حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

الملك الأسطورة (3)..

فريد شوقي…مسرحيّة في الشارع

كتب: القاهرة - ماهر زهدي

أصبح لفريد شوقي جمهور جديد، لكنه جمهور خاص جداً، فهو من هوانم الحلمية صديقات والدته اللواتي يلتقين كل يوم اثنين في منزلها، ولم يعد حبّ التمثيل مثار قلق أو مشاكل بين فريد ووالدته، لدرجة أنها كانت تتعمد ألا يخرج على صديقاتها مباشرة، بل كانت تستمتع بالفخر الذي ينتابها وهن يسألن عنه، عندها تسمح له بأن يدخل ويقدم مشهداً من إحدى مسرحيات يوسف وهبي أو نجيب الريحاني، وأحياناً يلقي عليهن قصيدة لحافظ إبراهيم أو أحمد شوقي أو غيرهما من الشعراء الذائعي الصيت، ويزداد زهو سمية هانم، والدته، كلما سمعت عبارات الإعجاب من صديقاتها أو تصفيقهن لابنها، حتى أصبح فريد ينتظر يوم الاثنين بفارغ الصبر ليستمتع بنظرات جمهوره واستحسانه، خصوصاً بعدما انضمت إليه حسنية، فتاة في الثانية عشرة من عمرها ابنة إحدى صديقات والدته.

لاحظ فريد تعلّق عيني حسنية به وهو يقلّد يوسف وهبي ويلقي الشعر، فشعر بأن سهماً خرج من عينيها وأصاب قلبه، فأطال مدة العرض ليسعد بأكبر وقت ممكن إلى جوارها.

لم يهدأ فريد حتى عرف عنوان بيت حسنية، فهو يبتعد شوارع عدة من شارع «الوفائية» الذي يسكن فيه، ولم يطق صبراً حتى يأتي يوم الإثنين، وراح يتردد على الشارع ذهاباً وإياباً علّه يفوز برؤية حسنية، إلى أن حدث ما ينشده بعد ثلاثة أيام كأنها كانت في انتظاره… أشار إليها بيده فأشارت إليه، وبعد دقائق كانا يسيران معاً في أحد شوارع الحلمية البعيد عن منزليهما.

لم يكن فريد أو حسنية يفهمان معنى الحب، غير أنهما شعرا بإحساس جميل ومريح عند رؤية كل منهما الآخر، كانت حسنية تهوى الشعر وتحفظ قصائد منه، وتستمتع بالإصغاء إلى فريد وهو يلقي بعضاً منها وهما يسيران معاً من دون أن يلفتا نظر من حولهما وذلك لاعتبارهما طفلين، فتاة في الثانية عشرة من عمرها وشاب لم يتخطّ الخامسة عشرة من عمره.

اللص الشريف

زادت حسنية حماسة فريد إلى التمثيل وأقنعته بأنه لا يقلّ عن كبار الممثلين الذين يحكي لها عنهم، ولماذا لا يكون له عمله المسرحي الخاص وجمهور أكبر من جمهور «الهوانم» صديقات والدته؟

أعاد فريد التفكير في كلام حسنية ولم يضيّع الوقت، اجتمع مع أصدقاء الشارع الذين يشاركونه حبّ التمثيل ويؤمنون بموهبته وزعامته لهم، واقترح عليهم الاكتتاب في ما بينهم، وجمع مبلغاً من المال لتقديم عمل مسرحي إلى أهالي الشارع، على أن تكون البداية في المسرح الذي سيقدّمون عليه مسرحيتهم:

* إيه رأيكم في حتة الأرض الفاضية اللي قدام بيتنا بتاعة عم حنفي الخيمي؟

= حلوة قوي… بس عم حنفي يرضى يسبهالنا.

* ما احنا هندفع له إيجار… هنديله خمسة شلن إيجار في اليوم… واحنا هنحتاجها يومين… يوم نجهز فيه المرسح… ويوم نعرض فيه.

= طب وهنعمل المرسح ازاي… وكمان المناظر اللي هنمثل قدامها؟

* نزود عم حنفي كمان خمسة شلن ويعملنا المرسح من دكك الفراشة اللي عنده في المحل… وتفضل مشكلة المناظر.

- أنا عندي فكرة… أبويا شايل خشب كتير فوق السطح بتاع بيتنا… بس الخشب ده اللي بيشتغل بيه.

* ما احنا هنستلفه يوم واحد وهنرجعه… من غير ما يحسّ… وأنا اللي هعمل المناظر على خشبة المرسح.

= تفضل المرسحية اللي هنقدمها… هنجبها منين؟

* دي بقى سيبوها عليا… أنا هكتبها.

شعر فريد بأنه ورّط نفسه بوعده كتابة المسرحية التي سيقدّمونها، فهو قد يمثّل إحدى أشهر المسرحيات التي شاهدها، لكنه وعد بأن يؤلف مسرحية جديدة، ولا يتّسع الوقت للتأليف والإبداع!

