تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

لا المال ولا النيات الطيبة تصنع سينما حقيقية

«شربـل» نبيـل لبـس فيلـم للإيمـان لا للفـن

نديم جرجورة

لا يُمكن التغاضي عن الجانب التجاري في عملية إنجاز فيلم «شربل» لنبيل لبّس. فالعمل البصري هذا، المرتكز على سرد عاديّ لسيرة قدّيس ماروني، لم يُوازن بين الحصول على تمويل مالي ونضج المضمون الدرامي؛ علماً بأن التوازن بين المسألتين، عند حصوله، يمنح الفيلم شرعية الإبداع، ويجعل الصنيع الفني أداة ربح ماديّ مطلوب. ذلك أن صناعة الأفلام تحتاج، دائماً، إلى تمويل أو إنتاج ماليّ جيّد، ما يؤدّي إلى التفكير الصحيح بضرورة البحث عن كيفية استعادة المصاريف، وإضافة أرباح ما عليها. وإذا قيل إن مشروع هذا الفيلم تحديداً انطلق من رغبة فردية لا علاقة لها إطلاقاً بالمعادلة التجارية/ الفنية، فإن مجرّد إطلاق عروضه في الصالات الجماهيرية يُحرّر القراءة النقدية من التنقيب عن مغزى تلك الرغبة، وعن ارتباطها الوثيق بعلاقة فردية بشخصية القدّيس الماروني، أو بإيمان المموِّل وفريق العمل. وإذا قيل إن «شربل» عملٌ متواضع لا يدّعي صناعة سينمائية بمتطلّباتها الكثيرة، فإن طرحه في السوق التجارية، أي في الأمكنة الخاصّة بالأفلام، يُحتّم معاينة مختلفة لا تكترث بالخلفيات والأهداف الفردية، بقدر ما تنحاز إلى الجانبين الثقافي والفني في عمل مُقدّم إلى الجمهور على أساس أنه «فيلم سينمائي».

المال والفن

فيلمٌ كهذا يجذب جمهوراً عريضاً، لأنه يمسّ حساسية إيمانية لديه، خصوصاً في ظلّ النزاع السياسي الحادّ، الذي تورّط فيه الموارنة كبقية اللبنانيين. والبحث في المسألة التجارية، بعيداً عن الرغبة الحقيقية والخاصّة بمموّل الفيلم وصانعيه، شرعيّ، لأن فيلماً كهذا قادرٌ على تحقيق أرباح جدّية، علماً بأن التكاليف، كما هو واضح في الفيلم المعروض على الشاشة الكبيرة وإن لم يُصوَّر بتقنية سينمائية، ليست مرتفعة، وحشود المؤمنين وعائلاتهم وأطفالهم وأحفادهم تتدفّق إلى الصالات، وإن بشكل خفر أحياناً. ولا أحد يعرف ما إذا كانت المدارس الكاثوليكية «تفرض» على تلامذتها الموارنة والمسيحيين مشاهدة الفيلم، ما يعني أن احتفالاً بالقدّيس شربل، وإن في صالات سينمائية تعرض نسخ «ديجيتال» منه، يُساهم في تخفيف وطأة النزاع اللبناني الداخلي، قليلاً، عن كاهل الموارنة على الأقلّ.

لا يصنع المالُ وحده أفلاماً، ولا تصلح النيّات الصادقة والسليمة والطيّبة لإنتاج إبداع سوي وسليم. لا يكفي اختيار شخصية عامّة مؤثّرة في الحياة اليومية لآلاف المؤمنين بها، كي يُنجَز عمل فني ما، ولا يلغي «النجاح» الجماهيري واقع أن العمل المذكور ليس فيلماً. هذا كلّه يعني أن «شربل» عملٌ أقلّ من عاديّ، كان يُفترض بصانعيه أن يبثّوه في المنازل، عبر الشاشة الصغيرة، بدلاً من أن يطرحوه في السوق التجارية فيلماً سينمائياً. ذلك أن صانعيه لم ينتبهوا إلى العمق الدرامي لشخصية شربل ومساره الحياتي وتجربته الإيمانية، ولم يكترثوا للتساؤلات الجمّة التي تطرحها حياة ناسك على الآخرين، المؤمنين وغير المؤمنين معاً، ولم يأبهوا بالفضاء المحيط بالشخصية نفسها، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، ولا بالجانبين الانفعالي والحياتي لديه. بدوا متردّدين من التعاطي الإبداعي الحرّ مع الشخصية هذه، بدلاً من أن يجعلوا إيمانهم بها (أو اختيارهم إياها) طريقاً إلى ابتكار شكل سينمائي صحيح وقادر على تقديم الشخصية الأحبّ إليهم بوسيلة سينمائية جدّية. خرج شربل، معهم، من جبّته السوداء إلى الشاشة الكبيرة؛ لكنهم تركوه معلّقاً بين حياة يومية لا تقنع كثيرين، وقداسة تعني مؤمنين معيّنين. والفيلم، إذ عجز عن امتلاك حدّ أدنى من مقوّماته البصرية، لم يُقدّم جديداً في سيرة رجل يعرفها هؤلاء المؤمنين أنفسهم غيباً، لأنهم تعلّموها منذ ولاداتهم الأولى، وتربّوا عليها طويلاً. أما الآخرون، أي غير المؤمنين بهذه الشخصية أو بأمور متفرّقة أيضاً، فلم يعثروا على نبض درامي أو جمالية فنية، قادرَين على منحهم متعة الفرجة، كما يحصل مثلاً عندما يتمتّع محبّو السينما بمشاهدة فيلم عن قاتل متسلسل أو زعيم مجرم كستالين أو هتلر، لأن هذه المتعة منبثقة من أسلوب العمل الفني، ومن براعة المخرج وفريق عمله في ابتكار جمال مستلّ من عمق البشاعة والوحشية والعنف.

