تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

معلّم التصوير السينمائي الحائز جائزة "أوسكار" فيلموس زيغموند لـ"النهار":

لا أعمل بعكس إرادة المخرج ورغباته لكنني الرجل الثاني في الفيلم من حيث الأهمية..... التصوير مثل الرسم قائم على الفن والتقنية والحرية عندي أن أملك وقتاً كافياً للخلق

جمهورية تشيكيا - من هوفيك حبشيان

في الصيف الفائت، حلّ مدير التصوير المجري المعلم فيلموس زيغموند ضيفاً على مهرجان كارلوفي فاري السينمائي ضمن التحية التي كان يوجهها المهرجان التشيكي الى موجة "هوليوود الجديدة" التي عصفت بعاصمة السينما الأميركية في نهاية الستينات، وخرج من رحمها أهم تيار سينمائي مع التعبيرية الألمانية والواقعية الايطالية والموجة الجديدة الفرنسية. زيغموند الذي كان ترك بلاده المجر، صحبة صديقه الأبدي المخرج لازلو كوفاكش، بعدما تجرأ على تصوير حوادث بودابست عام 1956، بحثاً عن فرصة خلف الاطلسي، بات أحد رموز تلك الحقبة السينمائية. وفيما كانت هوليوود وجوارها تجتاز ظاهرة الهيبي والحشيشة وشعار الحب والسلام وحرب فيتنام، مانحة شعوراً بالاعتزاز لاكتشافها الكبير هذا، كانت مجموعة من الشبان يتسللون من هذا الواقع المستجد، قالبين قيم أميركا وهوليوود رأساً على عقب، ومستنسخين أسلافهم الأوروبيين الذين سبقوهم الى قتل الأب السينمائي. هؤلاء هم دنيس هوبر، وارن بيتي، هنري فوندا، هال أشبي، مارتن سكورسيزي، براين دو بالما، وليم فريدكين، وروبرت ألتمان. على رغم أن زيغموند كان بدأ يمارس مهنة التصوير من عام 1955، الا أن انتقاله الى وطنه الجديد جعله يمكث منتظراً اقتناص الفرصة المناسبة للانطلاق مجدداً، فراح يشتغل بدءاً من 1963، موقّعاً باسم وليم زيغموند، مجموعة أفلام درجة ثانية وثالثة، قبل أن يُتاح له التعاون والانخراط مع شلة "هوليوود الجديدة"، وأحد أهم رموزها روبرت ألتمان في فيلم "ماك كايب وميسز ميللر"، حيث اختبر صرعات بصرية، وعتمة كثيفة، لم ترض ذائقة أرباب الاستوديوات لحداثتها وطابعها التجريبي والانقلابي، وذلك بعدما عوده قد اشتدّ من خلال "اليد المأجورة" لبيتر فوندا، الخارج هو الآخر، من تجربة "ايذي رايدر" (دنيس هوبر) القاسية والمدمرة. مذذاك، تابع زيغموند مساراً مجيداً، بطلعاته ونزلاته، عبر التقاط مشاهد، طوال فترة السبعينات، لأفلام معظمها كنوز سينمائية: "خلاص" لجون بورمان (1972)؛ "الفزاعة" لجيري شاتسبرغ (1973)؛ "هوَس" لبراين دو بالما (1976)؛ "لقاء الجنس الثالث" لستيفن سبيلبرغ (1977) الذي نال عنه جائزة "أوسكار" لأفضل صورة. واختتم زيغموند السبعينات بصفعة سينمائية لمايكل تشيمينو "صياد الغزلان"، وهو لا يزال بعد مرور 30 عاماً على انتاجه، الفيلم الأعز على قلب مصوّره. بيد أنه كان ينبغي انتظار عام 1980 والتصوير الملحمي الذي حظي به "باب الجنة" لتشيمينو أيضاً، الذي تعرّض لحملة مسعورة لدى عرضه في الصالات الأميركية، بعدما بتره منتجوه، ليرتبط اسم فتى بأحلام حافية من القارة القديمة، بأهم أسطورة سينمائية ابصرت النور بعد الحرب العالمية الثانية. منذ ذلك الوقت، لم تهدأ كاميراه ولم تسقط من يده. كبار لجأوا الى خدماته: وودي آلن، شون بن، مارتن سكورسيزي، كل هؤلاء استعانوا به في كل مرة أرادوا تطعيم فيلمهم بكادرات بديعة وألوان ساحرة وأجواء تشكيلية تستمد إلهامها من المعلمين الايطاليين. على رغم ان زيغموند بات اليوم على مشارف الثمانين، الا أنه لا يزال أكثر ثورية وألقاً وحداثياً من الكثير من مديري التصوير الشبان، رافعاً شأن مهنة، قلما أعيد الاعتبار اليها، شأنها شأن الظلم اللاحق بكتّاب السيناريو!           