بعد تفكير وتردّد ومحاولاته إخماد ضميره، اهتدى إلى فكرة هبطت عليه من السماء، فهو يحتفظ بمسرحيات يقدّمها يوسف وهبي وتنشرها مجلة «روز اليوسف»، من حين إلى آخر، خدمة لقرائها ويحرص والده على جمعها، فقرر عمل توليفة من هذه المسرحيات، مشاهد من هنا ومشاهد من هناك، وكوّن مسرحية مليئة بالمآسي والخيانات، فأطلق عليها اسم «الفاجعة»… وكان على ثقة بأن أحداً من زملائه لن يكتشف الفاجعة الحقيقية بسطوه على أعمال يوسف بك، فهم ليسوا من قراء «روز اليوسف» أو من رواد مسرح فرقة «رمسيس».

كان لا بد من البحث عن ممثلة تؤدي الدور الرئيس أمامه في المسرحية، وقطعاً لن تقبل، بل لا يحلم أن تقبل إحدى فتيات الحي مشاركته في المسرحية وأداء دور البطولة أمامه، فلم يجد بداً من أن يذهب إلى شارع الفن، ومن المؤكد أن الممثلات هناك كثيرات.

ذهب فريد إلى شارع عماد الدين للمرة الأولى من دون والده، لكن أين تكون الممثلات؟ أين يجلسن؟ كيف سيتفق مع إحداهن؟ وهل ستقبل أن تمثل معه ومع هواة من أبناء شارع الوفائية في الحلمية؟

البحث عن بطلة

أسئلة عدة دارت في رأس فريد وهو يتأمل أفيشات مسارح شارع عماد الدين للمرة الأولى في «عز الظهر» وليس ليلاً كالمعتاد.

عندما أعياه التعب اتجه إلى أقرب مقهى من تلك المقاهي المنتشرة في الشارع التي يرتادها الفنانون نهاراً ويجرون فيها تعاقداتهم واتفاقاتهم على أعمالهم الجديدة.

في أحد أركان المقهى كانت تجلس سيدة سمينة في نهاية الأربعينيات من عمرها، تدخّن الشيشة بنهم، أثار انتباهها فريد، ولاحظت نظراته إليها:

* مالك يا واد انت… بتبص كده عليه… بتشبه؟

= إيه… أنا… لا أبدا… مفيش حاجة.

* أمال عينك زايغة ليه كده… ومش على بعضك… زي ما تكون عامل عاملة.

= أبدا والله العظيم ما عملت حاجة… أنا كنت جاي أدوَّر على ممثلة تيجي تمثل معانا دور البطولة في المسرحية بتاعتنا.

* الله.. دا انت طلعت ابن كار… تصدق بالله انت ابن حلال علشان ربنا وقعك في سكة «زوبة اللهلوبة»… بوس إيدك وش وضهر يا واد… وأحمد ربنا.

= الحمد لله… بس مين الست زوبة اللهلوبة دي؟

* محسوبتك… رقاصة وممثلة دقة زمان مفيش أختي دلوقت.

= حضرتك!! أقصد حضرتك ممثلة؟

(ضاحكة ضحكة عالية)

* خمس سنين وأنا «البريمادونه» في فرقة الست بديعة مصابني… غيرش الزمن… قصدي إننا اختلفنا وسبتها.

= لا إذا كان كده يبقى ربنا بيحبني فعلا… وحضرتك ممكن تيجي امتى تعملي بروفة على المسرحية؟

* حلوة حكاية البروفة دي… زوبة اللهلوبة تعمل بروفات!! دي القيامة هتقوم يا ولاد… انت يا حبيبي تسيبني ع المسرح وخد مني أحلى شغل.

= طيب وحضرتك هتاخدي كام؟

* شوف بقى انت باين عليك واد ابن حلال وانا حبيتك… وعلشان خاطرك هاخد مية قرش ورقة واحدة.. جنيه بوشه… ده بس علشانك

= أيوه بس.. بس.

* انت هاتبسبس.

= لا أنا أقصد أقول لحضرتك إننا مش هنقدر ندفع أكتر من خمسين قرش… ومحضر لحضرتك ورقة وقلم أهم علشان نكتب العقد.

* شوف يا واد… إنت صعبت عليا… أنا موافقة… ايدك ع العربون

= والعقد.

* أنا كلمتي عقد.. والا انت شايف غير كده؟

انتهى فريد من الاستعدادات كافة وكتب أوراقاً وألصقها على جدران المنازل في الشارع، تتضمّن اسم المسرحية وبطلها، غير أن الأقدار صنعت له مفاجآت غير سارة قبل يومين من العرض، أولها وأهمها أن عائلة حسنية، حبيبة القلب، تركت الحلمية فجأة وانتقلت إلى حي آخر، ما تسبب في وأد حبه الوليد وانكسار قلبه البريء، غير أنه لم يكن ليتخلى عن العرض، حتى ولو من دون حسنية.

ثاني المفاجآت كانت امتناع «زوبة اللهلوبة» عن حضور العرض بسبب شجار نشب في المقهى الذي تجلس فيه قبل العرض بساعة واحدة، بعد اختلافها مع زبون كانت تلعب معه القمار، وانتهت بهما الحال في قسم الشرطة ثم المستشفى، عندها اضطر فريد إلى استبدالها بأحد أصدقائه الممثلين في المسرحية من ذوي الملامح الناعمة فكان أفضل مائة مرة من هذه «المترهلة».

