حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

الملك الأسطورة (13):

فريد شوقي… نجم مصر والعرب و… تركيا

كتب: القاهرة - ماهر زهدي

اكتشف فريد شوقي أن الزائرة التي حضرت إلى مكتبه، ليست إلا تلك المعجبة البيضاء، ذات الملابس السوداء، التي سبق أن زارته في كواليس مسرحية «الدلوعة»، واسمها سهير ترك، حضرت اليوم إلى مكتبه لتقديم واجب العزاء في وفاة والده:

* طبعا حضرتك متعرفناش ومش فاكرني… بس أنا قابلت حضرتك قبل كده في…

- لا فاكر طبعا… حضرتك شرفتيني بالزيارة في كواليس مسرحية «الدلوعة».

* ما شاء الله ذاكرتك قوية… لكن احنا آسفين للزيارة دي من غير معاد… بس إحنا جينا قبل كده وحضرتك كنت لسه مرجعتش مكتبك.

- أيوه كان فيه ظروف كده خاصة وانتهت والحمد لله.

* هو إحنا بقى جايين النهارده علشان الظروف دي.

- إيه؟!

(ظنّ أنها تتحدّث عن ظروف الطلاق)

* جايين علشان نقول لحضرتك البقية في حياتك لوفاة والدك… لإني عارفه إنه كان عزيز جدا على حضرتك وكان بالنسبة لك كل حاجة… لكن للأسف توفى في وقت إنت كنت في أشد الحاجة إليه.

شعر فريد بأن الزائرة تعرف عنه أكثر من اللازم… فهي قرأت ما كان يفكّر فيه، ولمّحت في كلامها إلى حاجته الى والده في ظروف طلاقه من هدى سلطان، وهذا أمر لا يبدو عادياً مع مجرد معجبة، نظر إليها بدهشة ولاحظ والدها ذلك، فتدخّل بسرعة ليزيل دهشة فريد:

- أستاذ فريد البقاء لله… حضرتك فنان كبير ومعروف والفنانين الكبار جمهورهم اللي بيحبهم بيتابع أخبارهم في الصحافة والتلفزيون وبيعرف عنهم كل حاجة… وإنت فنان مش عادي.

= أشكرك… وأشكر الهانم على اهتمامكم وذوقكم وكرم أخلاقكم.

- ودلوقت اسمح لنا نمشي لأن حضرتك أكيد عندك شغل ومش عاوزين نعطلك.

استأذن والد سهير وسبقها بالخروج ووقف فريد لوداعهما، فوجد نفسه وجهاً لوجه مع سهير فبادرها من دون تردد:

- ممكن أشوفك بكره هنا في المكتب في نفس الميعاد؟

* أوي أوي تحت أمرك.

- يعني مسألتنيش ليه؟

* أكيد عاوزني في حاجة مهمة وإلا مكنتش طلبت تشوفني… والحاجة دي هعرفها لما آجي بكرة إن شاء الله.

جميلة، ذكية، لماحة، مطيعة، شخصيتها قوية، واثقة من نفسها، والأهم من ذلك كلّه أنها مثقفة ثقافة رفيعة بدليل أنها لم تخجل من انتقاده كما فعلت سابقاً.

هكذا جلس فريد يفكّر في أمر هذه الزائرة التي وجدها فجأة في حياته، بل وبدأ ينشغل بها، غير أنه لم يكن يعرفها، لم يكن يعرف سوى اسمها واسم والدها، ولا يعلم سرّ هذا الاهتمام به.

حب من أول نظرة

أسئلة كثيرة دارت في رأس فريد شوقي حول الزائرة البيضاء ذات الملابس السوداء، وهذه كانت الملاحظة الأولى والأساسية التي أراد أن يسأل عنها، خصوصاً أنها كانت ترتدي ملابس سوداء أيضاً عندما شاهدها في المسرح لأول مرة، وكان ذلك السؤال الأول الذي عرف الإجابة عنه في اللقاء معها في اليوم التالي، فقد أخبرته بأنها ملابس الحداد على وفاة والدتها التي كانت رحلت أخيراً.

عرف فريد في لحظات كل شيء عن سهير، الأصل والعائلة، والأهم أنها ربة منزل لا تعمل، سبق لها الزواج غير أنها انفصلت بسبب خلافات بين العائلتين. عرف منها أنها تحبه كفنان منذ فترة مراهقتها، تحتفظ في بيتها بأرشيف كامل له، من صور وحوارات ومعلومات وأخبار، حتى خلال الفترة التي تزوّجت فيها لم تمتنع عن ممارسة هذه الهواية وجمع كل ما يتعلّق به.

والآن جاء الدور على سهير لتسأل وفريد يجيب، وكان بديهياً أن يكون السؤال الأول حول أسباب طلاقه من الفنانة هدى سلطان، غير أنه لم يكن سؤالاً إجبارياً، لذا جاءت إجابة فريد:

* معلش أنا آسف… بلاش نتكلم في الموضوع ده… ممكن تسألي عن أي حاجة إنت عاوزاها… بس اعفيني من الكلام في الموضوع ده… إحنا دلوقت منفصلين ومش هقدر أتكلم عنها.

- طب معلش يعني… مفيش أي فرصة تراجع فيها نفسك وتيجي على نفسك شوية بحيث ترجعوا لبعض يعني.

* إنت مصرة إنك تجريني للكلام في الموضوع ده؟

- مش قصدي والله بس أنا بحب مدام هدى سلطان جدا ومعجبة بيها… وجوازكم وشغلكم مع بعض كنا بنضرب بيه المثل كلنا.

* صدقيني مينفعش اتكلم دلوقتي لأني ممكن اظلمها وأطلع نفسي بريء، وهي مش موجودة علشان تدافع عن نفسها… بس أنا بوعدك هييجي يوم وأقولك على كل حاجة… بقولك إيه سيبك من الكلام ده… انت مش جعانة؟

- جدا.

