حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

تعاون أنتونيو بانديراس من جديد مع بدرو ألمودوفار حدثٌ سينمائي

قلق وذعر على تخوم الألم والشهوة والرغبات المقموعة

نديم جرجوره

يُمكن القول، ببساطة، إن التعاون الجديد بين الإسبانيِّيَن المخرج بدرو ألمودوفار والممثل أنتونيو بانديراس، حدثٌ سينمائي. العمل المشترك بينهما، المنقطع منذ اثنين وعشرين عاماً، أثمر أفلاماً أساسية في المسار المهنيّ للممثل، في بداياته. أثمر انتصاراً للشاب الهارب من بلدته إلى العاصمة، بحثاً عن فرصة عمل في.. المسرح. أثمر تتويجاً للممثل الشاب، كأحد أبرز الممثلين المتميّزين بقدرة الأداء على منح الشخصية بُعداً شفّافاً في حضورها وتواصلها مع الشخصيات الأخرى. في علاقاتها المفتوحة على أسئلة الحياة والواقع والانفعالات. خمسة أفلام مثّل فيها بانديراس بإدارة ألمودوفار، قبل أن يفترقا، سينمائياً، اثنين وعشرين عاماً، انتهت بالعمل معاً مرّة سادسة، في العام الفائت.

اختبارات

أنتونيو بانديراس، اللامع في إسبانيا ممثلاً متمكّناً من شرطه الأدائي في تقديم الشخصية، بات الممثل القادر على إقامة مسافة ما بينه وبين الاختبار الهوليوودي. فمع انبهاره الواضح بالعمل السينمائي في هوليوود، الذي جعله يتفنّن بأداء شخصيات تميل إلى العضلات وعرضها على الشاشة أكثر مما تحثّ على التفكير والمغامرة الإنسانية والعقلية والإنسانية، توصّل بانديراس إلى قناعة مفادها أن الممثل في هوليوود منشغلٌ باختبارات شتّى. منشغلٌ بالتنويع. منشغلٌ بالمال أيضاً: «لا يستكشف (النظام المعمول به في هوليوود) شيئاً. إنه يسخر من الفنان. في هوليوود، يُصنَع المال. يُصنع بشكل جيّد جداً، أفضل من أي مكان آخر في العالم». هذا مفهوم قابلٌ للنقاش، بالمعنى الإيجابي. القناعة بأن هوليوود هكذا، تتيح للعامل فيها إمكانية التفاهم مع ذاته أولاً، ما يسمح الاشتغال المتقن في أي عمل معروض على الممثل أو المخرج أو التقنيّ. هذا قولٌ عائدٌ لأنتونيو بانديراس، الذي أضاف: «في السينما الأوروبية، يتصدّر المؤلّف (المشهد الأول). هناك، يتمّ التجريب والابتكار». القناعة بواقع كهذا أفضى به إلى الاعتراف بصراحة مطلقة: «أحبّ النظامين معاً، وأكرههما معاً». بالنسبة إليه، يُمكن للأوروبيين الغرق في التفاخر والعجرفة والكبرياء: «يُمكنهم إظهار تسامح متعجرف إزاء الولايات المتحدّة الأميركية». هو، بتحليله واقعاً معروفاً، أعلن أنه من القائلين بضرورة أن تتعايش الأنواع كلّها بعضها مع البعض الآخر. في الحوار المنشور في المجلّة الفرنسية الأسبوعية «إكسبرس» (17 آب 2011)، قال بانديراس: «من أنا لأقول لشاب يعمل في تصليح السيارات طوال الأسبوع، ويرغب في التسلية بذهابه إلى صالة السينما مساء السبت، بوجوب مشاهدة «ثمانية ونصف» لفيلّيني؟ يريد الشاب أن يتناول الـ«بوب كورن» أثناء مشاهدته «الرجل العنكبوت». أتفهَّمُ هذا الأمر».