أما المفاجأة الثالثة فكانت إبلاغ والد صديقه الشرطة عن سرقة الخشب من على سطح منزله وذهب الجاويش ليأخذ فريد شوقي بالقوة من على خشبة المسرح وهو ينهره:

= قدامي… قدامي ع الكراكون يا حرامي الخشب… بقى عاملي فيها يوسف وهبي… وانت سارق خشب الناس… قدامي يا حرامي.

لم تفلح توسّلات فريد للجاويش، ليس لأنه بريء إنما ليكمل أحداث المسرحية، فاضطر والده إلى مصالحة والد صديقه صاحب الأخشاب، ودفع ما يلزم من تعويضات بسبب ما تلف منها.

لم تمرّ هذه الواقعة على والدة فريد مرور الكرام، بل أعادتها إلى سيرتها الأولى مع التمثيل وكرهها له واتهام زوجها بأنه سيسبّب في فشل الإبن الأكبر للعائلة.

الدراسة أولاً

للمرة الأولى يشعر الأب بذنب حقيقي تجاه ابنه، فلا بد من أن يبحث له عن مستقبل عملي أولاً، ثم يشبع هوايته كيفما شاء في وقت فراغه، فقدم أوراق فريد فوراً إلى مدرسة الفنون التطبيقية ليكون ابنه مهندساً يحمل شهادة عليا، هكذا هدأت الأم واطمئن بالها.

صار فريد شوقي شاباً يافعاً قوي البنية، فارع الطول، بدت عضلات ذراعيه واضحة، ما شجّعه على الانضمام إلى فريق الملاكمة في المدرسة. لاحظ فريد بأن الحياة والمفاهيم في مدرسة الفنون التطبيقية تختلف عنها في المدرسة، وذلك عندما وقعت عيناه على إعلان معلّق على لوحة الإعلانات في المدرسة، يطلب من يجد في نفسه موهبة التمثيل من الطلاب تسجيل اسمه لدى المشرف الفني الأستاذ مرتضى عبد الحميد، للخضوع إلى اختبار ستجريه لجنة فنية برئاسة المخرج الكبير عزيز عيد، لاختيار فريق تمثيل الفنون التطبيقية الذي سيدرّبه عيد.

لم يصدق فريد عينيه… فها هو يقف وجهاً لوجه أمام المخرج الكبير، الذي طالما تمنى أن يراه ولو من بعيد، في انتظار أن يأتي دوره ويكون اهتمام الأستاذ منصباً عليه بمفرده ليحكم عليه كممثل.

كان فريد متوتراً وخائفاً من الامتحان الأصعب في حياته والذي سيتحدد عليه مصيره ومستقبله كممثل، فأخذ جانباً وراح يدخن سيجارة وكان بدأ يتعلّق بهذه العادة السيئة. لفت هذا الشاب المدخن نظر عزيز عيد ولم ينهره أو يطلب منه عدم التدخين، غير أنه عجّل في اختباره لاستبعاده بسرعة في حال اكتشف أنه لا يصلح ليكون ممثلاً:

* علشان نختصر الطريق… اللي جاي وفاكر نفسه هيتسلى ويضيّع وقت أو طالع رحلة يقضي فيها وقت لطيف… يتفضل ما يعطلناش… التمثيل ده عمل… وعمل شاق، لايقلّ أهمية عن أي عمل جاد محترم… بل يزيد… ولازم اللي عاوز يبقى ممثل ينتبه لعدة أشياء مهمة، أولا لازم يكون عنده الموهبة والباقي علينا احنا هندربه، ويكون صبوراً لا يتعجل العمل والشهرة، ولا بد أنه يكون مثقفاً يقرأ كتير، في كل شيء، وخصوصاً المسرح العربي والعالمي، ولا بد من أن يحترس من الغرور، لأن الشهرة تصيب الفنان بالغرور، فلا بدّ من أن ينتبه لذلك، والأهم من هذا كله أن يكون قوي البنية، جسمه سليم ونفسه سليم يقدر صوته يوصل لكل متفرج في نهاية صالة المسرح.

شعر فريد بأن الشروط كلّها تنطبق عليه، باستثناء النفس الذي ينهكه التدخين، فعزم بينه وبين نفسه ألا يدخن بعد اليوم إذا ما نجح في الاختبار.

وكانت المفاجأة لعزيز عيد أن هذا الولد المدخن نجح وبتميّز شديد:

* تعالى انت… اسمك إيه؟

= اسمي فريد محمد عبده شوقي الـ…

* بس بس… أنا عاوز اسمك مش كمان العنوان… الممثل لازم يكون اسمه صغير وبسيط يقدر يحفظه الجمهور بسهولة… يعني كفاية قوي يبقى اسمك فريد شوقي.

= اللي تشوفه حضرتك.

* اهتم بنفسك وبصحتك يا فريد… وبلاش حكاية التدخين دي… انت هيبقالك شأن عظيم في التمثيل.. بس زي ما اتفقنا من غير غرور.

= حاضر يا أستاذ.

* خد… الرواية دي احفظها كويس… ومش هقولك دلوقت إيه الدور اللي هتعمله فيها.

التزم فريد شوقي التزاماً حديدياً بحضور البروفات، سواء على مسرح مدرسة الفنون التطبيقية، أو عندما يطلبه عزيز عيد أحياناً لإجراء بروفات في مسرحه في عماد الدين، ونفّذ تعليمات المخرج حرفياً، أي الاهتمام بالثقافة والقراءة والابتعاد عن التدخين والمداومة على رياضة الملاكمة حتى أصبح متميزاً فيها إلى حدّ كبير، وأكسب المدرسة الكأس في بطولة المدارس العليا.

