تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

إذا علمت أننا أنتجنا 50 فيلمًا فى 2008.. فــلا تظــن أن هنــاك انتعاشًا

واقع السينما المصرية «جعجعة بــــــــــــلا طحن»!

أحمد يوسف

لا أفهم كثيرا أو قليلا فى علم الاقتصاد، لكننى أعرف أنه مثل كل العلوم الإنسانية ليس علما بالمعنى الحرفى للكلمة، تضع فيه أطراف معادلة على الجانب الأيمن فتستطيع أن تستنتج على وجه اليقين أطراف الجانب الأيسر من المعادلة، فالعلوم الإنسانية هى إلى الفلسفة أقرب، إذ تعبر عن موقف تجاه الحياة، تنحاز فيه إلى جانب طرف دون الآخر، لذلك فإن كل الأرقام الاقتصادية غير موضوعية وغير صادقة إلا لمن يريد أن يصدقها أو أن يروجها، وإن أردت دليلا على ذلك فلتنظر إلى كل ماتردده أبواق الإعلام الرسمى من "إنجازات"، سواء إنجازات الحكومة الحالية أو راعيتها لجنة السياسات إياها، فهم يبشرونك بأن معدل النمو فى تزايد، لكن نمو من وماذا فأنت لا تدرى على وجه الدقة، لكنك تسمع كلامهم ولاتصدقهم لكن من المؤكد أنك ترى أمورهم فتستعجب، فكل أحوالنا الاقتصادية التى نعايشها ونكابدها فى كل لحظة تؤكد أن هذا النمو المزعوم هو على حساب إنسانيتنا، ولصالح مجموعة تنهب الأموال وهى تمص دماءنا، لذلك كله فأنا لا أصدق الأرقام الصماء الفارغة من المعنى والمضمون الإنسانى. 

ولهذا أيضا فأنا لا أصدق أن السينما المصرية تعيش فى عام 2008 فى حالة ازدهار، بسبب أن عدد الأفلام كاد يشارف الخمسين، فإذا ترجمنا إنتاج السينما المصرية إلى رسم بيانى فإن المعدل كان فى معظم فتراتها يدور حول الخمسين أو الستين فيلما (وليس المائة كما يزعم البعض)، وقد وصل هذا الرقم إلى ذروته فى عام 1986 بعدد 96 فيلما، بسبب صناعة تعبئة شرائط الفيديو آنذاك، ليتدهور الرقم خلال التسعينيات باضطراد متزايد حتى تدنى إلى 15 فيلما فى عام 1999، بسبب تحول الجمهور إلى وسائل ترفيه بديلة فى القنوات الفضائية، ولأسباب أخرى اجتماعية واقتصادية سوف نتطرق لها، ليرتفع الرقم تدريجيا خلال العقد الحالى حتى كاد يصل إلى معدله "الطبيعي" (وأضع القوسين هنا عمدا لأننا سوف نتوقف عند هذا الأمر لاحقا)، وفى الحقيقة أن هذه الزيادة جاءت أيضا بسبب القنوات الفضائية التى كانت هى نفسها سبب الأزمة، لأن صناعة السينما والإرسال الفضائى يعيشان الآن ما يشبه الهدنة المؤقتة، عندما دخلت بعض القنوات الفضائية شريكا فى إنتاج الأفلام، كما أصبحت تمثل سوقا لعرض الأفلام بعد رفعها من دور العرض، وهكذا تزايدت الأرقام، وتفاءل البعض وتنبأوا بأن السينما المصرية توشك أن تخرج من عنق الزجاجة. 

