حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

"برناردو برتولوتشي":

البحث الشاقّ عن جوهر السينما

أمير العمري

يعتبر المخرج السينمائي الإيطالي "برناردو برتولوتشي" أحد أعلام السينما العالمية، ليس فقط كونه قدّم أعمالا "إيطالية" جديرة بالتوقف طويلا أمامها واستنباط الدلالات العديدة الكامنة في طياتها، بل ولأنه أيضا أخرج أفلاما غير إيطالية موّجهة للجمهور العريض في العالم (مثل "الإمبراطور الأخير")، كما أنه صوّر عددا من أفلامه خارج نطاق بلاده بل وخارج النطاق الأوروبي رغم أنه يمكن القول إن "برتولوتشي" يعدّ دون شك، أحد أكثر السينمائيين انتماء للثقافة الأوروبية، وتعبيرا عن الفكر السياسي الأوروبي.

من أهم وأفضل ما صدر من كتب عن "برتولوتشي" وأفلامه كتاب الباحث البريطاني/ روبرت فيليب كولكر الموسوم بـ "برناردو برتولوتشي"، وهو ليس كتابا في السيرة الشخصية للفنان كما قد يبدو من عنوانه أي ليس من كتب ما يعرف في الغرب بالـ"بيوغرافي"، بل هو كتاب في النقد السينمائي بمعناه الشامل والعميق، ففيه يُبحر المؤلف ويتعمّق في فهم أفلام برتولوتشي والبحث في علاقة الفنان بالعالم، وبثقافته الخاصّة وتكوينه الفكري وموقفه السياسي، وكيف تطورت رؤيته.

في الجماليّات

ولا يكتفي المؤلف هنا بتناول أفلام "برتولوتشي" والبحث في مغزاها وفحواها،  كما هي مرتبة ترتيبا زمنيا، بل هو أساسا، كتاب في جماليات سينما "برتولوتشي"، بالمعنى الشمولي لكلمة "جماليات"، فهو يسعى الى دراسة تطور الأسلوب السينمائي عند "برتولوتشي"، ومناقشة أفكاره ومضمون أعماله في علاقتها بالتاريخ والسياسة والمجتمع والجنس والعائلة والميلودراما والتحليل النفسي، كما يسعى لفهم المؤثرات المختلفة التي أسهمت في تكوين الرؤية الفنيّة عند "برتولوتشي" مثل: فنّ الأوبرا، والفن التشكيلي.

يعتبر "برتولوتشي" نموذجا للفنان السينمائي الذي يسيطر على أفلامه بشكل كامل، من بدايتها إلى حين الانتهاء منها وعرضها، أي من مرحلة الفكرة والسيناريو إلى الاخراج والمونتاج وتركيب الصوت والموسيقى؛ ويرجع الفيلم هنا بالتالي إلى صاحبه أيّ إلى مبدعه الفردي أيّ إلى "برتولوتشي"، ويعرّ عن رؤيته وهو ما يطلق عليه في أدبيات النقد السينمائي في العالم "المخرج- المؤلف" ولكن ليس المقصود بـ"المؤلف" هنا أنه يجب أن يكون المخرج هو نفسه مؤلف الفيلم أي كاتبه بالضرورة، بل صاحب الرؤية الفكرية والسينمائية فيه حتى لو كتب له السيناريو كاتب آخر.

سينما المؤلف

كانت نظرية "سينما المؤلف" قد ظهرت مع مولد حركة الموجة الجديدة في السينما الفرنسية في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن العشرين، مع ظهور جيل جديد من السينمائيين (جودار، رينيه، تريفو، ريفيت، فاردا..)، معظمهم من نقاد السينما الذين تحولوا إلى الإخراج، مسلحين بأدوات نظرية عميقة في فهم السينما الأمريكية بوجه خاص، وكانوا هم الذين أطلقوا هذا الوصف (المخرج- المؤلف) على مخرجين من أمثال "هيتشكوك"، و"كازان"، و"نيكولاس راي".. وغيرهم، دلالة على وجود "بصمة" خاصة تطبع كل أعمال هؤلاء وتميّزها عن غيرها، بل وتعبّر عن رؤيتهم للعالم من فيلم إلى آخر.