·         تركت المجر عام 1957 مهاجراً الى الولايات المتحدة مع رفيق دربك السينمائي المخرج لازلو كوفاكش...

- صحيح. لدى وصولي الى هناك، واجهت البطالة لنحو عشر سنين، ذلك لأنني لم أكن أتكلم الانكليزية. اضطررت الى الانفصال عن لازلو لنحو سنة ونصف السنة، اذ ذهب هو الى سياتل وأنا الى نيويورك. ثم عملت في مختبر متواضع لتحميض الصور. اشتغلت كاميراماناً في البدايات، بحيث أنني كنت أحب ان أدير بنفسي آلة التصوير، على رغم اعتراض الاتحاد الذي كنا ننتمي اليه في ذلك الوقت ومنعنا من أن ندير كاميراتنا بأنفسنا! ومن جملة ما كُتب آنذاك عن هذا الموضوع، مقالة عن لازلو، الذي لم يكن يحب الانفصال عن كاميراه، لأنه كان يعتبرها آلة كمان بين يديه، ويملك حيالها عشقاً لامتناهياً. ولكن بنتيجة عملي على "بريلود" لجون أستين الذي ترشح لجائزة "أوسكار"، اتيح لي تصوير "اليد المأجورة" لبيتر فوندا و"ماك كايب وميسز ميللر" لروبرت ألتمان. ثم كرّت السبحة مع بورمان، دو بالما، تشيمينو...  

·     أحيطت بك ظروف مثالية لانجاز "ماك كايب وميسز ميللر"، قبل أربعين عاماً، حيث أجريت اختبارات بصرية جديدة كانت ثورية لتلك المرحلة. هل يجوز لك اليوم تكرار مثل هذه التجربة؟

- في أيامنا هذه، لم نعد نحتاج الى القيام بأيٍّ من هذه الأشياء. تكفي الاستعانة ببرامج تحميل في مرحلة المونتاج واللمسات النهائية. يمكن اللجوء الى برنامج "ادوب فوتوشوب". لكن، في زمن "ماك كايب وميسز ميللر"، لم يكن هذا كله موجوداً، فاضطررنا الى أن نشتغل يدوياً، لأن تلك كانت الطريقة الوحيدة للحصول على النتيجة المنشودة. مع ألتمان ذهبنا الى أبعد ما يمكن الذهاب اليه. تحدّينا وعانينا الأمرّين، علماً انه كان من الممكن أن نُطرد ونصبح خارج نظام الاستوديوات الى الأبد. كنا نؤمن بأن ما نفعله سابق لزمنه، لذا كان نصيبنا سوء الفهم (الاستوديو المنتج أبدى كراهية عنيفة تجاه الفيلم)، واحتاج النقاد الى بعض الوقت كي يفهموه، ولكنه يُعتبر اليوم من الكلاسيكيات الخالدة.

·     لكن في سبعينات القرن الفائت، وفي حقبة ما عرف بـ"الهوليوود الجديدة"، هل كان أسهل اقناع منتج بالقيام بمثل هذه الاختبارات على فيلم والمخاطرة بمصيره في شبّاك التذاكر؟

