في ليلة ممطرة بباريس عام 1970، كان برناردو بيرتولوتشي يقف خارج "دوغستو
سان جرمان". كانت الساعة تقترب من منتصف الليل (إلا ربعاً). كان ينتظر وصول
أستاذه وناصحه المخلص مخرج الموجة الجديدة العظيم "جان لوك غودار" لحضور
العرض الأول في فرنسا لفيلمه الإيطالي الجديد "الممتثل"The
Conformist. يقول بيرتولوتشي:" لم أتكلم عن ذلك طوال عدة سنوات، لكن غودار كان
معلمي المخلص، هل فهمت؟ اعتدت الظن بأن هناك كانت سينما قبل غودار وسينما
بعده – مثل قبل المسيح وبعده. لهذا فإن ما كان يعتقد به بشأن الفيلم كان
يعني لي الكثير".في ليلة ممطرة بباريس عام 1970، كان برناردو بيرتولوتشي
يقف خارج "دوغستو سان جرمان". كانت الساعة تقترب من منتصف الليل (إلا
ربعاً).
كان ينتظر وصول أستاذه وناصحه المخلص مخرج الموجة الجديدة العظيم "جان
لوك غودار" لحضور العرض الأول في فرنسا لفيلمه الإيطالي الجديد "الممتثل"The Conformist.
يقول بيرتولوتشي:" لم أتكلم عن ذلك طوال عدة سنوات، لكن غودار كان معلمي
المخلص، هل فهمت؟ اعتدت الظن بأن هناك كانت سينما قبل غودار وسينما بعده –
مثل قبل المسيح وبعده. لهذا فإن ما كان يعتقد به بشأن الفيلم كان يعني لي
الكثير".
كان فيلم "الممتثل" معداً عن رواية "البرتو مورافيا" ويدور حول
مارسيلو كليريسي ( أدى الدور جان لوي ترنتيان) الذي يبلغ من العمر (30)
سنة، وهو مثقف تعرض للقمع ويجري تكليفه، خلال حكم موسوليني، من قبل
الفاشيين للذهاب إلى باريس لقتل منشق يدعى (هـ) وهو استاذ سابق في الفلسفة.
لم يكن الفيلم منهمكاً بالسياسة فحسب بل أيضاً بالإثارة الشكلية أو
الأسلوبية، المكملة مع مطاردة السيارات والجرائم والجنس إذ اعتقد
بيرتولوتشي أن المشاهد الفرنسي يحبها. وفي منتصف الليل وصل غودار لحضور
العرض.
وبعد 37 سنة من اللقاء يتذكر بيرتولوتشي ماذا حدث بالضبط فيما بعد:"
لم يقل أي شيء. أعطى لي فقط ملاحظة ثم غادر. أخذت الملاحظة وكان فيها صورة
شخصية للرئيس ماو مع كتابة لجان لوك غودار كنا نعرفها من خطه على أفلامه.
تقول الملاحظة :" يجب أن نكافح ضد الفردية والرأسمالية". كان ذلك هو رد
فعله تجاه فيلمي. وكنت حانقاً جداً إذ جعدت الورقة ورميت بها تحت قدمي وأنا
آسف إذ فعلت ذلك لأني أود الآن أن تكون معي لاحتفظ بها كتذكار".
على الرغم من ازدراء غودار لفيلم "الممتثل" إلا أنه أثبت كونه واحداً
من أشد الأفلام تأثيراً في فترة ما بعد الحرب. ومن خلاله نظر بيرتولوتشي
إلى الوراء، إلى ماضي إيطاليا الفاشي، ووجد الاختلال أو التحلل النفسي
الجنسي في مركزها. إنه فيلم ذو رؤية موحشة للدافع الإنساني والتي من الواضح
أنها نشأت في أعقاب انهيار أحلام عام 1968 اليوتوبية، ومع ذلك فهو فيلم
جريء بصرياً وذو بناء بارع وبدونه فإن روائع مثل "العرّاب" و"القيامة الآن"
ستكون غير قابلة للتخيل أو لا يمكن تصورها.
سألتُ بيرتولوتشي عن سبب عدم رغبة غودار بفيلم "الممتثل" فهو برغم كل
شيء، فحص حاد فعال للعقلية الفاشية فأجاب:" لقد تخليت عن الفترة التي إذا
أصبحت فيها قادراً على الاتصال فسوف تعد مذنباً، بينما لم يتخل هو عنها”.
ربما كان هناك سبب آخر لعدم رغبة غودار بالفيلم. ففيه يسأل "كليريسي" عن
رقم هاتف أستاذه المغدور وعنوانه:" كان الرقم هو رقم جان لوك غودار
والعنوان كان شارع "سان جاك" تستطيع أن ترى بأني كنت الممتثل الذي يرغب في
قتل المتطرف أو الراديكالي".
