تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

"أوسـتراليا" لباز لورمان يستعيد زمن الملاحم الهوليوودية

حب وحرب وعنصرية على وقع بكاء الكمان وغروب الشمس

هوفيك حبشيان

المشروع واضح الهدف على نحو لا يحتمل لبساً: إلقاء تحية على العصر الذهبي للسينما الهوليوودية، زمن التكنيكولور والسبعين ملم وفيكتور فليمينغ وأربعينات الملاحم الميلودرامية التي كان يجري ترتيب حوادثها في سياقات تاريخية، ولكن هذا لم يكن يحول دون أن تتأخر فيها الكاميرا، بين الفينة والفينة، على وجوه البطلين وفي خلفية المشهد غروب شمس، وهذا كله يأتي دائماً في نهاية ثورة شعبية او انتفاضة أو فصل مهم من فصول التاريخ الغربي، فيما المنتصر دائماً هما الابتسامة والسعادة اللتان تغمران الشاشة، من أقصاها الى أقصاها، مهما يكن العنوان مأسوياً، ومهما تكن الأرض مزروعة بالجثث ومغمورة بالدم. يقف الاثنان وجهاً لوجه، والمستحسن أن يكونا على تلة أو هضبة ليوحيا القوة والسيطرة والعظمة، وكان الرجل يحرص دائماً على جذب جسد الانثى في اتجاه جسده، ليشبعها قبلات فرنسية طويلة (مع مراعاة الأصول الرقابية التي وضعها آنذاك هايز السيئ الذكر)، قبل أن تظهر على الشاشة، تدريجاً، عبارة "ذي آند" (النهاية) الشائعة في تلك الحقبة، فيما الطبول تقرع وتتصاعد وتيرتها لتملأ كل مسامات الشريط الصوتي. مذذاك هجرت السينما الهوليوودية هذا النمط الذي بلغ ذروته في الأربعينات من القرن الفائت، وها يُستعاد اليوم، جملة وتفصيلاً، بدءاً من الملصق الاعلاني حتى جنريك النهاية، على سبيل الحنين والشوق والفنتزة، أمام عدسة الاوسترالي باز لورمان، الذي انقطعت أخباره منذ 2001، السنة التي شهدت صدور رائعته "مولان روج!".

مهما يكن رأينا فيه، تكفي مشاهدة الفيلم اليوم، لنفهم أنه لم تذهب سنوات سبع من حياة لورمان سدى. ومع تحفظنا عن جوانب عدة، سيناريستية أو تمثيلية، فإن ما يأتينا به لورمان في هذا الانتاج الضخم يعبق بالسحر والنضارة والديناميكية والحبّ والايمان بالميلودراما القديمة التي تحرك المشاعر وتخدر العقول. علماً أن "أوستراليا" فصل أول من ثلاثية عن ملاحم هوليوودية سينجز لورمان الجزءين الآخرين منها على مدار السنين العشر المقبلة. بحفنة من الأفلام القليلة، أهمها "روميو + جولييت" و"مولان روج!"، أضحى لورمان واحداً من أكثر السينمائيين في العالم ابتكاراً؛ صاحب توقيع وبصمة لا يحتملان التقليد، ويعتبره البعض فناناً ما بعد حداثي. صحيح انه مقلّ، لكن كل فيلم جديد له مغامرة سينمائية غير مضمونة الأصداء، لا من حيث النتائج على شبابيك التذاكر ولا من حيث الدعم على صفحات المجلات المتخصصة. انه صاحب ذوق خاص جداً، تسيطر على أطرافه ثقافة البوب، وغالباً ما يوصف بالرديء. لكن هذا الذوق القائم على تعظيم التفاصيل وتعزيز الفكاهة وتأليه الحقبات السابقة، يلازم لورمان من فيلم الى آخر، من دون أن يحتاج الى تهذيبه. أياً يكن، فهذا الذوق يتخذ في "أوستراليا" الى أشكال جديدة، غير مسبوقة عنده، بحيث انها اقترنت بمؤثرات بصرية عصرية تنتمي الى مدرسة مايكل باي ("برل هاربور") وجيمس كاميرون ("تايتانيك")، أو انتاج الـ"بلوكباستر" الهوليوودي الحديث، أكثر من كونها تعانق العصر الذهبي للسينما الهوليوودية، على الرغم من رومنطيقية الفيلم الأنيقة والساحرة والزاخرة بالذكريات.