زعيم وطني

انتهى العام الدراسي الأول وبدأ فريق التمثيل الاستعداد لتقديم المسرحية وبات كل واحد منهم قادراً على أداء أي دور في المسرحية بفضل جهود عزيز عيد معهم خلال البروفات، فأتقن كل ممثل أدوار المسرحية تباعاً خلال البروفات ليعرف من منهم أصلح لهذا الدور أو ذاك… وقبل تحديد موعد نهائي لتقديم المسرحية، انفجرت التظاهرات وجابت أحياء مصر قبل مرور عام على تولي الملك الشاب فاروق الأول الحكم خلفاً لوالده الراحل الملك فؤاد، إذ كان واضحاً أن الفيلد مارشال هور، أحد القادة البريطانيين العسكريين، كانت له سياسة تعسفية في تنفيذ المادة السابعة من معاهدة 1936، بإعلان حالة الطوارئ وفرض الرقابة على الصحف والمجلات، وغيرها من الإجراءات التعسفية التي جعلت التظاهرات تخرج في كل مكان وتشلّ أشكال الحياة في مصر في الربع الأخير من العام 1938، بما في ذلك المسرح والسينما والفنون الأخرى.

مع بداية عام دراسي جديد خرج الطلاب في تظاهرات حاشدة جابت شوارع القاهرة، ووجد فريد شوقي نفسه محمولاً على أكتاف اثنين من زملائه، باعتبار أن صوته خطابي جهوري ويمكن أن يقود التظاهرات، وهتف فريد، والجميع يردون خلفه:

يسقط يسقط… يسقط «هور»

يسقط «هور» ابن الطور

امشي يا هور اطلع بره…

مصر هتفضل دايما حرة.

تصدى الجنود الإنكليز للتظاهرات من كل جانب، وراحوا يطلقون النار في الهواء للتحذير، غير أن الطلاب لم يردعهم ذلك، فجاءت الأوامر بإطلاق الرصاص الحي عليهم، وبمجرد أن صوّب الجنود بنادقهم في اتجاه المتظاهرين ومن دون أن يدري وجد فريد شوقي نفسه ملقى على الأرض، فقد تخلى عنه الطالبان اللذان كانا يحملانه من دون تنبيهه، وركضا بكل ما لديهما من قوة مع بقية الطلاب.

وجد فريد شوقي نفسه بمفرده على الأرض وهو يردد الهتاف نفسه فهبّ واقفاً وأطلق ساقيه للريح ووصل إلى بيته بأعجوبة منهك القوى مقطوع النَفَس، هكذا افتضح أمره أمام والديه.

حاول الأب أن يخفي مشاعر الفخر والاعتزاز بابنه الذي صار رجلاً يشارك في التظاهرات في سبيل حرية بلاده خلف عبارات التحذير من المخاطر وهمجية المحتل، غير أن الأم استدعت على الفور ذكريات ألمّت بالأسرة من هذه التصرفات وانفجرت بالبكاء وهي تصرخ في وجهه:

* احنا ناقصين… مظاهرات إيه وهباب إيه… انت مش عارف اللي حصل لجوز عمتك الله يرحمه… لما جم خدوه من وسطنا من غير رحمة ولا شفقة… وشنقوه قدامنا… لو ناسي اطلع لعمتك أهي فوق في شقتها.. خليها تحكيلك الإنكليز عملوا إيه في جوزها وإزاي خدوه وابنها لحمة حمرا على دراعها مكملش السنة… خليها تقولك إزاي شنقوا عمك محمود هو وخمسة من زمايله في السكة الحديد وهم في عز شبابهم بعد ما خدوهم من المظاهرات؟!

لم ينم فريد شوقي تلك الليلة قبل أن يقطع وعداً أمام والديه، وتحديداً والدته، بألا يشارك في التظاهرات بعد اليوم كي لا تفقده، وألا تكون له علاقة بالإنكليز من بعيد أو قريب، غير أن وعد فريد لم يكن مهماً، المهم هو ألا تكون للإنكليز علاقة به، وقبل أن ينتصف الليل وفي حين نام البعض وتأهب البعض الآخر للنوم، دقّ باب بيت فريد بقوة، وفجأة داهمته قوة من جنود الإنكليز، دخلوا الغرف يفتشون ويقلبون كل شيء، حتى خرج عسكري وهو يمسك بفريد شوقي ويقول لقائده:

= هذا هو الولد الذي كان يقود التظاهرات.

انقلب بيت فريد إلى ما يشبه المأتم، الأم تصرخ، وأشقاؤه الصغار في حالة فزع وصراخ، الأب يتوسل، يريد أن يعرف تهمة ابنه، يحاول فريد أن يتملص لكن من دون جدوى، فألقوا به داخل السيارة التي انطلقت مسرعة، بينما نزلت عمته من الطابق الأعلى وشاركت والدة فريد الصراخ والعويل، إذ استدعت ذاكرة الجميع على الفور مشهد القبض على محمود إسماعيل زوج عمة فريد… الذي انتهى بإعدامه شنقاً وهو في الثلاثين من عمره.