في الواقع أنه بسبب ازدراء غودار لفيلم "الممتثل" فأن بيرتولوتشي بدا
مبتهجاً بحقيقة ظهور جيل من صناع الأفلام الذين يرون في فيلمه إلهاماً.
يقول:" إن ما يجعلني فخوراً دائماً – وتقريباً خجلاً من الفخر- هو أن
فرانسس فورد كوبولا ومارتن سكورسيزي وستيفن سبيلبرغ كلهم أخبروني بأن فيلم
"الممتثل" هو المؤثر الأول فيهم". فما الذي وجدوه ملهماً في الفيلم؟ بناؤه
المعقد أو المركب والاسترجاعات (الفلاش باك) والتصوير الملون المرمّز لمدير
التصوير "فيتوريو ستورارو" ( الذي أغرى كوبولا فيما بعد للذهاب إلى الفلبين
لجلب مواهب ليخلقها في تصوير فيلم "القيامة الآن") والعديد من المشاهد
الرائعة القوية وجدت صدى لها في العديد من الأفلام اللاحقة.
لكن فيلم "الممتثل" لا يستحق فقط التقدير كونه استبق الروائع
السينمائية اللاحقة بل لنفسه. الكاميرا اليدوية المحمولة المشوشة بينما
الرجال الفاشست يطاردون عشيقة البطل في الغابات، الإطار المثير للقشعريرة
للبنايات الفاشية الإيقونية مثل "
EUR"
في روما و "باليه دو توكيو" في باريس. الزوايا التعبيرية حين يزور الممتثل
أمه المجنونة، وربما أفضلها المشهد الرائع في مقهى باريسية وفيه يرفض
"كليريسي" المشاركة في رقص.. ويؤدي به إلى أن يحاط بحلقة محكمة من الراقصين
والمشهد بأكمله صوّر بصورة حاذقة من الأعلى. ومن النادر أن تكون السينما
بمنتهى الشعرية والجرأة أو الفزع، إن سياساته الجنسية لا تحمل الكثير من
التمحيص لكن بيرتولوتشي في أفلامه الثقيلة مثل "الأمبراطور الأخير"
و"الجمال المسروق" و"السماء الواقية".فما الذي يوجد في مركز فيلم الممتثل؟
مارسيلو هو رجل ذو إرادة ضعيفة يبحث عن الاختلاط بالناس ويختار أن يكون
قاتلاً بيد الفاشيين وأن يتزوج امرأة ذات أصول برجوازية صغيرة مادية (
يصفها كونها " جنية في الفراش، جيدة في المطبخ") وهو غير خال من الالتزام
السياسي ولا من الرغبة، لكن لأنه يمتلك سراً مخجلاً (ظاهرياً زائفاً) رغبته
في الامتثال، التي يكشفها في آخر لقطة من الفيلم، جاءت نتيجة حادث تعرض له
في المراهقة إذ أن سائقه المستأجر الشاذ جنسياً يحاول أن يغويه ويعتقد بأنه
قد أردي قتيلاً) ويتوسع بيرتولوتشي في الثيمة قائلاً:" يفهم الممتثل بأن
السبب في نظرته اليائسة للامتثال أو الخضوع هو إدراكه بأنه مختلف ولن يقبل
أبداً باختلافه.في المشهد الأخير يفهم السبب، لقد أصبح فاشياً – بل الفاشي
الأسوأ بالنسبة للكل- لأنه أراد أن يخفي وينسى ما يشعر انه اختلافاته في
وعيه الباطن وكأنه يدرك أنه حتى الفاشيين لديهم عقل باطن". من الجدير
بالذكر أن بيرتولوتشي اهتم عميقاً بالتحليل النفسي لفرويد في أثناء صنع
فيلمه "الممتثل" وإلى حد هذه النقطة كانت أفلامه الأولى مثل "قبل الثورة"
و"خدعة العنكبوت" وحتى الوحش المروع" واقعة تحت تأثير غودار، هل تشعر أنك
نشأت في صنع فيلم "الممتثل"؟ يقول:" تماماً، في لحظة معينة كان عليّ أن
أكون حذراً من أن أكون مقلداً ولا اكون مزيفاً وأن أصنع حيل غودار، اعتقد
أنها ليست تجربتي فحسب بل أيضاً تجربة عدد كبير من الناس في جيلي".
ونتيجة الدخول المبكر في التحليل النفسي كان بيرتولوتشي مجبراً على
التحطيم الرمزي لأساتذته الرئيسيين لا غودار فقط بل أبوه أيضاً، الشاعر
الإيطالي العظيم " إيتوليو بيرتولوتشي". يقول:" عن طريق التحليل النفسي
الفرويدي أدركت أن صنع فيلم هو وسيلتي لقتل أبي. وبطريقة ما، فإني أصنع
الأفلام من أجل – كيف لي أن اقول- المتعة في الذنب. لقد قتلته في لحظة
معينة وكان على ابي أن يقبل بأنه قد قتل كل فيلم. والرسالة المسلية التي
كان قد أعطانياها في إحدى المرات كانت :" لقد قتلتني عدة مرات من دون أن
تذهب للسجن".
