تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

المهرجان الدولي للأفلام القصيرة في كليرمون فيران.. تضامُنٌ مع فلسطين والحشود تفيض على العروض

قرد يخرج فيلماً! والهم الإنساني يتداخل مع العنف الدموي

نديم جرجورة/ كليرمون فيران (فرنسا)

مفارقتان اثنتان ميّزتا الدورة الواحدة والثلاثين لـ»المهرجان الدولي للأفلام القصيرة في كليرمون فيران« في فرنسا، التي انطلقت مساء الجمعة في الثلاثين من كانون الثاني الفائت: عرض الفيلم الأول الذي أخرجه القرد كابوسين، بعنوان »أوديب« (اليابان/ فرنسا، ٢٠٠٨، تحريك، سبع دقائق)؛ والعمل الفرنسي الميداني لدعم الفلسطينيين المدنيين الذين عانوا، مجدّداً، وحشية الاحتلال الإسرائيلي، في حربه الأخيرة على غزّة. لا شيء يجمع المفارقتين معاً، لكنهما ظلّلتا الأيام الأولى، على الأقلّ، للمهرجان المعنيّ بالفيلم القصير، بأنواعه المختلفة؛ وافتتحتا الدورة الحالية بجديد مختلف، خصوصاً بالنسبة إلى تحقيق القرد المذكور فيلمه الأول، في مبادرة لا شكّ في أنها الأولى في العالم. ومع أن حماسة المشاهدين المشاركين في حفلة الافتتاح لفيلم »أوديب« خفّت كثيراً، بدءاً من مطلع الأسبوع الحالي؛ وعلى الرغم من أن التحرّك الميداني لشيوعيين فرنسيين ولمناضلين في حركة »فرنسا/ فلسطين: تضامن« اختفت كلّياً بعد عرض الفيلم الفلسطيني »ليش صابرين؟« لمؤيد العيان في حفلتين اثنتين في »صالة جان كوكتو« في »بيت الثقافة«، المقرّ العام للمهرجان؛ إلاّ أن صدى الحدثين حافظاً على موقعهما الإنساني والأخلاقي والثقافي/ الفني لأيام عدّة.

حشود

هناك مفارقة ثالثة لا يُدركها المهتمّون بالفن السابع في المهرجانات السينمائية العربية أبداً (وفي الغالبية الساحقة من المهرجانات الأخرى، تقريباً): تنظيم حفلتين اثنتين لافتتاح الدورة الجديدة لمهرجان الفيلم القصير، في المدينة الفرنسية كليرمون فيران. فعلى الرغم من اتّساع صالة كوكتو نفسها لنحو ألف وخمسمئة مقعد، إلاّ أن إدارة المهرجان منتبهة، دائماً، إلى ارتفاع عدد الراغبين في حضور الافتتاح، إلى جانب المدعوين من دول متفرّقة. والراغبون في حضور الافتتاح يدفعون ثمناً (وإن كان زهيداً) لبطاقة الدخول، ولا يكترثون أبداً بالوقوف في صفّ طويل قبل فتح الأبواب. في البرنامج الموزّع على المدعوين، جاء أن حفلة الختام، مساء بعد غد السبت، ستُقام ثلاث مرّات، نظراً إلى ارتفاع عدد الراغبين في حضورها. والظاهرة هذه تثير حماسة القادم إلى كليرمون فيران من عالم عربي مسرف في حصاره المتنوّع، والمقيم في ضياعه القاتل، خصوصاً عندما لا يعثر على مشاهدين في المهرجانات السينمائية العربية الكثيرة، وعندما يصطدم بالفوضى الثقافية والأخلاقية عند الغالبية الساحقة من المشاهدين العرب في الصالات العربية والغربية معاً. فهؤلاء غير معنيين بالفن السابع، ولا يكترثون بالسينما، ولا يذهبون إلى الصالات إلاّ لأغراض لا علاقة لها بالأفلام وطقوسها.

