تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

فيلم للمخرجة الفلسطينية أنا ماري جاسر...

شيء من محمود درويش في «ملح هذا البحر»

فريال كامل

هل حق العودة موجود؟ سؤال تطرحه المخرجة الفلسطينية أنا ماري جاسر من خلال فيلمها الروائي الطويل الأول «ملح هذا البحر». ففي الندوة التي عقبت عرض الفيلم في مركز الإبداع في القاهرة، تحدثت جاسر عن قوات الاحتلال حين رفضت عودة جثمان الشاعر محمود درويش إلى مسقط رأسه في الخليل، فهبط في المطار ليشيع من المطار. موعود الشاعر الكبير بالمطارات التي صارت لحظة شعورية سكنت أشعاره، فتحدث مراراً عن مرارة الانتظار في المطارات، حيث باتت المطارات وطناً للفلسطيني.

تتابع جاسر الحديث بأنها مواطنة حدودية خبرت - منذ حداثتها - مرارة العبور عبر الحدود من الأردن الى فلسطين، شاهدت ما يتعرض له أصحاب الأرض من تعسف قوات الاحتلال. وأضافت أنها لن تنسى ما حيت دموع أمها في لحظات ارتبطت بالهوان.

لقد عاشت جاسر - التي ولدت في بيت لحم - في المخيمات وعملت مع اللاجئين في فلسطين ولبنان وأميركا، فنذرت فنها ليكون لسان حالهم.

من هنا نجدها في «ملح هذا البحر» الذي كتبته وقد وضعت شيئاً من ذاتها. في الفيلم، تبعث المخرجة رسالة «الى من يساومون على حق العودة. حق الفلسطيني أن يوارى في تراب وطنه، وحق الأجيال اللاحقة لتتمكن من أن تعود وإن ولدت في الشتات».

قبل العناوين تحدد المخرجة هوية الفيلم وتوجز النكبة في مشهدين على درجة من البلاغة، في أولهما اجتياح الجرافات للبيوت لتمحي الصورة وراء عاصفة من التراب، وفي المشهد الآخر يتدافع جمع من الأهالي المذعورين للحاق بقارب صيد تتقاذفه الأمواج.

استلهام الشعر

في المشهد الافتتاحي تستلهم المخرجة الشابة التجربة الشعرية للشاعر الكبير محمود درويش، في عشر دقائق على الشاشة. منذ لحظة وصول (ثريا) بطلة الفيلم إلى مطار تل أبيب، كأميركية من جذور فلسطينية، تواجه بحزمة من ممارسات الضغط العصبي، تتجاوز الاستفزاز والإهانة الى تفقد خصلات شعرها وحمالة صدرها بحثاً عن ممنوعات.

وعلى رغم مرارة الواقع تخيرت المخرجة قصة شخصية نسجت مادتها من مشاعر وأمنيات شابين من أحفاد الجيل الذي عاصر النكبة، (ثريا) فلسطينية وافدة من الشتات لاستلام حصتها في تركة جدها والمودعة في أحد البنوك، و(عماد) فلسطيني مقيم في رام الله ومخنوق بالاحتلال والذي يعرقل منحه تصريحاً بالمغادرة للالتحاق بمنحة دراسية في كندا.

تشير بطلة الفيلم إلى أنها أدركت هويتها كفلسطينية حين كان عليها عبور الحواجز والبوابات الالكترونية ودوريات التفتيش التي تطلب فحص أوراقها، ما حولها الى سائحة على أرضها.

ثريا وعماد، شخصيتان بسيطتان لهما مطالب عادلة ويفاجآن بأنهما مجرد لاجئين، لاجئ من الداخل ولاجئة من الخارج. لقد عنيت المخرجة، بصياغة السرد في سلاسة، وأثرته بالمواقف المفعمة بالمشاعر، من دون خطابية أو إغراق في الميلودراما، في إيقاع متوازن وبلغة سينمائية راقية، نقلته المخرجة للمشاهدين «أن الشعور بالانتماء للوطن لا يموت مهما تعاقبت الأجيال».