ما هي فكرة أبيك عن فيلم "الممتثل" يقول:" كان يحب كل أفلامي لسبب
بسيط – شعر كأنه هو الذي صنعها. كان يهوى دميته التي هي أنا لأني كنت
ماهراً في صنع أفلامه. كان يظن أنه علمني كل شيء. وهذا صحيح".
قلت: أي أنوي رهيب هو. بمعنى ما، مهما فعلت، فلن تقدر على قتل أبيك أو
تستأصل تأثيره من عملك تماماً؟ " هذا صحيح. أفلامي هي دائماً في الحقل نفسه
كما أبي. فهي تشغل نوعاً معيناً من المنطقة الثقافية – الشيء نفسه بالنسبة
لمدينة بارما"، ومن هذه المدينة الصغيرة تحدرت عائلة "بيرتولوتشي" والجدير
بالذكر أن فيلم بيرتولوتشي المصنوع عام 1967 مُعدّ عن رواية ستندال "صومعة
بارما".
لم يكن "إيتيلو" شاعراً فحسب، بل هو أيضاً ناقد سينمائي وكان صديقاً
لبيير باولو بازوليني. ( في الحقيقة كانت المهنة الأولى لبرناردو في
الأفلام كمساعد في فيلم المخرج الكبير "أكاتون"Accatone" وكان الأب مولعاً بالوسط السينمائي وراغباً جداً في وجوب مشاركة
أبنيه "برناردو" و "جيوسبي" حبه إذ أنه أخذهما إلى شاشات العرض وأعطاهما
كاميرا. وكلاهما أصبح مخرج أفلام وأصبح برناردو معروفاً في إيطاليا وفاز
بجائزتين للأوسكار.
إحدى قصائد إيتيلو تسمى "الطريق الكبلي" مع إهداء " إلى ب. مع كاميرا
حجم 8 ملم". وتتضمن هذه الذاكرة المولعة بابنه المراهق الذي شوشته السينما
وهو يصور عائلة بيرتولوتشي بينما هو يمشون في " الأبنيز"
Apennines:
لكم مراهقتك تحلو وتنضج/ بصبر الحرفي البارع/ من خلاله تصوّر من
الأسفل/ ومن الخلف الحاجز المثلم سياج الشجر في منتهى الحبك/ زمنه الحقيقي
من التوت والأشواك والأوراق/في قصة تنبض في الخطوات المسترقة للأطفال".
من الصعب أن نقرأ في هذا فرح "أتيليو" بابنه البالغ 14 من العمر
وتدربه على صنعة الإخراج. بعد خمس عشرة سنة كان برناردو لا يزال متمكناً في
لقطاته . كان مشهد اغتيال الممتثل قد صوّر بطريقة فنية بارعة في تلال
"بيدمونت" الثلجية ( لم نخرج أفلام حركة أو أكشن سابقاً، لهذا حين صورنا
المشهد الذي يطعن فيه الرجل قلنا:" يا إلهي! ماذا فعلنا؟" أعاد بيرتولوتشي
كتابة الرواية كي يكون "كليريسي" متفرجاً على الجريمة. في الرواية لا يشاهد
"كليريسي" حتى الجريمة، وكان حينها في روما. "أخبرتُ مورافيا قبل أن نبدأ:"
كي أكون مخلصاً لروايتك لا بد من أن أخونها" فقال:" اتفق معك تماماً". وبعد
أن رأى الفيلم أرسل لي مورافيا تحيات طيبة قائلاً أن هناك فقط اثنين من
الاعدادات لرواياته كان يحبهما، أحداهما فيلم "الممتثل" (وللتاريخ، فإن
الآخر كان فيلم "غودار" اللامع عام 1962 "الاحتقار" مع جاك بلانس وبريجيت
باردو). لقد أحدث بيرتولوتشي تغييراً آخر أكثر براعة وخيانة يجيء في
النهاية. يقول بيرتولوتشي:" في الرواية، وبعد سقوط موسوليني، يهرب الممتثل
إلى روما مع عائلته وتسقط طائرة فتضرب مدافعها الممتثل وعائلته وهذه هي
النهاية. فكرت أن النهاية كانت جد أخلاقية كأنها يد الرب وهي تعاقب أحد
المذنبين".