نظرية "سينما المؤلف" لعبت دورا كبيرا في تفسير الكثير من الأعمال السينمائية البارزة التي لم يكن الكثيرون يلتفتون أصلا إلى أهميتها أو يتناولونها بجديّة كافية، ومنها مثلا أفلام "هيتشكوك" التي كانت تعتبر أعمالا مثيرة فقط ولا تحتوي في داخلها على رؤية خاصة، فلسفية أو إنسانية مميزة لنظرة صاحبها ومبدعها.

أما "فيليب كولكر" فيرى في كتابه عن "برتولوتشي" أن هذه النظرية فقدت اليوم بريقها وأهميتها بل وأن الزمن قد تجاوزها بعد أن أصبحت غير كافية وحدها، للإحاطة بعالم "فنان السينما الذاتية"، أي تلك السينما التي تعبر عن رؤية شخصية لصانعها وليست السينما التي تُصنع طبقا لدراسات الجدوى أو اعتبارات السوق وحدها.

يرى "كولكر" أن من الخطأ تناول أفلام مخرج سينمائي مثل "برتولوتشي" استنادا على محاولة فهم أبعاد مواقفه الشخصية وانتماءاته السياسية أو من خلال فحص السيرة الذاتية له، ويرى أن من الأصوب التوصل إلى فهم أدق للسينمائي "برتولوتشي" في علاقته بالمجتمع، أن نبحث في جماليات أفلامه نفسها، و"كولكر" يعتمد هنا على مقولة المفكر الفرنسي / ميشيل فوكو "المؤلف ليس سوى "أداة" لخدمة عمله، عوضا عن أن يكون هدفا في حد ذاته".

ضدّ "جودار"

في الفصل الأول بعنوان "ضدّ جودار" يبحث المؤلف في العلاقة بين "برتولوتشي" والسينمائي الفرنسي الكبير "جان لوك جودار"، أحد روّاد الموجة الجديدة؛ وقد ترك "جودار" بأفلامه تأثيرا كبيرا على الكثير من المخرجين الأوروبيين الذين برزوا في الستينيات من القرن العشرين من "بازوليني" إلى" فاسبندر"، و"لوي بونوزيل"، و"بريسون"، وكان "برتولوتشي" أكثر تلاميذ "جودار" إخلاصا، ويمكن النظر إلى العلاقة الفكرية والسينمائية بينهما على أنها نموذج لعلاقة "الحب- الكراهية".

كان "برتولوتشي" يعبّر، في بداية مسيرته السينمائية، عن إعجابه الكبير بـ "جودار"، رجل النظرية الجريئ والمجدد الملهم فيما يتعلق بدور الكاميرا، وعلاقة الصورة بالعالم؛ وقد نشر "برتولوتشي" كما يشير "كولكر" في كتابه القيّم، مقالا شهيرا في يناير 1967 في مجلة "كراسات السينما" (كاييه دي سينما) يعكس غيرة شديدة من جرأة "جودار" وقدراته السينمائية الفذة وأساسا يعبر عن الإعجاب الشديد، الممزوج ببعض الدهشة والحسد، وفي الكتاب نصّ مقال "برتولوتشي" ومناقشة لكل ما ورد فيه.

ويقول "كولكر" إن تأثر "بوتولوتشي" بالسينمائي الإيطالي الأشهر أي "بيير باولو بارزوليني"، الذي عمل "برتولوتشي" مساعدا له في فيلمه الأول "أكاتوني" (1962) قد ظهر بوضوح في أول أفلام "برتولوتشي"، إلا أن تأثره بسينما "جودار" برز فيما بعد، في معظم أفلامه التالية؛ فقد بدا أن "برتولوتشي" أكثر اهتماما بالتعبير الذاتي واستخدام الانتقالات السريعة، ومحاولة تحطيم عنصري الزمان والمكان بل وكافة القواعد التقليدية السينمائية مثل استخدام لقطات غير منضبطة معا بطريقة مقصودة للإيحاء بتأثير معين، وضرب عرض الحائط بما يسمى بالسلاسة في النقلات عبر المونتاج، وغير ذلك.

ويرى "كولكر" أن تأثر "برتولوتشي" بـ "جودار" وغيرته منه في الوقت نفسه، تتبدى في استخدامه أساليب "جودار" بطريقة تتعارض مع مفاهيم "جودار" في استخدامها، رغبة في التأكيد على إمكانية تجاوزها.

يتوقف الكاتب طويلا أمام فيلم "قبل الثورة" لـ / برتولوتشي  ويعتبره الفيلم الأول له رغم أن ترتيبه هو الثامن في قائمة أفلامه، فهو يرى أن في هذا الفيلم تحديدا تتضح المكونات الفكرية لـ / برتولوتشي من خلال محاولة المزاوجة بين الماركسية والفرويدية، وهي الفكرة التي تبرز أكثر في عدد من أفلامه التالية.