في مهرجان الفيلم القصير، ظلّت »صالة جان كوكتو« مليئة بكاملها في الأيام الخمسة السابقة، مع أن برمجة العروض اليومية تبدأ ظهر كل يوم، بالإضافة إلى امتلاء الصالة الصغرى، التي تشهد نقاشات يومية بين المشاهدين والسينمائيين، بدءاً من الساعة التاسعة والنصف صباحاً. لا يأبه المشاهدون في كليرمون فيران إلاّ بالسينما: درجة الحرارة منخفضة، والثلج يزيّن الشوارع والأبنية والساحات والسيارات والأشجار العارية، والدراسة والعمل مؤجّلان، ربما لأن لا دراسة أو عمل، أو ربما لأن الأهمّ كامنٌ في أن مهرجاناً سينمائياً يُقام في مدينتهم، المحسوبة على اليسار، كما أخبرني أحدهم. متعطّشون هم إلى كل جديد مقبل إلى مدينتهم الهادئة، التي يبلغ الهدوء فيها درجة مخيفة للغاية في عطلة نهاية الأسبوع، لأن الغالبية تغادرها إلى الريف المحيط بها لتمضية العطلة، أو »لكي يتنشّقوا هواءً نقياً(!) بعيداً عنها«، كما قالت السيّدة ليلي، العاملة في أحد المطاعم الجميلة في المدينة، والتي تخدم الزبائن بروح طيّبة، محافظة على مطبخ شهيّ يصنع أنواعاً متفرّقة من المآكل الطيّبة. السينما حاضرة، والاحتفال بها ضروري: إذاً، لا بأس بالتخلّي عن أمور كثيرة، إكراماً لها. أما الآخرون، فلهم الحرية المطلقة في الخروج من المدينة، إذ إن الأهمّ منتشر فيها: أفلام قصيرة من كل حدب وصوب، وبرامج متنوّعة وكثيرة، ولقاءات سجالية مهمّة، وسهرات تجعل الزيارة الأولى إلى كليرمون فيران، المبتعدة عن باريس مسافة أربع ساعات تقريباً في القطار العاديّ، بداية سيرة جديدة للمتع المختلفة، أو لاكتشاف متع بصرية وحياتية أخرى، وللتواصل مع أناس متنوّعين.

كابوسين

لن يخطر في بال أحد أن يُنجز قردٌ فيلماً سينمائياً. لكن المنتج الياباني شيبويا هاراكازو خاض التجربة، وأعلن (في الحفلة الأولى للافتتاح، مساء الجمعة المنصرم) أن تدريباً يومياً لأسابيع عدّة خضع لها كابوسين، قبل أن يتولّى زمام الأمور: السيناريو، الإخراج، التصوير والمونتاج؛ في حين تولّى جان ـ ميشال والّين مهمّة التصوير. نكتة أم حقيقة؟ هل يُمكن لقرد (أصل الإنسان) أن يحقّق عملاً ما، على غرار ما يفعله »أحفاده« البشر؛ أم إن عبقرية المرء، أو حسّه الساخر، تدفعه، أحياناً، إلى ابتكار أنماط مختلفة وجديدة من المشهديات البصرية والاستعراضية؟ إنها مسألة إبداعية بحتة: تقديم القرد كمخرج سينمائي، وإن في إطار استعراضي جميل »لم« ينطلِ على غالبية المشاركين في الحفلة والمهرجان، مع أن السيّد كابوسين ومنتجه تجوّلا لساعات طويلة في كواليس »بيت الثقافة«، برفقة مصوّر يتابع تحرّكاتهما بدقّة. أما الفيلم، فاختار القصّة الأسطورية اليونانية القديمة الشهيرة أوديب، ليُسقط عليها تداعيات عصرية، انطلاقاً من مقولة/ تساؤل: تُرى، ما الذي يحدث لو أن »الملهم« لم يفهم شيئاً من المسألة؟ الفيلم، بحدّ ذاته، يسرد التناقضات الحاصلة في أعماق البشر، ويحاول أن يطرح سؤال المعرفة والاكتشاف والمعاني، لكنه لا يخرج من بساطة النكتة العادية في سعيه إلى فهم الواقع والمخفيّ.