- في الواقع، لا أعرف. لا أعتقد أن نسبة الاختبار اليوم في السينما المعاصرة أصبحت معدومة، أو باتت احتمالاتها أقل مما كانت سابقاً. لا أؤمن أن للوسائل الحديثة المستخدمة اليوم شأناً في ذلك. حالياً، الأفلام الأميركية مملوءة بالدعوة الى التسلية! الهدف منها جني المال، وليس صنع الأفلام. عندما ترمي نظرة على السينما الأوروبية، تلاحظ انه يُتاح للأوروبيين ما لا يُتاح لنظرائهم الأميركيين، أي قيادة الفيلم في الاتجاه الذي يريدونه، بدءاً من التصوير حتى التوليف. وهذا ما يجعل السينما الأوروبية تبدو مختلفة الى هذا الحدّ. هناك مشكلة في الولايات المتحدة أساسها المال، اذ كل شيء يدور حول سلطة المال، وهذا ما يعوق الخلق أحياناً. يميل الأميركيون الى عدم اعتبار مدير التصوير فناناً. نحن هناك مجرد تقنيين، نلقى أجراً مقابل عدد الساعات وعدد أيام العمل. في أوروبا مهنتنا مختلفة، اذ يُعتبر مدير التصوير الرجل الثاني في الأهمية بعد المخرج. ذات مرة، كان عليّ أن أقوم بمعركة لفرض كتابة اسم كاميرامان زميل على ملصق اعلاني لفيلم. قد تعتقدني أمازحك، لكن على المستوى التقني، يمكنك إنجاز فيلم بلا مخرج، لكن حاول أن تنجزه من دون مدير تصوير!؟

·     فنّ التصوير، اضاءة وألواناً ومناخات تشكيلية، عنصر مهم في اللغة السينمائية. لكن كيف يستطيع مدير التصوير أن يوفّق بين نظرته ونظرة المخرج، الذي يعتبر سيد العمل وصاحب الخيارات الكبرى فيه؟

- في النهاية، مهما تتعدد الأطراف، ينبغي الا يكون هناك الا فيلم واحد، ونظرة واحدة شاملة. ثمة اتفاق مضمر ينبغي أن يعمل وفقه كلٌّ من المخرج ومدير التصوير. الأشياء يجب أن تكون واضحة قبل بدء التصوير: هذا من مسؤوليات المخرج، وذاك من مسؤوليات مدير التصوير، وهكذا دواليك. لكل فيلم شكلٌ واطارٌ خارجي، وكذا بالنسبة الى السرد الروائي. عندما تطالع رواية، وتقرر نقلها الى الشاشة، ينبغي لك أن تعرف أي اسلوب تريده، وأي خيارات شكلانية  ستتبعها. يجب أن تكون لك رؤية واضحة للمظهر العام للفيلم. عندما يتفق الطرفان (المخرج وأنا)، لا سبب ليذهبا، لاحقاً، في اتجاهين متناقضين، لأن الأفكار شأنها شأن الآراء تتوحد في المحصلة حول نظرة واحدة شاملة. لطالما احترمت رأي المخرج الذي أعمل وأياه، لأن الفيلم هو فيلمه. لا أعمل بعكس ارادته ورغباته. الفيلم ملك المخرج وهو المسؤول النهائي عنه. وعلينا أن نذهب في الاتجاه الذي يريده بغية اتمام الفيلم الذي في مخيلته. حسبي أن مدير تصوير جيداً هو ذاك الذي ينسج علاقات جيدة مع المخرج. لكن، هناك طرق عدة في العمل. المدرسة الانكليزية لا تسمح للمخرج بأن يتعاطى مع مدير التصوير، الا من خلال الكاميرامان، وانا لا أطيق هذه المدرسة، لأنني أحب ان أسيطر على كل جوانب العمل، بدءاً من تشكيل الكادرات وصولاً الى حركات الكاميرا، مروراً بالاضاءة. بعض التجارب المخيّبة علّمتني ألاّ اقبل أن اشتغل على فيلم إن لم يكن في تصرفي كاملاً.

