تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

ديفيد لينتش كن سيد فيلمك

الحلقة الأخيرة

ترجمة علي كامل

مقدمة

هذا القسم هو فصل مجتزىء من كتاب بعنوان (Moviemakers’ Master Class) لمؤلفه الناقد والسيناريست والمخرج السينمائي الفرنسي لورينت تيراد.(*)

في مقدمة هذا الفصل المخصص لديڤيد لينتش كتب تيراد يقول:"المخرج السينمائي  والتلفزيوني ديفيد لينتش هو ليس بالشخص الذي تتوقعه إطلاقا، فأفلامه التي أخرجها هي أفلام غريبة عادة متشابكة وملتوية، أفلام مليئة بالشخصيات الغامضة الملتبسة والمفزعة في بعض الأحيان، إلا أن الإنسان الذي يقف خلف الكاميرا هو واحد من بين أكثر المخرجين الذين إلتقيتهم صدقاً ووضوحا وسهولة ودفئاً وعذوبة، ماجعلني أكثر قلقاً بشأن ما الذي يجري حقاً في المديات المعتمة في ذهنه!.

كان عمري ستة عشر عاما فقط حين شاهدت فيلمه "Earserhead رأس الممحاة" أول مرة، وقد إضطررت حينها إلى مغادرة القاعة في منتصف العرض لإن الفيلم جعلني في وضع قلق ومضطرب جداً. لقد كان بالنسبة لي حينها أشبه بأن تفتح الباب على مكان معتم مروع بدا واقعياً ومريحا في ذات الوقت. وهذا بالضبط، وبمرور الوقت، ماجعلني أنا ومعجبين آخرين نعشق أفلام لينتش، وبالطريقة التي إستطاع بها أن يُرينا ماوراء السطح، كمشهد الحشرات التي تندفع بحشود كبيرة تحت العشب في بداية فيلم " Blue Velvet المخمل الأزرق "  أو ذلك الرواق المفزع بشكل لايصدق في فيلم  "Lost Highway فقدان الطريق الخارجي" الفيلم الذي بسببه سافرت إلى نيويورك لعمل لقاء مع هذا المخرج.
لقد إستقبلني ديڤيد لينتش في منزل حديث وجميل بالقرب من مولهولند درايڤ
Mulholland Drive، هناك حيث تكدست في باحته الفسيحة مجموعة مختارة من لوحاته الزيتية. وحين أجريت اللقاء معه كان مثل شيخ حكيم يصغي لطفل يسأله عن الحياة. أما أجاباته على أسئلتي فقد كانت تحمل في ثناياها محبة ووّد كبيرين. وحين إنتهى اللقاء إبتسم لي وسألني قائلاً: (طيب؟ مارأيك؟ هل سأحصل على عمل؟).".

***

(فيلمي الأول)

لم يُطلب مني مطلقا أن أدرسّ الإخراج السينمائي، وحتى لو حدث ذلك فأظن أنني لن أكون بأية حال من الأحوال موفقاً جداً في ذلك. 

لقد حصلت على دورة دراسية واحدة فقط عن السينما في حياتي مع أستاذ إسمه Frank Daniel، وكانت الدورة مكرسّة لتحليل الفيلم، حيث كان يُطلب منا مشاهدة بعض الأفلام والتركيز على عنصر محّدد واحد فقط في كل مرة، كالصورة والصوت والموسيقى والتمثيل... وكان علينا أن نقوم بتدوين ملاحظاتنا على قصاصات من الورق، ومن بعد نقوم بتبادل تلك الملاحظات المدوّنة ونقارن فيما بينها.

الأشياء التي إكتشفناها حينها كانت مذهلة بشكل كبير حقاً، وكانت تلك الدورة الدراسية رائعة جداً، بفضل السيد فرانك دانيال بالطبع، فشأنه شأن كل المدرسين الكبار كان يمتلك القدرة على إثارة الطلبة وبعث الإلهام في نفوسهم.