وقد يبدو رفض هذه الرؤية المتفائلة نوعا من التشاؤم، لكنك لا يمكن أن تصف محاولة الصدق فى تشخيص المرض العضال تشاؤما، بل إنه الطريق الصحيح الوحيد للعلاج، فمرض السينما المصرية لا يمكن تحديد حالته بارتفاع عدد الأفلام أو انخفاضها، خاصة فى غياب المعلومات الدقيقة الكافية عن دلالة ذلك، فهل تستطيع جهة رسمية أو غير رسمية أن تقدم لنا إحصاء موثوقا به عن إيرادات الأفلام؟ ففيما يشبه النكتة المأساوية يمكنك أن تجد أرقاما متناقضة ومخترعة فى العديد من الصحف، بل إن من المؤكد أنه لا توجد أى أرقام حول عدد المتفرجين فى دور العرض كل عام، أو شرائحهم العمرية والاجتماعية والاقتصادية، وهى أرقام لا غنى عنها لأى صناعة تريد أن تعرف من هو "الزبون" المستهدف لكى تزيد من رواج سلعتها، لكن من قال إن السينما المصرية "صناعة" بالمعنى العلمى للكلمة؟ إنها تشبه السوق المتنقلة فى الساحات على أرصفة الشوارع، سرعان مايفرش البائع بضاعته لكن سرعان أيضا مايلم "فرشته" ويختفى ليظهر بائعا لبضاعة أخرى، لذلك لا تستغرب أن يختفى منتجون على نحو غامض، فهل يعرف أحدنا السبب الحقيقى وراء إعلان حسين القلا فى عام 2008 إقلاعه عن الإنتاج، وهو الذى بدا منذ سنوات قليلة شديد التفاؤل عندما كان يعمل لدى الشركة العربية، وبعدما كانت شركته فى بداية الثمانينيات أجرأ من قدم مجموعة من أفضل أفلام السينما المصرية؟! على الجانب الآخر دخلت شركات، يعلم الله وحده مصادر تمويلها شديد البذخ، كما دخل منتجون جاءوا بأموالهم من صناعات وتجارات أخرى، وهم يتعاملون مع السينما بمنطق التاجر الشاطر إلى أقصى الحدود، فهو يريد أن يبيع للجمهور فى الموالد والأسواق "شربة الحاج محمود"، ويريد أيضا أن يظهر باعتباره الطبيب المداوى الذى جاء لعلاج السينما المصرية. 

إلى جانب هذه السوق المزدحمة بالتجار أصحاب الجيوب المثقلة بالأموال، الباحثين عن الربح السريع والوجاهة الاجتماعية معا، توجد محاولات فردية متناثرة، لكنها لا تملك أن تكون "مستقلة" بالمعنى الاقتصادى والفنى، فهى تسعى فى التحليل الأخير إلى أن تدخل تحت معطف التيار الرئيسى السائد، لأنها سوف تضع رأسها فى النهاية تحت مقصلة شركات التوزيع ودور العرض التى تحتكر السوق، وهو مايبدو واضحا فى نوعيات الأفلام التى ظهرت فى العام المنقضى، وهى النوعيات التى توحى للوهلة الأولى بالتنوع الذى يخرج بالسينما المصرية من مأزق المهرجين، لكن يجمعها جميعا _ إلا محاولات نادرة _ أنه لا يوجد لديها طموح إبداعى حقيقى يدفعها لمحاولة العثور على طرق جديدة بديلة للتوجه إلى المتفرج، فدافعها الوحيد هو "التجارة" بالمعنى الضيق للكلمة، حتى لو تذرعت أحيانا بأنها تتناول "قضية" أو "فلسفة" ما، وإذا بدأنا بهذه الأفلام الأقرب إلى الادعاء فى الشكل والمضمون، فسوف يأتى على رأسها "ليلة البيبى دول"، الذى تخرج منه فلا تعرف أبدا إن كان هذا فيلما أم مجموعة مشاهد من أفلام متفرقة لا علاقة لها ببعضها البعض، أو "الريس عمر حرب" الذى حفل بما لذ وطاب من فنون الفرجة السوقية بينما يحاول أن يجمعها معا خيط متفلسف، رآه الجمهور والنقاد يدور حول قضية ميتافيزيقية لكنهم اختلفوا تماما فى دلالتها مع صناع الفيلم!! 