·         عموماً، ما الذي يجعلك تختار فيلماً دون آخر؟

- يتوقف خياري على الكثير من الأشياء، أو بالأحرى على مزيج من الأشياء. في معظم الأحوال، عليّ أن أحب القصة، لكن من الضروري أيضاً أن اطالع السيناريو. ينبغي أن أحاط علماً بالاحتمالات المهنية التي يوفرها لي العمل على الفيلم. واذا لم تفلح القصة في مخاطبة شيء ما في أعماقي - ولا تسألني ما هو هذا الشيء -  فهناك احتمال كبير أن أرفض تولي عملية تصوير الفيلم. لشيءٌ مضنٍ أن تمضي شهرين أو ثلاثة من حياتك وأنت تصور فيلماً بائساً لا تحبه. المسألة تزداد سوءاً حينما تدرك، وأنت في منتصف التقاط المشاهد، أنك تورطت في مشروع سيئ. وهذا يحصل أحياناً. شخصياً، لا أستطيع أن أوظف جهودي وعرق كتفيّ في مشروع لا يكون ايماني فيه عميقاً منذ البداية. صدّقني، لا بد أن يتبدى هذا الايمان جلياً على الشاشة. شيء آخر يحسم خياري، وهو درجة اعجابي بالمخرج. البعض من هؤلاء يتحلى بالطموح، وفي هذه الحالة، أدرك مسبقاً، أنه سيطلب مني جهداً أضافياً، فأوافق فوراً. اضافة الى ذلك، اعترف أنني أميل الى النصوص التي تروي حكايات الناس، والتي تهتم ببلورة الشخصيات. لا أحبذ العنف ولا الكوميديات، الا اذا كان صانعها شخصا يدعى وودي آلن. طبعاً، أجد نفسي أكثر في الأفلام المستقلة ذات الموازنة المتواضعة.

·         لكن في كل الأحوال تطالب بمطالعة السيناريو قبل الموافقة؟

- بالتأكيد. عليَّ أن أقرأ السيناريو أولاً.

·         هل تتبع غريزتك في العمل؟

ـــ من الصعب جداً الاعتماد على الغريزة، وخصوصاً ان النصّ لا يتيح لك معرفة الكثير عن الجانب الشكلي للفيلم.

·         النصّ المكتوب شيء والمصوّر شيء آخر، أليس كذلك؟

- نعم، بالفعل، النصّ مختلف كثيراً عما نراه على الشاشة في المحصلة. عندما يبدأ الممثلون بوضع بصمتهم على العمل، وعندما يجد مدير التصوير اطاراً استيتيكياً لرؤية المخرج، يشق الفيلم طريقه ويفلت من سطوة النص والكلمات، وغالباً في اتجاه مختلف لما يطمح اليه الكاتب.

·         أهذه كانت حال روبرت ألتمان أيضاً؟

- ألتمان كان يعرف بالضبط ما يريده.

·         هل كان صعباً العمل واياه؟

- كان يعرف كيف يصنع فيلماً. كان يعرف مسبقاً ما الذي سيكون الفيلم عليه. لكن مع وودي آلن يختلف الأمر. ذات مرة، وبعدما كان وودي قد انتهى من التصوير، شاهد الـ"راشز" (المادة المصورة) وقرر أن يرمي كل شيء في سلة المهملات ويبدأ التصوير مجدداً، لأنه لم يعجبه ما شاهده. صوّر مرة ثانية "فيلمه" مع قصة أخرى وشخصيات مختلفة. لكن آلن يستطيع أن يحصل على كل المال الذي هو في حاجة اليه، وهذا ما لا يتوافر لكثيرين. امتلاكه امكانات يحول دون أن يكون مضطراً الى  أن يُري المشاهد شيئاً ما لم يعجبه.

·     عندما تعمل مع مخرج مثل مايكل تشيمينو ["باب الجنة" - 1980] هل تجد نفسك متورطاً في كل المشكلات الانتاجية والتحديات التي يواجهها فريق الانتاج والمخرج على حد سواء؟

- عموماً أنا متورط في الجانب الجمالي للعمل. لكن هذا في المبدأ. على مدير تصوير ناجح أن يستطيع اقناع الجهة المنتجة وفرض وجهة نظره عليها، كأن يقنعها مثلاً بأن على مشهد معين أن يصوَّر في ساعة معينة من النهار. اذا كان ينبغي لمشهد أن يصوَّر في الغروب فعلى المخرج أن يصوره في الغروب. على المخرج أن ينظّم عمله على نحو يتيح لمدير التصوير أن يلتقط المشاهد في الأوقات المناسبة. اذا كان يتطلب من مشهد ان يصوَّر في مطلع النهار، فينبغي الا نصوّره في منتصفه، وخصوصاً في كاليفورنيا حيث أشعة الشمس الحارقة. أياً يكن، هناك نوعان من المخرجين، مَن يعرف في المسائل التقنية، ومَن يجهلها تماماً. مخرج مثل كوبريك يعرف كل شيء! لا أدري بماذا كان مديرو التصوير يشغلون وقتهم حينما كانوا يعملون معه. البعض منهم ليس في حاجة الى مساعدة، لأنه يتسم بالعبقرية. لديه اجوبة عن كل شيء، ولا شك أن سبيلبرغ واحد من هؤلاء.