في البنك، تفاجأ ثريا بأن أرصدة الفلسطينيين جمدت بعد النكبة العام 48، وضاع حقها كما ضاع كل شيء. ويتعجب مسؤول البنك لضآلة المبلغ المستحق، والذي لا يوازي ما بذلته ثريا من الجهد والمال. وهنا يدرك المشاهد من تلقاء نفسه أن الدافع وراء المطالبة بالحق هو إثبات الذات والوجود لا أكثر ولا أقل.

يتأزم الحال بثريا وعماد. يجمعهما الإحباط فيتآلفان، على أرض الأجداد، تحاصر ثريا بلاءات ثلاث، لا لشهادة ميلاد من السلطة الفلسطينية لمن ولد في الشتات وذلك باتفاق مع قوات الاحتلال، ولا لجواز السفر الفلسطيني، ولا ثالثة للتصريح بالإقامة. لذا يكون عليها المغادرة قبل انقضاء مدة الأسبوعين المحددين في التصريح، فيجن جنونها وتصرح من أعماقها: «لقد سرقونا، ماذا أفعل»؟

في «ملح هذا البحر» تطغى المشاعر على الحدث: مشاعر الشوق والحنين. ويقبض الجمال عن الصورة، يجلس الشابان أعلى هضبة تطل على مدينة فلسطينية جميلة، يبدو البحر خيطاً عند الأفق، يحادثها عماد عن شوقه للبحر الذي حجبته عنهما المستوطنات الإسرائيلية. وتتحدث ثريا عما حكاه جدها عن مدينته يافا، عن شارع الحلوة، رائحة البرتقال وقهوة المدفع وسينما الحمرا وليالي أم كلثوم. فيتسللان إلى يافا لتحقيق أمنيتهما بمشاهدة البحر وبيت الجد. فما أن يطالعهما البحر حتى يقذفان بنفسيهما إليه وينتشيان بمياهه الدافئة بينما يمزق صفوهما أزيز الطائرات. وحين تسمح لهما المالكة اليهودية بالتجول في بيت الجد، تلتقط الكاميرا مفردات من الطراز العريق والفن الأصيل ويتحول المشهد من الشاعرية إلى التراجيدية وتتصاعد حدته حين تطلب ثريا استرداد البيت ولو بالشراء. غير أن المالكة اليهودية تنصحها بأن تنسى الماضي ثم تتهمها بالجنون وتهددها باستدعاء السلطات. وفي جولة لهما في أطلال قرية عماد المنكوبة تتمهل الكاميرا لترصد جمال الطبيعة وبديع المعمار وينحني عماد ليلتقط بلاطة ملونة تحكي قصة حضارة بأكملها ولا تجد المخرجة غير أغنية لأسمهان لتفاعل ما يعتمل في صدر الشابين من الشجن.

يتميز السيناريو بالسلاسة باستثناء مشهد عملية اقتحام ثريا وعماد للبنك من أجل استرداد مستحقات ثريا على طريقة السينما الأميركية ذلك في غياب نظم الحراسة الإلكترونية الحديثة وإغفال نظام الحراسة في ملاحقة المقتحمين.

في الختام يقبض على عماد ويتم ترحيل ثريا ليعلو صوت الشيخ إمام المشروخ بفعل القهر والألم «البحر غضبان مبيضحكش، أصل الحكاية متضحكش». وتختتم المخرجة الندوة بأنها هي الأخرى حرمت من حق العودة لاستكمال تصوير مشاهد من الفيلم فصورتها خارج فلسطين، كما منعت من العودة إلى بيتها في رام الله.

فيلم «ملح هذا البحر» دراما إنسانية بالغة الرقة والجمال استطاعت المخرجة فيها أن تنقل للمشاهدين بصدق ومن دون ادعاء، الشوق للوطن، مذاق البحر وونس الأهل وبديع الفن، ورائحة البرتقال، ذلك الشوق الذي لا تخبو جزوته عبر الأجيال. فهل لـ «ملح هذا البحر» أن يطوق العالم العربي في إطار برنامج للأفلام لمناسبة إعلان القدس عاصمة للثقافة العربية 2009؟

الحياة اللندنية في 16 يناير 2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)