تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

«دخان بلا نار»

صرخة ضد القمع.. وطلقات مجهولة المصدر

اعتقد البعض أن الفرصة كانت سانحة لفيلم دخان بلا نار أكثر من غيره ليثبت إمكانية نجاح الأفلام العربية علي الشاشات المصرية . فالبطل خالد النبوي علي الرغم من فشل أفلامه المتوالي فهو محسوب بشكل أو بآخر كنجم سينمائي مصري و البطلة هي اللبنانية سيرين عبد النور التي يعرض لها لحسن الحظ في نفس التوقيت بنجاح ساحق الفيلم المصري الذي تشارك هنيدي بطولته رمضان مبروك أبو العلمين وعلاوة علي هذا فإن دخان بلا نار تشارك في إنتاجه شركة مصرية تعرف بالتأكيد كيف تتعامل مع دور العرض و التوزيع ..كل هذا بالإضافة إلي أن الفيلم حظي دون غيره بمتابعة إعلامية جيدة بفضل عرضه في مهرجان أبو ظبي وما أثاره من جدل هناك . فهل كان هذا الجدل دخانا بلا نار كعنوان الفيلم أم أن العمل أثار بالفعل قضايا حساسة وموضوعات شائكة عن القمع والإرهاب والهيمنة الأمريكية والزيف الإعلامي في عالمنا العربي المعاصر ؟. تدور أحداث فيلم دخان بلا نار في لبنان منتصف التسعينيات أي في المرحلة التي أعقبت اتفاق الطائف تلك المرحلة الحرجة في علاقة لبنان بشقيقتها سوريا والتي بدأت تبرز فيها أيضا محاولات أمريكا لفرض هيمنتها وإثبات قوتها كدولة عظمي بشكل مباشر علي مستوي الشارع اللبناني والتي انعكست من خلال مظاهر واضحة أبرزها الفيلم تحديدا في موكب السفارة وسلوكيات المسئولين عن أمنها التي اتسمت بالعنف و الغطرسة و الرعونة وهو الموقف الذي تبدأ معه أحداث الفيلم ونتعرف من خلاله علي البطل وهو يسعي لتصويره . كما أنه سوف يتكرر ليسفر عن الحدث المحرك للفيلم حين تودي رصاصات رجال أمن السفارة بحياة شاب بريء لم يرتكب أي خطأ سوي عدم إفساح الطريق بسيارته سريعا لموكب السفير فكان جزاؤه الفوري رصاصة استقرت في رأسه ليسقط صريعا في الحال . ينشغل الفيلم بعد ذلك كثيرا بحكاية البطل خالد - خالد النبوي - وهو مخرج مصري شاب سافر إلي لبنان ليكتب سيناريو فيلمه الروائي عن القمع في العالم العربي ويختار بيروت لجمع مادته العلمية والوثائقية والدرامية لاعتقاده أن فيها هامش حرية تعبير كبير لكنه سوف يتأكد في النهاية من أن العرب جميعهم في الهم سواء حين يصبح هو نفسه هدفا لرجال الأمن فيتعرض للتعذيب علي أيديهم وتلفق له تهمة يدان فيها ليقضي فترة عقوبة طويلة يخرج بعدها لتصوير فيلمه التالي في العراق . وعلي الرغم من الطموح الكبير الذي يسعي الفيلم لتحقيقه والنوايا الطيبة التي يحملها وما يقوله المخرج عن فترة إعداد العمل التي استغرقت خمس سنوات كاملة إلا أن السيناريو لا يعبر عن هذا الجهد لما به من تشتت وتداخل في الرؤي وتفرع في الأحداث . وربما يكون طموح المخرج الزائد وسعيه للتعبير عن قضايا متعددة هو ما أفقد الفيلم وحدته .علاوة علي رغبته الملحة في إرضاء المشاهد والقلق الزائد من جفاف الموضوع وجديته الذي يدفع بالسيناريو لمتابعة علاقة عاطفية وغرامية بين البطل وصديقته تتخللها الغيرة و الشك من جانبها خاصة حين تلمح إعجابه بالفتاة الجميلة المثيرة - سيرين عبد النور - التي تمده بالمعلومات عن المظاهرات والإضرابات و التي تلهب خياله برقصة طويلة علي انغام أغنية لأم كلثوم في الواقع وفي لقاء جنسي في الحلم ليس لهما أي محل من الإعراب. يستخدم المخرج كثيرا أسلوب المزج بين الواقعي والمتخيل . ولكن لك أن تتصور أن يعيد المخرج طقوس إعداد خالد للقهوة كاملة لصديقته وهو في انتظارها مرة في الواقع ومرة في الحلم كما لو كنت تتابع برنامجا عن فن إعداد المشروبات . الأخطر من هذا في رأيي ان أسلوب تداخل الواقع مع الحلم لا يتناسب مع فيلم يسعي لأن يطرح حقائق ويعرض بالفعل مشاهد وثائقية تسجيلية مع أن الفيلم به بالفعل مادة درامية ثرية أهملت لحساب هذه الأحلام .فأسرة الشاب الفقيد الذي شاهدناه في بداية الفيلم ترفض أن تقبل تعويضاً من السفارة ويصمم زعيمها علي طريقة شيوخ العشائر علي أن يأتي السفير بنفسه مع رجل الأمن مرتكب الجريمة ليركعوا أمام أهل القتيل . ووسط الأحداث سنري رجل أمن السفارة القاتل يلقي مصرعه علي يد شقيق الشاب المقتول . كما أن أهل الشاب سوف يتربصون بموكب السفير ليلقوا عليه وابلا من النيران . وتخرج الصحف والإعلام المرئي لترجع الحوادث لأسباب تتعلق بالإرهاب أو بالمؤامرات الإسرائيلية دون أن يكشف أحد عن الحقيقة . وسوف تصل مرارة السخرية من التزييف الإعلامي ذروتها في إرجاع الصحافة مصرع حادث رجل عجوز ببيروت نتيجة إصابته بفوبيا الخوف من سرقة سيارته الي حادث ارهابي في اتهام ضمني لسوريا ليخرج آلاف الشباب للمطالبة برحيل سوريا عن لبنان .