·     اعطيتك مايكل تشيمينو مثالاً، لأننا لا نزال نتذكر ما واجه فيلمه "باب الجنة" من متاعب انتاجية وابداعية، بحيث كنت مضطراً الى تصوير لقطة واحدة ثم الانتظار لأيام قبل البدء مجدداً...

- مبالغات صحافية كثيرة حول "باب الجنة". نسوا أمر "صياد الغزلان"، الفيلم الأسبق لتشيمينو، الذي حاز نجاحاً جماهيرياً ونقدياً ساحقاً، وهذا ما جعل تشيمينو يضطر الى أن يرفع سقف طموحاته، لأنه لم يكن يريد ان يكون "باب الجنة" اقل شأناً من "صياد الغزلان"، بل كان يريده أن يكون عظيماً. كان يرغب في أن يأخذ وقته في العمل بغية الخروج بنتائج ترضيه وترضي طموحاته وذائقته السينمائية. بيد أن المنتجين المشاركين في الفيلم، وفي مقدمهم الاستوديو، لم يعجبهم هذا الاسلوب البطيء في العمل، واعتبروه مماطلة، لأنهم كانوا ينتظرون أن ينتهي التصوير الكابوسي على أحرّ من الجمر. انجاز هذا الفيلم كان تجربة رهيبة. والفيلم، حتى لدى صدوره، كان أهم بكثير مما قال عنه النقاد في أميركا. الصحافة المتخصصة "قتلته". اليوم، يعترفون بأهميته وعظمته.

·     هل يزعجك ان تبقى منتظراً لساعات طويلة في موقع التصوير أم أنك لا تأبه لذلك. وهل تفضّل أن يعرف المخرج ما الذي يريده وعلى أي نحو؟

- تصوير فيلم لأمر معقّد. أحياناً قد نضيّع الكثير من الوقت. مجرد ان يحضر ممثل الى البلاتو من دون أن يكون قد حفظ نصه جيداً، فهذا يضطرنا الى معاودة المشهد 15 مرة متتالية أحياناً. عندما كنا نصوّر "ماك كايب وميسز ميللر" اجبرنا على معاودة المشهد ذاته 25 مرة، لأن وارن بيتي لم يكن يعرف ماذا يفعل. من الصعب جداً أن نحدد ما الذي يستهلك الوقت أكثر من غيره. أحياناً الاضاءة هي التي تتطلب الوقت. اذا حدّد لي المخرج الساعة التي يريد فيها تصوير المشهد، فهذا يتيح لي التحضير عشية التصوير. ولا يبقى للممثلين والفريق التقني الا أن يحضروا صباحاً، ومباشرة العمل ضمن أجواء أكثر ارتياحاً. في حال لم تكن عندي معطيات، فسيراني المنتج عند الحادية عشرة صباحاً، وأنا لا أزال منشغلاً بإيجاد الاضاءة المناسبة. وسيقال ان الخطأ هو خطأي. لكن، كما قلت لم أتلقَّ تعليمات.   

·     التصوير مزيج من الفنّ والعلم. العلم تحكمه القوانين أما الفن فتحكمه الذائقة والموهبة. مرة أخرى أسألك: كيف توفّق بين هذين الجانبين؟

- التصوير كالرسم: هناك تقنية ثم هناك فنّ. ينبغي لك أن تعرف كيفية استخدام الريشة، لكن الفرق أنك لن تصوّر ما ترسمه. التقاط مشاهد فيلم لا يختلف عن رسم لوحة. قد تكون السينما أكثر تعقيداً لأنها تتطلب مشاركة عدد كبير من الناس. قد تحتاج لانجاز فيلم الى فريق من 40 عنصراً، في حين أن الرسام يقف بمفرده أمام مساحة بيضاء ليحولها تحفة. السينما فن بالغ التعقيد.

