المارينز الى الانتقام بقتل اربع وعشرين عراقياً من الرجال والاطفال والنساء. على أثر الحادثة، وُجهت تهمة القتل الى أربع من المارينز.

من هذه الحادثة، ينطلق الفيلم الى تصور الاحداث التي سبقت واستدعت كل ذلك العنف الذي أنتج مجزرة حقيقية. هناك في الواقع حقيقتان وثقافتان ونوعان من الرجال يتداخلان. تبدأ الأحداث بالجنود الأميركيين عابرين الصحراء بسياراتهم الضخمة قبل أن يتوقفوا امام محل لبيع الاقراص المدمجة. في مكان آخر، يقوم رجلان عراقيان في خلفية سيارة نقل بتحضير أداة تفجير بدائية. سريعاً، يقوم الفيلم من خلال تصوير الحالتين بتقديم روتين الجنود ويومياتهم المتقاطعة مع لعبة التفجير. لا شيء أبيض او اسود في الفيلم الذي يمعن في الابتعاد من اثارة العواطف ومحاولة التنقيب عن التعاطف والانسانية في كلتا الجهتين في الوقت الذي يظهر فيه العنف المتفجر عند الطرفين من خلال صور صادمة في واقعيتها.
الشريط من اخراج البريطاني نيك برومفيلد الذي خاض في هذا العمل تجربته الروائية الاولى غير البعيدة من مسيرته الوثائقية الطويلة الممتدة منذ اوائل السبعينات.

المستقبل اللبنانية في

10/04/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)