تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

«ماموث» للأسوجي موديسون و«جنوى» للبريطاني وينتربوتوم

حـظ الغربـي الأبيـض

زياد الخزاعي

لم تنفع طلّتا الممثّلين الوسيمين المكسيكي غايل غارسيا بيرنال والبريطاني كولن فيرث في تحاشي الوقوع في الزلّة السينمائية، التي يتصيّدها النقاد بدأب يُحسدوا عليه، لاشتغالات المخرجين الموهوبين الأسوجي لوكاس موديسون والبريطاني مايكل وينتربوتوم. فجديداهما «ماموث» و«جنوى» (بالتتابع) يتباهيان بالكثرّة العاطفية، لكنهما يتميّزان، في المقابل، بوفرة ميلودرامية وتسطيح وتنميط شخصاني. ذلك أن سليل إنغمار برغمان وخليفته جعل من بطله الحداثي، الذي يلوب بين المدن الكبرى ويوقّع أهم الصفقات ويعزّز الجبروت التكنولوجي الغربي في العمق الآسيوي، شخصاً مختلاًّ في شرعيته العائلية. يذهب إلى الجنس الأصفر لنكتشف معه كم أن الأوروبي حمّال للأسى الطبقي والتعاطف الفردي مع أناس تأكل أرواحهم الفاقة والرذيلة والعوز. يأتي ليو، المسلّح بهاتفه الجوّال وعزلته القصيرة العمر، إلى تايلندا تاركاً وراءه زوجة وابنة، أقل ما يقال عنهما أنهما ملاكان خاصان بـ«ميتروبولوس مانهاتن»، ليتحوّل إلى نبي يسعى إلى ردّ الروح لعاهرة حسناء. في المقابل، يسير بطل المخرج البريطاني ونتربوتوم إلى حتف غير مكتمل، عماده ارتكاب معصية زنى مع طالبته الإيطالية الشبقة؛ بيد أن حضور ابنتيه معه يجعل من سقوطه، إن حدث، أمراً مدوّياً في عرف العائلة الصغيرة. ذلك أن الأستاذ الجامعي المرموق فَقَد للتو زوجته الوفية في حادث سير مروع، خطفها ذات صباح شتوي قارس، إثر مناكفة بريئة لكن قاتلة من ابنتها الصغرى، وترك في عهدته ملاكين آخرين.

عالم الفوضى

ليو وجو شخصيتان متماهيتان مع بعضهما البعض. يشتركان في كونهما منتوجاً واحداً معقّداً، تتشابك فيه القدرة العقلانية بترتيب المصائب وتبريرها، بينما يدفعهما محيطاهما السريعان والمتجدّدان إلى النظر إلى ما يمتلكانه من قوّة للمبادرة في تغيير حيوات أناس، يقعون في خط سير الصدف التي تجمع هذه الأطراف في ظروف أقرب إلى النكتة: يقابل ليو المومس اللجوجة كوكي (أداء متألّق وعفوي لرين سيرينيكاورنجوت)، الباحثة عن صفقة مربحة، فتسحبه إلى عالم الفوضى. وعندما «يشعر» بالذنب، يهرب إلى منتجع بحري. في حالة جو، تظهر الطالبة في حياته كامتحان لصلافته الرجولية؛ لكن ونتربوتوم يُقدّمه في رداء فضفاض للإغواء المجاني. وحين تقترب شفاههما في قبلة ناقصة عند اللسان البحري المنعزل، يفيق الزوج المكلوم، ويهرع بحثاً عن ابنته الصغيرة ماري، التي يقلب غيابها روتينه الأكاديمي، قبل مفهوم عفته.