البقية في الحلقة المقبلة

الجريدة الكويتية في

02/08/2011

 

الملك الأسطورة (4)..

فريد شوقي… بطل الشارع بعد ليلة في السجن

كتب: القاهرة - ماهر زهدي 

تجربة عنيفة وقاسية على الجميع، الأب والأم والأخوة، وحالة من الرعب لما ألمّ بالإبن الذي ما زال غضاً لم يشتدّ عوده بعد، بل وتجربة أشد قساوة على فريد نفسه، إذ وجد نفسه داخل زنزانة مظلمة في سجن الاستئناف، تنتابه مشاعر مضطربة وأحاسيس يملؤها الرعب والقلق، ليس من هذه الزنزانة المظلمة فحسب، بل من المستقبل المجهول، وكيف سيكون وهل هذه هي النهاية؟ أو يمكن أن تكون البداية؟ ما يحدث لا ينبئ بأي بدايات مبشّرة، حتماً ستكون النهاية، وربما كانت النهاية التي طالما حذرته منها والدته: نهاية محمود إسماعيل زوج عمته.

ما إن استدار فريد بوجهه إلى داخل الزنزانة معطياً ظهره إلى الباب، حتى فوجئ بزملائه وأصدقائه الذين كانوا معه في التظاهرة بعد ظهر ذلك اليوم، ومعهم رجال وشباب من الحلمية ومن الأحياء المجاورة، فتقدموا منه وساقوه أمامهم إلى باب الزنزانة وراحوا يهتفون الهتاف نفسه الذي كانوا يرددونه في التظاهرة:

يسقط يسقط يسقط هور

يسقط هور ابن الطور

لم يعد فريد بمفرده بل ثمة من يؤازره ويقوي قلبه فطرد مشاعر الخوف وليفعلوا به ما يفعلون، لكنّه فكر بوالديه وأخوته وكيف سيمضون ليلتهم، من المؤكد أن الحزن يملأ قلبهم عليه.

لم ينم فريد تلك الليلة التي عاد فيها إلى التدخين، وظلّ يفكر في مصيره ومستقبله وحال أسرته، غير أن المخاوف والهواجس زالت بمجرد أن شاهد والده يجلس أمام وكيل النيابة، يكتب تعهداً على نفسه بعدم مشاركة ابنه في التظاهرات، كحال أولياء أمور زملائه الذين تم ضبطهم وإحضارهم.

بطل شعبي

دخل فريد شوقي الشارع الذي يسكن فيه كأنه وُلد من جديد، فقد غيرت ساعات الليل التي أمضاها في سجن الاستئناف أموراً في شخصيته، ليس في داخله فحسب، بل في نظر الآخرين الذين استقبلوه في الشارع استقبال الأبطال، فمن كانوا ينظرون إليه بالأمس باعتباره طفلاً يمكن أن يشارك أولاد الشارع اللعب واللهو، صار اليوم في نظرهم بطلاً وطنياً يدافع عن بلده ويُسجن من أجله، وانطلقت الزغاريد من الشرفات تنبئ بوصول البطل فريد، ومعه أبناء الشارع الذين شاركوه التظاهرة والسجن، ما خفف وطأة الحادث على والديه وأخوته، وبدلاً من العقاب الصارم الذي كان يتوقعه من والده وسيل الاتهامات الجارف الذي سيخرج من والدته رعباً عليه، اقتصر الأمر على أن يعيدا على مسامعه ما قالاه له بالأمس قبل إلقاء القبض عليه.

مرت الأيام ثقيلة بطيئة على فريد شوقي، الحياة الفنية شبه متوقّفة إلا عند بعض كبار النجوم، فلا بروفات ولا عروض مسرحية، ما زاد كراهية فريد للمحتل البريطاني كونه سبب كل كارثة في البلد، فتمنى أن تدخل ألمانيا إلى العلمين في الحرب العالمية الثانية التي بدأت رحاها تدور، لتتخلّص مصر من هذا المحتل الثقيل.

لم تكن أمام فريد سوى ثلاثة أمور لا رابع لها، التركيز على المذاكرة في مدرسة الفنون التطبيقية والنجاح بتفوّق، المداومة على الملاكمة للحفاظ على لياقته البدنية، الذهاب إلى السينما التي أصبحت بديلاً لقلة العروض المسرحية التي كانت تلهب حماسة الجمهور ضد المحتل الإنكليزي، ما دفع الأخير إلى إغلاقها.

رأى فريد نجوماً وأبطالاً من نوع آخر على شاشة السينما، خصوصاً إذا حضر بعضهم العرض الأول لأفلامه وتهافت الجمهور عليه ورفعه أحياناً فوق الأكتاف.

دنيا النجوم

ما إن كان فريد يسمع أن أبطال فيلم ما سيحضرون حفلة افتتاحه، حتى يكون المشاهد رقم واحد الحاضر في صالة العرض، وبالتجربة والخبرة عرف أماكن جلوس الفنانين وكان يحجز مقعده بالقرب منهم، فربما لفت نظر أحدهم وطلبه ولو في دور صغير.

