حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

كيف ننقد فيلما ؟

ومتى يكون الفيلم جيدا أو رديئا؟

أمير العمري 

ما الذي يجعل فيلما ما فيلما جيدا، أو ما الذي يمكن أن يجعل منه عملا غير جيد؟ على أي أساس تستند أحكام النقاد في اعتبار هذا فيلما جيدا، والآخر فيلما رديئا؟ هل يرجع الأمر إلى الانطباع الشخصي لكل ناقد على حدة، ما يحبه وما لا يحبه، ما يطلبه من فيلم ما وما يتوقعه منه، أو ما قد يأتي به الفيلم خارج نطاق التوقع؟ وما الذي يميز فيلما عن آخر، وناقدا عن غيره، في حكمه على الأفلام، وكيف يقيس النقاد علامات الجودة في فيلم ما، أو يرصدون معالم الرداءة؟ ولماذا يختلف النقاد مع بعضهم كثيرا حول أفلام معينة، البعض يرفعها إلى عنان السماء، والبعض الآخر يهبط بها إلى أسفل سافلين؟ ألا يدل هذا على غياب المقاييس العلمية، والمعايير المهنية؟

كل هذه الأسئلة الصعبة، والمشروعة، تتردد باستمرار في تساؤلات الكثير من هواة السينما وعشاقها، حيث تثير فضول الكثيرين منهم الرغبة في معرفة على أي أساس تقوم أحكام النقاد، خاصة وأنّ هناك لغطا كبيرا يدور أحيانا، بين السينمائيين، أي أصحاب الأفلام، وبين النقاد، حول هذه القضايا، ففي حين يشكك أصحاب الأفلام في أحكام النقاد إذا جاءت معاكسة لما يرغبون فيه، يوجه النقاد الاتهامات إلى السينمائيين بالجهل، أو بالرغبة في التدخل في عملية النقد بغرض تكبيلها، أو تحويلها إلى وسيلة للترويج للفيلم، برفض قبول أي مآخذ قد يوجهها ناقد ما لفيلم ما، بغرض التطوير، أي تطوير النظرة السائدة الى السينما، وتطوير تعامل الجمهور مع الفيلم في اتجاه التعامل معه كمنتج فكري وفني وثقافي، وهو ما يجعل البعض يتهمون الناقد أحيانا، بالمبالغة كثيرا في إسباغ قيم "فكرية" على منتج "سلعي" يعتبرونه من منتجات صناعة التسلية.

في هذا المقال، احاول الإجابة عن بعض هذه الأسئلة وسبر أغوارها.

غير أنني أرى أن من الضروري قبل أن أبدأ في محاولة تناول هذه النقاط المطروحة، أن أوضح للقاريء الكريم أنني سأنطلق هنا من موقفي الشخصي، ومن تجربتي النقدية الخاصة، واستنادا إلى رؤيتي الجمالية، وما أتبناه من أفكار وأسس وجماليات، أحاول تطبيقها على ما أتناوله عادة من أفلام واتجاهات سينمائية، وهي أسس ومعايير جمالية قد لا تكون بالضرورة مطابقة لما يراه ويتبناه ويقوم بتطبيقه غيري. ولذلك يجب أن أؤكد هنا على أن النقد عملية لها علاقة دون شك، برؤية الناقد، بثقافته، بذوقه السينمائي الخاص، بالخلفية الفكرية التي يستند إليها، وكذلك بالمنهج النقدي الذي يميل إليه، ويجده أكثر قدرة على تقديم تفسير للعمل الفني السينمائي من غيره. كما أن العملية النقدية عملية ذهنية فيها تحكيم لمعايير وأسس، ولكن فيها أيضا بعد "ذاتي"، أي أنها مسألة قد يتدخل فيها التذوق الشخصي والميل الخاص لدى ناقد معين، إلى نوع محدد من أنواع الأفلام، أو إلى "طريقة" معينة في التعبيرالسينمائي، تروق له أكثر من غيرها.

