تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

«التبديل» لكلينت ايستوود.. خير مطلق وشر مطلق.. وبينهما فوضي

 فيلم يعرض في أمريكا استعداداً للأوسكار.. وقريباً في القاهرة

أمير العمري

كلينت ايستوود ممثل عظيم، شكل جانبا كبيرا من خيالنا ونحن صغار من خلال أفلام "الويسترن سباجيتي"، التي قام ببطولتها وأخرج الفيلم الأول منها "من أجل حفنة دولارات" مخرج كنا نظنه أمريكيا، فقد كان يطلق علي نفسه اسم بوب روبرتسون ثم عرفنا بعد ذلك أنه إيطالي وأن اسمه هو سرجيو ليوني، أحد أعظم السينمائيين في عصرنا، رغم أنه لم يخرج طوال حياته سوي 10 أفلام فقط.

كان ايستوود في الحقيقة صنيعة ليوني، كما أن جانبا كبيرا من النجاح المدوي الذي حققته ثلاثية ليوني الشهيرة يعود أساسا إلي كلينت إيستوود.

هذا الممثل الذي اكتسب مع الزمن خبرة أكبر، وأصبحت له ملامح مميزة في الأداء البسيط غير المتكلف، أصبح أيضا مولعاً بالإخراج منذ وقت مبكر، وقد أخرج حتي الآن 29 فيلما إلا أنه لم يحقق في الإخراج ما حققه في التمثيل رغم تميز عدد لا بأس به من أفلامه كمخرج

شاهدت منذ أيام فقط فيلمه الأحدث كمخرج "التبديل" Changeling  وهو الفيلم الذي عرض في مسابقة مهرجان «كان» الماضية، وكانت له أصداء جيدة.

ولكن يمكنني القول إنه رغم الطموح الكبير من أجل تحقيق عمل ملحمي كلاسيكي كبير إلا أن ايستوود لم ينجح في رأيي في الوصول إلي ذلك بسبب تفكك السيناريو، واعتماده علي التداخل بين الزمان والمكان، خاصة في الثلث الأخير من الفيلم، وهو منهج يجب أن يتم بحذر شديد وبدقة بالغة، حتي يأتي الفيلم متوازنا وواضحا ومفهوما أيضا. أما هنا فالانتقال في الزمن بدا كما لو كان يحدث بدون ضرورة حقيقية، وفقط من أجل الشرح والمزيد من الشرح.

هذا فيلم موضوعه الأساسي عن أم وحيدة فقدت ابنها الوحيد وأعادت لها شرطة لوس أنجلوس الفاسدة (في أواخر العشرينيات من القرن العشرين) طفلا آخر وطالبتها بالاعتراف بأنه ابنها رغم انه ليس كذلك، وكان يتعين عليها أن تواجه مغبة رفضها الانصياع لمطلب الشرطة التي لا تريد أن يفتضح عجزها وفشلها في القيام بواجبها، في وقت كانت سمعتها فيه قد وصلت إلي الحضيض، وهو ما يؤدي بالسيدة (التي تلعب دورها أنجلينا جولي بماكياج وملابس مبالغ فيها كثيرا وبمبالغات شديدة في الأداء أيضا) أن تدفع الثمن، فتودع في مصحة للأمراض العقلية حيث تلقي من العذاب والتعذيب والهوان ما سبق أن شاهدناه في الكثير من الأفلام التي تصور أجواء مشابهة.

لكن الشرطي الشرير الذي يسوقها إلي العذاب يظهر في مقابله بعد ذلك كشرطي شريف يقرر إعادة فتح التحقيق بعد العثور علي صبي يعترف بقتل 20 طفلا مع رجل مضطرب عقليا في مزرعة دواجن بطريقة بشعة، ودفنهم تحت الأرض.

أيضا في مقابل مدير الشرطة الفاسد هناك القس المثالي (جون مالكوفيتش) الذي يقدم برنامجا إذاعيا يوميا يفضح فيه فساد الشرطة، بل يقوم بتصعيد موضوع السيدة كولينز التي تختفي داخل المصحة- السجن، ويقود أيضا المظاهرات التي تحاصر مبني الشرطة، وينجح في العثور علي محام شريف يتنبي قضية المرأة ويخرجها من المصحة ويواجه الشرطة في القضاء إلي أن ينجلي الأمر ويحصل ضابط الشرطة الفاسد ومديره علي ما يستحقانه من عقاب، ويقع قاتل الأطفال في قبضة العدالة وينتهي إلي حبل المشنقة.

إلا أن الفيلم يمتلئ بالاستطرادات الميلودرامية التي لا لزوم لها والتي كان يمكن ببساطة الاستغناء عنها، ويعاني بالتالي من الترهل في الإيقاع، وتكرار الفكرة الواحدة في عدد كبير من المشاهد التي لا تضيف جديدا، وتعدد النهايات بحيث يقع المتفرج في حيرة قبل نصف ساعة من نهاية الفيلم ويتساءل: متي وأين يمكن أن ينتهي الفيلم؟ وكان يمكن اختصار أكثر من عشرين دقيقة من الأحداث الزائدة التي يصورها ايستوود فربما ساهم هذا في اعتدال البناء، كما كان يمكن الاستغناء عن عدد من المشاهد الكاملة، بل الشخصيات التي لا تخدم الفيلم.

