تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

أسود على أبيض في فيلم المخرج المغربي نور الدين لخماري...

«كازا نيغرا» يحمل السينما المغربية الى الاحترافية

الدار البيضاء - نور الدين محقق

يشكل فيلم «كازا نيغرا» أي «الدار السوداء» للمخرج المغربي نور الدين لخماري حدثاً سينمائياً حقيقياً، في مسيرة السينما المغربية الجديدة الساعية نحو الاحترافية العميقة للفن السينمائي في بعده الفني العالمي. فهذا الفيلم يتألق من خلال قوته التخييلية التي صاغها المخرج المغربي لخماري بنفسه في السيناريو المحكم الذي كتبه، ومن خلال الإخراج السينمائي المتميز لهذا السيناريو، والتشخيص البارز سواء للبطلين الرئيسيين، عادل وكريم، اللذين جسدهما ببراعة احترافية كل من الممثلين الشابين عمر لطفي وأنس الباز أو بالنسبة لبقية الممثلين الآخرين وفي مقدمهم محمد بنبراهيم، الذي جسد دور زريرق «مول الشنيول»، الذي استطاع التألق فيه. لقد استوحى المخرج خصائص شخصيته في ما يبدو من الدور الشهير الذي قام به الفنان العالمي دانييل داي - لويس، وهو دور الجزار، في فيلم «عصابات نيويورك» للمخرج الأميركي مارتن سكورسيزي، مع اختلاف طبعاً في الرؤى والوسائل والأهداف أيضاً، وكذلك الفنان إدريس الروخ الذي مثل باحترافية دوراً مركباً يمثل امتداداً وإضافة إلى الأدوار القوية التي أنجزها سواء في الأفلام المغربية أو حتى العالمية، كما هو الشأن في دوره في فيلم «بابل» للمخرج العالمي أليخاندرو غونزاليز اناغيتو ومن بطولة براد بيت، وهو دور زوج أم الشاب عادل، السكير والمتسلط، سواء عليها أو على ابنها. هذا الدور الذي أبان فيه عن قوة في التشخيص وجرأة فنية في تقمص لحظات القوة والضعف التي عرفتها هذه الشخصية ذات التركيب النفسي المعقد.

مطاردة

ينفتح الفيلم على لحظة مطاردة الشرطة للشابين عادل وكريم، في إيقاع سينمائي سريع يفسح في المجال للحركة القوية أن تعبر عن ذاتها، كما في الأفلام العالمية، خصوصاً الأميركية منها، من دون أن نشعر بأي ضعف فني في هذا الإنجاز التعبيري والتصويري المتحكم في إطاره العام، وهي ميزة سينمائية قلما نجدها في الأفلام ليس المغربية فحسب، بل العربية، أيضاً. لقد رسم هذا الشكل الفني البديع، لحظة تفوق في أدائها الممثلان بكثير من التألق، ما يسمح بالقول، بأن لخماري لم يقدم فحسب فيلماً مغربياً قوياً إلى السينما المغربية، وإنما أيضاً قدم لها، وهو أمر يحسب له، ممثلين جديدين، جديرين بشهرة على المستوى العالمي. فالممثل الموهوب يظهر من بدايته، وحسناً فعلت لجنة التحكيم في مهرجان دبي السينمائي حين منحتهما معاً جائزة التمثيل للذكور مناصفة، ما يدل على أن النقد السينمائي يستشرف الآتي ويساهم في تقديمه.

إذاً بعد تلك المطاردة يعود الفيلم على المستوى الزمني ثلاثة أيام إلى الوراء ليحكي ماذا وقع، وما هي الأسباب التي أدت إلى هذه المطاردة، وهي تقنية سينمائية معروفة، لكن لخماري قدمها في شكل ايجابي، ومن دون أي تكلف أو إقحام، وهو أمر غاية في الدقة ويجب أن تتم الإشادة به. انطلاقاً من هنا تتمحور قصة الفيلم حول حياة شابين في مقتبل العمر، يعيش كل واحد منهما فراغاً على المستويين العاطفي الوجداني والعملي المادي، فكلاهما لا يشتغل، وكل منهما له رؤيته إلى الأمور المحيطة به، سواء العائلية منها أو المجتمعية التي تلخصت في عالم الدار البيضاء، خصوصاً في الأحياء الشعبية منه، التي ينتمي بالضرورة هذان الشابان إلى مكوناتها العامة.

