تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

"طريق ثورية" أولى روايات ريتشارد ييتس الى السينما

إدانة مباشرة للسعي الى الاندماج والبحث عن "الأمان" بأي ثمن

ريما المسمار

ينطوي فيلم "طريق ثورية" على الكثير من عناصر النجاح الفوري وان ليس بين صفوف الجمهور العريض. فهو يعيد المخرج البريطاني سام منديس الى السينما في تجربته الرابعة بعد "جمال أميركي" و"الطريق الى بيرديشن" و"جارهيد". كما يجمع للمرة الثانية وبعد نيف وعقد على ظهورهما الاول المدوي في "تايتانيك" النجمين كايت وينسليت وليوناردو ديكابريو. كذلك يقتبس الشريط احدى أشهر روايات ريتشارد ييتس الثماني "طريق ثورية" Revolutionary Road وأول أعماله وصولاً الى السينما منذ إعادة اكتشافه اوائل التسعينات الماضية بعيد وفاته والالتفات الى اسهاماته الكتابية في الاضاءة على ما يعرف بعصر القلق. ويكفي القول ان هذه دراما مغلقة على ثنائي متزوج في خمسينات القرن الماضي لنتخيل على الفور انها المسرح الأنسب لاستعراض القدرات التمثيلية والحالات النفسية للشخصيتين الرئيستين "فرانك" و"آيبريل".

ينطلق الفيلم بمشهد افتتاحي في حفلة راقصة حيث يلتقي "فرانك" و"آيبريل". هو شاب طليق اللسان طموح، جندي سابق في الحرب العالمية الثانية وجذاب. هي طالبة دراما منفتحة ومقدامة. مشهد راقص على أنغام "ذي جيبسي" لإنك سبوت يوحي بانسجامهما الكامل بخلاف انجذاب الاضداد الذي جمعهما في "تايتانيك". لا شيء مهم حولهما. فقط هما وتلك الطاقة التي يشعانها باعثة على التفاؤل والابتسام لاحتمال حياة وردية وعلاقة متناغمة شغوفة. في نقلة الى العام 1955، يطالعنا "فرانك" بملامح مشدودة وقسمات متوترة بينما يبحث عن زوجته "آيبريل" خلف الكواليس بعيد انتهاء مسرحيتها واستقبالها الفاتر بين الحضور. تخونه الكلمات فلا يتمكن من مؤاساتها هو الذي ينظر الى نفسه كرمز ثقافي مركب. يقول لها بدلاً من كلمات الحب والتشجيع "لم يكن نجاحاً على ما أظن. أليس كذلك؟" على الرغم من معرفة "آيبريل" بذلك، الا انها لا تريد من "فرانك" سوى الصمت في طريق عودتهما الى البيت. ولكنه مولع بالكلام والنقاشات تثبيتاً لتلك الصورة التي يصدرانها في محيطهما: الثنائي المختلف والذكي. ينفجر الحديث بينهما شجاراً عنيفاً حيث يهين كل منهما الآخر لتتوضح أكثر صورة تلك العلاقة: عدم الاكتفاء. تشكل "آيبريل" الصوت الداخلي لفرانك الذي يذكره بمشروع حلم فشل. فهو اذ يعمل في مجال تسويق الماكينات انما يهدر، بنظر "آيبريل"، طاقاته في حين تعاني هي من فراغ حياة الضواحي وسطحيتها. انها الحياة الزوجية اذ تنزلق الى الروتين القاتل وتتحول مؤسسة اجتماعية قائمة على استغلال الآخر وتبريراً لكل فشل فردي. على هذا المنوال، تفهم من الاثنين ان لهما طفلين: الاول كان غلطة والثاني كان بهدف اثبات ان الاول لم يكن غلطة! انه تطويع للكليشيهات والقناعات التي تأتي مع الزواج وتحوير لها تعويضاً عن عدم القدرة على تقويضها وكسرها.

تقترح "آيبريل" على "فرانك" بعد تلك المشادة العنيفة أن يسافرا الى "باريس" لبدء حياة جديدة. "باريس" التي حلم بها "فرانك" دائماً معتقداً انها المكان الذي يحب ان يعيش فيه. في لحظة يأس، تعثر "آيبريل" في تلك الفكرة على القشة المنتقذة لعلاقتها بفرانك. تقنعه بأهمية السفر لاكتشاف ما يريد عمله هو الذي لم يكتشف شغفه بعد وان كان ايمانه وايمانها بقدراته كبيرا. يستسلم "فرانك" للخطة، تجتاحه موجة من البهجة والتفاؤل لاسيما ان عناء الاعتراف بان حياتهما متواضعة وعلاقتهما في مأزق كانت "آيبريل" قد تكبدت عناء الاعتراف بهما. تبدأ التحضيرات للسفر. يبلغ الاثنان اصدقاءهما الذين لا يفهمون كيف يمكن اخذ قرار من هذا النوع من دون اية ضمانات. الوحيد الذي يبدو انه يفهمهما هو "جون" (مايكل شانن) ابن جارتهما الخارج لتوه من مصحة للأمراض النفسية والذي يجد في اعتراف "فرانك" بفراغ حياة الضواحي جرأة ووعياً كبيرين. أما ردود الفعل الباقية فتراوح بين عدم الفهم والغيرة. في شكل ما، يفضح قرار الزوجين بتغيير حياتهما ركود حيوات الآخرين من حولهم ويسخف ذلك البحث المضني عن الاستقرار بأي ثمن. مجرد الفكرة تتسبب بانهيار لاحداهن لن يهدأ الا حين يؤكد زوجها لها ان ذلك قرار مجنون وغير ناضج.