* طب إيه رأيك نبعت نجيب ساندويتشات فول وطعمية وحشوني أوي.

- وأنا كمان بحبهم أوي.

* يا حسن… آه كان فيه حاجة كنت ناسيها عاوز أقولهالك…

- اتفضل.

* كنت ناسي إيه يا فريد؟ ناسي إيه يا واد يا فريد؟ آه افتكرت… تتجوزيني يا سهير؟!

لم تجب سهير بالرفض أو القبول، بل طلبت فرصة للتفكير في الأمر ومشاورة والدها وأشقائها، غير أنه لمح ابتسامة على شفتيها ولمعة في عينيها، كانتا عنواناً عريضاً للقبول وإن لم تنطقه بلسانها.

أخبر فريد والدته بأمر سهير ورغبته في الزواج منها، وقصّ عليها كل تفاصيل حياتها، والنقطة الأهم أنها لا تعمل في الوسط الفني، فرحبت الأم بقراره، خصوصاً بعد التغيّر الذي طرأ عليه فجأة بسبب هذه الزائرة.

الترحيب نفسه جاء من ابنتيه من هدى سلطان، ناهد ومها، لا سيما بعد زواج والدتهما من المخرج حسن عبد السلام.

لم يضع فريد وقتاً، اتصل بسهير لتحدّد له موعداً مع والدها وأفراد عائلتها، فالتقى بهم وكان أمامهم كتاباً مفتوحاً، ولم يغادر بيتهم قبل أن يتّفق على التفاصيل كافة وموعد الزفاف.

أمضى العروسان شهر العسل في فندق «عمر الخيام»، وما إن انتهى حتى استأجر فريد شقة مفروشة على النيل لحين الانتهاء من تأسيس بيت الزوجية.

عودة الثقة

عاد فريد إلى حياته، استردّ ثقته في نفسه، عاد «وحش الشاشة» إلى جمهوره، بعد أن رجع إلى عمله الذي يعشقه، فانهالت عليه عقود الأفلام من المنتجين والموزعين، فقدّم «طريق الانتقام» أمام سهير المرشدي، إخراج أمين الحكيم، و{وكر الأشرار» أمام هند رستم، رشدي أباظة، ومحمود المليجي، إخراج حسن الصيفي. ثم كتب قصة فيلم جديد بعنوان «كلمة شرف»، أخرجه حسام الدين مصطفى، وشارك في بطولته كلّ من هند رستم وأحمد مظهر ورشدي أباظة، إلى جانب نيللي ونور الشريف، وقد تخلّى فريد فيه عن دور «الشجيع» ليعالج إحدى أهم القضايا الاجتماعية والإنسانية، وهي إمكان خروج السجين لرؤية مريض له، وما أن عُرض الفيلم حتى تغيّرت قوانين مصلحة السجون بالفعل، وسُمح للمساجين ممن لهم ظروف اجتماعية خاصة بزيارة ذويهم.

حرص فريد على العمل مع الأجيال الجديدة- من مؤلفين ومخرجين وممثلين- التي ظهرت في نهاية حقبة الستينيات وأصبح لها وجود على خارطة السينما المصرية، وعلى تقديمها للجمهور إلى جواره وفي أفلامه باعتباره الإسم الأول في عالم السينما آنذاك، ومن الأفلام التي قدّمها مع هؤلاء: «الخطافين» مع المخرج حسام الدين مصطفى، شاركته بطولته نبيلة عبيد، يوسف فخر الدين، توفيق الدقن، وكنعان وصفى، «لحظات خوف» مع ميرفت أمين وإخراج حسن رضا، «رجال لا يخافون الموت» مع سهير رمزي، توفيق الدقن، ومجدي وهبه، إخراج نادر جلال ، «أبو ربيع» مع نجلاء فتحي، يوسف فخر الدين، توفيق الدقن، وليلى جمال، إخراج نادر جلال.

كأن الأقدار بدأت تعوِّض فريد عن كل ما فات، فشعر بطعم السعادة الحقيقي، أحسّ بدفء الأسرة، إذ كان يعود من عمله فيجد زوجة محبة في انتظاره تزيل عنه هموم يوم طويل شاق، تحتويه، تمنحه الدفء والحنان والحب، بل إنها تحرص يومياً على إرسال طعام الغداء له في الاستوديو، وهذا ما لم يعتده سابقاً.
لم يكن هذا الاهتمام قاصراً على فريد وحده، بل امتد الى كل أفراد أسرته، والدته التي أصبحت مريضة وملازمة للفراش وتعيش على ذكريات زوجها، عمته التي تلازمها، وكذلك بناته، منى وناهد ومها، وتحديداً مها التي لم تكن تخطّت عامها الخامس عشر آنذاك.

العودة إلى تركيا

عادت شركات الإنتاج والتوزيع التركية تطلب فريد شوقي فقرّر العودة الى تركيا لاستكمال سلسلة الأفلام التي قدّمها هناك، غير أنه هذه المرة لن يسافر بمفرده، بل مع زوجته سهير ترك.

كان استقبال اسطنبول لفريد شوقي هذه المرة مختلفاً، فقد رحب به النجوم الأتراك، وكل المجتمع التركي، سُعدوا به وبمشاركتهم له أفلامه، فقدّم «مـغـامرة فى اسطنبول» مع النجمة التركية فريدة وإخراج التركي ساز، و»رجـل لا يعرف الخوف» الذي كتبه عبد الحي أديب، وشارك فريد بطولته النجمان التركيان آمال ياسين وعماد عز الدين، وأخرجه ماتين أركسان.