أصبح فريد زبوناً دائماً على الحفلات السينمائية الصباحية، إذ لم تكن ثمة عروض خاصة للفنانين في المساء، وزبوناً دائماً على الباب الخلفي لدخول الفنانين في مسرحي الريحاني ويوسف وهبي، وفي نوبة الوقوف أمام مسرح الريحاني في إحدى الليالي، ومع اقتراب وصول الأخير دنا منه «عم مجانس» بواب المسرح:

* يلا يا بني من هنا… الأستاذ على وصول.

- أنا هبص من بعيد بس من غير صوت.

* يلا يا بني… ماتجبلناش الكلام.

- والنبي ياعم مجانس… نفسي أشوف الأستاذ… ويا سلام لو خليتني أسلم عليه… تبقى عملت فيا جميل مش هنسهولك طول العمر.

* يلا يا حبيبي… إنت باين عليك مجنون.

وفيما كان يتداول فريد مع عم مجانس بين رجاء ورفض، وصل الأستاذ نجيب الريحاني بسيارته ولاحظ انشغال عم مجانس بعيداً عن حراسة الباب، التفت فوجده يقف مع شاب صغير على بعد أمتار من الباب:

* يا ليلتك اللي مش فايته… أهو الأستاذ وصل وشافنا كمان.

- فيه حاجة يا مجانس؟

* أبدا يا أستاذ… ده… ده واحد من البلاوي اللي بتتحدف كل ليلة… بسلامته عاوز يشوف الأستاذ ويسلم عليه.

- طب سيبه يا مجانس… وشوف شغلك… أهلا يا حبيبي… أهلا.

لم ينتظر الريحاني أن يردّ عليه فريد التحية، ودلف بسرعة إلى داخل المسرح، مع ذلك شعر فريد بأنه يطير فوق الأرض، فقد خصّه الريحاني بالسلام، ومن الممكن أن يتحدث معه في المرة المقبلة ويبلغه أنه يريد أن يمثل، ربما وافق أن يلحقه بالفرقة، حتى ولو كومبارس صامت.

في اليوم التالي كان الموعد مع بواب فرقة رمسيس، غير أنه لم يكن يعرف التفاهم بالكلام، بل باليد، عكس عم مجانس، وقرر فريد أن ينتظر بعيداً حتى إذا ما شاهد يوسف بك، افتعل أي أمر ليلفت نظره.

حانت اللحظة، ونزل يوسف بك من سيارته، ووجد فريد نفسه يمشي مسرعاً ويقترب منه وتعمّد عدم السيطرة على نفسه في الوقت المناسب ليصطدم بيوسف وهبي الذي نهره بشدة:

* إيه يا ولد إيه قلة الأدب دي… مش تفتح… انت أعمى ما بتشوفش؟

عُقد لسان فريد، فلم يستطع الرد أو الاعتذار عما بدر منه، كان همّه أنه لمس الأستاذ، وشاهده عن قرب، والأهم أن الأستاذ «شتمه»… مؤكد ثمة أمل.

عقاب وثواب

عاد فريد منتشياً إلى بيته، ففي ليلتين متتاليتين كان محل اهتمام أكبر نجمين في القطر المصري، نجيب الريحاني ويوسف بك وهبي، حتى لو كان هذا الاهتمام بالتوبيخ والشتائم، المهم أنه أثار انتباههما، يا لها من فرحة وسعادة غامرة، لكن يبدو أن الأقدار استكثرت هذه الفرحة، فما إن دخل فريد إلى منزله حتى وجد والده، على غير العادة، يجلس في انتظار وصوله:

* حمد الله على السلامة يا فريد بيه…

- الله يسلمك يا بابا.

* الساعة في ايدك كام؟

- عشرة وربع.

* كدهه… طب ما لسه بدري… والا كنت ناوي تنام بره النهاردة؟

- خير يا بابا إيه اللي مضايق حضرتك كده؟

* اللي مضايقني إني اديتك الحرية لكنك ماكنتش قد المسؤولية… فرطت في مذكرتك ومدرستك… وآدي النتيجة سيادتك ساقط في علمين في الامتحان… بدل ما تنجح وتفرحني أنا وأمك وتشيل المسؤولية وتبقى مهندس قد الدنيا.. تسقط.

أحس فريد بأن الأقدار كلّها ضده، فبدلاً من أن ينجح ليحصل على دبلوم الفنون التطبيقية ويصبح مهندساً على الورق، كما تريد والدته، ليتفرغ لممارسة حبه الأول والأخير التمثيل، تتم عرقلته وتزداد المسافة بينه وبين الحلم، وإذا به أمام مواجهة مصيرية، ولا بد من حسم الأمر الآن وليس غداً:

- بابا… بصراحة كده… أنا كنت عاوز أقول لحضرتك إني متخلقتش لمسألة الهندسة والوظيفة والحاجات دي… أنا حاسس إني اتخلقت علشان أكون ممثل… ومش عارف ليه الإصرار على إني أذاكر وأضيّع سنين من عمري في حاجة أنا مش هشتغل بيها… حضرتك لك أصدقاء كتير في الوسط الفني، وبتحترم مهنة الفن والتمثيل، وكمان على صلة قوية بصديقك يوسف بيه وهبي… ليه ما تتوسطش عنده علشان أختصر الطريق وأشتغل ممثل؟!