·         أنت أيضاً نوع من رسام في مجال عملك كمدير تصوير، ولا تقل أهمية عن معلّمين من مثل رينوار أو فان غوغ.

- هؤلاء مصدر الهام لي، وخصوصاً الهولنديين والايطاليين من مثل كارافاجيو وليوناردو دا فينشي. مع أنني أميل الى الفنانين التشكيليين الذين تشبه لوحاتهم الصور الفوتوغرافية. أتكلم على وجه الخصوص عن الهولنديين الذين يجيدون اضفاء الضوء والمناخ على لوحاتهم.

·         بالاضافة الى موهبتك، هل تعتقد أن واقع وجودك في المكان والزمان المناسبين شرّع لك أبواب النجاح؟

عشت المرحلة الأعظم في تاريخ الولايات المتحدة. اتكلم عن الستينات. لم نكن نفعل الكثير، سوى ربما التعرف الى الأميركيين وتعلم اللغة الانكليزية. السبعينات كانت العصر الذهبي بالنسبة الى السينما الأميركية، مع وصول جيل من الشباب المتمردين والمستقلين. حصلت ثورة ولدت منها الموجة الجديدة..

·         أنت وليد هذا الحلم الأميركي أيضاً.

- الحلم الأميركي هو حلم سائر الناس. وما هو الحلم الأميركي في النهاية؟ انه كالحلم الأوروبي. الأوروبيون يعتقدون أن حلم الذين يعيشون في آسيا أو أفريقيا هو الرحيل من بلدانهم والهجرة. اذاً، الحلم هو أن تذهب الى مكان ما، أن تفعل ما يحلو لك فعله، وأن يتاح لك ان تجد وظيفة نتيجة قدرتك وموهبتك. هذا هو الحلم الأميركي!

·         أيٌّ من السينمائيين الذين تعاونت وأياهم منحك القدر الأكبر من الحرية؟

- السينما عمل جماعي. سيبدو مدعياً القول إنني، كمدير تصوير، أعبّر عن أفكاري عندما أضيء فيلماً. لكن، معظم الذين عملت معهم جعلوني أشعر بأنني خلاّق. دائماً أعمل بالتنسيق مع المخرج ومصمم الديكور والممثلين وكاتب النصّ، وكأنني ارسم لوحة بأيد عدة وريش كثيرة. أن أكون حراً في العمل يعني أن يكون لي ما احتاج اليه من وقت كي أضيء الفيلم على نحو سليم. ليس الفيلم ملكي بل ملك المخرج. وفي الحقيقة انه فيلم جميع الذين شاركوا فيه. ومن أجل المحافظة على مستوى معين في العمل، أحتاج الى الوقت وأيضاً الى المعدات اللازمة. هذه هي الحرية بالنسبة اليَّ. لسوء الحظ، غالباً ما يكون المال هو مصدر الحرية. تكاليف السينما كبيرة. وأحياناً كثيرة لا يعطى لي الكثير من الوقت، لأن الوقت هو مال. عندما كنت أصور "لقاء الجنس الثالث" لسبيلبرغ، كان فرنسوا تروفو يقول لي: "فيلموس، أستطيع ان أنجز فيلماً كاملاً بالمال الذي تنفقونه في يوم واحد".

 (hauvick.habechian@annahar.com.lb)

 

 

خارج الكادر

قبلة على جبين الرقابة !