ولكونه مزوِّراً من العيار الثقيل، وبصفته تلميذاً جيداً في صفّ السينما التي يرغب في محاكاتها، لا يطيش سهم لورمان وهو يرميه في قلب المُشاهد مع شريط يختزل أزماناً عدة في زمن واحد، ويعيد الى الاذهان، وبقوة، "ذهب مع الريح" و"دكتور جيفاغو"، من حيث النفَس الميلودرامي العظيم الذي يتضمنه على خلفية حوادث ملحمية تنطلق في آواخر ثلاثينات القرن العشرين، لتختتم فصولها الدامية في شباط 1942 مع التدخل العسكري الياباني وقصف مدينة داروين الأوسترالية، وهو الفصل القاسي الذي سيضفي على الفيلم نبرة سوداوية قاتمة، ستعلي من شأنه بالتأكيد. "أوستراليا" هو في واقع الأمر خلاصة تعاون بين لورمان ونيكول كيدمان وهيو جاكمان، والثلاثة من القارة الأوسترالية الكثيرة الحضور في الفيلم من خلال المساحات الشاسعة وحيوانات الكونغورو والأشجار والوديان والتلال التي تتميز بها هذه البلاد. ولا شك أن الشريط أراده صانعوه انشودة لجمال أوستراليا ومفاتنها. تقول كيدمان في مذكرات شخصية دوّنتها أثناء التصوير أنها في كل مرة كانت تنظر فيها الى السماء المرصعة بالنجوم، كانت تشعر كم أن الأنسان صغير. والفيلم هو هذا: موقع الانسان ومطرحه وسط هذه المساحات الشاسعة التي لا تقاس الا بمكيال طموحات سينمائية من مثل التي تعتمل في نفس لورمان.

وعلى الرغم من كل ما تحيط به من شخصيات ثانوية وديكورات فسيحة، فإن الحجة التي ينطلق منها الفيلم نحيفة: امرأة أريستوقراطية (كيدمان) انكليزية تدعى لايدي سارا اشلي، تواجه، ما إن تصل الى اوستراليا، مشكلة أن تدير وحدها مزرعة، قبل أن تضطر، وبسرعة، الى مرافقة الماشية التي في مزرعتها الى مدينة أخرى، تبعد عن مدينتها الآف الكيلومترات، بغية بيع مجموعة من 1500 رأس من البقر هناك. وبما أن امرأة وحدها لا تستطيع ذلك، فلا يسعها أمام هذه المعضلة، الاّ أن تطلب المساعدة من كاوبوي محلي اسمه دروفر، لا تحبذ أساليبه كثيراً. هذه الرحلة التي تهب الفيلم أعظم مشاهده، ستقرّب البطلين المختلفين في طباعهما، أحدهما من الآخر، وصولاً الى المشاعر التي يكون المتفرج في انتظارها منذ دخوله الصالة. هذه الرحلة هي أيضاً محل للقيات بصرية بديعة، اثنتان منها تحبس الأنفاس. وسيلحق الشرير فليتشر (ديفيد وينام)، الذي يريد تملك مزرعة "فاراواي داونز"، رغماً عن ارادة صاحبتها، باللايدي ودروفر، هادفاًَ الى احباط مشروعهما في نقل المواشي. وسيلجأ تالياً الى مخطط لإخافة الحيوانات وجعلها تهرب. مشهد الهرب هذا منجز بقدرة عالية على الارباك؛ قدرة إخراجية وايقاعية ليس كل يوم يتسنى لنا رؤية ما يشبهها في السينما. انه مزيج من الحداثة الرقمية والاصطناعية (العدد الأكبر من الحيوانات رُسم بالحاسوب)، مع مشاعر حية وتشويق وشحن ادرينالين. في هذه المشاهد، يلامس لورمان عظمة السينما، جاعلاً من أوستراليا بلاتو مفتوحاً لفيلم ما كان لينكره كلٌّ من جون فورد وسيرجيو ليوني، لو أنه كان أكثر عمقاً وأقل استعراضاً. ذلك لأن ما يفعله لورمان بالمساحات الأوسترالية، سبق أن فعل المعلّمان المذكوران ما هو شبيه له في الغرب الأميركي.