ظل الوالد يستمع إلى فريد وهو صامت لم ينطق بكلمة واحدة، جاحظ العينين، وما إن انتهى فريد من كلامه حتى ردّ عليه بجملة واحدة:

* إذا كنت غلطت في الأول إني شجعت على الهواية دي… فأنا دلوقت لازم ألحقك قبل فوات الآوان… موضوع التمثيل ده انساه نهائي… قدامك شهرين تذاكر فيهم العلمين اللي سقطت فيهم… وقبل النتيجة مفيش كلام بينا.

شعر فريد بأن الدنيا أظلمت في وجهه، ولم يكد كلام والده ينتهي حتى سقط مغشياً عليه، وأكد الطبيب أنه تعرّض لصدمة عصبية عنيفة لم يتحملها. لازم فريد الفراش ما يقارب الشهر، عندها شعر والده بتأنيب الضمير وأنه قد يخسر ابنه البكر بسبب قسوته عليه، وما إن بدأ فريد يتعافى قليلاً حتى اقترب منه والده في تودّد محاولاً التعجيل بشفائه:

* إيه ياسي فريد… انت استحليت النوم في السرير والا إيه… مش تشد حيلك أمال علشان تمتحن العلمين اللي فاضلينلك على التخرج… بعدين أرجع في كلامي وأكلم يوسف بيه وأقوله يلغي المعاد اللي أخدته منه بعد ما تاخد الشهادة علشان نقابله وتشتغل معاه.

كأن والده منحه قوة مائة حصان، نفض فريد الغطاء عنه، واندفع نحو كتبه يلتهمها التهاماً، وقبل مرور شهرين كان قد حصل على دبلوم مدرسة الفنون التطبيقية وأصبح مهندساً، وجاء يوم الوفاء بالوعد ولم يفاتح فريد والده في شيء، غير أن الوالد لم يتركه ينتظر طويلاً:

* اعمل حسابك يا فريد… بكره الساعة اتناشر الضهر هنقابل يوسف بيه في مرسح بريتانيا في الجيزة.

- اتناشر الضهر… بس اللي أعرفه أنه بيروح المسرح الساعة تمانية بالليل.

* الليل ده للشغل… ولو أبوه عبد الله باشا وهبي مش هيقابله بالليل… لكن النهار ده للمقابلات والاتفاقات والبروفات… جاهز ولا أقوله يأجّل المعاد؟

- يأجل مين… أنا جاهز من دلوقت.

الامتحان

تقدّم والد فريد نحو يوسف بك، بينما شعر فريد بأن قدميه لا تقويان على حمله، فهذا أصعب موقف يمرّ به في حياته، سيجلس أمام يوسف بك ويتحدث معه، والأهم أنه سيختبره… ليت الله يمرر هذه اللحظات العصيبة على خير:

* أهلا محمد أفندي… اتفضل… قهوة محمد أفندي يا منصور.

- ده فريد ابني اللي كنت كلمتك عنه.

* آه… أهلا… وانت تعرف تمثل يا بني.

تردد فريد من هول الموقف ولم يستطع الإجابة، فسأل يوسف وهبي والده:

* إيه ابنك أخرس وجايبه يمثل يا محمد أفندي.

- لا يا بيه… أنا كويس.

* حافظ حاجة؟

- أيوه حافظ أغلب شغل حضرتك يا بيه… وكمان حافظ مسرحيتك الأخيرة «الدفاع» كلها.

* طب اطلع ع المسرح كده وريني هتقول إيه.

استجمع فريد قواه وصعد إلى خشبة المسرح، وأدى مونولوجاً طويلاً من تلك المونولوجات التي كان يؤديها يوسف وهبي ببراعة تلهب الجمهور بالتصفيق، وعندما انتهى نظر إلى وجه والده ليقرأ عليه رأيه في ما قدّم، فوجد عليه علامات السرور، ثم تحوّل ببصره إلى يوسف وهبي ليجد وجهه محايداً، لا رضا ولا غضب، غير أنه صمت قليلاً، بعدها رفع بصره إليه، وهنا اضطر فريد إلى أن يسأله:

* إيه رأي حضرتك يا بيه؟

- حمار.

شعر فريد بألا وجود له على الأرض وبأنه تلاشى، فقد انتهى أمله وضاع مستقبله، هذا رأي ليس بعده رأي آخر، غير أن يوسف وهبي أكمل كلامه:

- عارف حمار ليه؟

* لا يا فندم مش عارف.

- لأن يوسف وهبي موجود… ومينفعش يبقى فيه اتنين يوسف وهبي… انت بتقلدني… والناس دايما بتبص للأصل وتسيب التقليد… علشان كده عمرك ماهتبقى ممثل لو قلدتني أو قلدت غيري… لازم تبقى نفسك… تبقى فريد مش يوسف… اتفضل مع السلامة… شرفت يا محمد أفندي.

كأن كلام يوسف وهبي أغلق باب الجنّة في وجه فريد، وانهارت أحلامه في لحظة، غير أن والده فهم الرسالة، وقبل أن يتمادى فريد في ندب حظه فاجأه يوسف وهبي:

- يا ولد… البروفة الساعة اتناشر… اتناشر ودقيقة مش هتدخل المسرح.. مش علشان والدك صديقي… أنا معنديش صداقة في الشغل.