الغريب مثلا أن الفيلم يتضمن في ثلثه الأخير مشاهد كاملة للمحاكمتين: محاكمة الشرطة، وقاتل الأطفال. ويتحول بالتالي إلي أحد أفلام المحاكمات التي تعتمد علي المرافعات القانونية والاستجوابات الطويلة الأمر الذي لا يسبب فقط الشعور بالملل، بل يخرج المتفرج تماما بعيدا عن البؤرة الدرامية الأساسية التي يقوم عليها الفيلم، وهي: امرأة وحيدة في مواجهة مؤسسة فاسدة، تصمد وتدفع الثمن ثم تنتصر دون أن تحصل علي الابن المفقود، بل إنه يجعل الشخصية الرئيسية تتحول من المرأة إلي قاتل الأطفال، ويصر علي تصوير مشهد المواجهة بين القاتل المفترض والأم الضحية.

لكن حتي قبولنا كمشاهدين في سياق الفيلم، لما يكشف عنه من مقتل الطفل علي أيدي قاتل الأطفال السيكوباتي الذي لا يوجد تبرير لسلوكه، سرعان ما يخذلنا الفيلم عندما يتراجع أمام الرغبة في تحقيق نهاية سعيدة تمنح الأمل للسيدة كولينز.. في العثور علي ابنها حيا، وهنا تُختلق العديد من المشاهد الزائدة والساذجة أيضا لهروب طفلين أو ثلاثة من القاتل ونجاة أحدهما مع احتمال نجاة الابن المفقود!

كان يمكن أن يصبح فيلم "التبديل" تحفة حقيقية لو أن إيستوود سيطر أكثر علي أحداث وتفاصيل الفيلم منذ مرحلة السيناريو، فاستبعد منها كل ما هو زائد، وركز فقط علي مأساة المرأة الوحيدة مع استبعاد الشخصيات النمطية المكررة، والتخفيف من الحوار وحذف كل مشاهد المحاكمة. ولاشك أن هناك جهدا واضحا في هذا العمل في محاكاة كل تفاصيل الفترة (من 1928 إلي 1938) إبان الأزمة الاقتصادية الكبري (أو التي اعتبرت كذلك قبل أن نصل إلي أزمتنا الحالية!) والتعامل بدقة شديدة مع الديكورات والتفاصيل الخاصة بالمدينة والشوارع والسيارات والملابس وتصفيفات الشعر وتصوير مشاهد المظاهرات وغيرها، ولكن هكذا عودتنا أفلام هوليوود الكبيرة منذ سنوات طويلة.

وقد نجح ايستوود في وضع موسيقي الفيلم الشاعرية الحزينة التي تغلب عليها نغمات البيانو والتي تناسب تماما طابع الفيلم.

وكان من الممكن أن يصبح الفيلم أيضا أكثر إمتاعا وأقل تشتتا إذا ما عرف ايستوود أين يتوقف عند النهاية الطبيعية لمشاهد فيلمه، لا أن يترك العنان لممثليه للاستطراد وتكرار العبارات والصراخ والانهيار علي الأرض، وكأنه يعتصر الأداء اعتصارا من أجل الوصول إلي أقصي ذروة ميلودرامية يمكن أن تنتج عن الأداء.

ونتيجة لذلك يعاني الفيلم من الطول المفرط، ومن الفوضي والتداخل بين الشخصيات، والافتقاد لوجود دوافع حقيقية لدي الشخصيات والوقوع بالتالي في التبسيط والتجريد والنمطية. فالشخصيات تتمحور هنا بين "الأخيار" الأقرب إلي الملائكة مثل القس الذي يبدو عداؤه للشرطة وانسياقه في الدفاع عن قضية المرأة غير مفهوم تماما، وبين "الأشرار" مثل مدير المصحة الذي يبدو نذلا حتي النهاية الدموية، بل خصم عنيف للمرأة طوال الوقت دون مبرر مقبول، والشرطي الذي لا يتوقف لمراجعة نفسه مطلقا، حتي بعد أن اتضح أنه كان مخطئا. فالشخصيات كما قلنا، هي نماذج للخير المطلق والشر المطلق.

وربما ترجع "محدودية" تأثير أفلام ايستوود أيضا إلي أنها تركز، عادة، علي الجوانب الشديدة المحلية في الموضوع، وتأتي بالتالي مفتقدة للطابع الإنساني العام، الذي يغلف أفكاره ويضفي عليها رؤية فلسفية أشمل وأعم، وتخلو أفلامه رغم قوتها، من الأبعاد الإنسانية العامة التي تمس الناس في كل مكان. فالمشكلة أننا بعد نحو ساعتين ونصف الساعة من مشاهدة حكاية "مسز كولينز"، نتأثر حقا، وربما أيضا نبكي وننفعل ونغضب، لكننا نخرج إلي الحياة دون أن يبقي في أذهاننا وذاكرتنا شيء منها يصبح جزءا مؤثرا ينعكس علي تجربتنا الخاصة <

مجلة البديل المصرية

24/12/2008

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)