بداية يجب القول إن أي فيلم يظهر في عالمنا في الوقت الراهن لابد أن يأتي عملا "معاصرا"، أي يمكنك أن تلمح من بين ثناياه، فكرا معاصرا، يمنحك شيئا جديدا أو يؤكد على فكرة قديمة بعد أن يعيد السينمائي صياغتها ويقدمها في شكل جديد. هذه الفكرة يجب أن تكون صالحة لعصرنا، لأننا نؤمن بها ونتبناها ونطبقها أيضا.

ولعل من الضروري أن أوضح هنا أن الفكر في الفيلم، أي فيلم، ليس بالضرورة ما يحتويه من مضمون مباشر، سياسي أو اجتماعي مثلا، أو ما يتضمنه من "رسالة" اجتماعية تروج لفكرة معينة في وقت محدد طبقا لتوجهات رسمية سائدة أو يراد لها أن تكون سائدة، بل يأتي الفكر السينمائي في فيلم ما من خلال ذلك الهاجس الخاص، أو الهم الشخصي الذي يسيطر على مبدع العمل، أي الفنان السينمائي، ويدفعه إلى التعبير عنه في فيلمه من خلال أدوات السينما وخصائصها، بل إنه عادة ما يعبر عنه من فيلم إلى آخر، أي في كل أفلامه.

وأفلام السينمائي المبدع، التي تجعله يختلف عن السينمائي الآخر، "الصنايعي" أي الذي يجسد أفكار الآخرين من دون أن يتدخل فيها أو يضيف إليها، تتضح فيها دائما رؤيته نفسها، ذلك الهاجس الفني والفكري المسيطر عليه. إنه بهذا المعنى، يبدو من السطح، وكأنه يعيد تقديم الفيلم نفسه في كل مرة، في حين أنه خلال رحلة معاناته ومحاولته فهم نفسه وفهم العالم المحيط به في لحظة معينة، يسعى إلى تطوير الشكل الذي يصوغ من خلاله أفكاره، ولكن دون انفصال بين الشكل والمضمون.

ولعل من الضروري هنا أيضا أن أوضح أنني لا أميل إلى ذلك الفصل المتعسف بين الشكل والمضمون، في السينما أو في سائر الفنون. إن الشكل هو المضمون، وهو يتحدد في اللحظة التي يفكر فيها الفنان في كيفية التعبير عما يشغله. والشكل أيضا "موقف" من الواقع ومن الدنيا. إنه يتمثل في "الزاوية" التي ينظر منها السينمائي صاحب الرؤية إلى الدنيا، إلى الشخصيات، كيف يراها، كيف يرى كمية الضوء التي تسقط عليها، وعلى المشهد، وكيف يراها وهي تتحرك داخل فضاء المشهد، وكيف يجد العلاقة بين المشاهد وبعضها، وكيف يمزج بين الواقع وبين الخيال، بين الحقيقة وبين الحلم، وكيف يمكن أن تتداخل أحيانا الرؤى، فتمتزج في داخلها كل هذه العناصر.

كان السينمائي الأشهر في عصرنا، جان لوك جودار، يعلمنا أن زاوية الكاميرا هي "قطع في الواقع، مثل القارب في الماء"، أي أننا عندما نختار زاوية محددة لتصوير لقطة محددة، فإننا نحدد في الوقت نفسه، كيف نرى الواقع، فالقارب الذي يذرع الماء، يدخل في علاقة جدلية مع محيط أكبر، بل ويصارع ضده على نحو ما أيضا

أما "المعاصرة" فهي بلا شك، بعد أساسي في الحكم على أي عمل إبداعي وليس فقط على فيلم سينمائي، فهي شرط أساسي لقبول التعامل مع أي منتج فني، ما يعبر عنه وقت ظهوره، وما يريد أن يعكسه من خلال ثنايا بنائه ومكوناته وعناصره الفنية والفكرية، بل وحتى الأفلام التاريخية التي تتناول الماضي السحيق، يجب أن تكون معاصرة بهذا المعنى، أي بمعنى قدرتها على إعادة صياغة الماضي، من خلال رؤية "معاصرة" تقترب من المشاهدين وتلمس ما يشغلهم اليوم، وذلك من خلال ما يمكن أن يستشفه المتفرج من بين ثنايا الدراما والشخصيات، وكيفية التعبير عن التاريخ وصوغه في قالب محدد من خلال أشكال محددة.