يتفهّم أنتونيو بانديراس هذا الأمر. ربما لهذا السبب انتقل من إسبانيا إلى هوليوود. انتقل من العمل بإدارة بدرو ألمودوفار تحديداً (مثّل، أيضاً، بإدارة مونتكسو أرمنداريز في «27 ساعة» في العام 1986، وفرناندو كولومو في «باجارزي أل مورو» في العام 1989)، إلى التمثيل بإدارة مخرجين متنوّعي الهواجس والأساليب، من دون البقاء في الإطار الضيّق للأفلام التجارية البحتة، أي تلك المنصبّة في خانة الإيرادات والأرباح ولعبة الأرقام. منذ مطلع التسعينيات الفائتة، عندما غادر بلده إلى أميركا، بدأ مغامرة مزدوجة، بل متناقضة: أداء أدوار مرتكزة على بُعد إنساني أو ثوريّ أو اجتماعي، في أفلام ملتزمة حدّاً واضحاً من الاشتغال السينمائي السليم والمتمكّن من شروطه الإبداعية. وتقديم أدوار متراوحة بين الـ«أكشن» والتشويق والمغامرة العادية والمطاردات العنفية، والرومانسية المبسّطة والهادئة. لكن، قبل هذا وذاك، بدت قصّة بدايته الأولى في الطريق الفنية، مسرحاً وسينما وتلفزيوناً، مشوّقة. أو ربما عادية، لأنها تُشبه قصص كثيرين، وجدوا أنفسهم فجأة في اللحظة الفاصلة بين الأحلام الكبيرة والواقع القاسي، الذي حطّم الأحلام هذه، أو كاد يُحطّمها. في بلدته «مَلَقَه»، التي شهدت ولادته في العاشر من آب 1960، اعتاد المشاركة في أعمال مسرحية تُقدَّم سنوياً. في العام 1980، أدرك أن مصيره قائمٌ في الفن، بل في التمثيل المسرحي تحديداً: أخبر أهله والعائلة. جمع مبلغ خمسة عشر ألف بيزيتا (نحو ثمانين يورو فقط). استقلّ القطار المتوجِّه إلى مدريد: «أعطاني أصدقاء لي عدداً من السجائر، كأني ذاهبٌ إلى الحرب»، قال بانديراس، مشيراً إلى أن الجميع اقتنع، حينها، بأنه عائدٌ حتماً إلى البلدة، في نهاية الأسبوع: «أما أنا، فكنتُ مُدركاً بأني لن أعود قبل تحقيق حلمي». تحقيق الحلم دونه صعوبات وتحدّيات. المدينة جديدة. غريبٌ هو فيها. أمضى عاماً صعباً للغاية. خطيبُ صديقته سمح له بالنوم على أريكة في صالون الدار. في البلد محطّتان تلفزيونيتان فقط. الفرق المسرحية عاملة ضمن أطر ضيّقة: القبيلة، أو العائلة. الجوع فتّاك. البحث عن مال منسيّ هنا وهناك متعبٌ. عاملٌ في كافيتيريا «المسرح الوطني الإسبانيّ» أعطاه خبزاً وجبناً وبيرة، مساء كل يوم، بشكل سرّي. هذا كلّه، قبل أن تنقلب الأمور رأساً على عقب: «قرّرت العودة إلى «مَلَقَه» ذات يوم. رتّبت أغراضي. بينما كنتُ أتناول «عشائي السرّي» المعتاد، التقيتُ ابنة مدير «المسرح الوطني الإسبانيّ». سألتها: «ما الذي يُفترض بي أن أفعله كي أمثّل في هذا المسرح؟». طلبت رقم هاتفي. في اليوم التالي، قبل أن أغادر بقليل، اتّصلت بي طالبة منّي الحضور للمشاركة في «أداء تجريبيّ». نجحتُ. مثّلتُ يومها في «ابنة الهواء». بعد أشهر عدّة، التقيتُ بدرو (ألمودوفار). تساءلتُ مراراً: ما الذي كان يُمكن أن يحدث لي لو أني غادرت الكافيتيريا قبل خمس دقائق فقط».