حتى في ظلّ انتاج ضخم (كلف الفيلم نحواً من 130 مليون دولار)، لا ينسى لورمان طموحاته الاستيتيكية التي تتجلى بأبهى صورة في مشهد الأبقار التي تفلت من سيطرة أصحابها، فتهرع في اتجاه الهاوية، قبل أن يوقف هذه المذبحة، بقدرة قادر، الصبي الخلاسي نولا (أداء لافت لبراندون والترز)، وهو محور الفيلم، اذ تُروى الحوادث على لسانه، وهذه قصة أخرى يطرحها السيناريو في موازاة قصة الحب التي تنشأ رويداً رويداً بين كيدمان وجاكمان. هنا، ينبغي القول إن جاكمان يحظى بمعالجة "جنسية" لشخصيته، جاعلاً من هذه الشخصية Sex Symbol جديداً ومحرراً أياه من قيوده، في حين تبقى كيدمان أسيرة شخصية امرأة انكليزية حادة الطباع وصلبة وعنيدة وباردة، تنصهر فيها على السواء كاترين هيپبورن وميريل ستريب وجانيت لي، علماً أنها تتحول في منتصف الفيلم لتغدو أكثر سلاسة وتسامحاً. ولا ينبغي النسيان أن جزءاً من طموحات "أوستراليا" في الأصل، العودة بكيدمان، 41 عاماً، الى صدارة البورصة، واعادة الرونق اليها، بعد اخفاق عدد من أفلامها في شبّاك التذاكر. يا للأسف، لا يسمح لها الفيلم بالعودة المرتقبة، لأن أشياء كثيرة في الفيلم تسرق منها نجوميتها، بالاضافة الى أن أداءها ليس متقناً، واصرارها على البقاء نظيفة و"فوق كل اعتبار"، سواء في الحرب أو السلم، فهذا الجانب لا يلعب لمصلحتها.

جمالياً، ينحاز لورمان الى اللقطات القريبة، والى كاميرا متحركة وثابتة في آن واحد، مع بعض الـ"سلو موشن" الذي يوظفه في الأمكنة المناسبة من دون مغالاة. هذا أيضاً فيلم النظرات المعبّرة، والتشويق المقلق، والألوان المتبدلة بحسب المناخ المهيمن والحوارات. امّا مشهد الهجوم المفاجئ للطائرات اليابانية على داروين، في الجزء الأخير من الفيلم، فيكرس له لورمان آخر الأمراء الرومنطيقيين في السينما، ويغوص بنا في أبوكاليبس مرعب يصوره باتقان كبير، متنقلاً بحركة "ترافيلينغ" بديعة بين النيران والأجساد والأرض القاحلة. يحفر لورمان في أعماق الطبيعة البشرية، في سعيه المستمر الى تشابك المشاعر والانتقال من الدمعة الى الضحكة، ولا يتوانى عن التغني بالتزييف السينمائي، أي الاسلوب الأعز الى قلب الرومنطيقيين الكبار، ولا سيّما عندما يرينا في احدى اللقطات مشاهدين يكتشفون في صالة سينما "ساحر الأوز"، وهو أحد أهم أفلام تلك الحقبة الرومنطيقية، متبنياً الأغنية التي تلقيها جودي غارلاند في تلك الرائعة، تيمة موسيقية لشريطه.

واقع أن الفيلم ينتمي الى سينما الـ"جانر" (النوع)، فهذا يتيح للمخرج البقاء وفياً الى مكوناتها التقليدية، من دون احراج: صراع بين بطلين مختلفين، ثم مصالحة فحبّ. على رغم أن ثمة بداية ونهاية يلتزمهما "أوستراليا"، غير أن الختام الذي يأتينا به يقهر العمل ويفتك به، ولا سيما اننا اعتدنا في أفلام لورمان السابقة ان تنتهي الحكاية بموت أحد الابطال، لكن ما حصل هنا أن الاستوديو المنتج للفيلم ("فوكس") فرض عليه هذه الخاتمة، بعد ردود فعل سلبية على النسخة الاولى. أياً يكن، البصمة موجودة بلا شك، وخصوصاً في بعض التفاصيل الباروكية، الا أن لورمان ينجز هنا نوعا من سينما يقيّده ويقطع عليه الطريق نحو الانشراح الذي كان حظي به في "مولان روج!". يخوض لورمان تجربة قصّ حكاية بالطرائق الأكثر نبلاً وغنائية وكلاسيكية، من دون اختزالات أو استعادات زمنية، مصطحباً ايانا الى أقاصي الكرة الأرضية مع طائفة من الشخصيات المعبّرة. بيد ان الفيلم يبقى على سطح الأشياء، في محاولته ابتكار كاراكتيرات حقيقية، عانت ما عانته قبل الوصول الى الشاشة، وهذه السطحية تطاول خصوصاً الشخصيات الثانوية، ولا سيما الشريرة منها، التي يعاملها النص كأنها مستقاة من أبطال الصور المتحركة. ولا تساعدنا الحوارات في الاطلاع على المزيد عن ماضيها.