فلسطين، بدورها، حاضرة بقوّة. فالجرائم البشعة والمخيفة التي ارتكبتها إسرائيل ضد الفلسطينيين المدنيين في قطاع غزّة، بحجّة مكافحتها الإرهاب، لم تبقَ أسيرة اللامبالاة عند شعب غربيّ بدأ ينتبه إلى خطورة ما يجري في تلك البقاع المعروفة، عنده، إما باسم إسرائيل، وإما بعنوان الشرق الأوسط. والحجّة هذه لم تنطل على البعض، كما يبدو؛ إذ اغتنم مناضلون في حركة »فرنسا/ فلسطين: تضامن« فرصة تنظيم الدورة الجديدة للمهرجان بعد وقت قصير على »النهاية« المزعومة للحرب الإسرائيلية على غزّة، كي يُعلنوا موقفاً إنسانياً/ أخلاقياً وسياسياً، قالوا فيه ما يُمكن اختصاره بما يلي: إن ما يجري هناك ناتجٌ، أولاً وأساساً، من استمرار الاحتلال الإسرائيلي وسياسة بناء المستوطنات. أي: إن السلام الحقيقي نابعٌ من إنهاء الاحتلال في الضفّة والقطاع، وإيقاف بناء المستوطنات. فهم اختاروا يومي السبت والاثنين للتعبير عن مقتهم وحشية القتل الإسرائيلي، لأن الفيلم الفلسطيني » صابرين؟« عُرض في »صالة جان كوكتو«. ولعلّهم أعلنوا موقفهم هذا في الحفلات الأخرى، التي أقيمت في أيام أخرى وفي صالات متفرّقة؛ تماماً كما فعل مناضلون شيوعيون، وزّعوا بيان تنديد بالحرب الإسرائيلية نفسها، وشرحوا، في منشور وزّعوه على الداخلين إلى »بيت الثقافة«، ما فعلته ولا تزال تفعله إسرائيل.

لم يكن تدخّل هؤلاء جميعهم مفروضاً أو مزعجاً. مناضلو حركة »فرنسا/ فلسطين: تضامن« طلبوا من إدارة »المهرجان الدولي للأفلام القصيرة في كليرمون فيران« السماح لهم، قبيل عرض الفيلم الفلسطيني، التعبير عن موقفهم التضامني هذا، الذي بلغ حدّ المطالبة بمقاطعة البضائع الإسرائيلية كلّها، باستثناء »النتاج الثقافي«؛ في حين اكتفى مناضلون شيوعيون شباب بتوزيع المنشور على مدخل »بيت الثقافة«، علماً أن جريدة الحزب، »لومانيتيه«، اتّخذت لنفسها حيّزاً متواضعاً داخل البيت نفسه، لتوزيع الصحيفة مجاناً على مشاهدي أفلام المهرجان والمدعوين إليه. مع هذا كلّه، أثار التحرّك الثنائي تساؤلاً حول علاقة السينما بالسياسة، وعمّا إذا كان مقبولاً إقحام السياسة في الفن السابع. لكن، لا يُمكن حسم المسألة بسهولة، لأنها مرتبطة بأمزجة الناس والتزاماتهم السياسية والأخلاقية والإنسانية. لكن التحرّك الثنائي بدا جميلاً ومهمّاً، في بلد ديمقراطي أكّد، في لحظة »عادية« كهذه (بالنسبة إليه على الأقلّ)، أن الآراء المتنوّعة موجودة، وأن الإنسانيّ أهمّ من كل شيء، وأن السينما إنسانية قبل أن تكون أمراً آخر.