احتراف

ابنة مدير «المسرح الوطني الإسبانيّ» فتحت له باباً أول. التمثيل، شغفه الثاني بعد كرة القدم، التي لم يستطع بلوغ الاحتراف في ممارستها، إثر إصابة طالت قدمه. بدرو ألمودوفار فتح له باباً أوسع: درّبه على الأداء الاحترافي أمام الكاميرا. قدّم له أدواراً متنوّعة، مطلقاً إياه على الدرب التمثيلي الصحيح. في العام 1982، كان التعاون الأول بينهما في «متاهة الانفعالات». الفيلم هذا منتمٍ إلى الأسلوب المعروف لألمودوفار: متتاليات من الأحداث والوقائع العبثية، بتداخل «غريب» و«جميل» بين «الكوميديا والتراجيديا». تتالت الأفلام التي اشتغلاها سوياً: «ماتادور» (1985). «قانون الرغبة» (1987). «نساء على حافة الانهيار العصبيّ» (1988). و«إلتَقطْني» (1989): «في تلك الفترة، في الثمانينيات، بدأتُ (التمثيل السينمائي). يومها، عاش المجتمع الإسباني انقلابات وارتباكات وتبدّلات. بدأت الديموقراطية، حينها، تتّخذ أشكالها كلّها. أفلام بدرو فتحت احتمالات جديدة». بهذا المعنى، يُفهَمُ التأثير الإيجابي على بانديراس، المتمثّل بصوغ المعنى الأدائي الحِرَفيّ، الذي قدّمه ألمودوفار له. تُفهَمُ الأسس الأولى للتكوين التمثيلي. ذلك أن التكوين التمثيلي هذا لم يقف عند الفن فقط، بل استمدّ حضوره وطاقته من قلب المجتمع. من التحوّل المتنوّع الذي عرفه المجتمع. الأفلام، بحدّ ذاتها، تدريبٌ على الأداء: العناوين الجوهرية مفتوحة على أسئلة شتّى، من المثلية الجنسية إلى المغامرة الإنسانية، ومن الموسيقى إلى الجانب النفسيّ، ومن الخراب الروحي إلى التوجّه الإنفعاليّ للحياة اليومية.

المثلية الجنسية التي عالجها بدرو ألمودوفار، قدّمها أنتونيو بانديراس في واحد من أفلامه الأميركية الجميلة: «فيلادلفيا» (1993) لجوناثان ديم، مع الثنائي الرائع توم هانكس (موظّف في شركة يُطرد منها إثر اكتشاف إصابته بمرض «فقدان المناعة المُكتَسبَة») ودنزل واشنطن (محام يُدافع عن حقّ هانكس في الاستمرار بالعمل حتّى اللحظة الأخيرة من حياته). أدّى بانديراس دور «الصديق الحميم» لهانكس. التمرّد ركيزة أخرى في مساره التمثيلي: في «منزل الأرواح» (1993) لبل أوغست، المأخوذ عن رواية بالعنوان نفسه لإيزابيل الليندي، و«إيفيتا» (1996) لآلن باركر (تشي غيفارا).

المخرج الثاني الذي منحه مفهوماً آخر للتمثيل، مشتغلاً معه مراراً وتكراراً، هو الأميركي المكسيكي الأصل روبرت رودريغز. هنا، تجلّى العنف الظاهر مدخلاً سينمائياً وثقافياً وجمالياً إلى العنف المبطّن. «ديسبيرادو» (1995) أول لقاء، أفضى لاحقاً إلى سبعة أفلام، يبقى أفضلها وأجملها الجزء الخاصّ برودريغز في الفيلم الجماعي «أربع غرف»، بعنوان «مسيئو التصرّف». أما اللقاء الأول، فأثمر جزءاً ثانياً بعنوان «حدث ذات مرّة في المكسيك» (2003). عمل بانديراس أيضاً بإدارة رودريغز نفسه في السلسلة السينمائية الشهيرة «الأولاد الجواسيس» بين العامين 2001 و2011. هذا كلّه، من دون إغفال اشتغالاته الأخرى، الموسومة بطابع أكثر حِرفية وتوغّل في الذات الفردية وانفلاشها المفتوح على وقائع العيش عند الحدّ الفاصل بين التناقضات الحادّة: مع براين دي بالما، مثّل في «امرأة مُغويّة» (2002). مع جون ماكتيرنان، مثّل دور أحمد بن فضلان في «المحارب الثالث عشر» (1999)، الذي وُصف بأنه من الأفلام الأميركية القليلة جداً حينها، التي قدّمت صورة إيجابية عن العربيّ المسلم، قبل جريمة الحادي عشر من أيلول 2001. ارتدى زيّ الأسطورة الجميلة زورو في فيلمين لمارتن كامبل: «قناع زورو» (1998) و«أسطورة زورو» (2005). جديده المنتظَر دولياً: «ذهبٌ أسود» (2011) لجان ـ جاك آنو. في حين أن أحد مشاريعه المقبلة حمل عنوان «سرير من الأسلاك المعدنية»، الذي يُفترض بستيفن سودربيرغ تحقيقه في العام 2012.