وليس هناك من معنى لفيلم يظهر في 2011 على سبيل المثال، يكون "ماضويا" تماما، بمعنى تكرار نفس المفاهيم والأفكار، والتأكيد على القيم التي كانت سائدة في الخمسينيات من القرن الماضي مثلا، بما فيها تلك المفاهيم والأساليب الفنية التي كانت متبعة في العمل السينمائي. إن الفيلم بهذا المعنى لا يكون فقط فاقدا لأهم عناصره، أي عنصر المعاصرة والجدة والطزاجة والتخاطب مع متفرجي اليوم بروح جديدة وأفق جديد، بل يكون أيضا عملا يساهم من حيث لا يدري صانعه، في عملية التراجع الاجتماعي، والتراجع الفني. والفن السينمائي بطبعه فن ديمقراطي، يسير إلى الأمام، لا ينغلق، ولا يمارس الوصاية على المتفرجين، بل يفتح أمامهم سبل التفكير والتأمل والتوصل إلى رؤيتهم الخاصة للقضية التي يعالجها من خلال شكل محدد. وتلك هي عظمة السينما.

إن "ديمقراطية السينما" هي أساس التطور السينمائي. هي التي تدفع إلى البحث وإلى التجديد. والجمهور هو الحكم، هو الذي يقرر إلى أي فيلم يذهب. أنت لا تفرض عليه ولا يمكنك أن تفرض عليه نوعا واحدا معينا من الأفلام، لأنك في هذه الحالة ستكون كمن يريد أن يلغي عقله أو يختصره أو يقولبه في نمط واحد أو يغلق عليه باب المعرفة، ونافذة المتعة. ولذا فهو سينصرف عن السينما السائدة، يسقطها من حساباته ويتجه للبحث عن السينما الأخرى من خلال نوافذ أخرى.

ولكن هل للسينما قواعد، وهل للإخراج السينمائي قواعد محددة يجب أن يخضع لها الناقد عندما يحكم على الأفلام؟

الإجابة تتلخص في: نعم ولا. نعم هناك قواعد "موروثة"، أي سارت عليها أجيال من السينمائيين، بدأها الرواد الأوائل العظام مثل جريفيث الأمريكي، وملييه الفرنسي، وبودوفكين وايزنشتاين الروسيين، وقام المنظرون والمفكرون السينمائيون أمثال آرنهايم وليندجرن وبيلا بالاش وسيجفريد كراكاور وغيرهم، بتطوير وعينا بالوسيط السينمائي وحاولوا صياغة أطر فكرية نظرية لعلاقة العين البشرية بالصورة السينمائية أو بالفيلم كـ"عالم" مبني على رؤى تعكس الكثير مما يكمن في طريقة التفكير الإنساني لدى سينمائي ما للحركة، وللعلاقة بين اللقطات والمشاهد، وللتجسيد الدرامي، ولتكثيف الصور باستخدام الضوء والتكوين وعناصر التشكيل.

وبدا أن هناك اتجاهان يجب أن يأخذهما الناقد في اعتباره عند الحكم على الأفلام: أولهما ذلك الذي يعلي كثيرا من شأن المونتاج، أي طريقة وأسلوب توليف اللقطات معا داخل الفيلم، والانتقال فيما بينها، من أجل توصيل إحساس ما، أو التأكيد على فكرة درامية محددة، أو إبراز عنصر معين في الفيلم، في مسار الرواية التي يتابعها المتفرج، أو في "الرؤية" مهما كانت مغرقة في الخيال.

والاتجاه الثاني هو الذي يمنح أهمية أكبر لما يسمى بـ"الميزانسين" أي بكل مكونات المشهد من اضاءة وتكوين وحركة ممثلين وزاوية تصوير، وغير ذلك.