قد يحلو للبعض أن يضع فيلم "كباريه" فى إطار هذه الأفلام المتفلسفة، لكننى أراه محاولة شديدة المراهقة والسوقية لصنع رمز عن المجتمع المصرى الراهن الذى تجمعه المتناقضات (هل حاول أحد مقارنته على سبيل المثال لا الحصر بأفلام مثل "بين السماء والأرض" و"الناس اللى تحت" و"القضية" و"الناس اللى جوه"؟!)، ولك أن تتخيل أن أحداثه التى تدور فى يوم واحد تتضمن رجلا فقد ساقه التى بتروها له لكنه يذهب فى اليوم ذاته ليرى "الكباريه" الذى تهدم على من فيه من الأشرار!! هناك أيضا "حسن ومرقص" الذى يقتبس اسمه عن الفيلم والمسرحية القديمين "حسن ومرقص وكوهين"، لكن الفارق ليس اختفاء "كوهين" كما قال البعض، وإنما هو أن الشخصيات الثلاث فى العمل القديم كانت تنويعات مختلفة على تركيبة نفسية واحدة، أما فى "حسن ومرقص" فقد تحول الفيلم على مستوى الشكل والمضمون إلى معادلة رياضية فاترة، لم ينقذها إلا مشاعر المتفرجين التى كانت تنتظر مجرد إشارة ولو خافتة لكى تعبر عن الرفض الأصيل فى وجدان الشعب المصرى لأى تقسيم طائفى. على النقيض تماما جاءت أفلام صريحة فى أنها لا تتبنى أية قضية إلا مغازلة الغرائز الدنيا للمتفرج، ومنها "لحظات أنوثة" و"بنات وموتوسيكلات" و"قبلات مسروقة" و"آخر كلام"، ودارت أفلام أخرى فى فلك الكوميديا المطبوخة مثل "طباخ الرئيس" و"نمس بوند"، بينما كان هدف مجموعة أخرى من الأفلام صنع نجوم أو نجمات بالعافية لكنها فشلت جميعا فى تحقيق هدفها، مثل ""كلاشينكوف" و"المش مهندس حسن" مع محمد رجب، و"حسن طيارة" مع خالد النبوى، و"غرفة 707" مع مجدى كامل، و"دبوور" مع أحمد مكى، و"شبه منحرف" مع رامز جلال، و"رامى الاعتصامي" مع أحمد عيد، و"حبيبى نائما" مع مى عزالدين، و"الدادة دودي" مع ياسمين عبد العزيز، ناهيك عن "نجوم" من نوعية تامر عبدالمنعم فى "أشرف حرامي"، أو تامر هجرس فى "البلد دى فيها حكومة"، وربما هناك تامر ثالث لا أتذكره!! 

هل كان الخطأ فى افتقاد هؤلاء أو بعضهم لمواصفات النجومية؟ قد تكون الإجابة "نعم بالثُلُث" بالنسبة للبعض، لكن الحقيقة أن النجومية ليست لها مواصفات جاهزة، وإنما هى مرتبطة بسياق اجتماعى واقتصادى وسياسى، ويمكن للقارئ أن يتأمل مثلا نجومية عماد حمدى فى الخمسينيات، وسعاد حسنى فى الستينيات، ومحمود ياسين فى السبعينيات، وعادل إمام فى الثمانينيات، وأن يسأل نفسه بعد ذلك ماهى مواصفات النجم المطلوبة للسياق الراهن. النجم ببساطة _ وهى فكرة أعيد التأكيد عليها مرارا _ مزيج من واقع المتفرج والحلم الذى يريد أن يصل إليه، ولأن واقعنا شديد الاضطراب إلى درجة التشوه، ولأننا توقفنا عن أن نحلم لأن كل ماحولنا يؤكد أنك لا تستطيع فى فوضى السياق الذى نعيشه أن نتنبأ بما سوف يكون عليه الغد، فإنه لا وجود عندنا لنجم أو نجمة بالمعنى الحقيقى للكلمة، حتى لو تصورنا وجود نجوم مثل أحمد حلمى فى "آسف على الإزعاج"، وأحمد عز فى "مسجون ترانزيت"، ومحمد سعد فى "بوشكاش"، وهنيدى فى "رمضان مبروك..إلخ"، وعبلة كامل فى "بلطية العايمة"، فهل يعبر أى من هؤلاء عن واقعنا وحلمنا، أم هم مجرد "فرجة" نتسلى بهم قليلا؟ وهل إذا اختفى أحدهم من الساحة (مثلما حدث لحنان ترك أو حلا شيحة) فهل سوف نشعر بافتقاده؟ بل لعلى أضيف أن ممثلا واعدا مثل آسر ياسين الذى ظهر فى "زى النهارده" و"الوعد" يملك الموهبة والحضور، لكننى أؤكد أن السياق السائد لا يعد بانتظار نجم له مواصفات خاصة، لأن هذا السياق ذاته يفتقد أى ملامح محددة. 