إنها ببساطة فكرة البحث عن الهوية السياسية والإستناد إلى موقف اجتماعي، بما لا يتعارض مغ فكرة البحث عن سعادة الفرد في إطار تحقيق السعادة للمجموع، أي للآخرين.

وقد ظل "برتولوتشي" مشغولا لفترة طويلة بهذه الفكرة التي تكشف عن نوع من الحيرة الفلسفية، والشعور بالإغتراب إزاء النظرية الأيديولوجية والمذهبية السياسية بطروحاتها المعقدة التي ظهرت كحلّ للمجتمع في إيطاليا فيما بعد الحرب العالمية الثانية.

عناصر الأسلوب

وينعكس هذا البحث الشاقّ على الأسلوب السينمائي حينما يصبح الأسلوب حقيقة أخلاقية وحقيقة سياسية في الوقت نفسه، وخاصة أن "برتولوتشي" لا يفصل أبدا بين البعدين أو الحقيقتين، رغم وعيه بأن الشكل سياسي بالضرورة، وأيديولوجي بحكم طبيعته.

في إطار تناوله لعناصر الأسلوب عند "برتولوتشي" يذكر الباحث أنها اتضحت مبكرا في فيلم "قبل الثورة" الذي يكشف حيرة شابّ مؤمن تماما بأيديولوجية الحزب الشيوعي لكنه يتشكك في جدواها، ويشكو من افتقاد البروليتاريا للوعي، ويعبّر عن رغبته في رؤية ذلك الإنسان الجديد "المناضل" بعد أن أصبح العمال يتعاطون أفكارا "بورجوازية"!

أما أسلوبية "برتولوتشي" فد أصبحت أكثر وضوحا وتجذرا في أفلامه التالية مثل "المتماثل" و"التانجو الأخير في باريس" وهما الفيلمان اللذان أوصلاه إلى تجاوز الإطار الإيطالي والأوروبي إلى "العالميّة".

يناقض المؤلف فكرة العالمية وعلاقة "برتولوتشي" بالاحتكارات السينمائية الأمريكية وكيف بدأت ثم انتهت، في فصل خاصّ ممتع يرى فيه مثلا أن فيلم "1900" (1976) الذي أخرجه "برتولوتشي" لحساب شركة بارامونت الأمريكية، رغم احتوائه على كافة عناصر "برتولوتشي" الجمالية إلا أنها وظفت لخدمة أهداف أخرى تختلف تماما مع ما كان في أفلامه السابقة، أي خدمة لنظرية التبسيط في السينما الأمريكية التي تقسم العالم إلى أخيار وأشرار، وما بينهما، ولا تتحذ موقفا واضحا في النهاية.

ويرى "كولكر" أن "برتولوتشي" في فيلم "التانجو الأخير في باريس" يقترب كثيرا من روح وطابع الأوبرا، ليس فقط بسبب استخدام موسيقى باربيري التي تسهم في إضفاء خط عاطفي شجي إلى الخط الروائي، بل بسبب أن الخط الروائي نفسه يوظف في الكثير من المشاهد في خدمة الموسيقى ودفعها إلى الأمام، تماما كما في الأوبرا، ويقول إن الفيلم يمتليء أيضا بالكثير من المشاهد التي تشبه الألحان الثنائية في الأوبرا.

وفي فيلم "تراجيديا رجل سخيف" (1983) يتناول "برتولوتشي" موضوع الإرهاب من وجهة نظر الأب وهو صاحب مصنع للجبن والسجق يختطف الإرهابيون اليساريون (أعضاء منظمة الألوية الحمراء) إبنه، لكننا نكتشف أن الإبن نفسه متواطئ معهم كجزء من خطة مدبرة لإذلال الأب وابتزازه؛ هنا كما يقول "كولكر"، يبدو الإبن مصرّا على الانتقام من أبيه على طريقة "الإخصاء الفرويدي"، ولا يقدم الفيلم أي تفاصيل تتعلق بعلاقة الإبن بالأب؛ لكن الابن يقتل والده سياسيا واقتصاديا عن طريق استغلال نقطة ضعفه، ويقول "كولكر" إن هذا الحدث الذي يصبح فيه المتطرفون هم راسمو سيناريو مصير الأب، يعتبر بمثابة استخدام عكسي للأسطورة التي وضعها فرويد في كتابه "الطوطم والتابو".

