تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

"زنّــــــــــــار الـــنـــــــار" لـــبـــهـــيــــج حــجــــيـــج

حـــــروبٌ فـــي الــكـــتـــاب وعـلـى الـشــاشــة

مازن معروف 

يتعاطى المخرج بهيج حجيج في الفيلم اللبناني "زنار النار" مع الحرب اللبنانية بعين تحمل الكثير من الحيادية وتزيح شبح الحرب موقتا لتضيء بذلك ذوات الشخصيات ومنطقها الخاص في البحث والرغبة وعدم الاكتراث بما يدور خارج خطوط تماس الهاجس.

الفيلم مقتبس من رواية رشيد الضعيف "المستبد"، الا أن بهيج حجيج الذي كتب السيناريو وتولى الإخراج، أعطى نفسه مساحة واسعة للتصرف بالشخصية الأساسية (الأستاذ الجامعي شفيق)، فظهرت هذه الشخصية أمامنا كأنها مغموسة بالسر، والحلم والرومنطيقية والحاجة الملحة الى الأجوبة. يضطر الأستاذ شفيق الى الاختباء في غرفة صغيرة ومعتمة داخل حرم الجامعة برفقة عدد من طلابه. يحدث تلامس جسدي شبق بينه وبين طالبة، من دون أن يرى وجهها. يطوق هذا الحدث ذاكرة الأستاذ، فيعزله عما يحيط به.

يشكل هذا الحدث المحور الذي تتراكم بسببه التفاصيل وتنتفخ، حتى ليأخذ كل منها حيزه المستحق. يبدو الأستاذ شفيق شخصية لا تكترث الى حد ما بالحرب، لكنها تنغمس في يومياتها بشكل اجباري من خلال تفاعلها لأكثر من مرة مع المسلحين المنتشرين في الشوارع. لا شك أن المخرج يريد تقديم عمل سينمائي لا يقع فريسة سردية وقائع الحرب، أو فريسة الانحياز الى طرف أو إيصال رسالة سياسية، إذ نرى أن شخصيات الفيلم تعيش وعيها الخاص وليس وفقا لأيّ مناخ سياسي، وهي شخصيات بالغة القوة، والتأقلم والألم كذلك. فاسم الفيلم مثلا مأخوذ من شخصية الأستاذة الجامعية "المسرسبة" (جوليا قصار) والتي تقلقها البكتيريا وتخيفها عدوى مرض "زنار النار" والذي يمكن ان ينتقل باللمس. فتضطر هي كذلك الى عزل نفسها عن الأمكنة والأشخاص وذلك من خلال استخدام الصابون بشكل دائم ووضع منشفة صغيرة في حقيبتها للحؤول دون ملامسة الأشياء العامة، كما تمتنع بشكل صريح عن مصافحة الآخرين. وقد عملت جوليا قصار ببراعة خطفتنا من وراء الكاميرا، ويمكن القول إنها تفوقت بأدائها في المشهدين الوحيدين الموكلين اليها من الفيلم.

أما شخصيات العمل الأخرى كالمرأة الحبلى القلقة والجميلة (أدت الدور برناديت حديب)، فيلفها الصمت مثلا، وهو الصمت الذي يشبه جدارا يؤمّن لها مساحة وقائية من كل ما يحيط بها. تتفق كل من شخصية الأستاذة الجامعية والمرأة الحبلى مع شخصية الأستاذ، وتغذي وعي المشاهدين حوله، غير أن كلاً من الشخصيات تلك (الأستاذ، الأستاذة والمرأة الحبلى) تتعادل مع محيطها من خلال توازنها مع شخصية ناطور البناية الجشع والمصلحجي عبدو والذي برع بأدائه حسن فرحات، والى حد ما شخصية القهوجي (لعب الدور الفنان القدير عبدالله حمصي).  ففيما يخلص عبدو الى تطويع فكرة الحرب وامتصاصها بما يتفق وتعزيز كيانه، يعمل بتهريب السجائر الى لبنان، يشتري سلاحا حربيا، يدّعي بأن غايته حماية البناية، ويقوم بمناورة للاعتداء على المرأة الحبلى التي جعلها في وقت سابق تقيم في شقة الاستاذ رغما عنه. يظهر القهوجي بنفس أكثر واقعية أو انصهارا مع فكرة الحرب، فهو يذهب وسط صخب الطلقات ليبيع القهوة في الصباح المبكر للمسلحين، وإذ يستوقفه الأستاذ في إحدى المرات، فذلك ما يعتبره مضيعة للوقت، لأن "أمامه" عملا كثيرا. من هنا نجد ان كلا من تلك الشخصيات، تقوم بالصراع مع عناصر أو ظروف منتقاة من الحياة من أجل تمتين بقائها وسط تلك الحرب. وهي كلها تتحرك كأطياف بعضها ثقيل وبعضها خفيف، في فلك الاستاذ شفيق. الا أن التقاءها والأستاذ وإن بدا مقتضبا، غير أن لغة السيناريو تعمل على تكثيف حضورها وإن من خلال مشهد أو مشهدين مثلا. وهي شخصيات قد ترتقي لتبدو أكثر من ثانوية، أو مساعدة في الفيلم، ذلك ان المحور الإنساني لكل منها مثبت بموقفها الذي يشبه العبث المعلن في وجه قناع الشر. وترتكز اللغة السينمائية على الإضاءة على تلك النفوس والتي تشكل بالنسبة الى الأستاذ دائرة صغرى تقيه غول الحرب الغاضب. فهو إذ يتفاعل معها، ينشئ ضمنا ذلك الجسر الذي يمكنه أن يتنقل فوقه بين الحرب وهاجسه إكتشاف هوية تلك الطالبة، وهو الهاجس الذي يوشك أن يصير مرضا يلازمه حتى نهاية الفيلم.