8 كانون الأول 2008: التلفزيون الايطالي "راي 2" يعرض "جبل بروكباك" لآنغ لي. عندما تبلغ الحوادث المشهد حيث من المفترض أن يتبادل كلٌّ من هيث ليدجر وجاك غيلنهال قبلة، يلحظ الايطاليون الجالسين أمام تلفازهم، نقصاً، يتبيّن لاحقاً انه حذف! الشيء ذاته يتكرر بعد دقائق قليلة: انقطاع حاد في تتابع اللقطات، يتبدى جلياً انه حذف مقصود لتخفيف بعض ما وجده الرقيب ساخناً ضمن العلاقة المثلية بين شابين في الوسترن الشهير الذي عُرض في بيروت، قبل ثلاثة أعوام، لكن ليس قبل أن يجول فيه مقص الرقيب فيمزقه. جمعية الدفاع عن حقوق المثليين استنكرت في بيان ذي نبرة عالية. الصحافة كتبت ولاحظت خطوة غير أخلاقية. مشاهدون أرسلوا الى المحطة ايميلات احتجاجاً. جمعيات أخرى انضمت الى الجوقة الغاضبة، ووصلت أصداء هذا "الفعل المشين" الى خارج ايطاليا، وها نحن اليوم نكتب عن حادثة ما كانت لتثير انتباه أحد أو سخطه لو أنها حصلت في الصين أو إيران أو فيتنام أو جزر المالديف أو تونس أو السعودية. نتيجة الضغط والاحراج، اضطرت المحطة الى تبرير ما حصل بالقول إنها اخطأت بين نسختين، واحدة كاملة وأخرى معدلة، ووعدت مشاهديها بإعادة عرض الفيلم على شاشتها في اقرب فرصة. وبذلك تكون معركة الحرية ضد شرطة الأخلاق الحميدة قد ربحت.

قبل أيام ذهبت الى احدى صالات مجمع "أ ب ث" برفقة أصدقاء يريدون مشاهدة آخر أعمال وودي آلن: "فيكي كريستينا برشلونة"، الذي كنت قد شاهدته في الدورة الأخيرة من "مهرجان كان". فيلم خفيف الظل، يداعب فيه السينمائي النيويوركي فكرة المثلث الغرامي، والفوارق الفكرية والجنسية والعاطفية التي بين أميركا وأوروبا، انطلاقاً من تجربته الحديثة المتبلورة، أي التصوير في عواصم أوروبية. كانت الصالة الكبيرة في الـ"غراند سينما" مكتظة بالمشاهدين، حين قفز شريط الـ35 ملم من مكان الى آخر على آلة العرض، من دون أن يلاحظ احد أن ما حصل أمامه جريمة جديدة تنضم الى عدد لا يحصى من الجرائم التي ترتكبها الرقابة اللبنانية، على مرأى من شهود سلبيين لا يتحركون، وكأنهم قرروا التماهي مع مصير القرود الثلاثة. أما القتيل في تلك الليلة فقبلة بين بينيلوبي كروز وسكارليت يوهانسون اعتبرتها الرقابة غير أخلاقية.

 

لا يهمني هنا كيف تعاملت الرقابة مع القبلة المثلية، ولن ندخل في جدال لإقناعها، على سبيل الاستفزاز، أن لا شيء أجمل من قبلة تتبادلها امرأتان، وهي لا تزال تطبق قوانين صيغت في الثلاثينات. ما يهمني فعلاً أن أحداً لم يرف له جفن ولم يستغرب ولم يلحظ، بعد هذا الحذف، خللا بنيوياً في تركيب المشاهد. صدِّقوني ليست هذه المرة الأولى تمر الجريمة مرور الكرام. وحين عبّرت عن غضب يعشش في داخلي ويكبر جراء هذا النفاق، لم يكن ثمة آذان صاغية. علماً ان الحوار بات غير مفهوم من جرّاء البتر، اذ راح الممثلون يتحدثون عن شيء لم نره. بدا آلن وشريطه كتلة أكاذيب مركبة. الجريمة ارتكبت امامنا، وهي ترتكب من ثلاث الى أربع مرات يومياً، بعدد مرات عرض الفيلم، ولا يملك المشاهدون الا أن يكونوا شهود زور عليها، لأن الوشاية باتت انتقائية، والحديث عن "تفاصيل صغيرة" غير اخلاقية، وهو نوع من "ترف فكري" فيما الصواريخ الاسرائيلية تبيد شعباً بالكامل على بعد مئات الكيلومترات فقط من بيروت. والأسوأ ان الحجة في مكانها!