كان اتجاه المنظرين الأوائل أيضا يعتبر أن فن الفيلم هو فن منفصل تماما عن فكرة محاكاة الواقع، إنه لا يجب أن يعيد انتاج الواقع، بل يقدم تفسيرا له، رؤية فنية. في حين جاء الفرنسي أندريه بازان في خمسينيات القرن الماضي لكي يقدم طرحا مناقضا لهذه النظرية التي تعلي من شأن القيم الشكلانية وبالتالي "المونتاج" السينمائي، لكي يؤكد على أن أهمية فن الفيلم تكمن في قدرته على محاكاة الواقع أو إعادة إنتاجه.  

لقد كتب الكثيرون كثيرا في المونتاج، أي فن توليف اللقطات المختلفة التي يمكن أن تكون قد صورت في أماكن وأزمنة مختلفة، من أبرزهم أيزنشتاين الروسي المبدع صاحب "الاضراب" و"المدمرة بوتيمكين" و"أكتوبر". وكان أيزنشتاين من أكثر المنحازين للمونتاج وأهميته، يراها أكبر من غيرها تأثيرا في الفيلم، بل يرى أن المونتاج هو الأداة الفنية المبتكرة تماما التي تميز الفيلم السينمائي عن غيره من الفنون. وقد أولى بالتالي اهتماما كبيرا لدراسة دور المونتاج وتأثيره، بل وحاول ايضا ان يربط بين ما يطلق عليه بعض المنظرين والنقاد منهم الفرنسي مارسيل مارتان "لغة الفيلم" وبين طريقة التعبير في بعض اللغات البشرية أيضا مثل لغة الاسكيمو واللغة اليابانية (المصورة).

كان أيزنشتاين يرى أن المونتاج يمكّن من استخدام لقطات متعارضة لتوصيل احساس ما درامي للمتفرج، وأن توليف اللقطات معا بطريقة معينة يتولد عنها احساس ما يريد السينمائي نقله الى المتفرج، وبالتالي فتوليف اللقطات من خلال عملية المونتاج، ليست مجرد "حيلة" للإيحاء بالواقعية، أو لإعادة خلق الواقع أو تجسيده، بل إن الفيلم بأكمله كعملية تعبير فني أبعد ما يكون عن الواقع، لكن صياغته من خلال المونتاج تقربنا من فهم الواقع والقدرة على فهم تناقضاته.

أما بازان فكان يرى ان الفيلم يسعى منذ نشأته إلى تجسيد الواقع ومحاكاته وفي هذا الجانب تحديدا تكمن قوته، وقدرته على البقاء والازدهار كفن شعبي. ومن أجل تجسيد الواقع يتم التركيز كثيرا على دور اللقطة الساكنة، الصورة، مكوناتها، عوامل التأثير الكامنة في داخلها مثل زاوية الرؤية، الضوء، التكوين، توزيع الكتل والفراغات، حركة الممثل، علاقة الممثلين بالفراغ داخل المشهد، وعلاقتهم ببعضهم البعض. وهذه كلها عوامل أهم عند بازان كثيرا من توليف اللقطات ببعضها البعض، الذي يجب ألا يكون محسوسا، بارزا، مقحما. هنا لدينا الميزانسين mise-en- scene كما أن لدينا الميزانشوت mise-en-shot. أي هناك مكونات المشهد (يدخل فيها قطع الديكور والملابس والاضاءة وأماكن وجود الممثلين..)، ومكونات اللقطة ويدخل فيها زاوية التصوير وحركة الكاميرا وحجم اللقطة (أو الكادر) وزمن اللقطة على الشاشة، عمق المجال أي الصورة، وهل يرى المتفرج ابعد من المستوى الأولي فيها). 

موضوع "اللغة السينمائية" أو "لغة الفيلم" أيضا موضوع اشكالي في عملية النقد، فهل يمكن اعتبار فن التعبير من خلال الفيلم السينمائي أمرا مشابها لاستخدامنا للغات المنطوقة التي يتكلمها الإنسان؟

هل مفردات الفيلم هي مفردات "لغوية" بهذا المعنى، بقصد التواصل مع الجمهور في العالم كله؟
الأستاذ قيس الزبيدي، السينمائي العربي المشغول دوما بنظرية السينما، لا يكف عن طرح الاسئلة حولها، فهو مثلا يرى أنه "منذ بداية تاريخ السينما تمت مقارنة السينما باللغة الطبيعية وتبع ذلك الاعتقاد بانها لغة تمتلك قواعدها ومونتاجها ونحوها. واستمر عدم الوضوح في عدد من تلك المفاهيم في إطار نظرية السينما، خصوصاً وان نظرية الفيلم الكلاسيكية، لم تمتلك إلا معرفة قليلة بعلم اللغة، كانت بالكاد تؤهلها، بشكل كاف، في عقد مقارنة سليمة بين مفاهيم هذا العلم وتطبيقها في مجال نظرية السينما".