يهتم لورمان بما هو متناه في الصغر وما هو متناه في الكبر، حجماً وقيمة انسانية، من دون أن يشغل باله بالمعطيات التاريخية التي يزدحم بها فيلمه، ومن دون أن يتأخر عندها ايضاً. فالمهم عنده هو المشاعر التي تنم عن الحدث، فالسينما عنده مرتبطة بالحلم - وهذا ليس عيباً في أي حال - أكثر من ارتباطها بالواقع، اذ حتى الدخان المتصاعد من ساحة المعركة لا يخفي ظلال الشخصيات النحيلة التي تبحث الواحدة منها عن الأخرى بطريقة لا تترك للشكّ مكاناً بأن الوجوه ستتقابل والأيدي ستمتد الى بعضها مجدداً. ينوي لورمان أن يطلعنا على تاريخ بلاده أوستراليا، من منظار الصبي الخلاسي نولا، لكن هذا السعي يفضي فقط الى اطلاعنا على شذرات من هذا التاريخ. وهذا السعي، اذا كان سياحياً في بعض الأحيان (وزارة السياحة الأوسترالية تكلفت ربع المال المنفق على الانتاج!)، يتأتى في معظم الأحيان بشكل تنازع على ملكية مزرعة "فاراواي داونز"، في حين أن موضوع الصراع بين السكان الأصليين والانكليز يبقى مسطحاً وبليداً وأرعن، علماً أن الفيلم يندرج في سياسة المصالحة التي انتهجها رئيس الوزراء جون هاورد، بدءاً من عام 1996. بيد أنه من أجل انصاف السكان الاصليين، يمد لورمان الصبي الخلاسي بقدرة على السحر. في مقابل ذلك، تبقى صورة هؤلاء ملتزمة ومتلاصقة بالبيض العنصريين، ولا يشكلون في الفيلم أكثر من مجرد ديكور جامد.

على رغم الاسلوبية والاعتناء المعطى للشكل، يحن الفيلم الى نظرة مخرج لا الى خياله. نظرة الى التاريخ، نظرة الى شخصيات، نظرة الى السينما، ولا يكفي أن نكتب ان "أوستراليا" يذكّرنا بسيسيل ب. دوميل. فالأخير كان سابقاً زمنه، وعندما فتح البحر شطرين في "الوصايا العشر"، جاء ذلك نتيجة اختراعات وخدع بصرية وجهد فني عميق، ولم يتم بالتكبيس على أزرار الحاسوب الآلي، مثلما هو سائد اليوم. لورمان هو ابن هذه الاختراعات ويستعيدها وفق شروط الزمن الراهن. بالنسبة الى البعض، يشكو الفيلم من مشكلة أخرى، مدة العرض التي تدنو من الساعات الثلاث، لكن من وجهة نظر المخرج، ليس هذا الطول الاّ للمزيد من الاحتفاء بصيغة سينمائية ترتوي من المدة والمساحة. اذاً، نحن أمام قراءة جديدة لسينما هوليوودية من أقاصي الدهر، تختلط فيها السذاجة بالطموح، ويتعايش فيها الكيتش مع الأصالة. كنا في انتظار رحلة هوميروسية عن "ولادة أمة" (بالاذن من غريفيث)، فإذا بشيء آخر يترجح بين التقليد والحداثة لجذب السياح الى بلاد الكونغورو، نستمع في أثنائه الى بكاء الكمان ونتأمل غروب الشمس من بعيد

 

(•) Australia - يُعرض في صالات "سينماسيتي" و"أمپير - دون، أسباس، سوديكو، غالاكسي" و"پلانيت - طرابلس" و"ستارغايت".