الفيلم يقدم لنا ومنذ البداية شخصية كريم، وهو شاب يحرص على الأناقة على رغم ضيق ذات اليد، حيث يرتدي بدلة متكاملة، إضافة إلى ياقة العنق، يساعده في ذلك وسامته الطبيعية التي تمنحه ثقة بذاته، وهو يشغل لديه صبيين يبيعان السجائر بالتقسيط، في بعض الأماكن على رغم المضايقات التي يتعرضان لها، ويمنحانه المال المستخلص من هذا البيع، وهو يعاقبهما إن لم يقوما بعملهما هذا على الوجه الأمثل في نظره، و لكن بطريقة نستشف منها، على رغم محاولته إظهار الشدة، عطفه عليهما وكأنهما أخوان له. كما أن علاقته بأسرته متوازنة، يظهر ذلك في علاقته بأبيه الذي أصابه المرض بعد مدة طويلة في العمل المضني، تنقية السمك، من دون أن يحصل من جراء هذا العمل، على ما يمكنه من إعالة أسرته كما يجب، أم مع أمه، التي تحرص على سؤاله كلما تأخر في العودة إلى البيت أو بات خارجه، وهو ما يظهر بالخصوص في المشهد الذي جمعه معها بعد قضائه ليلة في حضن المرأة التي تعرف عليها والتي جسدت دورها الممثلة المغربية غيثة الصقلي.

كما نجده في الوقت نفسه يقدم شخصية عادل التي أبدع في تجسيدها الممثل عمر لطفي، وهي شخصية مركبة. فهي شخصية لشاب في مقتبل العمر، يعيش تناقضاً على مستويين، الأول داخل البيت الذي يعيش فيه، ويتجلى في زوج أمه السكير، الذي يذيق هذه الأم عذاباً يومياً، والثاني في الشارع، يجوبه يومياً بحثاً عن العمل، ليحصل على نقود تساعده في الهجرة إلى الخارج، مستعرضاً من خلال ذلك أوهامه في الزواج بفتاة أجنبية والحصول على كل ما كان يحلم به.

الفيلم يقدم حياة هذين الشابين داخل فضاء مدينة الدار البيضاء، في مختلف تجلياتها في النهار أو في الليل، سواء داخل أماكن العمل، كما هو الشأن في فضاء معمل السمك حيث اشتغل الشاب كريم لدى صاحبه رجل الأعمال، الذي جسد دوره ببراعة الممثل المغربي الراحل حسن الصقلي، وكريم حين لم ير في هذا العمل الذي قام به سوى استغلال بشع، لفقره، خصوصاًَ، وتجربة الأب الذي سبق له الاشتغال فيه، ظلت ماثلة في ذهنه، وتشكل وعياً شقياً يلازمه، وسواء في فضاء الحانة، حيث يقدم لنا عالماً آخر، من خلال تتبع مسارات شخصية زريرق «مول الشنيول» وصديقته التي تشتغل هناك، وتدير المحل، وقد برعت في تجسيد دورها الممثلة راوية، حيث استطاعت أن تقدم من خلال هذا الدور شخصية هذه المرأة بكثير من الجرأة والفنية.

نبرة أمل

لقد استطاع لخماري أن يعيد تشكيل فضاء مدينة الدار البيضاء بكثير من الواقعية السينمائية المحكمة، سواء على مستوى اللغة المستعملة في الحوار، وهي لغة على رغم جرأتها تظل تنتمي إلى الواقع المعاش، أو على مستوى الصورة التي قدمها، التي بدت على رغم السوداوية التي أحاطت ببعض الأحداث المقدمة في الفيلم، حاملة معها نبرة أمل واضحة، خصوصاً بالنسبة للشباب الذي ظل يحلم بالحياة الجميلة ولم يفقد إيمانه بالقيم الإنسانية التي تمثلت في المساعدة والتعاون، والحرص على العلاقات الإنسانية، فقد أظهر الفيلم حرص هذا الشباب على المحبة تجاه أفراد عائلته، يظهر ذلك من خلال علاقة الشاب عادل بأمه وحرصه على تخليصها من بطش زوجها العربيد، كما تجلى في إنقاذه سلحفاة الشاب المريض، مغامراً بذاته في سبيل ذلك، كما يتجلى هذا في حرص الشاب كريم على مساعدة أخته في إتمام دراستها، حين لاحظ تفوقها ورغبتها الشديدة في ذلك، كما تتجلى هذه القيم الإنسانية النبيلة في علاقة الصداقة التي ربطت بين كل من عادل وكريم...

إضافة إلى هذا، استطاع المخرج من خلال عمله السينمائي هذا أن يحقق المعادلة الصعبة، أن يحظى بإعجاب النقاد والصحافة، خصوصاً أن الفيلم قد استطاع في المهرجان الوطني للفيلم في طنجة 2008 أن ينال جائزتي النقد والصحافة معاً، وإعجاب الجمهور المغربي وهو يعرض حالياً في الصالات المغربية.

أبعد من هذا يمكن القول إن هذا الفيلم سيشكل محطة رئيسية في السينما المغربية التي تعرف الآن ازدهاراً في إنتاج الأفلام ورغبة قوية في تحقيق تميز تتفرد به ضمن بقية سينمات العالم، خصوصاً العربية منها. وهو فيلم سيظل حاضراً في هذا المسار إلى جانب أهم الأفلام التي قدمتها هذه السينما طيلة تاريخها الفني.

الحياة اللندنية في 23 يناير 2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)