ويضيف الزبيدي أيضا أنه "حدث في منتصف سنوات الستينيات تحول كبير في طبيعة القضايا الجمالية واللغوية السينمائية التي خضعت للدراسة والتحليل من قبل منظرين جدد جاؤوا إلى حقل السينما من حقول معرفية أخرى مثل علم اللغة والبنيوية والسيميائية (السيميولوجيا) أو علم نظام العلامات. وقد أغنت مثل هذه الأبحاث النظرية الجمالية للسينما عبر عقد الصلة بين أصول وقواعد لغة الكلام وأصول وقواعد لغة السينما. وقد عرّفت السيميائية اللغة والفيلم باعتبارهما ينتميان، من جهة، إلى نظم الاتصال، ويختلفان، من جهة أخرى، في أن اللغة، أية لغة، تملك نظام لغة، أما الفيلم، الذي تجمعه مع اللغة أشياء كثيرة مشتركة، فليس له نظام لغة. ولعل هذه المقارنة توضح ما عناه كريستيان ميتز، حينما اعتبر الفيلم لسانا بدون لغة، أو حينما عقب على ذلك امبيرتو ايكو، وعد الفيلم بمنزلة كلام لا يستند على لغة".

الناقد الذي يحكم على الأفلام يأخذ في اعتباره كل هذا الجدل الدائر حول طبيعة الفيلم، شكله، مغزاه، مكوناته، أشكال تطوره، وهو يتأمل في فيلم واحد. وإذا كان الفيلم كما يرى كريستيان ميتز ويوافقه الزبيدي "لسانا بدون لغة"، أو امبرتو إيكو "كلاما لا يستند على لغة"، فما معنى أننا نكرر دائما في كتاباتنا الحديث عن "لغة الفيلم"؟

إن المقصود باستخدام هذا المصطلح او التعبير الأدبي المجازي الذي أصبح "مصطلحا" في الدراسات النقدية والسينمائية، هو تحديدا، مناقشة طريقة المخرج السينمائي، أو صانع الفيلم الحقيقي الذي إليه تعود المسؤولية المباشرة عن سائر العمليات الفنية في الفيلم، وأسلوبه ومنهجه في استخدام عناصر الفن السينمائي من كاميرا ومونتاج وتصوير وتمثيل وغير ذلك من "العناصر" التي نعتبر أنها تلعب دورا رئيسيا في صنع "سياق" سينمائي نابض بالحياة.

إن هذه القدرة لدى السينمائي، على خلق "شيفرة" خطابية مع المشاهدين من خلال استخدامه بشكل خلاق ومبتكر، لكل عناصر الفيلم (أو اللغة السينمائية.. أي الأبجدية الخاصة بالفيلم التي تختلف بكل تأكيد عن الابجدية اللغوية) هي التي تتوجه إليها اهتمامات الناقد في حكمه بأن هذا السينمائي "متفوق" يقدم إبداعا حقيقيا، يطور في "لغة" السينما (التي هي مرة أخرى غير لغة الانسان المتكلم أو الكاتب رغم العوامل المشتركة بينهما كما يعترف السيميائيون). أما استخدامه "البليد، التقليدي، المتكرر، الذي يفتقد القدرة على الابتكار أو على ان يضيف أو أن يأسر خيالك ويبقيه اسيرا له، فهو الذي يدفع الناقد إلى التوقف أمام علامات "الفشل" في تحقيق ما كان الفيلم يصبو إليه.