يجب أن يُفهم أن هذين الكائنين السينمائيين ليسا ضعيفي الدوافع، بل علّتهما تكمن في عقلانيتهما المرتبطة بثيمتي المهنية وطباعها الصارمة، والعائلة المتطامنة والمحافظة على أواصرهما، مهما كان البعد الجغرافي أو الفراق الفيزيولوجي. نرى أن موديسون وونتربوتوم ينتابهما الوجل السينمائي من وقوع بطليهما في الإثم الكبير، فيُعجّلان بترسيخ صورة الطرف الآخر، بميلودرامية فاقعة اللون والأداء. يعمد صاحب «فاكنغ أمال» (1998) و«ثقب في قلبي» (2004) و«الحاوية» (2006) إلى تذكيرنا بالعائلة الصغيرة في نيويورك، وهي تعيش أيامها في انتظار الأب الذي يُفترض به أنه منغمس في عمل مضن، في وقت نتلصّص فيه نحن على مغامرات زناه مع الفتاة التايلاندية، التي يتبين لاحقاً أنها والدة رضيع. وفي غمار لهفة الأب جو إلى عِشرة جنسية لا تحقّقها له زميلته (كاثرين كينير)، التي لا تفتأ تنظر محنته، يعوّض صاحب «أهلا بكم في سارايفو» (1997) و«في هذا العالم» (2002) و«الطريق الى غونتانامو» (2006) فضولنا بزنى مقابل لابنته المراهقة، التي تقع في علاقات إيطالية الطابع، قائمة على كسر التابوات التي أجبرتها عليها عائلة ترزح تحت وطأة نظرتها المثقّفة والأكاديمية المملّة. وللمفاجأة، يذهب المخرج ونتربوتوم (مواليد العام 1961، أخرج أول أعماله التلفزيونية «روزي العظيمة» في العام 1989؛ ويُعدّ من أكثر المخرجين البريطانيين إنتاجاً، إذ يُنجز عملين اثنين في عام واحد، أحياناً) إلى أكثر الحلول السينمائية ورطة، ليُجبرنا على الاقتناع بحكايته الباهتة: مشهديات الأرواح وعوالمها الفانتازية. فيها، تتمثّل الأم للصبية ماري على هيئة شبح هاملتي حزين الملامح، يطل بين أهل جنوى الكسالى وشوارع مدينتهم الضاجّة بالسياح ومهرّبي الأرض. فالخسارة التي ترشح من هيئتها، متأتية من نقص العاطفة بين من تركتهم أحياء، أولئك الذين لن يبصروا عظمة الحياة من حولهم، والمعاني العظيمة في مصطلح «عائلة». يستعير ونتربوتوم هنا، بشكل شبه مباشر، مُنجز المخرج الطليعي البريطاني نك روج، «لا تنظر الآن» (1973).

شبح

إذاً، مَنْ هو «الشبح المقابل» في حياة بطل «ماموث»؟ إنه ليس شبحاً، بل كائن ترك خلفه في بقعة نائية أطفالاً يعتاشون من مردود الخدمة اليومية لدى عائلة تاجر المواقع الإلكترونية. إنها السيدة الفيليبينية غلوريا، مدبّرة منزل ليو وزوجته الطبيبة ألين (الأميركية ميشيل ويليامز)، التي تنوس روحها الطيّبة في الشقّة الفخمة الواسعة الأرجاء، مخاطبة ولديها عبر صورتيهما وهما في مانيلا الفقر والجنس السياحي. ما يحوكه موديسون في عاصمة الفيليبين، يتحوّل إلى أضحوكة مليئة بمفاجأة سفيهة الطابع: ليو ينقذ الابن البكر لمخدومته من الموت، بعد تعرّضه لسرقة. هاتان المصادفتان (ضياع الابنة في جنوى، وذود ليو عن الفتى الأجنبي) تضعان البطلين ليو وجو على محك شجاعتيهما العائلية، من دون أن يوصلا مشاهديهما إلى برّ الأمان، بأن ما فعلاه يمتلك شمولية مقنعة، أو على الأقل انصافاً إنسانيا ما.