لاأظن أنا شخصياً أنني أمتلك تلك القدرة، فليس لدي معرفة موسوعية بتأريخ الفيلم ولست مؤهلاً جداً لإعطاء المحاضرات أيضاً، لإنني لاأعرف ماسأقوله للطلاب سوى: (خذوا الكاميرا وإذهبوا لعمل فيلم). مع ذلك، فتلك هي الطريقة التي تعلمت بها فن الفيلم.

لقد أردت في الأصل أن أكون رساماً، وقد إلتحقت بالفعل بكلية الفنون الجميلة يومها. وفي أثناء دراستي تلك كنت عملت فيلماً قصيراً منجزاً بطريقة الرسوم المتحركة وعرضته فيما بعد على شاشة منحوتة.

كان عرضا تجريبياً وكانت الفكرة التي ومضت في ذهني يومها هو أن أجعل من الفيلم أشبه بلوحة زيتية حية متحركة.

لقد شاهد الفيلم حينها وبالصدفة شخص لاأعرفه وقد كان معجباً جداً به، ثم عرض عليّ مبلغاً من المال لعمل فيلم آخر له شخصياً. قمت بمحاولة لعمل شيء من هذا لكنني لم أوفق إطلاقاً، عند ذاك قال لي ذلك الشخص: "لاتقلق. يمكنك الإحتفاظ بالمبلغ وعمل الفيلم الذي تريد". بعدها وبذلك المبلغ الزهيد إستطعت أن أنجز فيلماً قصيراً حزت من خلاله على جائزة وجلب لي تمويلاً لعمل فيلمي الأول " Eraserhead رأس الممحاة".

هكذا، وبهذه الطريقة، بدأت.

 (مصادري)

لو خُيرّت في عرض أفلام تمثل لي نماذج للأفلام المتقنة والبالغة الكمال لأخترت أربعة أفلام فقط.

الأول، سيكون فيلم "ثمانية و /21" بسبب الطريقة التي إستطاع فيها فريدريكو فيلليني أن ينجز عملاً يتماهى مع مايبدعه الرسامون التجريديون في الأغلب،أعني، الطريقة التي يمكن عبرها إيصال الأحاسيس بدون  قول أو إظهار أي شيء بطريقة مباشرة، وبدون تفسير لأي شيء، إنما فقط عن طريق نوع من السحر المطلق (الخالص الصافي المحض المطلق غير الملحوظ).

للأسباب ذاتها أحب إختيار فيلم (Sunset Boulevard ) لمخرجه Billy Wilder، الذي رغم الإختلاف الكبير بين أسلوبه وأسلوب فيلليني، إلا أنه إستطاع أن يحقق وبشكل أكثر، نفس الجو التجريدي، ليس عن طريق السحر إنما عبر جميع أشكال الخدع التقنية والأسلوبية. فهوليوود التي يصورها وايلدر في فيلمه ربما ليس لها وجود حقيقي على الإطلاق، إلا أنه مع ذلك جعلنا نؤمن بوجودها، ليس هذا فحسب، إنما إستطاع أن يغمرنا في أجوائها كما لو أننا في حلم.

أما الفيلم الثالث فسيكون فيلم (Monsieur Hulot’s Holiday)  للمخرج  Jacques Tati لرؤيته المدهشة للمجتمع.

حين تشاهد أفلام هذا المخرج تدرك سعة المعرفة والحب التي يمتلكها إزاء الطبيعة البشرية التي هي بمثابة الملهم الوحيد له لإبتكار تلك الرؤية.

أخيراً، الفيلم الرابع سيكون ( Rear Window) للإسلوب المذهل التي أستطاع فيه ألفريد هيتشكوك أن يخلق، أو بالأحرى، أن يعيد خلق العالم بأكمله ضمن نطاق حدود منعزلة. فجيمس ستيوارتJames Stewart  الذي يلعب الشخصية الرئيسية في الفيلم لم يغادر كرسيه المتحرك طوال الفيلم، فضلاً عن أننا نشاهد ونتابع خطة جريمة القتل المعقدة جداً من خلال وجهة نظره.