ماذا عن «عودته» إلى بلاتوه بدرو ألمودوفار؟ «الجلد الذي أسكنه» مقتبسٌ عن رواية «ميغال» (1984) للكاتب الفرنسي تييري جونكي. إنها سردٌ لحكاية طبيب جرّاح يُدعى روبير لوغار (بانديراس)، تعرّضت زوجته لحادث سيارة، أشعل النار فيها وهي حيّة. في اثني عشر عاماً، حاول ابتكار جلد بشري لإنقاذها. احتاج إلى من يوافق على الاختبار. التداخل بات معقّداً بين الخيال والواقع. بين الرغبة الدفينة في إنقاذ المحبوبة، والتعقيد الكبير في متاهات الحياة والدنيا. النساء حول الطبيب مختلفات الأمزجة. المتاهة صعبة. العوالم المفتوحة في أفلام بدرو ألمودوفار دافعةٌ إلى تخوم الألم والشهوة والرغبات المقموعة. أو الأحلام المصطدمة بالواقع. في أحد الأوصاف الممنوحة للشخصية الرئيسة هذه، جاء أن الطبيب الجرّاح أشبه بالشخصية الخرافية فرانكنشتاين. أي أن اختراعه «قد» ينقلب عليه، لكن بحسب الطريقة المألوفة والصادمة غالباً، التي يعمل ألمودوفار بوحي إبداعي منها: «لم أكن قلِقاً، بل مذعوراً»، قال بانديراس ردّاً على سؤال حول شعوره بالعمل مجدّداً مع مخرجه الأول: «إنه أمرٌ مهمٌّ جداً أن أمثّل مرّة أخرى بإدارة بدرو. إنه يُشكّل جزءاً من حياتي».

السفير اللبنانية في

22/08/2011

 

راوول رويز في متاهات السرد

رفيق نيرودا والليندي إلى منفاه الأخير

عثمان تزغارت  

انطفأ المخرج التشيلي في منفاه الباريسي يوم الجمعة الماضي، ولمّا يتجاوز السبعين. صاحب «أسرار لشبونة» خرج من معطف «الواقعية السحريّة» في الستينيات، وغادر بلده الأم بعد الانقلاب العسكري الذي قاده بينوشيه على سلفادور الليندي... خلال خمسة عقود من العطاء، أنجز ريبرتواراً ضخماً، يضعه بين كبار الفنّ السابع في أميركا اللاتينيّة

غيّب الموت عن سبعين عاماً راوول رويز. السينمائي التشيلي المقيم في فرنسا، يعتبر أحد أبرز رموز السينما اللاتينية وأغزرها إنتاجاً. خلّف صاحب «مكان بين الأحياء» (2003) فيلموغرافيا ضخمة، تضم 117 عملاً سينمائياً. كان آخرها «أسرار لشبونة» (2010) الذي نال عنه جائزة «لوي دولوك» (توصف في فرنسا بـ«غونكور السينما»). كان هذا العمل الضخم (4 ساعات ونصف الساعة)، المقتبس من ثلاثية الروائي البرتغالي كاميليو كاستيلو برانكو، بمثابة الفيلم ـــ الوصية بالنسبة إلى رويز. فقد صوّره عشية إجرائه عملية لزرع الكبد، إثر إصابته بورم سرطاني. «صوّرت كل مشهد من هذا الفيلم، وأنا أشعر بأنه قد يكون عملي الأخير»، كما اعترف لاحقاً.

وإذا كان راوول رويز قد تغلّب على السرطان، فإن الموت خطفه في باريس، إثر التهاب رئوي مفاجئ يوم الجمعة الماضي، قبل أسابيع قليلة من بدء تصوير فيلم جديد له عن نابوليون بونابرت. لكنّ «أسرار لشبونة» لن يكون عمله الأخير، إذ أعلن منتجه فرانسوا مارغولان أنّ صاحب «ثلاث حيوات وموت واحد» (1996) كان بصدد استكمال مونتاج فيلم مستوحى من ذكريات طفولته.

تحدّث راوول رويز بإسهاب عن تجربته مع السرطان، بروح الفكاهة السوداء المعروفة عنه: «قبل العملية، قال لي الطبيب: الورم الذي تعاني منه غريب، ويستعصي على التصنيف، لأن بنيته مغايرة للمألوف! فأجبته ضاحكاً: هل أنت جرّاح أم ناقد سينمائي؟ فهذا التوصيف مطابق تماماً لما يُقال عن أفلامي!». بالفعل، مثّل الاشتغال على البنية السردية الهاجس المركزي في أعمال رويز. طيلة مسيرته، لم يتوقّف عن خلخلة اليقينيات، والأنماط الفنية الجاهزة، سواءً في أفلامه أو في مؤلفاته النقدية (راجع الإطار أدناه).