 ( hauvick.habechian@annahar.com.lb ) 

 

 

عن بعض المشاهد الساخنة في السنما المعاصرة

جنس يذوب في قِدر الرأسمالية؟ 

 في زمن "البورنوقراطية" الراهنة، باتت الأفلام الإباحية (او ما يسمى بالبورنو) عبارة عن انعكاس للحياة الجنسية. في الغرب، حيث ولد هذا الصنف المرئي وتطور، ما عادت هذه الأعمال تمت الى السينما بصلة، وارتدت طابعاً ذكورياً، وأصبحت أكثر عنفاً ودناءة. منذ حقبة المخرج الياباني ناغيسا أوشيما وفيلمه "مملكة الحواس" انحدرت مقاييس عرضها، حتى أصبحت مع روكو سيفريدي ويان سكوت وبيتر نورث وروبرتو مالون وجون داف، مجرد سلعة استهلاكية تعرض مشاهد خلاعية من دون موضوع أو حتى كلام. نشأت هذه الأفلام في خضم التحرر الجنسي في السبعينات وتنوعت بين العيارين "الخفيف" و"الثقيل". في فرنسا، عام 1975، شكلت الأفلام الاباحية أكثر من نصف الأفلام المعروضة في الصالات المظلمة المتخصصة التي اقفلت ابوابها مع ظهور الصحون اللاقطة التي تسمح للمشاهد بأن يشترك في محطات تعرض افلاماً اباحية على مدار الساعة. في ذلك الوقت، نجح فيلم "استعراء" على سبيل المثال في استقطاب نحو مليون ونصف مليون مشاهد على غرار الأفلام التقليدية الأخرى. فجأة، في 31 تشرين الأول 1975، تنبهت الحكومة الفرنسية الى الأمر، ومنعت عرض هذه الأفلام في دور السينما. عندئذ، "ذابت في قدر الرأسمالية" وفقاً للمخرج جون ب. روت: "مع اغلاق صالات السينما وظهور أجهزة الفيديو، انتقلت صناعة هذه الأفلام الى أيدي التجار". ترتب على ذلك تحول أفلام البورنو الى منتج تجاري بحت، وتعدد وسائل عرضها على الانترنت والفضائيات وأجهزة الدي في دي المتعددة اللغة.

لكن، هناك صنف آخر من الأفلام الاباحية، تتضمن بعض المشاهد الجنسية الساخنة، ودخلت الذاكرة ولن تفارقها بسهولة. ما هي أفضل المشاهد الاباحية أو الايروسية، أو أغربها، في الأفلام التقليدية؟ ترشّحت مشاهد إباحية عدة لإحراز هذا اللقب، ومنها المشهد الأكثر مدعاة للانفعال الذي يعود الى "راجا" لجاك دوايون. تمارس فتاة مغربية اسمها راجا الدعارة في السيارات. ذات يوم تتعرف الى فريديريك، أربعيني يهوى المؤخرات الصغيرة، فتغرم به، ومذذاك لا تقوى على معاملته كسائر زبائنها، ولا تكتفي راجا بالترديد على مسامعه كلمتي "هدية" و"مال" فحسب، بل وأيضاً كلمة "كابوت" (واقٍ) التي تكبح شهية فريديريك، على ما يبدو. مشهد الجنس الذي يتضمنه الفيلم، على رغم ما يوحيه من ايروسية، هو عن إستحالة إقامة علاقة غرامية بين البطلين، إذ إنه يريد وصف علاقة غرامية قائمة بين رجل وإمرأة لا يسعهما الارتباط إلا بعلاقات مادية. أما المشهد الإباحي الأكثر صخباً، فيأتينا من "تسعة وعشرون نخيلاً" لبرونو دومون. بطل الفيلم مصوّر أميركي أتى إلى الصحراء بحثاً عن مكان يليق بأن يكون بلاتو تصوير. أما البطلة فروسية، عاطلة عن العمل، تتكلم الفرنسية... تتأجج مشاعر هذين، فيتعانقان، ويتّحدان عند الجماع، ويصدران التأوهات والصيحات. وتبعد علاقتهما عن الواقع، ولن يُصبح الفيلم محوكاً من نسج الخيال ما لم يتحدا في السرير. تجري حوادث لم تكن في الحسبان، فيعجز المشاهد عن التحديد ما إذا كانت هذه التأوهات تأكيداً لبلوغهما الرعشة الجنسية أو دليلاً على تعرّضهما للاغتصاب.