قداسة لا فيلم

ظلّ «شربل» أسير قداسة الشخصية، بدلاً من أن يستفيد من هذه القداسة في معاينة السيرة الطويلة لرجل قرّر، بناء على دعوة إلهية، أن يتخلّى عن كل شيء من أجل التعبّد في داخل الدير، ثم في داخل غرفة منعزلة وبعيدة عن العالم. ظلّ «شربل» أسير النزاهة والتعفّف اللذين عُرفت بهما الشخصية هذه، بدلاً من أن يجعل النزاهة والتعفّف مدخلاً إلى فهم نسق الحياة وقسوة التحدّيات في واقع إنساني مزر. وإذا تجنّب صانعو الفيلم طرح الأسئلة، لأنهم منجذبون إلى القداسة من دون سواها؛ فإن مُشَاهداً متحرّراً من سطوة القداسة لا يستطيع التعامل مع «شربل» كنشيد للحب والتقوى والإيمان والتعبّد، على حساب السينما، لأن نشيداً كهذا موجودٌ في أمكنة خاصّة به، يرتادها المؤمنون، لا في أمكنة خاصة بالإبداع، يرتادها مؤمنون من نوع آخر. والمُشَاهد المتحرّر من سطوة القداسة لا يفرض على صانعي الفيلم شيئاً، بل يتعاطى مع صنيعهم انطلاقاً من حرصه على الفن السابع؛ ولا يرفض اختيار السينما المواضيع كلّها من دون استثناء، بل يسعى إلى أن يكون الاختيار متوافقاً والمتطلّبات الطبيعية لصناعة الفيلم. هنا، مع «شربل»، سقطت السينما كلّياً، ولم يبق على الشاشة الكبيرة إلاّ سيرة رجل لم تُقدَّم بشكل درامي سليم، بل بسرد مملّ لحكايات منقوصة أو مجتزأة، عن الرجل وعن بعض اللحظات التاريخية في سيرة بلده. والطامة الأخرى كامنةٌ في أن تسليط الفيلم ضوءاً على أحداث تاريخية وقعت في لبنان، عندما كان شربل حيّاً، بدا باهتاً وساذجاً وسطحياً، على الرغم من أهمية الأحداث تلك. حتى التمثيل، الذي يُفترض به أن يكون صحيحاً في فيلم لا يريد صانعوه أن يكون سينمائياً، بدا عادياً للغاية، وإن حاول أنطوان بلابان وايلي متري (أدّيا دور شربل في مرحلتي الشباب والشيخوخة) منح الشخصية بعض حيوية تمثيلية، ففشلا لأسباب عدّة: إما لعجزهما عن الخروج على إرادة صانعي الفيلم، وإما لحاجتهما إلى إعادة بلورة أدائهما التمثيلي، وإما للغياب المدوّي لإدارة الممثلين. فالتعبير عن التعبّد والتقوى والتعفّف والنزاهة لا يمرّ بادّعاء التواضع وإغماضة العينين مثلاً. والتألم أمام أهوال الحياة الخارجية، أو الإصرار على الخروج من العائلة الضيّقة إلى العائلة الإلهية الأوسع، لا يظهران بحركة جسدية مفرّغة من المعنى العميق للتألم والإصرار هذين، ولأبعادهما الدرامية والإنسانية العاكسة موقفاً أو شعوراً.

ثم إن السيرة المعروفة لشربل لم تكتمل في فيلم نبيل لبّس، لأنها لم تُقدّم الرجل الناسك والمتعبّد، والقديس في ما بعد، كمؤمن قادر على اجتراح معجزة وارتكاب المغاير للعقل والمتلائم للانفعال الإيماني. أليست قداسة شربل نابعة من أعاجيب معينة قام بها، ومن سلوك متكامل عاشه في سني عمره المديد؟ فالفيلم اكتفى بلمحات خاطفة وسريعة مرّت للحظات (عمله في الحقل، اهتمامه بالناس، حصانته إزاء الخطيئة، عدم وقوعه في فخّ المرأة، إلخ.)، من دون أي معنى إنساني أو درامي أو جمالي. واللعبة التي حاول المخرج اعتمادها في مسألة المرأة، بدت بسيطة لا طائل منها: هناك امرأتان أساسيتان عرفهما شربل. الأولى أمّه، التي أصرّ على رفض رغبتها في عودته إلى المنزل، أو على عدم لقائها؛ والثانية صبيّة أُغرمت به وحاولت إبعاده عن طريق الرهبنة. كان يُمكن لذكاء ما أن يجعل المرأتين محوري الفيلم والخيط الدرامي الذي يُمسك الحكاية كلّها من طرفيها. لكن «شربل»، الفيلم والقدّيس، رافض أبدي للمرأة، وإن عجز عن إبعادها كلّياً عنه، لأنها حاضرة في الواقع، أو لأن الفيلم محتاج إليها كأداة (فقط لا غير) للتعبير عن قوّة الشخصية لدى شربل، وحصانته المفرطة ضد «إغوائها»، أكان الإغواء أمومياً أم جنسياً.

السفير اللبنانية في

26/03/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)