اعتبرت أعماله الأولى بمثابة امتداد سينمائي للواقعية السحرية في الأدب اللاتيني، إذ انطبعت بتأثيرات واضحة من ماركيز وبورخيس. «تانغو الأرمل» (1967) و«ثلاثة نمور حزينة» («الفهد الذهبي» في «مهرجان لوكارنو»، 1969) أسهما في التعريف به على نطاق واسع خارج بلاده. لكنّ ذلك لم يحصّنه من انتقادات رفاقه اليساريين، في عهد سلفادور الليندي. كان رويز أحد المستشارين السينمائيين لحزب «الوحدة الشعبية»، واشترك مع جايمس بيكيت، ونينا سيرانو، وساول لاندو في إنتاج وإخراج الفيلم الجماعي «ما العمل؟» (1970) الذي صوّر وقائع الحملة الانتخابية التي أوصلت الليندي إلى الحكم. ثم اختلف رويز مع أقرانه، مفضّلاً الأسلوب الباروكي لـ«السينما البرازيلية الجديدة» على أفلام البروباغندا ذات النمط السوفياتي. لكن أعماله سرعان ما استعادت نفسها النضالي اليساري بعد خروجه إلى المنفى، إثر انقلاب بينوشيه عام 1973. أنجز في العام نفسه شريط «المصادرة» عن المؤامرة الاستعماريّة الأميركيّة التي أدت إلى مصادرة إرادة الشعب التشيلي، و«أحاديث المنفيين» عن تجربته في الشتات بين المنافي الأوروبية.

في نهاية السبعينيات، انخرط راوول رويز في السينما التأملية الرائجة آنذاك. لكنّه سلك توجها مغايراً للسائد، معتبراً أنّ «الصورة الصوتية» (الحوارات، واللهجات، ونبرات الصوت) لا تقلّ أهمية عن «الصورة البصرية». خالف بتوجهه ذلك «الموجة الجديدة» المنادية بإسقاط البنى السردية التقليدية، لإفساح المجال أمام خطاب بصري، رأت أنّه الأكثر عصرنة.

ثم أنجز فيلمه الأشهر «تيجان البحّار الثلاثة» (1983)، فكان له وقع القنبلة في الأوساط النقدية الأوروبية، إذ اعتبر بمثابة «ولادة جديدة للفن السريالي». في عمله هذا، استعاد رويز التوهج اللاتيني الذي طبع بداياته، منطلقاً من تهويمات «الواقعية السحرية»، لابتداع ما اصطلح على تسميته لاحقاً بـ«المتاهة السردية». وهذه بنية حكائية بوليفونية، تستند إلى أسلوب باروكي، تتداخل فيه أصوات وزوايا رؤية، متعدّدة ومتضادة. لكن الآمال الكبيرة المتولدة عن ذلك الفيلم تبخّرت بسرعة. لم يستثمرها رويز لتعميق انشغالاته وأبحاثه الفنية المجدّدة، بل انساق نحو فخ النجاح السهل من خلال المراهنة على الرواج الشعبي. من «مدينة القراصنة» (1983) إلى «السفينة الذهبية» (1990)، مروراً بـ«جزيرة الكنز» (1985)، دامت رحلة التيه تلك ما يقارب عقداً.

لكنّ المعلّم التشيلي لم يلبث أن انبعث كالعنقاء من رماده، واستعاد فجأة شهيّته إلى التجديد والتجريب. دشّن مرحلة خصبة من عطائه السينمائي، مع «العين الكاذبة» (1993). ثمّ جاء شريطه الشهير «ثلاث حيوات وموت واحد»، من بطولة الممثل الإيطالي الشهير مارتشيللو ماستروياني (1924 ـــ 1996). عرض الشريط في المسابقة الرسمية لـ«مهرجان كان» عام 1996، وسحر الكروازيت، معلناً عودة رويز إلى مصاف الكبار من دون أن ينال أي جائزة. واتّسمت المرحلة اللاحقة من مسيرته بتوجهين رئيسيين: أفلام مقتبسة من أعمال أدبية شهيرة من جيونو وبلزاك وبروست (راجع الإطار أدناه)، وسينما تأملية ذات منحى نفسي كما في «أنساب الجريمة» (1997) مع كاترين دونوف، و«كوميديا البراءة» (2000) مع إيزابيل أوبير.