الإنساني

والإنساني في السينما حاضرٌ، هو الآخر، في أفلام كثيرة عُرضت في الدورة الحالية للمهرجان: الوجع، الحبّ، القلق، الخلاص المعلّق والملتبس، العلاقة السليمة/ غير السليمة بالذات والآخر، الهوية، الانتماء، إلخ. إنها عناوين اعتادت السينما، والفنون كلّها، تناولها في مضامين متنوّعة، والأمثلة في كليرمون فيران عديدة، خصوصاً تلك المشغولة بحرفية فنية وجمالية لافتة للانتباه (إنتاج العام ٢٠٠٨). مثلٌ أول، »الملذّات الممنوعة لبيتي« (نيوزيلندا) لميشيل سافيل: يعاني بيتي حصاراً خانقاً جرّاء إقامته ووالدته، ذات الملامح القاسية، في منزل واحد، وفي علاقة متوترة. يحلم بالسفر، وبأشياء أخرى، لكنه لا يُحقّق الكثير منها. يصنع أشكالاً متفرّقة من الزينة، ويضعها في علب الأحذية. ينتهي به الأمر إلى نوع من مصالحة غامضة مع نفسه. مثلٌ ثان، »مجرّد فعل عادي« (الولايات المتحدّة الأميركية) لهولي لفنشتاين: متتاليات بصرية تُقدّم عدداً من الحكايات اليومية التي يختبرها رجلٌ مقيمٌ في وحدته. تفاصيل ساذجة، لكنها موغلة في واقعيتها. انعكاسٌ واضحٌ لمأزق العيش في رتابة المجتمع الأميركي. مثلٌ ثالث، »الأرض تحت أقدامنا« (أوستراليا) لرينيه هرنانديز: فيلم قاس عن يوميات أقسى لمراهق منعزل يتقن خلق أعداء ويسعى، في الوقت نفسه، إلى صداقات. تصوير حاد لِمَنَاحٍ مختلفة من العيش اليومي لفرد غاضب ومتوتر، ولعلاقات متناقضة يصنعها القهر والألم والرغبة في اكتشاف الذات. مثلٌ رابع، »جذور« (سويسرا/ تركيا) لآيلين هوفر: هنا، تبرز اللغة السينمائية بتعبيراتها الجمالية، تصويراً ومونتاجاً وأداءً تمثيلياً وإضاءة. فالإيقاع الهادئ منطو على وتيرة مرتفعة من الارتباك والغضب. والسياق المروي بتكثيف بصري للصُور، يستكمل نصّه بحوارات مقتضبة وجمل قليلة. الأب عاطل عن العمل، في مدينة آيلة إلى الاختفاء، جرّاء تشييد سدّ كبير. إنه عاجز عن الاحتفال بالعيد التاسع لابنه الوحيد، وسط الثلج. والقهر، إذ يعتمل في الذات، ينعكس في الملامح والحركات، بدلاً من أن يُعبّر عنه بالضجيج والصراخ. فيلم جميل، يصوغ المشهد الإنساني ببساطة تحمل، في ذاتها، قسوة الطبيعة والحياة. مثل خامس: »عمل كامل« (ألمانيا) لتوماس أوبرلياس وماتياس فوغل: إنه مختلف عن الأفلام السابقة، مع أنه لا يخرج من الإطار الإنساني الممزوج بعالم من الرعب والأسئلة المعلّقة. إنه مزيج الوثائقي والغرائبي، في فكرة مختلفة. قال فوغل إن فكرة إدخال وحوش »زومبي« في سياق فيلم وثائقي ممل، برزت لديهما قبل أعوام عدّة. فالوثائقي منشغل بمسألة العاملين في الخدمة الاجتماعية. والروائي مبتكر، إذ يُكلَّف البطل بمطاردة هؤلاء الوحوش في إحدى الشركات، ما أدّى إلى إنجاز فيلم جيّد الصنعة، يحمل المعلومة والكوميديا المخفّفة معاً، على الرغم من أن مشاهد عدّة مليئة بالعنف الدموي الفظيع. مثلٌ سادس، »فيدا« (إسرائيل) لآنات مالز: إذا كانت المادّة الدرامية الأساسية عادية (أمٌّ عاملة، تعاني مشاكل عدّة في وظيفتها، وعلاقتها بابنتها الوحيدة شبه فاشلة)، فإن المعالجة البصرية خرجت من العاديّ إلى ما يُشبه »نكتة القدر القاسية«. والأم، لعجزها عن استخدام جهاز الكمبيوتر وقراءة الرسائل الإلكترونية، تُطرد من عملها. في حين أن طردها من العمل جعلها تتقرّب، أكثر، من ابنتها التي تعاني، بدورها، أزمة عاطفية. التصوير الليلي طاغ، والمعالجة الدرامية مبسّطة، مع أنها تحمل شيئاً من الإنساني العام.

لا تختزل الأمثلة هذه المناخ العام للدورة الواحدة والثلاثين، التي قيل في أفلامها إنها »أقلّ« أهمية من تلك المعروضة في الدورة السابقة. لا تقدّم العناوين المذكورة أعلاه أكثر من نماذج متفرّقة عن كيفية انغماس الهوس الإخراجي بالجانب الإنساني في العيش اليومي، وبالتشابه الكبير في مآزق الناس وأحوالهم المدمَّرة. فأيام المهرجان المقبلة تحمل أفلاماً عديدة، في حين أن أفلاماً أخرى شوهدت سابقاً، شكّلت محاور درامية وثقافية حيّة، تثير حماسة المُشاهدة والنقاش النقدي.