أصبح بيت فريد في اسطنبول محجاً لكل النجوم الأتراك والعاملين في السينما التركية، خصوصاً بعدما تذوّقوا أنواع الأطعمة المصرية من يد زوجته البارعة سهير ترك، التي كانت تحرص على إرضاء فريد بأي شكل وبأي ثمن، حتى لو كان على حساب صحتها، فلم تكن لديهما خادمة، بل كانت تقوم هي بكل الواجبات المنزلية والولائم، على رغم اقتراب موعد وضع حملها الأول.

أبو البنات

شعر فريد بأنه أرضى غروره كفنان وقدّم ما يريده الى السينما التركية، وأنه ربح التحدي الذي أعلنه منذ الليلة الأولى التي وصل فيها إلى تركيا ولمح نظرة الاستخفاف والسخرية من النجوم الأتراك لما يمكن أن يفعله هذا الممثل المصري، وها هو الآن النجم الأول في تركيا، واسمه يسبق أسماء كبار النجوم والنجمات… عندها فحسب قرّر إنهاء هذه المرحلة وإغلاق هذا الملف والعودة إلى القاهرة، خصوصاً أنه يرغب في أن تضع زوجته مولودهما الأول على الأراضي المصرية.

عاد فريد شوقي وزوجته سهير ترك إلى القاهرة ليستقبلا مولودهما الأول الذي جاء أنثى للمرة الرابعة في حياة فريد، غير أنه لم يبال، فلم يعد ينتظر «الولد» كما كان في بداية حياته، بل فرح بها وأطلق عليها اسم عبير، ولم يمر شهر حتى أصبح فريد شوقي جداً للمرة الأولى، فقد رُزقت ابنته منى من زوجته الأولى زينب بمولودتها الأولى، غير أن سعادته تضاعفت بعد أشهر عدة، عندما وضعت ناهد، ابنته من هدى سلطان، أول حفيد ذكر في الأسرة، وأطلقت عليه اسم فريد.

أوّل شيء لاحظه فريد منذ عاد من تركيا أن الأحوال في مصر تبدّلت، خصوصاً بعد نصر أكتوبر 1973 وانتهاء الحرب وعودة الحياة إلى شكلها الطبيعي، وأن الأطفال في الشوارع لم يعودوا يلعبون لعبتهم التقليدية «عسكر وحرامية» ويقسّمون أنفسهم إلى فريقين، فريق من العسكر يطارد فريق «عصابة الحرامية»، بل وجد أن رياضة جديدة غزت مصر عن طريق السينما الآسيوية وانتشرت في الشوارع والنوادي، اسمها «الكاراتيه».

أعاد فريد ترتيب أوراقه وحساباته، فلم يعد يجدي مع هذا الجيل الذي يلعب «كاراتيه» في الشوارع أن يقدّم له نفسه باعتباره «وحش الشاشة» وأفلام الفتوة والعصابات التقليدية، إذ لا بد من مسايرة التغيير وتقديم سينما يقبل عليها الشباب، فقرّر تقديم أول فيلم كاراتيه مصري، غير أنه في هذه السن ـ 52 عاماً ـ لن يقنع الجمهور إذا مارس أمامه رياضة الكاراتيه، فاستعان بالفنان أحمد رمزي ليشاركه بطولة فيلم «الأبطال» الذي كتبه محمد أبو يوسف، وأخرجه حسام الدين مصطفى، وشاركتهما البطولة الفنانة منى جبر.

بعدها قرّر فريد أن يودّع أفلام الحركة والكوميديا، خصوصاً مع ظهور أجيال جديدة من الكوميديان، وتحديداً هؤلاء الذين علا نجمهم ولمعت أسماؤهم في المسرحية الكوميدية «مدرسة المشاغبين»: عادل إمام، سعيد صالح، يونس شلبي، ومعهم فتى أسمر ضئيل الحجم اسمه أحمد زكي. وقد تكرّر نجاح هؤلاء في مسرحية أخرى بعنوان «أولادنا في لندن» ثم «العيال كبرت»، بالإضافة إلى فرقة ثلاثي أضواء المسرح: سمير غانم وجورج سيدهم والضيف أحمد، فضلاً عن وجود فؤاد المهندس ومحمد عوض وغيرهما، بمعنى أنه أصبح هناك مضحكون جدد، وكوميديا جديدة مختلفة يضحك لها جيل مختلف، فكان لا بد من التفكير في اتجاه جديد يسلكه النجم الكبير، ويغيّر من جلده مرة رابعة ليستمر في القمة.

استقبل فريد شوقي ابنته الخامسة رانيا ليصبح رسمياً صاحب لقب «أبو البنات»، وتصبح رانيا «آخر العنقود» ودلوعة الأسرة كلّها، خصوصاً أن شقيقاتها لديهن أبناء أكبر منها، فوضعها فريد في مكانة خاصة لديه لإحساسه  مع تقدّمه في السن، أنه قد يرحل ويتركها وهي لا تزال طفلة، ومنحها مزيداً من الحب والحنان والدلال.

إشادة من السادات

لم يكن هذا الإحساس خاصاً بفريد كأب، بل انتقل معه إلى السينما كفنان، فقدّم نوعية مختلفة من السينما الاجتماعية، إذ لم يعد الشاب ولا العاشق الماجن ولا الشرير رئيس العصابة، أو حتى الوحش الذي يمكنه أن يضرب عشرة رجال بيد واحدة من دون أن يكلّ. كان لا بد من أن يقدّم السينما التي تناسب تلك المرحلة بداية من العام 1975، فقدّم «كفاني يا قلب» مع شمس البارودي، حسن يوسف، ومحمود عبد العزيز، إخراج حسن يوسف، ثم الميلودراما الإنسانية «وبالوالدين إحسانا» مع سهير رمزي وسمير صبري ومحمد صبحي، إخراج حسن الإمام، وقد بكى الجمهور معه وصفّق له طويلاً عندما أدى في الفيلم دور الأب المطحون من أجل تربية ابنه الوحيد الذي يتنكّر له، ليتأكد فريد شوقي أنه اختار الطريق الصحيح، عندما نقل إليه وزير الثقافة يوسف السباعي رسالة جاء فيها:

* فيلم هايل يا فريد… كنت مخبي الحاجات الحلوة دي فين؟

- أشكرك يا معالي الوزير دي شهادة أعتز بيها.