يقدم منديس ذلك كله في اطار متقشف بسيط يتيح للحالة النفسية ان تطفو على السطح بسلاسة تصاعدية. بعض المشاهد صارخ بصمته من مثل حضور "آيبريل" في الحي الفارغ بينما تتأمل محيطها وترمي القمامة. أو تلك المشاهد المتعاقبة لغرف المنزل غارقة في صمتها وخالية من اي أثر انساني قبيل نهاية الفيلم.

لا يلبث القلق ان يعود الى "فرانك" لاسيما مع ظهور فرصة عمل جديدة. فهذا شاب يجد انه متفوق في محيطه بجهد قليل وقادر على تحسين ظروفه المعيشية بنسبة كبيرة بهذا القليل ايضاً. أفلا يبعث هذا على الخوف من اختيار مغامرة غير مضمونة النتائج؟ هذا ما لا تفكر ":آبريل" فيه ربما لأن ليس هنالك ما تخسره. فها هو حلم التمثيل قد انهار وعلاقتها بزوجها على شفير الهاوية ونظرتها الى نفسها كأم وزوجة فقط تحيلها على تعاسة ما بعدها تعاسة... تزداد الأمور تعقيداً باكتشاف "آيبريل" انها حامل بطفلها الثالث. من دون وعي، يشكل ذلك الحجة لفرانك ليبرر لنفسه ومن ثم للآخرين عدوله عن السفر الى "باريس". ولكن ذلك لا يمر من دون مواجهة كبرى بين "فرانك" و"آيبريل" يظهر فيها كيف يمكن الزواج ان يتحول عقداً منطوياً على اهانة الآخر واستغلاله وتحريك الشعور بالذنب عنده. هكذا يشكك "فرانك" بصلاحية زوجته كأم لمجرد انها تفكر باجهاض الطفل بينما يتهرب من الاجابة عن سؤالها عما اذا كان يريد بالفعل طفلاً آخر.

يتأرجح الفيلم بين شخصيتي "آيبريل" و"فرانك". يقودنا النص الى نظرة أكثر ايجابية الى شخصية الاولى ولكنه يفضح أكثر عن دواخل "فرانك". ولكن ماذا حل بطموح "آيبريل" التمثيلي؟ ولماذا تجعل من قرار الذهاب الى باريس فرصة ذهبية بالنسبة الى "فرانك" فقط؟ هل هو سعي الى قلب الادوار لتصبح هي المسؤولة عن اعالة عائلتها؟ هل هو سعي الى تحقيق توازن بالنسبة اليها؟ وماذا عن جملة "جون" المختل- الحكيم عندما قال لها: "لا بد من انك حولت حياة فرانك الى جحيم بحيث لم يتبقَ له لاثبات رجولته سوى أن يجعلك حاملاً!"؟. تلك جملة تفصح في لحظة ما عن الكثير من المكبوت لدى "آيبريل" يضاف اليها خيارها الاخير بالانتحار غير المباشر.

مما لا شك فيه ان قدرة سام منديس على التقاط تفاصيل الحياة الزوجية وخيباتها تضع شريط Revolutionary Road في مصاف الافلام ذات الدرامية العالية في ما يخص العلاقات. ولكن لأن مصدره أدبي، فقد أُخذ على الفيلم اسقاطه لتفاصيل الحقبة الاجتماعية التي تدور الأحداث فيها لاسيما انها الرواية الاولى لييتس التي يجري تحويلها فيلماً سينمائياً. اذا ثمة احساس لدى بعضهم بأن "الظلم" الذي وقع على ييتس لسنوات طويلة يجب تعويضه بالغوص أكثر على مفاهيمه الاجتماعية. صحيح ان دينامية العلاقة بين "فرانك" و"آيبريل" قد تنطبق على علاقات زوجية كثيرة في اي زمن الا ان ييتس اشتهر بقدرته على عكس ملامح الخمسينات وتأثيراته في العلاقات. وهو ان لم ينظر الى روايته تلك على انها نقد لحياة الضواحي الا انه اعتبرها ادانة لتلك الشهوة العارمة للاندماج التي سادت الحقبة والبحث الاعمى عن مفاهيم سطحية لمعنى الامان بأي ثمن.

في مطلق الأحوال، يجوز القول ان شريط منديس هذا يقوم على ثنائية التمثيل والدراما الداخلية للشخصيات التي تتحقق عن طريق التصوير السينمائي المتقشف والالوان الباهتة والكادرات الثابتة المؤطرة والفراغات الكبيرة في كل لقطة. اما وينسليت وديكابريو فيقدمان اداءين شديدي التميز هي بانفعالية مطلوبة وهو يتوتر مكبوت يساعده على تحقيقه وقوفه على الحافة بين وسامة الشباب وقلق ملامح رجل متوسط السن.

المستقبل اللبنانية

06/02/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)