والإبحار في عالم "برتولوتشي" لا ينتهي بالطبع، وقد تكون لنا عودة أخرى إلى عالمه للتوقف أمام بعض المحطات البارزة في مسيرته السينمائية.

الجزيرة الوثائقية في

04/08/2011

 

"آمنوا بقوة السينما" شعار مهرجان "طوكيو" السينمائي

محمد حسن 

تحت شعار "آمنوا بقوة السينما" عقدت اللجنة التنفيذية لمهرجان "طوكيو" السينمائي الدولي اجتماعها الأول للتحضير للدورة الرابعة والعشرين من المهرجان والتي تبدأ يوم 22 من أكتوبر المقبل في العاصمة اليابانية طوكيو وتستمر حتى يوم 30 من الشهر نفسه .

وخلال الإجتماع أعلن أحد أعضاء اللجنة أنه تم الاستقرار على عدد من الأفلام المميزة للعرض خلال دورة هذا العام من مختلف دول العالم وسيتم العرض ضمن ستة فروع رئيسية بالمهرجان .

كما تحضر دورة هذا العام الممثلة اليابانية الشهيرة "كيوكو كاجاوا" التي يستضيفها المركز القومي للسينما في اليابان لتقدم تسعة أفلام بينها فيلم يسرد القصة اليابانية الشهيرة "شيكاماتسيو مونوجاتاري", كما يعقد لها مؤتمرا صحفيا بعنوان "كيوكو كاجاوا .. وسينما المستوى الرفيع" .

وللعام الرابع على التوالي يستخدم المهرجان السجادة الخضراء بما تحمله من دلالات القوة الخضراء, والإهتمام بالبيئة, وستعرض أفلاما للتوعية البيئية فضلا عن الأفلام اليابانية التي تحمل جوهر الثقافة اليابانية لتعريف العالم بها .

كما أعلن خلال الاجتماع أن إدارة المهرجان ستنشئ صندوقا للتبرعات لصالح ضحايا ومنكوبي زلزال تسونامي الذي ضرب البلاد خلال مارس الماضي وتوّفى فيه وتشرد آلاف اليابانيين , وأكد الاجتماع أن صناديق التبرع ستكون منتشرة في أرجاء المهرجان وكافة أركانه بحيث يسمح للجميع بالتبرع, وقد قررت إدارة المهرجان الإقبال على تلك الخطوة بعد تلقيها عشرات الرسائل التشجيعية والتي أيدت الفكرة واعتبرتها دورا إيجابيا ملموسا ينبغي أن تلعبه السينما من أجل مساعدة منكوبي التسونامي.

الجدير بالذكر أن مهرجان "طوكيو" السينمائي الدولي يعد من أهم وأكبر المهرجانات الدولية ذات الإهتمامات البيئية والتي تتخذ اللون الأخضر شعارا لها وتعرض أفلام التوعية البيئية, وسوف تعلن إدارة المهرجان خلال أيام عن برنامجها بالكامل هذا العام والضيوف المهمين الذين يحضرون الدورة الحالية.

الجزيرة الوثائقية في

04/08/2011

 