قبل سبع سنوات، عاد راوول رويز إلى تشيلي، حيث صوّر فيلمين هما «يوم في البادية» (2004) و«المجال المفقود» (2005). هناك، في مرابع صباه في مدينة بويرتو مونت الجنوبيّة، صوّر عمله البيوغرافي الأخير، وكان عاكفاً على استكمال عمليّات التوليف حين دهمه الموت.

الأخبار اللبنانية في

22/08/2011

 

حكواتي السينما أو الفيلم كرحلة صعبة

عثمان تزغارت  

حافظت سينما راوول رويز على صلات وثيقة بالأدب. فأعمال المعلم التشيلي لم تخرج من معطف «الواقعية السحرية» اللاتينية فحسب، بل يمكن أن نجد بينها أفلاماً مقتبسة عن أعمال أدبية شهيرة. فبعد تجربته الأولى في اقتباس رواية «جزيرة الكنز» (1985) لروبرت لويس ستيفنسون، نقل رويز إلى الشاشة «الوقت المستعاد» لمارسيل بروست (1999)، و«الأرواح القوية» لجان جيونو (2001)، و«بيت نوسينغن» لبلزاك (2008)، وصولاً إلى عمله الأخير «أسرار لشبونة» (2010) المقتبس عن ثلاثية روائية للبرتغالي كاميليو كاستيلو برانكو. إلى جانب أفلامه التي جاوزت المائة، كانت لراوول رويز إسهامات نقدية عديدة، أبرزها كتابه «شعرية السينما» Poétique du Cinéma.

صدر الجزء الأول من الكتاب عام 1995 عن منشورات Dis Voir، وتأخر الجزء الثاني عقداً كاملاً، ليصدر عام 2006 عن الدار نفسها. يستكمل المعلّم التشيلي فيه أبحاثه المنصبّة على نقد الأنماط السردية السائدة في السينما التقليدية. «كل عمل سينمائي يستند، بشكل أو بآخر، إلى السرد، مهما كانت البنية التي يتبناها. لقد كان منطلقي على الدوام اقتناع راسخ بأن طبيعة الصور التي ننتجها، هي التي يجب أن تحدّد طبيعة البنية السردية، لا العكس. وأنا أعي تماماً، أنّ هذا يفترض إعادة نظر جذرية في أنظمة الإنتاج والتأليف والإخراج. لكنّه يعني أيضاً أنّ أشكالاً جديدة من السينما، وأصنافاً أخرى من الشاعرية السينمائية تبقى ممكنة». ويضيف شارحاً أسلوب «المتاهة السردية» الذي ابتدعه: «بالنسبة إليّ، الفيلم السينمائي عبارة عن رحلة. ومتعة السفر لا يمكن أن تكتمل إلا إذا تقبّل المسافر، أحياناً، بأن يسلك دروباً مسدودة، لا تفضي إلى أي وجهة... وذلك لأن التيه جزء لا يتجزأ من لذة الاكتشاف».

الرؤيا التجديدية التي نادى بها راوول رويز استندت أساساً إلى نقد «نظرية الصراع المركزي» التي ظهرت في هوليوود الثلاثينيات، ثم تحوّلت إلى دوغما مهيمنة على الفن السابع. ويشرح رويز في كتابه أن هذه النظرية الهوليوودية اقتُبست من تقنية سردية طوّرها جورج برنارد شو في مسرحياته الإذاعية الشهيرة. ومفادها أن البنية السردية تحتاج لكي تتماسك، لـ«صراع مركزي»: «شخص يريد شيئاً ما، يصطدم بمن يريد (أو يريدون) منعه من ذلك. ثم تُنسج حول هذا الصراع قصة تتفاعل وتتشابك ضمنها الأحداث والشخصيات والمصائر». وجد رويز في هذه الصراع رؤية تقليدية، لم يطرأ عليها أي تحديث منذ نظرية أرسطو القائل بأن القصة يجب أن تكون لها بداية، فحبكة، ثمّ خاتمة. عوضاً عن هذا السرد الخطي الكرونولوجي، اقترح رويز «سرداً تراكمياً»، «تتداخل فيه الأحداث وتتقاطع وفق وجهات نظر، وزوايا رؤية، ومستويات قراءة متعددة».