* إنت فنان كبير وقدير وتستاهل كل خير… بس الحقيقة أنا مش بكلمك علشان أهنيك بس على الفيلم لكن أنا بحمل برسالة لازم أبلغهالك.

- رسالة… رسالة إيه ومن مين؟

* يا سيدي سيادة الرئيس السادات بيهنيك على «وبالوالدين إحسانا» وبيقولك برافو يافريد وعاوزين نشوف أفلام كتير من النوعية دي لأن البلد محتاجاها… محتاجين نرجع القيم والأخلاق اللي ضاعت في الزحمة… محتاجين نرجع أخلاق القرية المصرية والحارة المصرية… دي الرسالة ومنتظرين بقى الجديد.

* إن شاء الله يا فندم بتشجيعكم ودعمكم.

لم تكن السعادة التي استقبل بها فريد شوقي رسالة الرئيس السادات لمجرد التهنئة، أو لأن رئيس الجمهورية أعجب بفيلم لفنان كبير، ولكن لأنه تأكد أنه يسير في الطريق الصحيح، وأن الاختيار لهذه المرحلة موفّق إلى حدّ كبير، فواصل بلا تردّد تقديم هذه النوعية من الأعمال «الميلودرامية» التي تتحدّث بلغة إنسانية عالية وتخاطب مشاعر الإنسان وليس غرائزه، من بينها «ومضى قطار العمر» مع ناهد شريف، سمير صبري، ونورا، إخراج عاطف سالم، ثم «هكذا الأيام» مع نورا، صلاح السعدني، مصطفى فهمي، وعلي الشريف، إخراج عاطف سالم أيضاً.

سمع فريد الكثير من عبارات المديح التي تؤكد له أنه فنان كبير وعظيم، سواء من زملاء جيله، بل ومن أساتذته من الجيل السابق، بداية من جورج أبيض وزكي طليمات ويوسف وهبي ونجيب الريحاني وغيرهم. كذلك سمع كلمات الإطراء والمديح نفسها من رؤساء وزعماء، بداية من الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، مروراً بالكثير من رؤساء وملوك بعض الأقطار العربية، وصولاً إلى الرئيس السادات، بل ولم تكن تلك الكلمات تنتهي إذا ما مشى في شارع من شوارع القاهرة أو الإسكندرية أو أي مدينة مصرية، وكذلك المدن العربية من الجمهور الذي يلتقيه، بل إن شعبيته تخطت الحدود العربية، وأصبح له جمهور في تركيا وبعض العواصم الأوروبية، غير أن ذلك كلّه لم يكن بقدر السعادة التي أحسّ بها عندما التقاه الكاتب يوسف السباعي وزير الثقافة، ليبلغه ـ باعتباره رئيس شرف جمعية نقاد السينما المصريين ـ بأن نقاد مصر اختاروه هذا العام كأحسن ممثل عن دوره في فيلم «هكذا الأيام».

أحسن ممثل

أخيراً تذكّر النقاد فريد شوقي واختاروه كأحسن ممثل في مصر، اختاروه بالإجماع ومن دون اختلاف في ما بينهم ـ كعادتهم مع كل جائزة، ليكون هو ممثل مصر الأول، وهذا هو الأهم.

وقف كل فناني مصر ونجومها في القاعة يصفّقون لاستقبال «عريس الليلة» فريد شوقي في عرسه الذي أقامته له جمعية نقاد السينما المصرية، وفي المقدّمة نقاد مصر أعضاء الجمعية، وعلى المنصة رئيس شرف الجمعية ووزير الثقافة يوسف السباعي، ليسلّمه شهادة التقدير ودرع الجمعية، فيما كانت تتسابق عدسات المصورين لالتقاط الصور.

اغرورقت عينا فريد بالدموع وهو يبتسم فرحاً، فقد نال دروعاً وأوسمة أكبر وأغلى ثمناً، بل إنه نال وسام الفنون، أعلى وسام يمكن أن يحصل عليه فنان مصري، غير أن درع جمعية النقاد بالنسبة إليه هو الأهم والأعلى قيمة، لأنه شهادة من متخصصين في هذا الفن تقول إن هذا الفنان هو الأفضل في هذه الدولة.

وقف فريد على المنصة… وهو الذي وقف سابقاً أمام كاميرات السينما وفوق خشبات المسارح يصول ويجول، إلا أن الكلمات اليوم وقفت في حلقه غير أنه تغلّب على رهبته وابتلع ريقه وقال:

* ربما يكون سهلاً أن تصبح بين يوم وليلة النجم الأول في بلدك، من السهل أن تنال أوسمة ونياشين من ملوك ورؤساء… تتقرّب منهم ويرضون عنك، أو يعجبون بك، لكن من الصعب جداً أن يختارك كل نقاد بلدك لتكون الممثل الأول.

البقية في الحلقة المقبلة

الجريدة الكويتية في

12/08/2011

 

الملك الأسطورة (14):

فريد شوقي… جوائز وتتويج بعد الستّين

كتب: القاهرة - ماهر زهدي 

لم يكن تكريم جمعية نقاد وكتاب السينما لفريد شوقي، مجرد تكريم من النقاد المصريين لفنان أجاد في دور، أو حتى لتاريخ فنان قدّم لفنه ولبلده الكثير من الأعمال الجادة والهادفة، فنان له رسالة وهدف لا ممثل فحسب، بل كان تكريماً لكل أساتذته في شخصه، لكل جيله وزملائه، ولكل من ساهم في صنع اسم فريد شوقي وتاريخه.