ثم تكون هناك الأحلام التي تحضر في مخيلته وتحاصر الحرب التي هي حواليه. هي أحلام يراها حين تكون عيناه مفتوحتين، أي أن الخيوط التي يتألف منها عالمه الذاتي، تتكثف لتصير نسيجا سميكا يغطي شبكية العينين، وتالياً يعمل هذا النسيج على حجب كل إشارة بصرية منبهة الى دلالات الحرب. هنا يمتزج البسيكولوجي ليؤدي وظيفة بيولوجية، تتوازن مع الدور الذي تقوم به الحرب ضد البيولوجيا نفسها وخصوصاً الشق المتعلق بتكاثر الجنس البشري.

"زنّار النار" يمثل نموذجا الى حد ما، لأفلام تحكي رؤى أناس لم يكونوا موافقين على "منطق الحرب"، وربما شكلوا في ذلك الوقت غالبية، الا أنهم لم يكن في استطاعتهم حيلة. ويبدو المخرج بهيج حجيج من خلال الفيلم وخصوصاً أنه هو من كتب السيناريو، حاملا رؤية خاصة حول الحرب، بوصفها ظرفا حياتيا لا بد أن يتغير، وهو فيلم لا ينكر الحرب، لأنه لا يستطيع، إنما يقوم بإحالتها على كونها نظاما "سوسيولوجيا" و"معيشيا" له شروطه وقوانينه كما يفرض على الناس وضعه في قائمة حساباتهم في موازاة عيشهم الخاص والذي قد لا يتقاطع وهامش الحرب.

تكمن أهمية الفيلم في إبرازه هؤلاء الناس، على اختلاف مكتسبهم الاجتماعي وعادات عيشهم وسلوكهم، فليس هناك من اهتمام مشترك بين أي شخصيتين في هذا العمل، باستثناء أن كلا منهم يخوض حربه الخاصة والجوّانية. أي أن كلا من تلك السلوكيات البشرية قد تتشابه الى حد بعيد مع سلوكيات أي إنسان يعيش في مكان بلا حرب. من هنا يدخل الفيلم في عمق المشاهد ويحرضه على اللعب في الرقعة التي أرادها حجيج بعيدا ربما عما كان يتوقع مشاهدته. تتحرك المخيلة خارج كادر الحرب بوصفها حدثا أساسيا، لكن من دون أن تُلغى الحرب بالكامل من المعادلة البصرية لدى المشاهد. إذ يتكثف حضور الحرب بشكل سريع من خلال ما يحدث مع شفيق في سيارة التاكسي، فتصفعه المرأة الجالسة الى يساره متهمة إياه بقتل ابنها، ويتبين سريعا أن المرأة مصابة بشيء من المس العقلي بسبب فقدها الإبن الشاب (قامت بلعب الدور ليليان يونس). ولا تختلف النهاية كتفصيل حياتي، بأي شيء عن منطق الشخصيات الأخرى. يأخذ الاستاذ نفسه ويذهب الى شارع صغير استوقفه فيه مسلحون في وقت سابق حينما كان عائدا برفقة صديقة له في الليل، وقاموا باحتجازه واتهامه بسرقة السيارة التي لم يكن يحمل أوراقها الثبوتية. لكنه إذ يعود الى الحاجز لا يجد أحدا، يرفض المغادرة قبل أن يأتي المسلحون اليه، يثور ويصرخ ويحدث بلبلة في الشارع وفوضى. فيقرر أحد السكان الادعاء بأنه مسلح على "الحاجز"، ويأمره بالانصراف بعد أن يمثل بأنه يتأكد من هويته. يرحل الاستاذ، فيما يذهب الساكن ذلك لاكمال لعب الطاولة مع صديق له. وفي هذا المشهد دلالتان كبيرتان، أولاهما هو رحيل مسلحي الحاجز، رحيل الحرب الى مكان آخر، فيما كأنما الاستاذ يطاردها الآن، وكأنما الحرب هي الوسيلة الوحيدة للتأكد من هويته بعدما وجد الطالبة تلك، ولم يستطع اقتفاء أثرها. أما الدلالة الثانية فهي في تصرف الساكن ذلك، والذي يشبه شيئا من العبث أو محو كل ضجيج ممكن أن يؤثر على وقت تسليته، إذ لا تعنيه دوافع الاستاذ بقدر ما تعنيه إزالة ذلك السلوك المزعج والموقت من حيز حياته. من هنا يقبض منهج الفيلم على النهاية لتتماسك مع منطقه في مقابل انحسار منطق الحرب ومحوها من المشهد الأخير وإن بقيت آثارها ماثلة نصب أعيننا.

النهار اللبنانية في

13/03/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)