يحقّ لمشاهدي «ماموث» و«جنوى» أن يتساءلوا: هل نحن حقاً بهذا السوء؟ هل يحمل الغربي حظّه الأبيض أينما حلّ؟ هل الطرف الآخر محكوم بقدر عوزه، كحالتي غلوريا وكوكي المجتمعتين على مفهوم السخرة؟ ماذا عن نقص همّة هذا الطرف وغبائه؟ ذلك أن كلتيهما تنتهي بشراء وبيع حاجة ما، الأولى تبتاع في مانهاتن كرة سلة هدية لولدها ذي الحظ الأسود، نكتشف أنها مصنوعة في بلدها الأصلي؛ وتبيع الثانية، من دون وجع قلب وبجهل كامل، القلم الغالي الثمن والمصنوع من أنياب فيلة الماموث المندثرة (من هنا جاء عنوان الفيلم) مقابل دولارات قليلة، قبل أن تنسى جمائل المهندس الالكتروني، إذ إن في انتظارها كثرة من أمثاله. وفي «جنوى»، يُبقي المخرج ونتربوتوم المدينة خارج وعي أبطاله الأميركيين، فهم هنا متواجدون لمتعة بحتة لا لتغيير مصائر. وكي يكون على اكتمال مع فكرة طهارتهم، يعمد صاحب «تسع أغنيات» البورنوغرافي إلى تصوير غالبية مشاهد انتقال الفتاتين في أزقة المدينة الإيطالية كأنها زلّة سياح، توصلهما أقدامهما إلى سكّان الأحياء البائسة، الذين تبدو على محياهم ملامح القتل والنشل والمؤامرة.

الغريب، أن هذا المخرج الشاب استقبلنا في مَشَاهده الافتتاحية ببشرى مقاربة جنوى بالتاريخ الملكي البريطاني، عندما كانت في أزمنة غابرة ملاذاً لأفراد البلاط وقساوسته. بيد أنه يحيلها في نهاية التسعين دقيقة إلى مدينة تخفي خلف قناع زينتها السياحية وحشية كادت تخطف روحاً بريئة اسمها ذو مرجعية دينية: ماري.

ضجيج

لن يحيد موديسون عن هذا التقابل الفجّ، ففي حين تمارس الزوجة ألين رياضة العدو فوق سطوح البناية الشاهقة ضمن خلفية شتائية، تُذكّر بظروف مقتل زوجة جو، مضفيةً على نيويورك قوة اللامضاهاة الحضرية، نذهب مع المخرج السويدي (مواليد العام 1969، أنجز أول أفلامه القصيرة «تصفية حساب في العالم السفلي» في العام 1995، واعتبره المعلم الكبير إنغمار برغمان خليفته، في حوار منشور في المجلة السينمائية البريطانية «سايت أند ساوند») إلى عالم الضجيج و«الفهلوة» والارتزاق العنفي والجيف الاجتماعية والفساد ونقص الذمم. إنه قول سينمائي، يصل إلى حدود التهمة التي قال عنها موديسون في تفلسف فارغ: «هذا الفيلم عن العائلات. عن الآباء والأبناء وكيفية تعاملنا مع الأطفال، أبنائنا وأبناء غيرنا. يدور حول العلاقات التي تربطنا مع بعضنا البعض فوق هذا الكوكب، شئنا أم أبينا. وعن كيف نحتاج إلى بعضنا البعض». مَنْ يشاهد «ماموث»، يلعن مثل هذا الكلام. فالمقاطع الطويلة لمشاكسات الممثل بيرنال لطفلته وزوجته، وعَدوهم بين الغرف والقفز فوق الأسرّة، ولاحقاً مضاجعاته لكوكي وسياحته الفارغة بين المقاصف البحرية، ومثيراً الضجر عند مشاهديه بضياعه المرفّه، (هذا كلّه) يجعل الجملة السابقة أشبه بـ«ضحك على الذقون». ولعل صرخات الاستهجان وصفيره بعيد العرض الصحافي في الدورة الأخيرة (شباط الفائت) لمهرجان برلين جاءت في توقيتها المناسب، لتؤكد أن فهلوة «ماموث» لم تنطل على كثيرين.

إلى ذلك، تعجّل النقّاد البريطانيون، وهم وطنيون إلى حدّ النخاع بغالبيتهم في ما يتعلّق بنتاج سينماهم القومية، في الهجوم على «جنوى» ومخرجه ونتربوتوم، معتبرينه خاليا من لمسة شاب موهوب، لا يهدأ في إنجاز العمل تلو الآخر في فترات متقاربة. إذ اعتبرته الصحيفة البريطانية «ذي غارديان» لمحة غير مكتملة لفيلم، أكثر منه إنتاجاً مُنجَزاً فعلياً.

)لندن(

السفير اللبنانية في

02/04/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)