كما الإنسان تحيا الدراما عبر تجديد الخلايا، تجديد الدم، فإذا تجمد دمها أو فسد تجمدت أو فسدت ووصلت إلي ما صار إليه حالها الآن، فخلال السنوات الأخيرة صار اللون الاجتماعي وحده متسيداً الساحة الدرامية المصرية في الوقت الذي جري خلاله ابتذال القضايا والموضوعات الاجتماعية وتكرارها علي نحو فج حتي باتت التفرقة بين العديد من المسلسلات الاجتماعية أمرا عسيرا وباتت الدراما المصرية أشبه بالبحيرة الآسنة في ظل غياب تيار تجديدي واقتصار الرغبة في التجديد علي محاولات متناثرة فردية.التجارب المتجاوزةأعمال محدودة جريئة حاولت عبور مياه الدراما المصرية الراكدة سواء علي مستوي المضمون أو الشكل خلال الأعوام الأخيرة نذكر منها، «فارس بلا جواد» الذي تضمن ـ ولأول مرة علي مستوي الدراما المصرية ـ تاريخ الحركة الصهيونية وكتابها الأشهر «بروتوكولات حكماء صهيون»، وعلي الرغم من أن العمل تضمن العديد من السلبيات الفنية علي مستويي النص والتنفيذ إلا أنه تعرض لحرب شعواء ـ من جانب أطراف سياسية داخلية وخارجية ـ بسبب جرأة قضيته، ثم هناك «سامحوني مكانش قصدي» الذي اختار القهر الاقتصادي الاجتماعي الذي تمارسه الرأسمالية المتوحشة عبر العالم علي الفقراء، محورا له واستشرف الآثار المستقبلية الرهيبة لهذا السعار المادي الرأسمالي.وقد بدأت نبوءاته تتحقق مؤخرا علي أرض الواقع، أما «صرخة أنثي» فهو عمل متفرد تناول قضية تصحيح الجنس التي لم يسبق تناولها دراميا علي الإطلاق، ولولا إصرار مؤلفه علي خلط حكايته الإنسانية البديعة بالقضايا السياسية قسرا لاعتبرت مسلسله أهم عمل «تجديدي» عرضته الشاشة خلال عشر سنوات مضت علي الأقل، من جانب آخر هناك أعمال حديثة بدت تجديدية في «الإطار» بشكل أساسي وعلي رأسها أعمال «السيت كوم» التي تجاوبت بشكل عام مع إيقاع وروح العصر إلا أنها تحولت ـ بعد النجاح الجماهيري الذي حققته الأجزاء الأولي من «راجل وست ستات، وتامر وشوقية» إلي موضة انتهت إلي تقديم حلقات منفصلة متصلة باهتة الشكل والمضمون يربط بينها ضعف النص والافتقار إلي كوميديا الموقف والميل الشديد إلي الاصطناع، وهي العناصر التي أجهضت التجربة بعدما جعلت تجديد الإطار غير ذي قيمة.آفاق التجديدأمام المبدعين الحقيقيين أبواب عدة يؤدي طرقها إلي تحريك مياه البحيرة الراكدة، أولا هناك باب عريض للغاية يصلح منهلا للدراما الراقية هو الأعمال الأدبية العالمية والعربية، وهو يصلح لاستلهام أعمال إنسانية فذة أو أعمال اجتماعية ـ ممصرة ـ علي مستوي راق، ولكن ومنذ سنوات تضاءل بشكل واضح وتدريجي حجم الاهتمام بتقديم الدراما المأخوذة عن الأدب حتي صار من النادر أن نجد عملا دراميا يستند إلي رواية أو مسرحية وهو أمر له دلالته فيما يخص تقييم درجة «ثقل» الدراما وعمقها كما أن له مغزي فيما يخص ثقافة صناع الدراما الحاليين، باب آخر يصلح ملهما لملاحم تليفزيونية هو التاريخ، تاريخ مصر الممتد إلي أكثر من ستة آلاف عام، والتاريخ العربي الإسلامي الذي يشتمل علي عشرات الشخصيات التي قد يلعب التعريف بها دراميا دوراً مهما في