سيطر هذا الإحساس على فريد شوقي في تلك اللحظات الفارقة في حياته، لحظات شعر فيها بحجم المسؤولية التي أُلقيت على عاتقه، وبأن الرحلة بدأت، وليس على عكس ما توقّع البعض بأنه تكريم نهاية الرحلة، بحكم العادة المتبعة مع كل الأجيال السابقة له، بل ومع كثيرين من زملاء جيله.

يبدأ الفنان الموهوب في أدوار صامتة، تسوقه الأقدار الى أدوار ثانوية عملاً بعد عمل، يقدّم أدواراً مهمة، ثم يعتلي القمة ويقدّم أدوار البطولة المطلقة ويصبح نجماً خلال حقبتي الثلاثينيات والأربعينيات من عمره، وما إن يقف على عتبة الخمسينيات، حتى يبدأ المنحنى في الهبوط، وينتهي من حيث بدأ، يترك البطولات للشباب، يقدّم أدواراً مهمة نوعا ما، ثم أدواراً ثانية، تصل في أحيان كثيرة إلى أدوار ثانوية، وقد تصل الى أدوار هامشية، كأن يظهر في أدوار الأب أو العم أو الحما، إلى أن تنتهي به الحال «ضيف شرف» يُكرَّم بجملة مجاملة على تيتر الفيلم: «مشاركة مشرفة للفنان القدير»…

الاعتزال مرفوض

غير أن تفكير فريد شوقي كان مختلفاً، فلم يعط فرصة للآخرين لأن يفعلوا معه ذلك، ولم يدع أحداً يفكّر عنه، بل كان يفكّر لنفسه ولفنه ولتاريخه، وبشكل يختلف عن الآخرين، وهذا ما جعله يرد بإجابة مختلفة عن سؤال الكاتب يوسف السباعي، عندما لاحظ الدموع تلمع في عينيه:

* أجمل شيء في الدنيا أن الفنان يختم تاريخه بتكريم كبير من نقاد بلده.

- طبعا التكريم شيء عظيم جدا وخصوصا لما يكون من كتاب ونقاد مصر اللي بيتقدمهم الأديب الكبير يوسف السباعي… لكن مين جاب سيرة «الختام»؟!

* لا والله مش قصدي يا فريد أنا آسف… ربنا يدَّيلك الصحة والعمر وتفضل تمتعنا ميت سنه لقدام… بس الواحد بيتكلم بحكم العادة واللي بيحصل… إن الفنان أول ما يكبر ويبقى عنده شوية شعر أبيض ويبطل يعمل أدوار البطل أو الحبيب… يبدأ المخرجون يجيبوه في أدوار الأب وبعدها ممكن يفكر في الاعتزال.

- أنا معاك إن ده بيحصل لكن مينفعش الفنان يسيب حد يفكر له… لازم هو اللي يفكر لنفسه… لازم يعرف امتى يقدم ده وامتى ميقدموش… امتى يعتزل ويبعد… وامتى يكمل بفكر جديد ومنهج جديد… وبعدين حكاية الاعتزال دي مش الفنان اللي بيحددها ولا المخرجين ولا المنتجين… ولا حتى ـ مع احترامي ـ النقاد أو السادة المسؤولين… اللي بيحدد اعتزال الفنان هو جمهوره… ولما الجمهور يبطل يصقف لفريد شوقي سواء على خشبة المسرح أو في السينما وقتها هعتزل وأقعد في البيت.

كان تكريم فريد عن «هكذا الأيام» بداية تجلّي العبقرية الفنية بداخله، عندما قرّر أن يهجر «طواعية» مرحلة شخصية الشاب القوي صاحب الحق الذي ينتصر بقوة عضلاته وقوة الحق في الوقت نفسه، ليصبح بطلاً شعبياً وملكاً لجماهير الدرجة الثالثة «الترسو»، ويدخل مرحلة الأدوار الإنسانية الأكثر نضجاً والأقرب إلى الميلودراما ويتّجه إلى أنماط معينة، ومعايشة حقيقية، ودراسة عميقة للشخصية وانفعالاتها. وقد حقّق هذا النضج الفني من خلال الدقة في اختيار الموضوعات الإنسانية، وعبقرية الأداء المناسب لهذه المرحلة، ليحقّق المعادلة الصعبة، وينطبق عليه القول: «يعيش بسبعة أرواح»، فقد تلبّسته أكثر من روح، في أكثر من مرحلة، بدءاً من «روح الكومبارس» صامتاً ومتكلماً، ثم روح إثبات الذات والبحث عن موضع لقدميه، بعدها جاءت روح «شرير الشاشة»، ثم روح البطل الشعبي وملك الترسو، لتتلبّسه بعدها روح الكوميديا، وصولاً إلى الروح السادسة التي جسّد فيها الأدوار الإنسانية، ومن يدري، فربما تلبّسته لاحقاً الروح السابعة التي ربما لم تخطر لأحد، غير أنها ربما كانت في تخطيطه ولم تظهر، غير أنه الآن توقّف عند هذه المرحلة الفنية التي مثّلت نقطة تحوّل كبير في الأداء الدرامي لشخصيّته المتطوّرة الناضجة.