محمد علي ..الباشا الصعلوك

حسام الدين السيد 

هل كل صعلوك يحلم بالمجد فيأتيه سعيا؟ وهو كل إمبراطور لابد له من كأس الدماء يشربه بعد أن يجري نهرا من شرايين منافسيه وأحيانا معاونيه؟ وهل درس التاريخ يمكن أن نتعلمه ونحن نحتسي القهوة ونشاهد الأفلام حتى لو تحلت بمنتهى الوثائقية ؟  ..أسئلة عديدة أثارها عرض الجزيرة الوثائقية لفيلمها المتميز "محمد علي"، ويكتسب الفيلم أهميته من عدة جوانب، فهو أولا بهي الطلعة، حلو الصنعة، متقن الإنتاج، غزير المعلومات، لم يدخر القائمون على عمله جهدا في الاهتمام بأدق التفاصيل، من الأزياء إلى الأجواء، وأحسن مخرجه التصرف في تطويع مشاهد الدراما لتثري السرد والتوثيق، ولم يقع في المطب المعاكس حيث الكثيرون يأخذهم إغواء الدراما لتنسيهم سلاسة العرض واتصال الموضوع ووضوح الفكرة، فجاءت الدراما خادمة ومضيفة وموظفة للفكرة التوثيقية، وإن رأى البعض أيضا انه أنهك نفسه وحملها ما لا يطيق في سعيه للجودة والتأثير الدرامي بمشاهد ليس مطلوبا أن ينوء بها كاهل الموثق المخرج مثل عناء إخراج مشهد مذبحة القلعة وهو أمر يتحاشاه حتى مخرجو الروائيات، ولم يقتصر الأمر في خلق الأجواء والإيحاء على "الدوكودراما" بل أيضا اختار صانعو الفيلم التصوير في كثير من أماكن الأحداث الحقيقية مثل تركيا واليونان وسوريا وطبعا مصر، وصناعة جو خاص بالخلفيات والإضاءة وزوايا التصوير للمقابلات انسجمت مع الدراما وجعلت الفيلم بجزأيه وحدة متناغمة مع الأجواء الطبيعية التي تعود بنا قرنين من الزمان،حيث صعود محمد علي باشا المملوك الصعلوك تاجر الدخان، لعرش مصر وتأسيسه لإمبراطورية تظل مضرب الأمثال عند كثيرين إلى الآن في قوتها واعتمادها على رؤية واسعة جعلت لمصر شأنا ومكانة، ولمحمد علي نفسه رمزا و مجدا وعائلة وسؤددا، وهو ما استدعى أن تنتفض كل القوى الدولية الكبرى في وقتها، روسيا وبريطانيا وفرنسا وحتى الولايات المتحدة مع الدولة العثمانية، ليعملوا بكل قوتهم ومؤامراتهم لمواجهة هذا الباشا الجامح ذو الحجة والقوة والطموح.

ثانيا يأتي عرض الفيلم ليتزامن مع ذكرى مرور مائتي عام على مذبحة القلعة التي دبرها محمد علي للتخلص من المماليك بمشاركة نائبه لاظوغلي باشا عام  1811 ميلادية، في أشهر مذابح الصراع على السلطة في التاريخ العربي الحديث وربما تاريخ العالم، ومن محاسن الصدف التاريخية تزامن الفيلم أيضا مع الثورة التونسية ومن بعدها  المصرية في القرن الواحد والعشرين التي أزاحت إمبراطورية لاظوغلي الجديدة ( حيث المقر الرهيب  لمباحث أمن الدولة في ميدان لاظوغلي بوسط القاهرة) لتعيد تأسيس الدولة المصرية بعيدا عن رمزية الأمن والمذبحة والحكم البوليسي والجموح الإمبراطوري للحاكم سواء كان واليا  أو ملكا أو رئيسا، يتماس الفيلم مع الواقع إذن رغم وقائعه ذات القرنين عمرا، ويبث في أوصال المجريات مقويات تاريخية من صفحات قديمة يستعيرها ويقدمها لنا في ثوب معاصر، لنتعلم  كيف تنهض الأمم وتحلم بمجدها وتحققه مع حاكم قوي وعلم عصري وسعي جدي، لكنه أيضا لا يخلو من تآمر دولي وضغط امبريالي، وضعف داخلي .

وهنا نتوقف مع الأسئلة التي يثيرها كل فيلم وثائقي يتناول ظرف التاريخ وسيرته، أو يرصد شخوصه ويقدم عبرته، فلم يكن "محمد علي" أول فيلم تاريخي تقدمه شاشة الجزيرة الوثائقية وتنتجه، ولن يكون الأخير بالطبع، فقد سبقته أفلام عديدة عن شخصيات مهمة عبر التاريخ، منها على سبيل المثال لا الحصر، البطل أحمد عبد العزيز، سعد زغلول، فرحات حشاد، البابا شنودة، وأيضا سلسلة بصمات التي قدمت للناس العديد من الشخصيات ذات الأثر في تاريخ العرب وحاضرهم في البلاد المختلفة، وغير ذلك الكثير يعرض على الشاشة.

ومع اختلاف موضوع الفيلم وبلده وطبيعة الشخصيات التي يتناولها بالرصد والتحليل، إلا أن سؤال التاريخ ودرسه وعبرته يظل مطروحا، فربما اجتهد صانعو الفيلم، أيا ما كان وكانوا، في توثيق المعلومات التي يتم سردها، وبذل مجهود في تحقيق صحتها واستضافة من يقوّم دقتها، وهكذا دواليك، لكن بالنسبة للمشاهد يظل الدرس ناقصا والتاريخ مجردا، فالمسألة التاريخية سواء تعلقت  بشخص أو حادثة أو قضية أو مكان...الخ، ليست مجرد وقائع تتلى وأحداث تحكى، ومعلومات تسرد، لكن التاريخ وفقا لما ورد في المعجم الوجيز على سبيل المثال هو"التاريخ اصطلاحا : جملة الأحوال والأحداث التي يمر بها كائن ما، على الفرد أو المجتمع، كما يصدق على الظواهر الطبيعية والإنسانية" .