لقد إستطاع هيتشكوك في هذا الفيلم أن يتناول ثيمة كبيرة ويكثفها في موضوع صغير جداً، محققاً ذلك عبر تحكمّه الكامل في تقنية الإخراج السينمائي.

(الوفاء للفكرة الأولى)

إن الشروع في عمل أي فيلم يفترض وجود فكرة، وهذه الفكرة يمكن أن تظهر في أي وقت، وأن تنبثق من أي مصدر.

من الممكن أن تأتي عبر مراقبتك الناس في الشارع أو من خلال جلوسك وحيداً في مكتبك وأنت تفكر. لكن، يمكن لهذه الفكرة أيضاً أن تستغرق سنوات لتأتي. فأنا أعرف من خلال تجربتي مراحل قاحلة كهذة، ومن يدري ربما يطول إنتظاري ريثما أحصل على الفكرة التي أحبها لأعمل منها فيلم.

ماتحتاجه تماماً هو العثور على  تلك الفكرة الأولى، الأصلية، تلك الومضة. وفي يوم ما ستعثر عليها حتماً. إنه شيء يشبه كثيراً صيد الأسماك: أنت تستخدم تلك الفكرة كـُطُعم يجتذب كل شيء. لكن أولوياتك الأساسية كمخرج هي البقاء وفياً للفكرة الأولى، الفكرة الأصلية.

ستواجهك الكثير من العقبات وبوسع الزمن محو الكثير من الأشياء الكامنة في ذهنك. لكن الفيلم لايعتبر منتهياً طالما ثمة لقطة ما لايمكن منتجتها، أو صوت آخر لايمكن مزجه.

إن أي قرار مهما يكن صغيراً يتضمن أهمية كبيرة، وكل عنصر بوسعه أن يجعلك تتحرك قليلاً إلى الأمام أو إلى الخلف.

ينبغي عليك أن تكون منفتحاً على الأفكار الجديدة لكن في ذات الوقت عليك أن تبقى دائماً مُرّكِزاً ومتوجهاً صوب هدفك الأول، غايتك الأولى.

إنه نوع من المعيار الذي يمكنك بواسطته أن تجرّب صواب كل مقترح أو إيحاء جديد.

(الحاجة إلى التجريب)

المخرج بحاجة إلى أن يفكر بعقله وبقلبه معاً. بمعنى، ينبغي عليه أن يشرك العقل والمشاعر معا بشكل متواصل في مجرى عملية إتخاذ القرار. رواية القصة في الفيلم شيء جوهري، ونوع القصص التي أحب هي تلك التي تتضمن مشاركة محددة للتجريد، وتعوّل على  المعرفة الحدسية أكثر منه على المنطق. 

إن قوة الفيلم بالنسبة لي تتخطى الوظيفة البسيطة التي تستخدمها لرواية القصة. الشيء الجوهري هو الطريقة التي تروي فيها تلك القصة والكيفية التي بوسعك من خلالها خلق عالمك الخاص.

الفيلم يمتلك القوة في تصوير الأشياء غير المرئية. إنه شبيه بالنافذة التي من خلالها يمكنك أن تلج عالم مختلف، عالم شبيه الحلم.

 أعتقد أن الفيلم يمتلك قوة كهذه لأنه على خلاف أشكال الفن الأخرى، يستخدم الزمن كجزء من مجرى عمليته. الموسيقى أيضاً تشبه ذلك بعض الشيء. أنت تبدأ من نقطة ما وبعدها تشيّد الأساس ببطء نوتة ً تلو الأخرى، لحين أن تصل إلى النوتة المميزة، تلك التي تخلق لديك إحساس قوي. لكنّ هذه النوته المميزة لم تتحقق وتتشكل إلا بسبب من تلك النوتات التي سبقتها، والطريقة التي تآلفت فيها.

المشكلة هنا بالطبع هي أن القواعد الأساسية في عمل الفيلم يمكن أن تتوقف عن العمل بنجاج كذلك بعد فترة قصيرة بسبب فقدان عنصر المفاجئة أو الدهشة. لهذا أظن أن من الجوهري هنا محاولة التجريب.