 

كلاكيت

فيلم أجمل من الحياة

نديم جرجورة

لم تكن اللغة عائقاً، بل أداة أسهل لمقاربة الوجع الإنساني، بشفافية مُبدِع وضع الكاميرا في خدمة العيون الناعسة والمتعبة والوجوه الجميلة والقامات الخارجة من أرض الشقاء إلى حريتها الداخلية، بدلاً من أن يتسلّل إلى البقعة الجغرافية تلك، بعراقتها التاريخية وواقعها الأليم، حاملاً معه نَفَساً استشراقياً حادّاً. فهو، باختياره الهند حيّزاً لابتكار شكل آخر من الصُوَر السينمائية البديعة، أراد أن يصنع من الواقع القاسي لوحة فنية باهرة. وهي، بانفلاشها أمام رغباته السينمائية، جعلته يتفوّق على الحدّ الفاصل بين الحرفية المهنية والمخيّلة، إذ بلغ بهما مرتبة راقية من العمل الفني.

لم يذهب السينمائي البريطاني داني بويل إلى الهند بعقلية المستعِمر العتيق، بل بروح مرحة ومحبّة لبلد وأناس قابعين في الذلّ والخوف والتمزّق والفقر والألم. لم يخرج من عباءة الماضي لـ»تصفية« حسابات معلّقة، لأنه مغرم بالسينما وابتكاراتها. لم يحمل سلاحاً لاستعادة حقّ مهضوم، لأن الصورة لديه أهمّ وأجمل. كل ما فعله مناقضٌ لهذه الصفات الهمجية، التي صنعت تاريخاً عنيفاً بين دولتين عاشتا عداء رهيباً لأزمنة طويلة: ذهب محمّلاً برغبة المبدع السينمائي في تحقيق إنجاز مختلف، فكان »المليونير المتشرّد«، الفيلم الذي تعجز صفات كثيرة عن إيفائه حقّه، لقدرته على مزج السياسة بالاقتصاد، والتربية بالنزاعات الدينية، والفوضى الإدارية والأمنية بتنامي سطوة المافيات (مستقبل الهند)، والتلاعب الإعلامي بسطوة الصورة على المجتمع والناس؛ وهذا كلّه بلغة سينمائية تُستحسن مشاهدتها، لأن الكلمات لا تُقدّم شيئاً يُذكر من جمالياتها.

أمبالغة هي، أم انفعال عابر؟ هناك أفلام كثيرة وضعت مشاهديها في بهائها الداخلي، دافعة إياهم إلى الاستزادة من هذا الجمال المتنوّع، كي يُدركوا معنى أن تكون الصورة طريقاً أفضل نحو حرية الذات، وانعتاقها من البؤس كلّه، الذي لم تتغاضَ السينما عنه أيضاً، بل جعلته أكثر إنسانية وجمالاً، في زمن عابث، كذاك المقيم في العالم اليوم. والسينما، في »المليونير المتشرّد« مثلاً، تعيد إعلان موقفها من الدنيا والحياة: إنها امتداد لهما أو بداية، لا فرق. إنها المرآة التي تعكسهما ببشاعتهما وروعتهما معاً. إنها الروح التي تجعل الحياة أفضل والدنيا أجمل، من دون أوهام، غالباً. إذ كيف يُمكن تفسير قدرة »المليونير المتشرّد«، الطالع من الوحل والموت والصدمات القاتلة والبراز والجنون، على جعل هذه كلّها أكثر قبولاً وتواصلاً؟ كيف يُمكن إدراك السرّ الذي جعل كل أشكال العذاب اليومي، التي لا تُحتمل، مدخلاً إلى فرح الانتصار على النهايات المدوّية بانهياراتها؟ أم أن »المليونير المتشرّد« أراد خاتمة سعيدة، كي يريح عيون المشاهدين وأرواحهم وانفعالاتهم، من الكمّ الهائل من الشقاء؟

عندما يُصبح الفيلم أجمل من الحياة، يجد المرء نفسه حائراً أمام حالة ملتبسة من العـيش. لكن »المليونير المتشرّد« أثبت أن الإصرار على تحقيق حلم أو رغبة لا مفرّ منه، في عالم غارق في الدم والعنف والاحتيالات الكبيرة.

السفير اللبنانية

05/02/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)