في عداد المشاهد الجنسية الأكثر "تكنولوجية"، يحتل "عودة الآلات" (الجزء الثالث من "المدمر") لجوناثان موستو موقعاً بارزاً. انه مشهد غرام لن يكتمل بين الرجل الآلة T 101 الذي تجاوز الخمسين والفتاة الشقراء الآلة TX المكوّن نصفها من معدن ونصفها الآخر من السيليكون. وتؤكد مصادر أن المشهد الإباحي الأكثر أناقة، هو من فيلم "حوض السباحة" لفرنسوا أوزون، حيث نستطيع أن نمتع بصرنا بنهدي لوديفين سانييه، في حين أن تفكيرنا ينصرف، لدى مشاهدتها، إلى رومي شنايدر التي هي برفقة ألان دولون، أما شارلوت رامبلينغ فتقف متأملة، فنتساءل ما الذي يجول في خاطرها، فيما يصوّر أوزون هذه المشاهد الساخنة. وفي خانة "المشهد الإباحي الأكثر حناناً" نجد "أخاه" لباتريس شيرو، وهو عبارة عن علاقة جنسية مثلية مفعمة بالمشاعر الجياشة تتناقض مع برودة الاحاسيس الطاغية على اللقطات المصوّرة في أحد المستشفيات حيث توحي مراسم الدفن أن المريض قد فارق الحياة. ويأتي المشهد الإباحي الأكثر تحرّراً من "كان بارك" للاري كلارك. نرى كل شيء، بدءاً من الأعضاء الحميمية، وذلك بكل شفافية وصراحة. لذا أصبح "كين بارك" الفيلم الأميركي الأكثر إثارة لـ"التقزز الايجابي" في السنوات الأخيرة، إذ إن كلارك يصوّر الأحاليل كما يصوّر سينمائيون آخرون أبواباً تنفتح وتنغلق بلا تكلّف أو تزييف. يحافظ كلارك على مسافة بين آلة التصوير وهذه الأحاليل المنتصبة. تصوير أعضاء الجسد لدى الصغار جزء لا يتجزأ من مشروع كلارك السينمائي، إذ كثيراً ما يصوّر المزالج التي يستخدمونها، وغرف نومهم، والبولوش والألعاب البلاستيكية الخاصة بهم، كذلك يحاول أن يأخذ بكاميراه الشعر الذي ينبت على أجسادهم، وحَبّ الشباب الظاهر على بشراتهم، وسراويلهم الداخلية، والدم. لا شك أن أكثر المشاهد الإباحية الكائنة خارج إطار التصوير، ندين به الى كلينت إيستوود وفيلمه الكبير "النهر الغامض" المملوء بالالتباس، الذي يتمحور على عمليات اسر وانحرافات جنسية، واغتصاب، ومواقف خضوع للآخر، لكن المشاهد لا يرى أياً من هذه الوقائع، وتالياً، يُطرح السؤال الآتي: "هل إيستوود سينمائي ملتزم القيم الأخلاقية؟". الأرجح انه كذلك

وفي موضوع حافل بالغرائز، لا بد أن نخلص الى الحديث عن المشاهد الإباحية الأكثر إثارة للغرائز، وهي التي اضطلعت بدورها كريستينا ريتشي، أي فتاة مثيرة، في احد أفلام وودي آلن، "أي شيء آخر"، وهو السينمائي الذي يبتعد عادة عن اشهار العري والجنس في أفلامه، اذا استثنينا القبلة الجميلة التي تتبادلها بينيلوبي كروز وسكارليت يوهانسون في شريطه الأخير "فيكي كريستينا برشلونة". ويتناول ممثلو "أي شيء آخر" السندويشات، ويجولون في متنزه سنترال بارك ويقولون الفكاهات السمجة والثقيلة. الفيلم حافل بالمقاهي المنتشرة في نيويورك، وبموسيقى الجاز، وبالحماة المتسلّطة، وبالتحليلات النفسية، وبالخيانات العاطفية، وبالفنان الذي يبوء بالفشل. يضفي المرشد الاجتماعي وودي آلن على فيلمه مسحة من الحزن لا مثيل لها، ويراود هذا المتقدّم في السن هاجس واحد ألا وهو المطالبة بالدفاع عن النفس.