آنذاك، فاجأ فريد شوقي جمهوره بمجموعة من الأدوار المهمة التي صفّق له فيها، تصفيقاً لم يقلّ بحال من الأحوال عن تصفيقهم للبطل الشعبي الذي يضرب كل أفراد العصابة، وبداية من العام 1978 شارك في عدد كبير من الأفلام صنع من خلالها نجومية جديدة وكتب بها عقداً جديداً مع جمهوره، فقدّم مع المخرج الشاب سمير سيف فيلم «إبليس في المدينة» وشاركه البطولة نجما تلك الفترة ميرفت أمين ومحمود ياسين، ومعهما الفنان عادل أدهم، غير أن فريد شوقي كالعادة كان في المقدّمة. ثم قدّم شخصية «الدمنهوري»، الرجل الريفي البخيل الذي يرفض الحب والزواج مقابل جمع المال في فيلم «الندم» الذي أخرجه نادر جلال، بعده قدّم مع حسن الإمام «القضية المشهورة» وشاركه البطولة صديق الرحلة كمال الشناوي، ومعهما الفنانة الشابة عفاف شعيب، ثم «أيام العمر معدودة» مع ناهد شريف وشريكه اللدود محمود المليجي، إخراج تيسير عبود، و{أريد حبا و حنانا» مع ميرفت أمين وعادل أدهم، إخراج نجدي حافظ. كذلك قدّم في العام نفسه مع المخرج عاطف سالم «البؤساء» رائعة الكاتب العالمي فيكتور هوغو، مع الوجه الجديد ليلى علوي، وبمشاركة أستاذه يوسف وهبي، في دور من تلك الأدوار التي رفض فريد شوقي أن يصل إليها.

بكاء على حبيبة العمر

في العام نفسه (1978)، توقّف الجمهور والنقاد طويلاً أمام فريد شوقي، وقد احتاروا مع هذا الفنان الأعجوبة، في دورين من أهم الأدوار في تاريخه ومشواره الفني، من ناحية الأداء والصدق الفني، عندما بكى معه الجمهور في فيلم «لا تبكِ يا حبيب العمر»، فقد كان صادقاً في بكائه، خصوصاً أنه لم يكن قد أفاق بعد من صدمة رحيل «حبيبة العمر» وست الحبايب والدته، التي رحلت بعد معاناة مع المرض.

استحضر فريد حزنه على والدته، وقدّم أحد أهم أدواره أمام الفنان الشاب نور الشريف، ومن إخراج أحمد يحيى، الذي بدأ ممثلاً في العام 1959، مع عبد الحليم حافظ ومريم فخر الدين في فيلم «حكاية حب»، لكن لم يستهوه التمثيل فدرس الإخراج، وقد نجح يحيى بما له من فكر شاب جديد في أن يُخرج من فريد شوفي مشاعر إنسانية غاية في الرقة والدفء، جعلت الجمهور يصفّق ويبكي ويحيي هذا الفنان العملاق على هذا السيل الجارف من تلك المشاعر النبيلة.

التجربة الثانية كانت مع مجنون السينما وعاشقها يوسف شاهين عندما رشّح فريد للمشاركة بدور صغير لا يتناسب مع تاريخ هذا الفنان واسمه في فيلم «إسكندرية ليه»، أمام مجموعة من الشباب والوجوه الجديدة، من بينهم: محسن محيي الدين، أحمد زكي، نجلاء فتحي، ومعهم الكبار: يوسف وهبي، محمود المليجي وفريد شوقي الذي أثبت لشاهين أن دور الفنان ليس بالحجم والمساحة على شريط السينما، بل بأداء الفنان وما يتركه من تأثير في العمل الفني، فقد بدأ في هذه المرحلة رحلة البحث عن الأدوار المؤثرة، من دون النظر إلى مساحة الدور وهذا ما فعله سابقاً في فيلمَي «الكرنك» و»أفواه وأرانب».

تأكد فريد شوقي من صحة اختياره «إسكندرية ليه»، عندما تلقى التهاني من النقاد والجمهور، والأهم الإشادة والتهنئة من نقاد وجمهور مهرجان برلين السينمائي الدولي، حيث عرض الفيلم في دورة مهرجان ذلك العام وفاز بجائزة «الدب الفضي».

اتجاه إلى التلفزيون

بعد النجاح الهائل الذي حقّقه فيلم «المذنبون» عام 1976، ترقّب الجميع العمل الذي سيقدّمه المخرج الشاب سعيد مرزوق، فماذا سيقدّم بعد هذه الجرأة وهذه الضجة وهذا النجاح الجماهيري؟ كان عليه أن يبحث عن موضوع سينمائي جديد أكثر جرأة وأكبر نجاحاً. لم يجد المخرج الشاب ذلك السيناريو الذي يدفعه الى دخول الاستوديو، فتوقّف فترة إلى أن عرض عليه سيناريو مسلسل بعنوان «أشعة الشمس السوداء» المأخوذ عن المسرحية العالمية «مهاجر بريسبان» للكاتب العالمي اللبناني الأصل جورج شحادة. أُعجب مرزوق بالسيناريو ووجده جديداً، فتحمّس لإخراجه، ووقع اختياره على مجموعة كبيرة من النجوم الكبار لبطولة المسلسل، منهم: نادية لطفي، سميحة أيوب، يوسف وهبي، يوسف شعبان، ثم اختار لمشاركتهم بطولة المسلسل الفنان فريد شوقي الذي كان قدّم مسلسل «العاصفة» قبل عامين، وشاركه بطولته الفنان محمود المليجي، فأحدث المسلسل دوياً كبيراً بين مشاهدي التلفزيون، ما جعل فريد يخشى على هذا النجاح ويفكر ألف مرة قبل الموافقة على أي مسلسل آخر:

* أنا عارف انك مخرج هايل وهيبقالك مستقبل كبير يا سعيد… لكن التلفزيون مغامرة كبيرة مش حاجة سهلة.

- السيناريو هايل جدا يا أستاذ فريد… ولو أنا مش واثق من النتيجة مش هكلمك.