لا يمكن أن نغفل وجود أفلام سارت قليلا أو كثيرا فى طريق محاولة بذل الجهد، فى إنجاز الإبداع الفنى بقدر متفاوت من النجاح أو الاتساق، مثل "جنينة الأسماك" أو "ألوان السما السبعة" أو "زى النهاردة" أو "الوعد"، كما أعتذر لعدم ذكر أفلام لعلها تستحق بعض التأمل، لكن محاولتنا هنا تسعى إلى أن ننظر من بعيد على واقع السينما المصرية، التى يمكن أن نلخصها بأنها "جعجعة بلا طحن"، العديد من المهرجانات والبرامج التليفزيونية والصفحات الفنية وجوائز التكريم وأخبار الفنانين، لكن الحصاد يأتى فى النهاية هزيلا: صناعة لا تملك بناء تحتيا قويا، ونجوما ليسوا إلا سلعا استهلاكية يمكن استبدالها بغيرها، ومنتجون عابرون سوف يرحلون عاجلا أو آجلا عن "سوق" السينما، وجمهور يستهلك الأفلام كأنه يدخن سيجارة محشوة أو يأكل شطيرة من الهامبورجر! إذن من أين يبدأ إصلاح هذه السينما؟ إن أردت الصراحة فلابد أن تكون البداية هى إصلاح حال "الوطن"، فالسينما ليست إلا ظاهرة اجتماعية وسياسية واقتصادية، وأنت تذهب إلى السينما لأنك تريد أن تشاهد فيلما مع جمهور تتوحد معه بدلا من أن ترى الفيلم وحدك، وهو مالا يرغب فيه معظم الناس الآن لأنهم لا يشعرون بأننا كمجتمع متفقون على معايير وأهداف مشتركة، وأنت تختار الفيلم الذى تذهب إليه على نحو ديمقراطى إذا كانت هناك أمامك اختيارات تملك القرار بشأنها، لكن كيف يحدث ذلك مع العدد الهزيل من دور العرض التى تفرض عليك أفلاما بعينها؟ كما أنك تستطيع أن تخصص ميزانية للذهاب إلى السينما إذا كان ذلك فى استطاعتك، لكن الأوضاع الاقتصادية المتدهورة لا تسمح لك بذلك، فهل تدفع للدروس الخصوصية لأبنائك فى ظل نظام تعليمى متهالك أم تذهب إلى السينما؟ وإذا كنا قد بدأنا المقال بعودة السينما المصرية إلى معدل الأفلام كما كانت عليه فى الخمسينيات، فهل يظل هذا هو المعدل نفسه بعد أن تضاعف عدد السكان إلى مايقرب من أربعة أضعاف، فى الوقت الذى تناقصت فيه أعداد دور العرض إلى الثلث؟! المحصلة النهائية ياقارئى العزيز إن القائمين على السينما المصرية لا يضعوننا حقا فى حساباتهم، فكما تراجعت زراعات القطن والقمح لكى تحل محلها الفراولة والكانتالوب، فإن هدف صناع السينما المصرية أصبح هو أن يضعوا أيديهم فى جيوب المتفرجين، وليذهب وجدان الجمهور المصرى كله إلى الجحيم! 

العربي المصرية في 30 ديسمبر 2008

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)