الأخبار اللبنانية في

22/08/2011

 

الصورة طريقاً (محتملاً) إلى الحقيقة:

رحلة البحث عن اللوحة الناقصة

يزن الأشقر  

حياة راوول رويز ملحمة مذهلة تجمع بين الثقافات والعوالم الأدبيّة والمناخات البصريّة. كان مهووساً بهشاشة الوجود، والقضايا الإنسانية لم تفارق تجربته الخصبة

ليس الدخول إلى عالم السينمائي التشيلي راوول رويز سهلاً. عليك البحث والتدقيق والتأمل. لا فرق عنده بين فيلم سيئ وفيلم جيد. الصورة عنده عالم قائم بذاته. ما يفعله هو التركيز على ما تحويه الصورة من إمكانات التواصل، ما بين صانعها والمشاهد. يتعرض المشاهد للخداع بصفة مستمرة في تفاعله مع صور رويز. يخضع أيضاً لعدد من الحيل أثناء بحثه عن الحقيقة. قد يختلف تفسير الفيلم ما بين نظرة العدسة إلى العالم، والتفاعل ما بين واقع الصورة والمتلقي. بإمكانك فهم الصورة أو بإمكانها خداعك، حسب التفاعل مع المعاني المتعددة، ونسبية الحقيقة.

في «فرضية اللوحة المسروقة» (1979)، يحاول مقتني تحف (جان روجول في ظهوره السينمائي الأخير)، من خلال حواره مع رجل غير مرئي، أن يجد حلاً للغز لوحة ناقصة من مجموعة تضمّ ستة أعمال، تحمل توقيع فنان متخيّل. تتجول الكاميرا هنا في القصر بين مشاهد محاكاة طبيعية لما تصوره اللوحات الستة، في محاولة للوصول إلى معنى اللوحات المترابط الخفي. وفيما يصرّ المقتني ــــ في استنتاجاته المتذاكية بعد سنوات طويلة من التفكير ــــ على وجود لوحة سابعة سُرقت، قد يفسر العثور عليها معنى اللوحات الحقيقي، ينفي الفنان غير المرئي ذلك الوجود.

يمكن اعتبار هذا الشريط الذي أطلق شهرة رويز، مدخلاً إلى عالمه السينمائي. تتجاوز اللعبة السينمائية هنا، وفي إطار البحث المهووس عن حل للغز الفني، مسألة البحث في معنى الفن ذاته. يذهب بنا السينمائي الراحل أبعد من ذلك، نحو طرق التلقي والفهم، وعملية البحث الناقصة دوماً عن الحقيقة، وهي أحد الهواجس التي عني بها في أفلامه وعلاقتها بالمتفرج.

رويز الذي ولد في تشيلي ودعم نظام سلفادور الليندي، وعمل مستشاراً سينمائياً في حكومته، اضطر إلى مغادرة البلاد إلى فرنسا بعد انقلاب بينوشيه. قبل ذلك، كان مهووساً بالمسرح وكتب ما يقرب مسرحيات طليعية، إلى أن أخرج فيلمه القصير الأول «الحالة» ولاحقاً الفيلم الروائي «ثلاثة نمور حزينة». في فرنسا، أكمَل مسيرته السينمائية بأفلام متنوّعة ما بين التجريبي والروائي والتسجيلي. أخرج «حوارات المنفيين» الذي حمل هماً اجتماعياً وسياسياً واضحاً لمهاجر جديد هارب من بطش الفاشية، وأفلام أخرى مثل «حوار كلب»، و«المهنة العالقة» وهو عمل روائي مقتبس من رواية بيار كلوسوفسكي، و«تقسيمات الطبيعة» و«أحداث عظيمة وأشخاص عاديين» قبل أن يفرض فيلمه «فرضية اللوحة المسروقة» اسمه في فرنسا.

سيرة رويز السينمائية مذهلة بالتأكيد. ترك 117 فيلماً في مسيرته التي امتدت 48 عاماً، منها ما يقرب من خمسين فيلماً في عشرين عاماً. لم يتوقّف لحظة، بل عمل بنحو متواصل. في تنوع أسلوبه السينمائي ما يميزه أيضاً، اهتمام بالقضايا الاجتماعية والإنسانية، كما في أفلام مثل «الحياة حلم» رائعة كالديرون التي أنجزها كمسرحية في فرنسا، قبل أن ينقلها لاحقاً إلى الشاشة. وبرز اهتمامه أيضاً بالأدب الذي اقتبس منه «المستعمرة التأديبيّة» عن قصة لكافكا و«ريتشارد الثالث» عن شكسبير. لكن يبقى أسلوبه هو ما ميز أعماله المتنوعة الاتجاهات، سواء في السينما أو التلفزيون، مع ممثلين مشاهير أو مغمورين: حبكات متلاعبة بالمشاهد، وفتنة العودة إلى أزمنة ماضية، واهتمام دائم باستكشاف إمكانات السرد السينمائي في تناول الموضوع.