ونهاية بيرتولوتشي هي أكثر إزعاجا، ففي إحدى الليالي يتجول "كليريسي"
في "الكوليسيوم" وهنا يجد السائق الكبير السن الذي كان يعتقد خطأ أنه قتله
حين كان مراهقاً. يحاول السائق أن يغوي الصبي الجميل. ويحتج "كليريسي" بصوت
عال على السائق ويصرخ بأنه فاشي. لكن تلك ليست النهاية: اللقطة الأخيرة
يكون فيها "كليريسي" وحده مع الصبي، وتجول الكاميرا على ردفي الصبي
العاريين وتنتقل إلى "كليريسي" الذي ينظر إلى الكاميرا. فماذا نفترض من
مشهد صنع هكذا؟ سألت بيرتولوتشي – هل مارسا الجنس تواً؟" محتمل جداً،
فالصبي عار وذو حركة بطيئة بعد الممارسة بطريقة ما- فأنت على حق".لكن تلك
فكرة مزعجة توحي بأن الفاشية يمكن أن ترتبط بالرغبة الجنسية الشاذة
المكبوتة، وبالأخص حين يضيف بيرتولوتشي بانه فقد في هذه اللحظة فهم "كليريسي"
حقاً من هو ولماذا كان فاشياً.
لكن إذا كانت تلك هي القضية فإن بيرتولوتشي يرفض أن يأخذ .. هذا الشيء
التافه لحل العقدة ... " في جميع أفلامي القديمة أشعر بأني لم أعد مسؤولاً
عنها فالشخص الذي عمل هذه الأفلام بعيد جداً عني". وهل تشعر بأنك غير مسؤول
عن الفيلم الذي صنعته مباشرة بعد فيلم "الممتثل" المسمى "التانغو الأخير في
باريس" بمشاهده الجنسية الفاضحة؟ " أقل من الكل ذلك الفيلم". ومع ذلك يشعر
بيرتولوتشي بصورة كافية بأنه مرتبط "بالتانغو الأخير" كي يدافع عن أحد
نجومه مارلون براندو :" حين أردت من براندو أن يمثل في هذا الفيلم، قال
مدير شركة بارامونت لي:" ليس ذلك.. الكبير السن أو القديم". ومع ذلك كان
براندو أعظم شيء في ذلك الفيلم".كان أحدث أفلامه " الحالمون"، وهو معد عن
رواية لـ"جلبرت آداير" تدور أحداثه حول اضطرابات الطلبة في باريس عام 1968
وقد أخرجه قبل خمس سنوات. لماذا لم تخرج شيئاً بعده وقد بلغت السادسة
والستين؟" " بسبب ظهري فقد أجريت عملية قبل ثلاث سنوات وفشلت، لهذا عوقبت
طيلة ثلاث سنوات بالألم الممض فلم استطيع أن أمشي بصورة جيدة ولم استطع
العمل". كان عليه أن يؤجل خطتين: مشروع عزيز وطويل لإخراج فيلم "أزوالدو دا
فينوسا" – المؤلف الموسيقي من القرن السادس عشر الذي قتل زوجته على نحو
قاس، ماريا دا أفالوس" بعد أن قبض عليها بالجرم المشهود. وإعداد رواية "بيل
كانتو" لـ"آن باتشيت" عن مجموعة من الإرهابيين ورهائنهم الذين يعيشون في
بيت سوية. " عليّ أن أجد علاجاً لظهري" يقول المخرج الذي يبلغ السادسة
والستين " ثم سوف أخرج فيلماً مرة أخرى" ( أعود للإخراج).
هل حقاً إنك لا ترغب برؤية أفلامك القديمة أم أنها مجرد قصة مضللة
للصحفيين؟ "لا أستطيع رؤيتها. فأنا أشعر بالارتباك". أوه، برناردو، حقاً لا
ترغب! " حقاً! أن أرى ما اعتقد اليوم أنه خطأ، أمور محزنة ربما لا يراها
احد لكني أراها كذلك". إذن، ألن تمنحك رؤية فيلم "الممتثل"،بعد كل هذا
الزمن، متعة مباشرة؟ “كلا! لكن ربما حين يكون الفيلم بعيداً جداً فأستطيع
أن أغفر له". وهنا يتردد صوت بيرتولوتشي مثل كاهن يغفر لخطايا ذاته
المبكرة".ونتيجة لهذه اللامسؤولية، فمن الغريب الحديث مع بيرتولوتشي عن
أعماله الأولى. فالرجل الذي يشعر بالغضب من ملاحظة غودار المأثورة لم يعد
موجوداً. يقول:" أشعر بشيء نحو هذا الفيلم القديم،، لكني لا أشعر بالعبء
والمسؤولية، وذلك هو ارتياح بالنسبة للفنان".
أجريت هذه المقابلة بمناسبة إعادة عرض فيلم "الممتثل" في بريطانيا عام
2008 .
المدى العراقية في
10/03/2009 |