لقد قمت بعملية التجريب في جميع أفلامي، وكنت أرتكب بعض الأخطاء في بعض الأحيان. ستكون محظوظاً بالطبع لو أنك أدركت "الخطأ" حالاً وقمت بتصحيحه قبل أن ينتهي الفيلم. وإلا سيصبح ذلك الخطأ بمثابة عبرة كي لايتكرر في فيلمك القادم.

إن التجريب يتيح لي في بعض الأحيان إمكانية الكشف عن شيء ما مدهش لم أكن بمقدوري تخيله أو التخطيط له من قبل. وهذا الشيء هو بمثابة مكافئة لايمكن تثمينها مطلقاً.

(طاقة الصوت)

لقد إكتشفت قوة الصوت منذ البدء تماماً. حين عملت تلك "اللوحة الزيتية الحية" مع العارضة والشاشة المنحوتة أيام كنت طالباً في أكاديمية الفنون، وقد كان هناك أيضاً صوت جهاز لإحداث النغمات الموسيقية يصاحب العرض. منذ ذلك الحين وحتى اليوم مازلت أؤمن أن الصوت يشكل النصف المكمّل للفيلم.

لديك صورة من جانب وصوت من جانب آخر، فإذا عرفت كيف توحدهما بشكل صحيح، عندها يصبح الكل هو الأقوى قياساً بمجموع الأجزاء.

الصورة تتألف من عناصر مختلفة، يصعب التحكم بشكل كامل في الكثير منها، كالضوء وإطار الصورة (Frame) والتمثيل.. إلخ..

الصوت على كل حال، وأنا هنا أدرج الموسيقى  ضمن هذا الباب، يمتلك وجوداً مادياً كبيراً ومؤثراً ويحتل موقعاً مادياً في جسد الفيلم.

هنا عليك بالطبع أن تجد الصوت المناسب والمطلوب الذي يوحي بالكثير من الكلام والكثير من الإختبارات.

يوجد القليل جدا من المخرجين من هم قادرون على إستخدام الصوت بشكل يتجاوز الجانب الوظيفي المحض له، وسبب ذلك هو أنهم يفكرون بشأن الصوت فقط  بعد إنتهاء مرحلة تصوير الفيلم. يضاف إلى ذلك أن جدول مواعيد مرحلة التصوير تكون عادة ضيقة وصارمة جداً حيث لايوجد وقت للمخرج حينها أن يقترح أو يضيف شيئاً جديداً ومثيراً سواء مع مهندس الصوت أو مع المؤلف الموسيقي.  لهذا السبب حاولت ومنذ فيلمي Blue velvet أن أعمل معظم موسيقى الفيلم قبل التصوير. 

كنت أناقش القصة مع المؤلف الموسيقي أنجيلو بادالامنتي Angelo Badalamenti (**) وكنت أسجل كل أنواع الموسيقى التي كنت إستمعت إليها كما لو أنني اصور الفيلم، إما عبر  سماعات الأذن أثناء مشاهد الحوار أو بواسطة مكبرات الصوت لكي يدخل كل أعضاء فريق العمل في الجو المطلوب والمناسب. إنها وسيلة عظيمة. إنها أشبه ببوصلة تساعدك على إيجاد الإتجاه الصحيح.

وبالطريقة ذاتها أتعامل مع الأغاني. فحين أستمع إلى أغنية أحبها، أسجلها وأحفظها في مكان ما،  ريثما أجد الفيلم المناسب لإستخدامها. فمثلاً، كانت هناك أغنية لـ "This Mortal Coil,"      بعنوان "Song to the Siren" والتي أحبها دائماً، وأحببت أن أستخدمها في فيلمي "المخمل الأزرق" إلا أنها لم تكن ملائمة أو مناسبة للفيلم. لذا فقد إحتفظت بها وبقيت أنتظر. وحين بدأت العمل على فيلم Lost Highway أحسست أنه حان الوقت لإستخدامها.