في فيلمه الأخير «أسرار لشبونة» الذي عرض أولاً كسلسلة تلفزيونية قصيرة، يجمع كل ذلك في رحلة غريبة تدور أحداثها في القرن التاسع عشر، عن عدة شخصيات مترابطة في رحلتها العابرة للقارات والأجيال. قبل وفاته، كان رويز يضع اللمسات الأخيرة على فيلم «الليل القادم» الذي صوره في بلده تشيلي حيث سيدفن، تنفيذاً لوصيته. رحل مايسترو السرد إذاً، وخلّف وراءه ثروة سينمائية هائلة، وروحاً فنية لم تتعب حتى النهاية.

الأخبار اللبنانية في

22/08/2011

 

«مدار» الثورة | تونس تعانق دمشق

خليل صويلح  

تضامناً مع الانتفاضة السوريّة، يستضيف فضاء «مدار» التونسي، أشرطة وثائقية لسينمائيين من أجيال مختلفة، من عمر أميرلاي إلى الأخوين ملص وعلاء عربي كاتبي. القاسم المشترك بين الأفلام تصدّيها للواقع السياسي والاجتماعي، وما حصدته من منع وإقصاء. تونس بن علي منعت شريط عمر أميرلاي «طوفان في بلاد البعث» في مهرجان قرطاج (2006)، وتونس ما بعد الثورة تعرضه، إلى جانب «الحياة اليومية في قرية سورية» (1974)، كرسالة اعتذار إلى السينمائي الراحل، بمبادرة من المسرحية رجاء بن عمار. يختزل الشريطان رحلة هذا السينمائي في نبش الواقع السوري بمبضعه الحاد. توغلت كاميرا أميرلاي بمشاركة سعد الله ونّوس إلى أبعد نقطة في البلاد لاختبار مجريات الحياة اليومية، في قرية مهملة على كتف نهر الفرات. قرية مويلح، نموذج دامغ على عسف السلطات المحلية تجاه فلاحين حفاة غارقين في البؤس. وسيعود أميرلاي بعد ربع قرن في «طوفان في بلاد البعث» (2003)، إلى مدرسة أخرى في قرية الماشي لتشريح مآل ثورة البعث... وإذا بنا أمام سجن إسمنتي ينتج ببغاوات تردد نشيد البعث كل صباح.

من جهتها، ترصد هالة محمد أحوال المعتقل السياسي في سوريا، في ثلاثة أشرطة هي «إذا تعب قاسيون»، و«قطعة الحلوى»، و«رحلة إلى الذاكرة». ما يجمع هذه الأشرطة هو حياة ما بعد السجن. هكذا نلتقي في «إذا تعب قاسيون» الشاعر محمد الماغوط في شيخوخته، مستعيداً تجربته القصيرة في سجن المزّة، أواخر الخمسينيات. في المهجع الرابع، كتب الشاب التائه، الذي انتسب مصادفةً إلى صفوف «الحزب السوري القومي الاجتماعي»، مذكراته الأولى «القتل»، على ورق سجائر لف، تلقّفها أدونيس، رفيقه في السجن، بوصفها قصيدة نثر رفيعة. نلتقي في «قطعة الحلوى» معتقلي جيل آخر، هدروا شبابهم وراء القضبان، فتمزّقت أرواحهم ببطء. ذلك أن رحلة ما بعد السجن، لا تقل إيلاماً عمّا قبلها. يتشهى عبد الحكيم قطيفان قطعة حلوى في السجن، وتنتهي حسيبة عبد الرحمن إلى حطام امرأة، تحت وطأة التعذيب، ويروي عدنان مقداد شهادة جارحة عن حياة مزّقها الغياب القسري. وفي «رحلة إلى الذاكرة»، تعيد محمد بناء سيناريو موازٍ، لتجربة ثلاثة معتقلين يساريين هم: ياسين الحاج صالح، وفرج بيرقدار، وغسان الجباعي، في رحلة مضادة إلى سجن تدمر.

10:00 ليل اليوم ــــ «مدار» (جادة الحبيب بورقيبة ـــــ قرطاج). للاستعلام: 21671275210 00

الأخبار اللبنانية في

22/08/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)