ولاشك أن التوصل إلى "حكم" على الفيلم هو في تصوري مسألة حتمية لصيقة الصلة بالنقد عموما، بالنقد الأدبي، ونقد الفنون التشكيلية، والنقد المسرحي، وكل أنواع النقد، فليس من الممكن أن يدعي الناقد لنفسه دورا "محايدا"، غير أن الحكم يجب أن يأتي بعد التحليل، فالناقد يقوم أولا بتحليل "عناصر" الفيلم، وبنائه ومكوناته ومدى نجاحها أو فشلها في التعبير عن فكرة الفيلم وجوهره وموضوعه بل ورؤية السينمائي، دراميا وشكليا، لكي يخلص إلى إصدار حكم عليه بالنجاح فيما كان يرمي إليه صاحبه ام عدم النجاح. غير أن الناقد لا يبدأ عادة باصدار الأحكام وسوق الانطباعات القاطعة ثم يمضي إلى حال سبيله بعد أن يكون قد "قتل" الفيلم، فقتل الأفلام ليس من مهام نقاد السينما، كما ان المديح المجاني للأفلام (وهذا سائد في الكثير من الكتابات الصحفية)، واعتبار كل ما يظهر يوميا من أفلام "أحداثا هامة" وإسباغ العظمة والمجد على صناعها بغرض "تشجيعهم" مثلا، أو دفع عجلة السينما الوطنية في بلد الناقد أو الصحفي، هذا النوع من النقد المرسل لا يؤدي في نهاية الأمر إلا إلى تدمير الوعي بأهمية دور الفيلم والفن السينمائي عموما.

ولا شك أن مقارنة الفيلم بالافلام السابقة لمخرجه خاصة إذا كان من نوع المخرجين أصحاب الرؤية الخاصة والأسلوب المتميز، يساهم في تكثيف الوعي بالفيلم محل التناول، بل إن مقارنته بما يظهر في عصره من أفلام تتناول ربما نفس الموضوع أو نفس الفكرة أو تكثف حالة مشابهة فلسفية أو فكرية او إنسانية، تعلب دورا في تعميق بالوعي بالفيلم، خاصة إذا كانت هناك أيضا إحالات إلى افكار مشتركة مع أعمال من الأدب والمسرح.

هنا تلعب ثقافة الناقد ورؤيته، دورا أساسيا في طريقة تعامله مع الفيلم، فهل الفيلم في نهاية الأمر "سلعة ترويحية" أو وسيلة من وسائل التسلية والاستمتاع الوقتي في دور العرض، أم أبعد من ذلك، وسيلة للتعبير عن موقف فكري وجمالي من العالم؟

وفي تصوري أن الإجابة عن هذا السؤال تفرض المنهج الذي يستخدمه الناقد في تناوله للفيلم. وكل رأي في نهاية الأمر، هو نسبي، وامتلاك الحقيقة المطلقة في النقد أمر، ليس فقط مستحيلا، بل ومرفوض.  

الجزيرة الوثائقية في

28/08/2011

 

"الدكتاتور"..الفصول المظلمة للمسرح السياسي العربي

ناصر ونوس 

وأخيراً أتى الزمن الذي نشاهد فيه سقوط الدكتاتوريين العرب وأنظمتهم الاستبدادية. الزمن الذي أصبح بإمكاننا الحديث فيه عن هؤلاء الديكتاتوريين وهذه الأنظمة. وإذا كان بعضهم قد سقط فإن البقية مازالوا يعاندون هذا السقوط  مترنحين متشبثين بتلابيب السلطة بكل ما أوتوا من قوة، تلك السلطة التي فصّلوها على مقاسهم ومقاس أبنائهم وأقاربهم وأحبابهم، ولا يتخلون عنها مهما كان الثمن، حتى لو قتلوا نصف الشعب واعتقلوا نصفه الآخر.

وإذ أتى هذا الزمن فإننا بدأنا على الصعيد الإبداعي نرى بوادر التناول السينمائي لهؤلاء الديكتاتوريين، منها الوثائقي الذي شاهدناه قبل نحو أسبوع على قناة الجزيرة بعنوان "الديكتاتور Absolute Power".

