تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

« رسالة إلي أبي».. تاريخ حافل بالنضال والتشرد والعذاب والأمل

د.صبحي شفيق

«رسالة إلي أبي»، الفيلم الثاني عشر في رحلة المخرج الفلسطيني: «عبدالسلام شهيد» إلي غد مشبع بتاريخ حافل بالنضال والتشرد والعذاب والأمل، رحلة يقطعها المخرج عبر ما تبقي من واقع فلسطين من علامات طريق، ليست «تأريخاً» - ولا أقول تاريخ - وإنما هي وثائق حية، تنبض بالحياة إذا ما استطاع من يحركها أن يخلق نوعا من المشاركة الوجدانية بنيها وبين من يتلقاها: «المشاهد».الوثيقة الحية هنا، هي صور فوتواجرافية، تتجمع مع كل مرحلة يجتازها تاريخ فلسطين الحي، من سكينة النفس في بيت آمن، ومن بين أفراده طفل يقدم، بصورته فيلم عبدالسلام شهيد، ثم يحكي ما حدث له، لا يحكيه كلاما، وإن كان يقودنا بصوته بين الحين والآخر ليرقم مرحلة مهمة، إلا أن التعليق ليس بقوة الصورة.والصورة هي لغة عصرنا، إنها تكشف عما كان يحدث لهذا أو لذاك، علي عكس صور العصور القديمة، وحتي عصر النهضة، مرورا بالعصور المتوسطة، فالصورة في الحضارات القديمة أما تماثيل أو ايقونات، وإذا مازرت متحفا لا تجد ما يعطيك رؤية للحياة اليومية، وللجماهير الشعبية، كإنما لا يوجد في واقع من نحتوا هذه التماثيل سوي الإلهة، الوثنية وأبطال الأساطير، تلك هي حضارة ما فوق الواقع، أما تاريخها، فهو ينتمي إلي حضارةالمكتوب، التماثيل والايقونات يصحبها في أوراق البردي، ما هو مدون والمدون هو اختزال للواقع.هذه التفرقة بين حضارة المكتوب بصحبة ما هو مجسد في الحجر أو المرمر وبين حضارتنا الحالية، حضارة الوثيقة المصورة، هذه التفرقة ضرورية للنفاذ إلي عديد من التجارب السينمائية التي تتابعت منذ ميلاد تيار الطليعة الفرنسية في العشرينات حتي الدخول في مرحلة سميت بالسينما التجريبية، كأنها نوع منفرد بخصائصه بينما الحقيقة هي أن كل فيلم أصيل، صادق، هو فيلم تجريبي.ولنرجع إلي فيلم: «رسالة إلي أبي»، كل ما نراه هو صورة يقطعها بين الحين والآخر مشهد حي، مثلا يستعرض المخرج صور عائلته، وكل صورة تذكره بحدث ما، أو بمفاجأة أو بدهشة من يتطلع إلي واقع يبدو له مسحورا، طفل تفتنه هذه الشخوص وهي تطل عليه من اطرها، كإنما تقيم حوارا معه، وليس الطفل وحده هو من تفتنه الصورة.أهل بلدته، أغلبهم يجذبهم السحر الكائن في ازدواج شخوصهم، شخوصهم في الحياة، وشخوصهم وقد احتواها إطار صورة، قد تفني أجيال، لكن صورهم لا تموت.وطفل فلسطيني في مرحلة ما من تاريخ وطنه، يسلم صوره لطفل آخر، من جيل آخر، وأطفال الأجيال التالية إذا ما تأملوا صور أجدادهم عندما كانوا أطفالا يرتبط ماضيهم بحاضرهم.من هنا امتداد تاريخ شعب، ويمكنك باستعراض ما قدمه الفيلم من صور أن تصل إلي تكوين تاريخ فلسطين، فالفيلم محوره: «الذاكرة» وطالما لشعب ما القدرة علي استعادة ذاكرة هي ذاكرة جماعية، وذاكرته هو في نفس الوقت.