 

خارج الكـادر

أشباح كلينت

يخرج اليوم في بيروت واحد من أهم الأفلام التي شاهدناها في الدورة الأخيرة من "مهرجان كانّ"، ضمن المسابقة: "التبديل" لكلينت ايستوود. آنذاك، ولسوء الحظ، لم يكن ثمة اجماع حول الشريط، الذي استند الى قصة حقيقية حصلت في العشرينات من القرن الفائت ليروي تراجيديا أميركية أخرى، من تلك التي صار صاحب "فتاة المليون دولار" خبيراً في تصويرها، فيلماً بعد فيلم، الى حدّ تحوّله معها، الى آخر الكلاسيكيين في السينما الأميركية، حاملاً على عاتقه إرثاً ضخماً يمتد من فورد حتى كوبولا. الحديث عن شريط لايستوود ليس بالأمر السهل، فتاريخه حافل بالأفلام التي تمتلك روحاً صوفية. الغموض وفكرة وجود شبح، يتكرران دوماً في أعماله، وكلّما غصنا فيها، طولاً وعرضاً، وجدنا قاسماً مشتركاً بينها، الاّ وهو الشبح في جميع أشكاله. هنا، في "التبديل"، وللمرة الأولى، يتجسد هذا الشبح في شخص طفل. كيف؟

 في الأصل، هي قصة امرأة (أنجلينا جولي) يختفي ابنها ذات يوم، اذ يذهب الى المدرسة ولا يعود. بعد عملية بحث، تعيد السلطات الولد الى والدته. لكن حدس الأم لا يخطئ. إذ يتبيّن أن الولد ليس ولدها. مع تفاقم مأساتها، وزج الشرطة بها في مستشفى الأمراض العقلية، تصبح القضية في أيدي أطراف آخرين قبل أن تصبح في يد الرأي العام، وشبح الولد المفقود، بدلاً من أن يظل مجرد شبح، يبقى ويتجسد في ولد آخر، غير مرغوب به، أمام عين المشاهد وأمام عين "أمه". لكن، على رغم هذا، ستتابع البحث عنه من دون أن تقطع الأمل يوماً في ايجاده.

يدفع ايستوود في "التبديل" البحث السينمائي الخاص به في اتجاه مسألة أميركية خالصة، طارحاً هذه المرة تيمات من مثل التسامح في بلد تتقاسمه السلطتان الدينية والسياسية، في حين أن حقّ الفرد مهضوم بين هاتين الجهتين. فيلمه هذا شبه متكامل على المستويين الشكلي والتنفيذي، ولا خطوة ناقصة فيه على الاطلاق. سيناريو تتعاقب فيه الحوادث على نحو سلس وتشويقي، وبنية درامية متماسكة. بعد "فتاة المليون دولار"، ينجز ايستوود مرة أخرى فيلماً مسيلاً للدموع يقطع الانفاس، بكادرات بديعة، وبصورة تتبدل وتتعصرن كلما تقدم الفيلم الى أمام، متخلصاً من أعباء الأسود والأبيض، ومتجاوزاً قيود اعادة التجسيد الزمني. يمسك "التبديل" المتلقي من اطرافه ويجرحه في الصميم، ولا مفر من الانفعال حتى عندما يقع ايستوود في فخ النيات الحسنة على طريقة فرانك كابرا الديماغوجية، لكن الساحرة والمقنعة. تتقمص انجلينا جولي دوراً لم نخلها يوماً قادرة عليه. يبدأ الفيلم في نهاية العشرينات ويختتم مع حلول عام 1934. ما يلمّح اليه ايستوود هو أن لا فرق بين أميركا حينذاك وأميركا الراهنة. فما أشبه الحاضر بالأمس، لأن لا تبدل في العقلية الفاشية التي تمتهنها السلطة في ادارة شؤون البلاد والناس، الى حدّ أن تذهب وقاحتها الى الاتيان بولد آخر الى أمه لتلميع صورتها أمام الرأي العام. على رغم اسناد دور موظفة عادية الى أنجلينا جولي، فإن ايستوود يصوّرها كنجمة سينما تخرج من التاريخ. يمر المشاهد في حالات متعددة أثناء انتقاله مع الأم المعذبة من السجن الى المشفى فالمحكمة. يغضب ولكن أيضاً يتأمل في آلية السلطة. بإخراج تكتيكي يولي الأهمية الى التفصيل، لا يتأخر مخرجٌ بات اليوم على مشارف الثمانين، في طرح أسئلة كبيرة، جزء كبير منها موجه الى ضميره، كمواطن وفنان و... يميني لا يندم على خيارات سابقة مشبوهة.    

هـ. ح.

النهار اللبنانية في 1 يناير 2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)