* أيوه بس التلفزيون سلاح ذو حدين… عارف يعني إيه تروح للناس في بيوتهم؟ يعني لازم تكون واثق من نتيجة الزيارة ميه في الميه يا إما يبقى بلاش منها… وأنا مش عاوز أخسر اللي حققته في التلفزيون.

استطاع سعيد مرزوق إقناع فريد شوقي بالاتجاه إلى التلفزيون. بدأ فريد تصوير المسلسل، وكان تم بالفعل تصوير بعض الحلقات ما بين لندن والفيوم والقاهرة، لكن فجأة نشب خلاف بين المنتج المنفّذ سمير خفاجه وبين جهة الإنتاج العربية، فتوقّف تصوير المسلسل.

في عام 1979 عاد فريد إلى تألّقه في فيلم «عاصفة من الدموع» الذي أخرجه عاطف سالم، وأبرز إمكاناته وأصبح أكثر عمقاً في تقمّص الشخصية، قبل أن يعود ويلتقي مجدداً المخرج الشاب أحمد يحيى ويقدّم دوره الرائع في فيلم «حب لا يرى الشمس» عام 1980. لكن يبدو أن لعبة التلفزيون استهوت فريد شوقي، وبذكاء الفنان الفاهم صاحب الخبرة، اكتشف أن ثمة موضوعات يمكن تقديمها من خلال التلفزيون، قد لا تصلح للسينما، سواء من ناحية الموضوع أو السن، فقرّر أن يتّجه الى التلفزيون مجدداً حيث قدّم مسلسل «في مهب الريح» تأليف الكاتب الصحفي موسى صبري وإخراج كمال أبو العلا. نجح المسلسل نجاحاً كبيراً، وأضاف فريد شوقي الى الجمهور نوعية جديدة هي هواة المسلسلات التلفزيونية من سيدات المنازل ممن لا يفضلن الذهاب إلى السينما، بل مشاهدة التلفزيون خصوصاً بعد أن تبدلت الأحوال والعادات والتقاليد، فقرّر فريد أن يكون ضيفاً سنوياً على مشاهدي التلفزيون، كلما أمكن ذلك، فكتب في العام التالي 1981 قصة مسلسل «عم حمزة»، وعهد إلى السيناريست رباب حسين كتابة السيناريو والحوار، وتولى الإخراج زوجها أحمد توفيق، وشارك فريد البطولة كل من سهير البابلي وهناء ثروت وزوجها الفنان محمد العربي.

عتبة الستين

وجد فريد شوقي نفسه فجأة يضع قدميه على عتبة الستين من عمره، وهي المرحلة التي يشعر فيها الإنسان بقرب نهاية الرحلة، بغض النظر عن الصحة والمرض، غير أن فريد لم يكن يخيفه إلا أمر واحد فقط، وهو أنه يريد أن يطمئن على ابنتيه عبير ورانيا من زوجته سهير ترك، فقد اطمأن على أخواتهما الثلاث الأكبر، منى من زوجته الأولى زينب، وابنتيه ناهد ومها من هدى سلطان، فقد رفضت منى العمل في السلك الدبلوماسي بعد دراسة الاقتصاد والعلوم السياسية في الجامعة الأميركية، كذلك تركت ناهد العمل بمهنة المحاماة بعد تخرّجها من كلية الحقوق، وقررتا أن تعملاً معا في شركة والدهما، فحملتا عنه كل الأعباء الإدارية والمكتبية التي كان يشرف عليها بنفسه، وتركتاه يتفرغ هو لأدواره وكتاباته، وتحديداً ناهد التي حملت العبء الأكبر، خصوصاً بعدما تطلّقت من زوجها بسبب كثرة انشغالها بالإنتاج ومتابعة أعمال والدها خلال تنفيذها باعتبارها مديراً للإنتاج، فتفرّغت للشركة التي أخذت كل وقتها.

أما مها ابنة فريد الصغرى من هدى سلطان، فقد تزوّجت بعد انتهاء دراسة التجارة، ولم يبق سوى الصغيرتين عبير ورانيا، غير أن الأخيرة كانت تأخذ النصيب الأكبر من عقله وقلبه، لإحساسه أنها «آخر العنقود» والتي ربما قد يرحل قبل أن يطمئن عليها مثل بقية شقيقاتها وقبل أن تشبع من حبه وحنانه، لذا كان يحاول بكل طاقته إسعادها وعدم رفض أي مطلب لها مهما كان، فهي نقطة ضعفه الأولى، ولا يعرف طعماً للراحة إذا أحسّ بأنها غير مرتاحة، فهي المدللة بدرجة امتياز عند والدها. كل ما تطلبه رانيا يصل فوراً إلى الفيلا:

* تصدق محدش هيبوظ البنت دي إلا انت… مفيش حاجة تطلبها إلا لما تلاقيها… ده مش دلع دا جنان… الود ودي اسميك «مجنون رانيا».

- الله… يا بنت الايه يا سهير… حلو قوي الاسم ده… مجنون رانيا… لايق قوي عامل زي مجنون ليلى.

* ده اللي بناخده منك ضحك وتريقه… انت حر… لما متعرفش تكلمها بعد كده متشتكيش.

- تعرفي… مش منى وناهد بيشتغلوا معايا وماسكين المكتب ولا أجدع رجاله… بس مش عارف ليه أن البنت رانيا دي هي اللي هتخلد اسم فريد شوقي… صحيح أنا معنديش ولد يشيل اسمي… بس حاسس أن رانيا هتخليه موجود من بعدي.

- ربنا يخليك لينا ويطول في عمرك… اسمك دايما هيفضل على طول مرفوع على القمة بأعمالك وتاريخك اللي يشرف أي حد… يا ملك.

- عارفه يا سهير أنا نفسي في إيه دلوقت وبتمنى من ربنا يحققهولي؟

- ربنا يحققلك كل اللي بتتمناه.؟. نفسك في إيه؟

- نفسي في دقية بامية باللحمة الضاني..