عبارة دخان بلا نار لا تناسب علي الإطلاق المعني الذي يقصده الفيلم، فهناك نيران موجودة بالفعل ولكن المشكلة في معرفة مصدرها . وهذا يوضح أن الالتباس في هذا العمل يبدأ من عنوانه بل في ترجمته الإنجليزية أيضا إلي عنوان آخر تماما وهو بيروت مدينة مفتوحة. وفي الحقيقة أن سمير نصري علي الرغم من ضعف فيلمه دراميا إلا أنه يتقدم كمخرج حرفيا .وباستثناء المناطق الهابطة إيقاعيا في الفيلم فهو ينجح في صنع حالة إيقاعية جيدة بشكل عام . وهو يسعي إلي تحقيق ترابط في الصورة والانتقالات بأساليب سينمائية متقدمة . كما أنه يتمكن من تقديم بعض المشاهد التي ستبقي طويلا في ذاكرة من شاهدها ومنها اللقطات العامة للمدينة و التكوينات المتميزة التي توالت مع صوت رنين الموبايل بعد مصرع الشاب . كما تتحقق حالة تعبيرية جيدة في لقطة المخبر وهو يقف علي مرتفع يتبول وهو يطل علي المدينة وقرص الشمس في الأفق بينما البول يتساقط علي ملصق دعاية لصورة المرشح الانتخابي . كما تميزت المشاهد الخاصة بالجنازة وطقوس العزاء بحالة من السخونة والقوة و الصدق والتي رغما عما بها من قتامة إلا أنها تقدم صورة جديدة علي العين وإيقاعا مختلفا ومعرفة بأسلوب خاص في التعامل مع طقوس الموت وتوظيف أصوات الموسيقي السريعة مع حركة الوفود التي تتوالي مع الصوت الصادر من الميكروفون للتعريف بها وبقائدها مع أصوات طلقات الرشاش ترحيبا بالمعزين . .وتعبر بعض تفاصيل الفيلم عن اجتهادات ومحاولات لتوظيف مخزون خبرات المخرج وثقافته السينمائية علي مستوي الأفكار أو الرؤية البصرية وهي محاولات مشروعة للاستلهام و الاستفادة من تجارب الآخرين وليس اقتباسها بشرط أن تخدم السياق العام للفيلم وتخدم وحدة موضوعه بدلا من أن تظهر كشذرات مفاجئة مثل شخصية السيدة العجوز التي تظهر في نهاية الفيلم لتسأل رجلا عن الطريق ليصفه لها ولكنها تعود لتعلق وماذا ينفع طريق لا يؤدي إلي السماء . علي الجانب الآخر يقدم الفيلم عددا من الشخصيات والمواقف التي تبدو نابعة من روح المكان و الموضوع والتي ترتبط دلالاتها بأجواء الفيلم منها المواطن الذي قرر أن يمارس دور شرطي المرور والذي يخالف كل قوانينه فيفتح الطريق للسيارات عندما تكون الإشارة حمراء، ويوقفه عندما تكون خضراء كرد فعل وتحد لقوانين الدولة التي اغتصبت أرضه . يري البعض أن المخرج يعبر عن انقلاب الأوضاع في البلاد ويرمز للفوضي العارمة التي تعيشها بيروت والتناقضات الطائفية والسياسية التي تعصف بها بصور مختلفة ويجسد هذا التعبير بانقلاب الصورة نفسها من خلال كاميرا البطل مع أنه يقلبها بلا مبرر موضوعي وإنما لأغراض رمزية بحتة . كما أن الفيلم يلجأ كثيرا إلي إستخدام الصورة المهتزة و التقطيعات العصبية لإثارة حالة من التوتر وهي أمور في اعتقادي يصبح اللجوء لها هو أسهل الطرق وأضعفها في التعبير ربما لهذا اعتبر بعض النقاد والصحفيين - علي حد تعبير المخرج نفسه - أن الفيلم مرتبك سياسيا رغم كونه يحاول وصف واقع لبناني متشابك ومتغير حيث كثيرا ما تختلف فيه الانتماءات تبعا لظروف الافراد وهشاشتهم او قابليتهم السريعة للتخلي عن المبادئ . ولكن ما أختلف فيه مع المخرج هو أن التعبير عن الارتباك لا يتحقق بارتباك الصورة والتعبير عن الملل ليس بإثارة ملل المشاهد فالعملية الفنية هي في الأساس عملية بحث عن المعادل الموضوعي و ليس عرض الموضوع نفسه . ومن هنا يكمن جوهر مشكلة فيلم دخان بلا نار فهو كان بحاجة لصياغة فنية كي ينتقل من صورة الخطاب الاعلامي إلي الشكل الفني السينمائي . وهو أقرب إلي بلاغ لمنظمة حقوق الإنسان عن كونه فيلما روائيا ، فالفن ليس وسيلة لعرض المعلومات أو لمجرد طرح لأفكار مهما كانت أهميتها، إنه أهم أداة يملكها الإنسان لتحقيق التأثير في أخيه الإنسان .وفيلم دخان بلا نار بعيد تماما عن هذا الهدف لأنه يقدم شخصيات بلا تاريخ وعلاقات بلا عمق وأحداث بلا دراما.

جريدة القاهرة في 6 يناير 2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)