من الناحية الدرامية، يقودنا منهج السرد هذا إلي تتابع الواقع الفلسطيني في قالب قصيدة غنائية، وهو نوع من الأفلام اصطلح علي تسميته بالقصيد السينمائي . وبيئة هذا النوع من الأفلام هي بيئة السينما الخالصة. وعندنا، في الستينات والسبعينات تجارب أولي للوصول إلي هذه السينما الخالصة، منها: «النيل أرزاق» لهاشم النحاس، و«ثورة المكن» لمدكور ثابت و«طبول» لسعيد مرزوق، وتنويع علي قصيدة صلاح عبدالصبور:«شنق زهران» هي العمل الأول لناجي رياض، وكذلك لممدوح شكري، وفي فترات انحطاط الثقافة تختفي تلك التجارب، إلا أنها مع صحوة جيل جديد، تعود لتفرض وجودها، وأضرب مثلاً بفيلم «جليد» لرامي، والعديد من تجارب عماد أرنست.من المهم للغاية أن نضع فيلم «رسالة إلي أبي» في هذا السياق، لكي نعطيه قيمته الحقيقية.ويختلف فيلم عبدالسلام شهيد عن تلك التجارب في قدرته علي الانتقال من واقع حي، أغلبه مشاهد كوميدية، لمشاهد المصور العجوز الذي ينصب كاميرا ربما هي أول اختراع للفوتوجرافيا، ويطلب من أهل البلد أن ينظروا إليه، ويعدل من وضعهم، ويرسم لهم الإيماءة والنظرة، ويرقبه الطفل مدهوشًا، معجباً، ولكنها كانت صور الماضي.ويذكر الراوي وقد كبر لحظات كان يعيشها مع صديق حميم، يقومان بجولة علي شاطئ البحر، أقول: «يذكر»، أما الآن، فلم يعد صديقه حيًا، استشهد، لم يبق منه سوي صورته.جانب آخر من التجريب. هو تكبير دقائق الأشياء، لا لنراها بتفاصيلها المادية، بل بما تتركه من أثر علي العين. عدسة الكاميرا مثلاً، إنها تتحول إلي جهاز ضخم، إلي ما يشبه المواسير الفولاذية في المصانع الكبري، فرغم ضآلة حجمها في الواقع. تحتل بؤرة انتباه من ينظر إليها، فتصبح هي كل المكان، لا يري سواها.وهذا الأسلوب يعتمد علي التباين بين حدود المجسمات وبين فراغ الخلفيات، لنصل إلي نوع من الرؤيا المجسمة.عندما يحدثنا الراوي عن ولع أهل بلده بأغاني معينة، لا نري المغني، ولا نري من يستمع، بل فوهة فونوجراف، تدور لولوبيا كأنما هي فنار في ميناء يرسل ضوءا دائريًا.منهج كهذا يردنا إلي مرحلة مهمة من تاريخ السينما، هي المرحلة التي تبلور فيها تيار التعبيرية، الالمانية ووصل إلي قمته في الأعمال التجريبية لهانس ريشتر وايجلنج.إذن، السرد هو سرد بوحدات الصور، لا بالحوار ولا بالحكي، وأضف إلي هذا استخدام نوعين من البليكول، نصف الفيلم الأول صور بفيلم أبيض وأسود، كأنما الذاكرة الجماعية لم تستبق من الماضي سوي خطوط بارزة، ومجسمات. أما النصف الثاني من الفيلم، فقد صور بألوان إيستمان. لماذا؟ لأن أول صورة ملونة في فيلم «رسالة إلي أبي» هي صور النيران، طائرات تقذف علي المخيمات وعلي القري قنابلها وتتشابك ألسنة اللهب، وتتفتت بنية الأشياء، والمنازل حتي أبناء الشعب، إنه الجحيم المعاصر، رؤية يوحنا «الابوكابس».

جريدة القاهرة في

17/03/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)