يوجد الكثير من الأغاني الأخرى التي تعني شيء ما بالنسبة لي، لذا أجدني في إنتظار اللحظة التي يمكنني أن أستخدمها في أحد أفلامي المقبلة.

(الممثلون أشبه بالآلات الموسيقية)

إن العثور على ممثل بوسعه لعب دور معين ليست عملية عسيرة. الشيء الصعب هو العثور على الممثل المناسب للدور. ماأعنيه هو أن لكل دور محّدد ثمة ستة أو سبعة ممثلين يمكن أن يعطوك إداء جيد للدور، إلا أن الفرق هو أن كل واحد فيهم سيلعب الدور بطريقة مختلفة. إنها عملية تتماهى قليلاً مع الموسيقى: يمكنك أن تعزف قطعة موسيقية على آلة البوق أو الفلوت. الإثنان سيعطونك شيئاً مذهلاً ولكن بإتجاهين مختلفين. عندئذ عليك أنت أن تقرر أي الخيارات هي الأفضل.

حالما تختار ممثليك يصبح الحصول على أداء أفضل حينها يعتمد على قدرتك في خلق جّوٍ أكثر راحة في مكان التصوير.

ينبغي أن تمنح الممثلين كل شيء هم بحاجة إليه، لأنهم هم الوحيدون من سيقوموا بالتضحية الأكبر أخيراً، الوحيدون من يمتلكون الكثير ليخسروه. ومع ذلك من الممكن جداً أنهم سيّمتعون أنفسهم كذلك. إنهم يظلوا خائفين وقلقين على الدوام من النتائج النهائية لعطائهم، لذا ينبغي دائماً أن توفر لهم الإحساس بالأمان بالقدر الممكن.

أنا شخصياً لم أقم يوما ما بمحاولة لخداع الممثلثين أو تعذيبهم. فأنا لم أصرخ على أحد مطلقاً. لكنني أصرّخ بالطبع في بعض الأحيان. إلا أنه هذا الصراخ ليس سببه الإحباط، أو أنني أبتغي من خلاله تعزيز المشهد ليصبح أفضل. كلا، مطلقاً.

ينبغي الحديث كثيرا مع الممثلين والتحاور معهم لحين الوصول إلى وضع يصبح فيه الجميع يسيرون على سكة واحدة. وحين يتناغم الجميع، بعدها ستتحقق كل كلمة أو حركة يؤديها هؤلاء الممثلون بشكل طبيعي وعلى نحو تام.

يمكن للبروڤات أن تساعد على إيجاد النغمة الصحيحة. لكن ينبغي أن تكون يقظاً وحذراً. أنا شخصياً قلق على الدوام  من إمكانية فقدان تلقائية المشهد بسبب كثرة التمرين عليه، لأنني لاأريد أن أفقد السحر الذي يمكن أن يحدث في المحاولة الأولى.

(عليك التسليم بهواجسك)

الناس لايحبون تكرار أنفسهم، وليس هناك من أحد يحب أن يفعل الشيء ذاته مرات ومرات. في نفس الوقت، يجب الإقرار بأن كل واحد منا يكون في بعض الأحيان عبداً لذائقته الخاصة. وهذا شيء علينا التسليم به دون الوقوع في شراكهِ بالضرورة.

كل مخرج يتطور ولكن بشكل تدريجي. العملية بطيئة إلى حد ما لكنها طبيعية، لذا ليست هناك حاجة إلى تسريعها. 