الحفاظ علي هويتنا والدفاع عن مستقبل هذا الوطن، وإنني اعتبر ـ وبرغم وجود بعض الأعمال التاريخية المهمة التي قدمها قطاع الإنتاج وشركة صوت القاهرة خلال التسعينات. أن الدراما المصرية لم تنهل بعد من نبع التاريخ سواء كان قديما أو حديثا أو معاصرا وهي لم تلعب حتي الآن الدور المطلوب منها في هذا الإطار بدليل بسيط هو أن معظم أبطال حروبنا ضد الكيان الصهيوني «مثل أحمد عبدالعزيز وعبدالمنعم رياض وغيرهما» لم يهتم أحد بتقديم أعمال درامية عنهم مما ساهم في تجهيل الأجيال الجديدة بهم حتي أنهم يعرفونهم كأسماء شوارع أو ميادين لا أكثر!، الأمر ذاته ينسحب علي «التراث» الذي غاب بصورة غامضة وغريبة عن الشاشة وقبلها عن أذهان المبدعين منذ سنوات عقب تجارب ألف ليلة وليلة والسيرة الهلالية جحا المصري علي الرغم من أن نبع التراث لا يقل ثراء عن نبع التاريخ ويلعب ذات الدور في الحفاظ علي سلامة الوجدان الجمعي وترسيخ الهوية، اللوان الديني هو الآخر في أمس الحاجة والقابلية إلي التجديد، إلي تقديم أعمال عصرية تجيب علي التساؤلات اليومية الحائرة للناس.لماذا يعلو شأن المفسدين وينحدر الحال بالشرفاء؟ ما هو موقف الدين من قانون «الإكرامية»؟ وهل يمنح الدين الأولوية لأداء الطقوس أم للمعاملة الحسنة مع الآخرين، وماذا تقول تعاليم الدين فيما يخص الخلافات الأسرية التي تطورت إلي جرائم دموية خلال السنوات الأخيرة.. إلي آخره، فمجال الدراما الدينية من أشد ألوان الدراما حاجة للتطوير من أجل التجاوب مع متطلبات العصر وهو في ذات الوقت يعد بابا واسعا للتجديد ولتقديم مضامين عصرية فريدة، أمر أخير أود الإشارة إليه في إطار الحديث عن تجديد المضمون ـ وهو أن هناك ألوانا لم تقترب منها الدراما المصرية أصلا ومنها «الخيال العلمي»، وإن تذرع البعض ـ في رفضه تقديم مثل هذا اللون ـ بأن الجمهور المصري لا يميل إلي مثل هذه الألوان غير التقليدية، فهو أمر ـ لا شك ـ مردود عليه..حل معادلات «ضد التطوير»لا بديل أمام الدراما المصرية كي تستعيد وهجها سوي التطوير، وتذرع البعض بأن جمهور التليفزيون «كلاسيكي النزعة هو عذر أقبح من ذنب لأن الدور الملقي علي عاتق المبدع يتضمن ضرورة سعيه إلي الارتقاء بمستوي الذوق العام وتطوير ميول واتجاهات المشاهد، من جانب آخر فإن تجديد روح الدراما المصرية لا يجب أن تجهضه المعادلة الإنتاجية الحالية التي تبدأ بالنجم «السوبر» وتنتهي بكاتب مسكين مستكين يسعي لإرضاء البطل ومن ورائه وكالة الإعلانات ثم جهة الإنتاج، ونعترف بأن هذه المعادلة الفاسدة هي السائدة إلا أن علينا مواجهتها والسعي لتغييرها تدريجيا وهو أمر غير مستحيل، فكسر هذه الحلقة ممكن بشرط جرأة المبدع وتحمس «منتج فنان» له ـ مثلما حدث مع الأعمال الجريئة التي أشرنا إليها ـ ويكفي أن نذكر بأن فكرة جريئة للغيطي تحمست لها «ناهد فريد شوقي» فأنجبت عملا متجاوزا للمألوف كما أن عملا تاريخيا ضخماً ليسري الجندي تحمس له «نبيل الجعبري» فكان «الطارق»، فالأمر ليس بمستحيل إن خلصت النوايا وصدق العمل.

جريدة القاهرة في

17/03/2009