وعرّف ابن خلدون التاريخ بما يلي:" إنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال: مثل التوجس، والتأنس، والعصبيات، وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول، ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش، والعلم والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعة الأحوال " ولسنا هنا في وارد رصد تعريفات علمية للتاريخ وعملية التوثيق والتأريخ، ولا يسعنا المجال لذلك، لكن فقط نشير إلى أنّ جميع التعريفات الراسخة التي تناولت التاريخ والوقائع والشخصيات التاريخية، لم تغفل أبدا أن الرصد التاريخي هو سياق مجتمعي كامل متفاعل وليس مجرد وقائع متسلسلة ومتراتبة زمنيا، وبالتالي التوثيق هنا بالمعنى التاريخي الواسع لا يتم دون رصد السياقات التي جرت فيها الأحداث وتوضيحها، فالأحداث ومجرياتها دون سياقها الاجتماعي يظل فهمها قاصرا وعبرتها مجتزأة .

ومن ناحية الصناعة الفيلميّة الوثائقية نجد أن فيلما مهمّا مثل "محمد علي" قد استعان في أغلب مقابلاته ومعلوماته بالمشتغلين في صنعة التاريخ تأليفا ورواية وتحليلا، في حين كان ينقصه بشده أهل الاجتماع وهو السياق الواسع الذي تجري فيه أحداث التاريخ، وبدون رصد هذه السياقات الاجتماعية من حيث الأعراف السائدة وطبيعة العلاقات البينية وبنية المجتمع وطوائفه وقياداته ومعتقده وطرائقه الشعبية وغيرها، فإن تفسير الحوادث التي جرت ورصدها الفيلم تظل أسيرة فهمنا المعاصر لها، وبالتأكيد هو فهم مغاير عمّا كان يجري وقتها، حتى القرارات السياسية لا نستطيع فهمها دون معرفة سياقاتها الاجتماعية .

هذا التحدي الذي يواجه صانع  العمل الوثائقي يتطلب منه نظرة أكثر شمولا لموضوع قضيته، فهو عليه أن يختار ما يصوره وما يعرضه، ومن المستحيل أن يكون الفيلم الوثائقي هو سلسلة رصد لكل ما يجري، بل إن موضوعا ضخما مثل "محمد علي"  لا يمكن لفيلم  أن يستوعبه في ساعتين تلفزيونيتين ولا حتى معظم جوانبه، وقد تحلى صانعوا الفيلم فعلا بذكاء مهني، عندما ركزوا في تناولهم على نقاط مفصلية في حياة محمد علي مثل قدومه صعلوكا مملوكا لمصر، وصعوده إلى ولاية عرش مصر، ثم تكوين الجيش الذي بنى من خلاله دولة حديثة ومشروعا إمبراطوريا تم إجهاضه بتآمر دولي واسع. ورغم هذا ضاعت منا تفاصيل الحياة الاجتماعية التي تمثل سياق الأحداث وخيوط غزلها، لأن البريق السياسي كان أخلب للأبصار مما أضعف الحالة التوثيقية وقلل من عبرة التاريخ التي يمكن أن نتعلمها في هذه الأيام التي تحاول فيها الشعوب العربية أن تبني مجددا حلم دولتها القوية المستقلة .

كان "محمد علي" هو النموذج الذي تناولناه للتوقف عند فكرة التوثيق وضرورة الاهتمام بتناول السياقات الاجتماعية للحدث التاريخي، وهو أيضا سؤال مطروح على كل متصدر لعمل من هذا النوع كيف يختار ويوازن بين الفكرة الرئيسية التي يتناولها والسياق الذي جرت فيه وقائعها، مع ضيق الوقت المتاح للعرض وطبيعة الظروف الإنتاجية، والإجابة على هذا السؤال هي محل اختبار مهارة صانع الوثائقيات ذو النظرة والخبرة، ومحل تقييم الفيلم ذو الجودة والعبرة .

الجزيرة الوثائقية في

04/08/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)