مؤكد أنني أحب نوعاً محدداً من القصص ونموذجاً معيناً من الشخصيات. ثمة تفاصيل تتكرر في كل فيلم من أفلامي، أشياء أشبه بالهواجس. فمثلاً، أنا مفتون بـكلمة (texture أي الملمس). أحب هذه الكلمة، وهي الملمس تلعب دورا كبيرا وجوهرياً في أفلامي. إلا أن ذلك ليس قرار واع مطلقاً وأنا لاأدركه من قبل بل فيما بعد دائماً. ولاأظن أيضاً أن ذلك يستحق التفكير بشأنه، لأنه لايمكنك في الآخر عمل شيء بشأن هواجسك. بوسعك فقط أن تتحدث بشكل ذو مغزى عن تلك الأشياء التي تسحرك. يمكنك إبتكار قصص أو شخصيات فقط حين تقع في غرامهم. إنه شيء يشبه علاقة الحب مع النساء، فبعض الرجال مثلاً يحب الشقراوات فقط سواء كان ذلك بوعي منه أو بدون وعي، والسبب في ذلك فقط لإن ليس لديه علاقة غرامية مع السمراوات مطلقا، حتى تأتي اللحظة التي يلتقي فيها أخيراً بإمرأة سمراء تكون إستثنائية جدا لدرجة بوسعها أن تغير كل شيء. أنه الشيء ذاته مع الأفلام.

خيارات المخرج هو العمل بنفس درجة الإستحواذ هذه. وهذا الشيء لاينبغي تجنبه مطلقاً. على العكس من ذلك، ينبغي التسليم به وممكن جداً القيام بإستكشافه وسبر أغواره.

(سّر عشقي لحركة الدوللي)

كل مخرج يمتلك القليل من الخدع التقنية الخاصة. فمثلاً أنا أحب أن ألعب مع المتناقضات، وأحب إستخدام العدسات التي تعطي عمق مجال أكبر للصورة، وأحب أيضاً اللقطات المقربة (كلوز آب) بحدودها القصوى، كلقطة المباراة الشهيرة في فيلمي Wild at Heart مثلاً. لكن هذه ليست مسألة منهجية أو أنها تخضع لنظام ما. غير أني لديّ طريقتي الخاصة مثلاً في إستخدام حركة الدوللي ـ الشاريو ـ (***). فقد جربته من قبل في فيلم Eraserhead (رأس الممحاة) ومازلت أستخدمه دائماً ولحّد الآن.

طريقتي  الخاصة هذه هي أن أحمّل العربة التي تحمل الكاميرا والتي تسير على سكة بأكياس رمل لحين أن تصبح ثقيلة جداً لدرجة الإحساس أنها لن تتحرك مطلقاً.

إن عربة الدولي هذه بحاجة إلى العديد من الرجال الأقوياء لدفعها، وحين تتحرك ستكون حركتها بطيئة جداً تشبه إلى حد ما ماكنة قطار قديم. بعدها، ورغم أن العملية تتطلب جهداً ونشاطاً كبيرين، ينبغي على الرجال أن يقوموا هذه المرة بسحب العربة إلى الخلف بكل ماأوتوا من قوة.

إنها عملية مضنية حقاً، إلا إن محصّلة  الحركة التي ستظهر في الفيلم أخيراً ستكون رشيقة وسلسة بشكل لايصدّق.

أعتقد أن أفضل حركة كاميرا في جميع أفلامي يمكن أن نجدها في فيلم The Elephant Man (الإنسان الفيل) هناك حيث الشخصية التي يلعبها الممثل أنتوني هوبكنز وهي تكتشف الأنسان الفيل لأول مرة فيما الكاميرا تتحرك نحوه جداً لتظهر ردة الفعل على ملامح وجهه.

تقنياً، الحركة كانت ممتازة، لكنها أيضاً تضمنت تعبيراً مؤثراً جداً، فحين تتوقف الكاميرا أمام وجه هوبكنز تماماً نراه يبكي.

واقع الأمر ن هذا الشيء لم يكن قد خططنا له من قبل مطلقاً، إنه فقط واحد من تلك الأشياء الساحرة التي تحدث في موقع تصوير الفيلم. اللقطة صورت مرة واحدة من دون إعادة لتصويرها ثانية لإنني حين شاهدتها قررت أن إعادة تصويرها هو شيء غير مجدي.

(كن سّيد فيلمك)

بما أن أفلامي تهدف إما إلى إثارة الدهشة أو الصدمة عند الناس، فأنا  ُأسأل دائماً هل أن محاولة إرضاء المشاهدين هو شيء غير صائب. الحقيقة، إن هذا الأمر ليس بشيء ردىء أو سيء، طالما أنت لاتقف على التضاد مما يثير سرورك ورؤيتك.