أدرك الايطاليون ما لم يدركه اللبنانيون. بعدما عانوا ما عانوه خلال العقود الماضية، من الفاشية الى البرلوسكونية، باتوا متيقنين اليوم ان حذف مشهد من عمل فني، مهما يكن بسيطاً وتافهاً، له دلالات ورمزيات وسوء استخدام للسلطة، لا يُمكن، بل من غير الأخلاقي التغاضي عنه، والقبول به، لأنه، قبل كل شي، مسألة كرامة انسانية ومواطنية، ولأنه، للتذكير فقط، هكذا تبنى الأنظمة الفاشلة ومن هنا تستمد شرعيتها، لتصل شيئاً فشيئاً الى اقناع الناس بأن ما تفعله انما هو طبيعي، ولمصلحتهم، وصولاً الى اقناعهم بالخرافة الشهيرة أن ثمة ما هو أهم من هذه التفاصيل الصغيرة التافهة، وأن التوقيت ليس مناسباً الآن، وحجة أن المجتمع لا يقبل بهذا ولا يقبل بذاك، منهيةً جولتها بالتسلل الى فكرهم، مثل شيطان دنيء، وجعلهم يرون من خلال اعينها ويسمعون من خلال آذانها، ويتنفسون من خلال رئاتها، والأهم والأسوأ، جعلهم يعتقدون انها هنا لمصلحتهم ولخدمتهم، ولخدمة مصلحتهم.

 

فهم الايطاليون (أو بعضهم على الأقل) ما لم يفهمه اللبنانيون (او بعضهم على الأقل) أن السلطة، أكانت تلفزيونية حكومية، أم متمثلة في الرقابة على المصنفات الفنية، لا يمكنها ان تكون أنت وأنا وهو، وكل الناس دفعة واحدة، وأن السلطة تبقى سلطة في المقام الأول، وأن السلطة ضد التفاصيل، لأن التفاصيل وحدها حقيقية، ولأن التفاصيل وحدها تستطيع ان تعرّي السلطة من أكذوبتها ونفاقها وثقافة الجشع التي باتت جزءاً من كيانها، حدّ أن تخاف من قبلة، من قبلة - فتنة!

بعض الأقلام التي تتعاطى السينما ملّت من هذا الموضوع، والأسوأ من هذا انها على حق. في ظل تقبل شركات التوزيع ومستثمري الصالات هذا الواقع، وضمه الى مصلحتها، لم يعد لنا ثمة ما نضيفه على ما قلناه سابقاً. تعبت الأقلام لأن لا أحد يأخذها في الاعتبار، ولا أحد يساندها في معركتها "الهامشية" والخاسرة سلفاً ضد الرقابة اللبنانية، المدعومة من الشعب اللبناني بغالبية طوائفه ومعتقداته وتقاليده. ولكن هذه الأقلام يجب ألاّ تنام. واذا نامت خسرت المعركة الخاسرة سلفاً. لأن النوم يعني الرضوخ والقبول، في أن ننتقل من وصاية الى أخرى، من وصاية سياسية الى وصاية أخلاقية ودينية، من وصاية خارجية الى وصاية داخلية، وما الفرق بينهما؟ كم من الحذف والبتر والتسميم ستمارسه الرقابة في جسد الصورة، كي يدرك المشاهدون اللبنانيون الأفراد، كل واحد منهم على حدة، لا مجتمعين، انهم يُسلبون أعز ما يملكونه، وأبسطه: الحق في النظر الى ما يريدونه، والحق في ان يختاروا من تلقاء نفسهم، ما لا يريدونه؟! كم سيظل الفرد اللبناني يتحمل سيفاً مصلتاً على رأسه (سيف جاهز لشطره من الأعلى الى الأسفل) قبل أن يتمرد ضد كل أشكال المنع والحجب؟ كم قبلة بين امرأة وامرأة، بين رجل ورجل، بين امرأة ورجل، سيحذفها رقيب مكبوت قابع في زاويته، قبل أن يصبح اللبناني مواطناً "ايطالياً" في ادراكه ووعيه؟ كم قبلة سينتشي رقيب وضيع في حذفها، قبل أن ندرك، نحن هذه المرة، أن الرقابة بدعة مجتمع، لا بدعة سلطة؟   

هـ. ح.

النهار اللبنانية في 15 يناير 2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)