في اليوم التالي كان فريد شوقي في الحادية عشرة صباحاً على خشبة المسرح، وقبل موعد البروفة بساعة كاملة، في محاولة منه لإثبات انضباطه أمام الأستاذ، جلس يتأمل المسرح والكراسي، ولم يصدّق أنه سيقف أمام الأستاذ وأنه أصبح ممثلا محترفاً يتقاضى راتباً شهرياً من التمثيل بعدما كان ينفق عليه مصروفه وكل مليم تطاله يداه!

احتراف التمثيل

لم تمرّ لحظات حتى بدأ الممثلون يتوافدون تباعاً، حاول فريد أن يبدو بمظهر الواثق من نفسه، فهو اليوم زميل لهم وليس معجباً أو مشاهداً، يلقون عليه التحية فيبالغ بردّها تأدباً، غير مصدّق وجوده بين كواكب ونجوم طالما حلم بأن يراهم على خشبة المسرح أو على شاشة السينما.

السيدة أمينة رزق بطلة الفرقة، ومن هذا الأستاذ حسين رياض بكامل أناقته؟ ومن هؤلاء؟ السيدة علوية جميل، الأستاذ حسن البارودي، الأستاذ أحمد علام، الأستاذ فاخر فاخر… أسماء لها ثقلها الفني وحضورها القوي.

يوم بعد آخر شعر فريد بأنه واحد من هذه الأسرة الفنية، حصل على نسخة مكتوبة من الرواية الجديدة التي لم يختر لها يوسف وهبي عنواناً بعد، أمسك بها وجلس بينهم ينظر فيها، قرأ كل منهم دوره، وبقي فريد صامتاً، وعندما صعد الجميع لعمل بروفة الحركة على خشبة المسرح صعد معهم، لكنه وقف صامتاً، حتى انتهت البروفات، عندها طلب يوسف وهبي من كل فرد في الفرقة اقتراح اسم للرواية الجديدة، لم تكن المرة الأولى التي يطبّق فيها هذا التقليد مع أن الإسم يكون حاضراً في ذهنه، غير أنه يظهر شكلاً ديمقراطياً في الحوار، وإن كان في حقيقة الأمر هو ديكتاتور فوق خشبة المسرح وفي غاية الديمقراطية والحب بعيداً عن الفن.

جاءت اللحظة، وما إن طلب يوسف وهبي تقديم اقتراحات بالإسم حتى صمت الجميع في لحظة تفكير كالعادة، ومن دون تفكير أو استئذان وبإحساس المشاركة نطق فريد شوقي:

* نسميها «طريق الضلال».

وجم أعضاء الفرقة وهم ينظرون إلى هذا المسكين مشفقين عليه، ونظر إليه يوسف وهبي نظرة كادت تقسمه إلى شطرين، ثم سأله:

- حضرتك قلت إيه؟

تردّد فريد قليلاً عندما قرأ نتيجة ما قاله في أعينهم، فنهره مستفسراً:

* طريق الضلال.

- طظ.

كان هذا الدرس الأول الذي تلقاه فريد في مدرسة يوسف وهبي، ألا يتحدث من دون أن يطلب منه، حتى لو طلب منه الكلام، أن يتريث قبل الرد على السؤال.

كان الإسم الذي اختاره يوسف وهبي للمسرحية هو «بنات الريف»، وكان دور فريد شوقي في المسرحية شرطياً يحمل بندقيته ليحرس المتهم الموجود في قفص الاتهام في قاعة المحكمة.

لم يكن هذا الدور الوحيد الصامت الذي ناله فريد شوقي في فرقة رمسيس، فقد تعددت الروايات وتعدد ظهوره فيها ككومبارس، وإن تنوعت أدواره، مرة عسكري شرطة، وأخرى عامل فقير يمرّ في خلفية الممثلين على المسرح، وثالثة نادل يدخل ليقدم الشاي والقهوة، هكذا، تنوعت الأدوار والصمت واحد.

مرت أشهر وأصبح فريد صديقاً مقرباً إلى فناني الفرقة، ما شجعه على أن يفاتح البعض في أمر هذا الصمت المريب، فاقترح عليه حسين رياض أن يطلب من الأستاذ أن يجعله متكلماً، شرط أن يفاتحه في هذا الأمر بعيداً عن المسرح.

لم يضيّع فريد وقتاً، وفي أول فرصة ضبط فيها الأستاذ وهو يجلس جلسة صداقة وسمر وفاتحه في الأمر، وكانت المفاجأة التي لم يصدقها فريد، فقد وافق وهبي من دون تردد، وكان ذلك اليوم بمثابة عيد له، سيقف على المسرح إلى جوار يوسف وهبي ويمثل ويتكلم.

بالفعل كان يوماً خاصاً، دعا فيه فريد والديه وأشقاءه وعمته، لحضور أول مسرحية سيمثل فيها ناطقاً، مودعاً الصمت، صفقت له الأسرة طويلا، لمح دموع الفرح الممزوجة بالاعتذار في عيني والدته، اعتذار عن كل ما قالته في حقه وحقّ التمثيل، فهي اليوم تريد أن تصعد إلى خشبة المسرح وتقول للجمهور:

هذا ابني.

أما الأب فكان رده عملياً على هذا النجاح، هدية قيمة عبارة عن حذائين جديدين وبذلتين جديدتين… فقد أصبح فريد شوقي ممثلاً بالفعل.

البقية في الحلقة المقبلة

الجريدة الكويتية في

03/08/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)