وفيه يتناول مخرجه بالتأمل والتحليل جوانب من حياة كل من أنور السادات وحافظ الأسد وحسني مبارك وزين العابدين بن علي ومعمر القذافي وصدام حسين وعلي عبد الله صالح. ويوزع المخرج فيلمه على عدد من المواضيع أتت تحت عناوين لا يخلو بعضها من السخرية والتهكم من هؤلاء الديكتاتوريين مثل: "الاستيلاء على السلطة"، "اقتل أعداءك"، "أبو الشعب"، "فلتحبوني"، "الجواسيس والأمن ووزارة الداخلية"، "احترسوا من الديكتاتور الذي يمكن أن يكون ملكاً"، "أشباه الآلهة"، "كن طموحاً"، "تحكم في وسائل الإعلام".

ويبني الفيلم على مشاهد أرشيفية  ومقابلات مع عدد من أهم الخبراء في شؤون الشرق الأوسط مثل د. وليد قزيحة، والصحفي روبيرت فيسك، والكاتب والصحفي باتريك سيل، والدكتور جيرولد بوست عالم النفس السياسي، وشهيرة أمين مراسلة سابقة لشؤون الرئاسة لصالح محطة نايل تي في، وبيتر يورك مؤلف كتاب "بيت الديكتاتور".

يظهر الفيلم كيف وصل هؤلاء الديكتاتوريين إلى السلطة، يقول الراوي إنهم استولوا على السلطة إما بانقلاب عسكري أو بصدفة خدمتهم. يتحدث روبيرت فيسك عن المستوى التعليمي والثقافي لهؤلاء الديكتاتوريين ويلاحظ أن السواد الأعظم منهم لم يكن حائزاً على درجة جامعية ولم يكونوا مولعين بالقراءة. ليستنتج المشاهد بذلك أنه، بوصفه أحد أبناء هذه الأمة، ابتلى برؤساء جهلة لا يحبون الثقافة ولا المثقفين ولا العلم ولا المتعلمين. هنا نتذكر ما تم الكشف عنه في ليبيا مؤخراً، وهو وجود وزارة لمحاربة المثقفين والمتعلمين وكل الشخصيات المميزة في المجتمع الليبي، وكل ذلك من أجل أن لا يبقى أحد في المجتمع الليبي يمكن أن يكون بديلاً عن القذافي وأبنائه حاكماً لليبيا.

يروي جيرولد بوست الحادثة الشهيرة عن أول اجتماع يعقده صدام مع مائتين من كبار المسؤولين لديه بعد توليه الرئاسة من ابن عمه، والذي نقله التلفزيون العراقي على الهواء مباشرة. وكان صدام يريد أن يتخلص من واحد وعشرين منهم فاختار أحدهم واعتقله كما اعتقل أفراد أسرته وقال له "أريدك أن تعترف بأنك تحيك مؤامرة ضدي... إذا لم تعترف بذلك على رؤوس الأشهاد فإنك وأفراد أسرتك ستعذبون وتعدمون"، وما كان من المسؤول إلا أن "اعترف" بـ "المؤامرة" مع أن الجميع يعرفون أنه لم تكن هناك أية مؤامرة.

هذه حادثة حقيقية لكن يخيّل للمرء أنه أمام مشهد من إحدى مسرحيات شكسبير (لعلها "ريتشارد الثالث")؛ حيث "النفاق" سيد الموقف وسط الدسائس والمؤامرات والاعترافات. فمن الواضح أن المسؤول الذي يدلي بالاعتراف كان يعتصر مخيلته كي يبتدع اعترافاً بجريمة لم يرتكبها، وليس لها وجود في الأساس. اعتراف قد يودي به إلى حبل المشنقة لكنه يقدم عليه أملاً بأن يصفح عنه "السيد الرئيس". هذه المسرحية التي ألفها وأخرجها صدام مقتبساً شكسبير ومستلهماً ستالين وهتلر كان هدفها استمالة هؤلاء المسؤولين الذين شكرهم، وكمكافأة لهم أمرهم بتشكيل واحد وعشرين فرقة إعدام مهمتها التخلص من أعداء النظام "وبالتالي فقد جعل أولئك الأشخاص شركاء له فيما يفعل". يعلق روبيرت فيسك بأن صدام كان أقسى أولئك الحكام، فقد أدار حكومته بالإرهاب.