على أية حال، من المستحيل إرضاء الجميع. ربما ستيفن سبيلبيرغ هو المخرج المحظوظ جداً بيننا لإن جميع المشاهدين يحبون أفلامه، ومن المؤكد أنه سعيد بعمل تلك الأفلام.

إذا حاولت إرضاء المشاهدين من خلال عمل فيلم لاتريد أنت نفسك رؤيته، فهذا سيقودك إلى كارثة. لهذا السبب أجد أن من العبث لأي مخرج يحترم ذاته عمل فيلم دون التحّكم بصيغته النهائية.

ثمة العديد من القرارات لعمل ذلك بالطبع، إلا إن المخرج هو الشخص الوحيد وليس سواه من يتخذ تلك القرارات. لذا، فنصحيتي لكل مخرج شاب هي أن يبقى في حالة تحّكم كامل بفيلمه من البداية وحتى النهاية. والأفضل له أن لايعمل فيلم أصلاً إذا كان عليه أن يتخلى عن سلطة القرار الأخير. لإنه لو فعل ذلك فسيظل يعاني بشكل كبير لفترة طويلة. إنني أعرف ذلك من خلال التجربة، فقد صورت فيلم  Dune (الكثيب) من دون أن أتخذ القرار النهائي، وهذا ماأحدث ضرراً هائلاً بي جعلني أتوقف ثلاث سنوات كي أستطيع بالكاد بعدها عمل فيلم آخر. مازلت أتذكر ذلك حتى الآن لأنه كان بالنسبة لي بمثابة جُرح لايندمل.

 

فيلموغرافيا

ـ Eraserhead 1978

ـ The Eleaphant Man 1980

ـDune 1984 

ـ Blue Velvet 1986

ـWild at Heart 1990 

ـ1992 ـTwin Peaks: Fire Walk with Me

ـLost Highway 1997 

ـThe Straight Story 1999 


ـ
Mulholland Drive 2001

Inland Empire 2006

 

(*) 

MOVIEMAKERS’ MASTER CLASS: PRIVATE LESSONS FROM THE WORLD’S FOREMOSTDIRECTORS

الكتاب صادر باللغة الأنكليزية عن دار النشر (FABER AND FABER) 2002، وهو عبارة عن مجموعة من اللقاءات الصحفية كان أجراها الناقد والسيناريست والمخرج السينمائي الفرنسي لورينت تيراد في أوقات وأماكن مختلفة مع عشرين مخرجاً سينمائياً عالمياً ينتمون إلى أجيال ومدارس مختلفة. غّطى الكتاب فترة نصف قرن تقريباً، مبتدئاً منذ أواسط ستينات القرن الماضي وحتى وقتنا الحالي.

(**) أنجيلو بادالامينتي موسيقار سينمائي وتلفزيوني أمريكي من أصل إيطالي ولد في بروكلين عام 1937 وقد عرف من خلال عمله على موسيقى مجمل أفلام ديڤيد لينتش.

(***)

Dolly (الحامل المتحرك أو عربة الكاميرا) وهي عبارة عن عربة صغيرة قريبة الشبه بالرافعة ولكنها أصغر حجما تحمل الكاميرا ومدير التصوير والمساعد الأول وفي بعض الأحيان المخرج وتتحرك فوق قضبان من الخشب أو من الصلب ويمكن أن ترتفع أو تنخفض ولكن في حدود ضئيلة وإلى مسافات محدودة وتعرف في اللغة الدارجة بكلمة "الدولي" المأخوذة من الإنگليزية أو "الشاريوه" المأخوذة من الفرنسية.

المصدر:

(معجم الفن السينمائي)

تأليف: أحمد كامل مرسي و مجدي وهبة

وزارة الثقافة والإعلام الهيئة المصرية للكتاب 1973

مخرج سينمائي وكاتب

alikamel50@yahoo.co.uk

موقع "إيلاف" في 10 يناير 2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)