انفجر الزوجان في الضحك:

- حالا… أمرك مطاع يا مولاي الملك.

- بس بشرط… نلم كل الحبايب والعيلة والبنات وولادهم ونعزمهم… انت عارفه اني محبش أكل لوحدي… وأنا عندي مبدأ أن بيت فريد شوقي هو بيت الشعب… صحيح أنا مخدتش لقب «فنان الشعب» زي يوسف بيه وهبي… لكن الشعب أداني أكتر ولازم بيتي يبقى بيت الشعب… يفضل مفتوح لكل الناس اللي حبو فريد شوقي.

- إن شاء الله هيفضل مفتوح بحسك.

تخطّى فريد شوقي الستين من عمره، غير أنه ظلّ محتفظاً بمكانته في السينما المصرية حتى مع ظهور أجيال جديدة سحبت بساط النجومية من تحت أقدام نجوم العصر، وهذا ما دفع النقاد والجماهير إلى منحه لقب «الملك» لنجاحه في مواصلة العطاء بالمستوى نفسه، ومن دون أن تتراجع مكانته التي حقّقها في الماضي، لدرجة أنه كان يقدّم في العام الواحد ما لا يقل عن أربعة أفلام يكون فيها البطل الأول أو الثاني على أقصى تقدير.

نجم الجوائز

شعر فريد شوقي بحنين جارف الى أدوار «الفتوة» والضرب، تلك النوعية التي ودّعها منذ سنوات طويلة، مع تقدّمه في السن وزيادة وزنه بشكل ملحوظ بسبب أطعمة سهير ترك الشهية التي أدمنها، فقرر العودة إلى هذه النوعية من الأدوار، غير أنه استعاض عن العضلات بالعقل، بمعنى أنه بدلاً من الدخول في معركة لن يصدًقه فيها الجمهور عندما يخرج فائزاً منتصراً، قرّر أن يكون هو «الرأس الكبير» والعقل المفكّر والمدبر، «الفتوة» الذي يصبح «معلماً كبيراً» وله «صبيان» ورجال يقومون عنه بتلك المعارك، فقدّم مع المخرج يحيى العلمي «فتوات بولاق» مع نور الشريف، الذي قدّم معه أيضاً «الشيطان يعظ» للمخرج أشرف فهمي، وشاركهما البطولة عادل أدهم، الذي تسلّم دفة أدوار الشر من الأستاذ محمود المليجي، الذي قرّر أخيراً التخلّي عنها والاتجاه أيضا إلى الأدوار الإنسانية. كذلك قدّم فريد مع المخرج أشرف فهمي «الخبز المر» بمشاركة محمود عبد العزيز والوجه الجديد شريهان، شقيقة عازف «الغيتار» الفنان عمر خورشيد.

بعدها قدّم مع المخرج نادر جلال «فتوة الجبل» بمشاركة بوسي وفاروق الفيشاوي، اللذين قدّم معهما أيضاً «وحوش الميناء»، ليكون الجزء الثاني من فيلم «رصيف نمرة 5» بأسماء الأبطال نفسه، فجسّد فيه فاروق الفيشاوي دور ابنه، وبوسي دور ابنة المعلّم الذي جسّد شخصيته الفنان زكي رستم، وعادت لتنتقم لوالدها من قاتله «خميس».

كأن فريد شوقي يعيد الرحلة من جديد، وبالترتيب نفسه، فكما أنه حنّ الى أدوار «الفتوة»، قاده الحنين أيضاً الى أدوار الكوميديا، غير أنه لا بد من كوميديا من نوع آخر، تتناسب مع مرحلة الثمانينيات ومرحلة الانفتاح الاقتصادي التي أفرزت شخصيات من نوعية خاصة طفت على وجه المجتمع، فقدّم دور الزوج النصاب الذي يخدع النساء الأرامل في فيلم «الليلة الموعودة» مع أحمد زكي وكريمة مختار، وإخراج يحيي العلمي. وفي محاولة منه لتقديم هدية فنية لبناته ليثبت لهن مدى اعتزازه وفخره بهن وما يقمن به من مساندة حقيقية له، قدّم مع المخرج عمر عبد العزيز فيلم «يا رب ولد»، ونجح بشكل كبير في تجسيد دوره في الحياة، الأب الذي ينجب البنات ويحلم بالولد ليكون سنده وظهره في الكبر، غير أنه يفاجأ بموقف بناته الرجولي في محنة مرضه، ما يجعله يعترف بفضلهنّ.

وبالترتيب نفسه الذي استرجع به التاريخ، عاد فريد شوقي الى الأدوار الاجتماعية والإنسانية فقدّم مع المخرج علي رضا فيلم «قضية عم أحمد»، تأليف بهجت قمر، ومن إخراج أحمد يحيى قدّم «الموظفون في الأرض»، ثم فيلم «خرج ولم يعد» مع المخرج محمد خان، تأليف عاصم توفيق، وشاركه البطولة الفنان يحيى الفخراني وليلى علوي. دخل «خرج ولم يعد» ضمن مسابقة مهرجان المركز الكاثوليكي، ليفوز بجائزته الأولى ويضمّ فريد شوقي جائزة جديدة الى جوائزه الكثيرة، فها هو في العام الثالث بعد الستين من عمره يفوز بجائزة أفضل ممثل، متخطياً كل نجوم جيله والجيل الذي يليه، بعد أن فاز قبلها بثلاث سنوات أيضاً ـ وهو في الستين من عمره ـ ومن المهرجان نفسه، بالجائزة الأولى في التمثيل عن دوره الرائع في فيلم «السقا مات»، للمخرج صلاح أبو سيف.

البقية في الحلقة المقبلة

الجريدة الكويتية في

13/08/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)