يبحث الفيلم في آليات تشكُّل الديكتاتور، أي تحوله من حاكم عادي إلى ديكتاتور، فعبر التملق الذي تضخه جوقة المتملقين الذين يُسمِعون الحاكم ما يحب سماعه لا ما يجب سماعه يبدأ الحاكم بتصديق نفسه أنه على صواب وأن شعبه يحبه. لكن لا بد للحاكم أن يتحقق من ذلك، وأن يعرف ما يفعله المحكومون في كل الأوقات، وهنا يأتي دور أجهزة المخابرات والجواسيس. وهنا سيكون على كل شخص في الدولة الديكتاتورية أن يتجسس على غيره. ينقل روبيرت فيسك أن نحو ثمانين في المئة من الشعب التونسي كانوا يعملون لدى أجهزة مخابرات زين العابدين بن علي. لكن كل ذلك لم يمنع من قيام الثورة والإطاحة بالرئيس بن علي.

في الدولة الديكتاتورية تنحصر مهمة وزارة الداخلية وأجهزة الأمن بالحفاظ على كرسي الرئاسة وفق ما يرى روبيرت فيسك. وفي ليبيا، يقول جيرولد بوست، كان نحو عشرين في المئة مما يسمى بـ "اللجان الشعبية" يكرسون أنفسهم للتجسس على المواطنين لحساب القذافي. وبالتالي لم يعد الجار يثق بجاره ولم يعد الصديق يثق بصديقه. بعد قمع المنشقين يصبح جميع أفراد الحاشية مخبرين لدى الزعيم المتسلط، وبذلك يوشك المتسلط أن يصبح جاهلاً بحقيقة الأمور بسبب عزلته عن الشعب. وبالطبع نرى مثل هذا الجهل في كل مرة يخرج علينا أحد هؤلاء المتسلطين متحدثاً عما يجري في بلده، لنستنتج أنه لا يسمع إلا لمخبريه ومتملقيه ولا يشاهد إلا تلفزيون بلده وبالتالي يبقى منسلخاً عن الواقع الحقيقي.

ينهي المخرج فيلمه بمقطع صوتي لجيرالد بوست يصلح أن يكون نصيحة ووصية للشعوب التي تحكمها أنظمة ديكتاتورية، يقول بوست: "من أهم الأمور المتعلقة بسيرة الحكام الديكتاتوريين معرفة من منهم يندرج في الفئة ولا يلتفت عندما ترتكب الجرائم، ومن منهم تحوّل نظره عن الشر فيكون في الواقع شريكاً فيه... إذا رأينا أفراداً نستطيع أن نفهم شخصيتهم وندرك أن لديهم من الصفات ما يجعلهم من ذلك النوع من الناس فعلينا أن لا نعزز حبهم لأنفسهم وإعجابهم بها وحلمهم بالعظمة  لأننا إن فعلنا فقد نمهد السبيل لظهور وحش كاسر". وفي الحقيقة هذا ما حدث بالضبط في بلداننا العربية.

حقق المخرج إذاً فيلماً مهماً عن الديكتاتور والسلطة المطلقة، لكن غابت عنه مسألة في غاية الأهمية تتمثل في المقارنة بين الديكتاتوريين السابقين الذين ابتلى بهم عدد من شعوب العالم في أربعينات وخمسينات وستينات القرن العشرين مع الديكتاتوريين الذين ابتلت بهم الأمة العربية خلال العقود الأخيرة. ولعل أهم فارق بين ذاك النمط وهذا النمط أن الديكتاتوريين السابقين لم يكونوا لصوصاً على غرار الدكتاتوريين العرب، فأولئك أقاموا أنظمتهم الديكتاتورية وسلطاتهم الاستبدادية دون أن يلتفتوا لجمع الثروات ونهب الأوطان كما فعل نظراؤهم العرب الذين اعتبروا هذه الأوطان ملكية شخصية لهم ولأبنائهم وأقاربهم وأحبابهم.

الجزيرة الوثائقية في

28/08/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)