حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

كارلوفي فاري في دورته السادسة والأربعين: السينما شقوق في القوقعة

كلّ تركيا في فيلم وإسرائيل بلا سياسة

إبن غافراس يجنّن ورسّام يفضل الصمت

كارلوفي فاري - هوفيك حبشيان

مخلّفات الأزمة الإقتصادية الطاحنة لا أثر لها في كارلوفي فاري ومهرجانها الشهير الذي يقدم هذه السنة دورته السادسة والأربعين: الامكانات لم تقلص ولا يزال الضيوف يتوافدون بأعداد كبيرة من بلدان الجوار والعالم، والأفلام كلها هنا في انتظار عيون المشاهدين.

كل شيء على ما يرام ما دام الرعاة الذين يساندون هذا الحدث، طبعة بعد ثانية، لا يتخلفون في واجباتهم والدولة التشيكية لا تمانع في الوقوف الى جانب الادارة ايماناً منها بدور مهرجان مثل هذا. وبعد مرحلة جرى فيها الحديث عن نقله الى العاصمة براغ، من الواضح أن المهرجان وجد توازنه وصار الاعتماد عليه كبيراً في بث ثقافة المشاهدة. لا يقتصر الدعم المعنوي للسلطة التشيكية على الاجتماعيات البليدة وارسال المندوبين. فالرئيس فاتسلاف كلاوس حضر بنفسه حفل الافتتاح. عندما نقول "حضر" نعني انه لم يغادر بعدما تسلمت جودي دانتش الجائزة الفخرية كما كان مقرراً، انما جلس وزوجته مع الجمهور يشاهدان فيلم الافتتاح "جاين اير".

كما جرت العادة، استجاب الجمهور لدعوة مئات الأفلام المعروضة. صالة "فيلكي" الكبيرة ممتلئة دائماً. وفي بعض العروض افترش المشاهدون أرضاً. يجذب كارلوفي فاري في كل عام نحو 150 ألف مشاهد. أي 40 في المئة مما يجذبه مهرجان مثل برلين أو روتردام. عدد سكان هاتين المدينتين أكبر من عدد سكان كارلوفي فاري بمئات المرات. ليست النجومية والبهرجة من أولويات المهرجان، لكن لا تمانع الادارة في تطعيم الحدث بأسماء براقة تساهم في جعل الموعد الأول للسينيفيلية في أوروبا الوسطى مناسبة لاحتفالية توقظ المدينة النائمة من أحلامها المتواضعة.

طوال أيام المهرجان، يبدو المكان كأنه في عرس متواصل. الرواد ومعظمهم في عشريناتهم يتجمعون في بضع حانات ليلية يستمر فيها السهر حتى الصباحات المبكرة. المتفرجون من بعيد، الذين لا يرتادون الصالات ولا يهمهم ما يحصل على الشاشات البيضاء، يتجمهرون مساء، لمشاهدة بعض نجوم السينما الأميركية أو التشيكية او الأوروبية، وهم يسيرون على السجادة الحمراء ويلقون التحية. حفل الافتتاح باذخ الامكانات دائماً: وصلات راقصة واستعراض وانترتنمنت، على رغم الطابع الرصين لحدثٍ، هاجسه الأول سينما المؤلف.

اذاً، كانت البداية مع "جان اير"، أفلمة جديدة لرواية شارلوت برونتي تحمل توقيع الأميركي كاري فوكاناغا. هذه ليست المرة الاولى تنكبّ السينما على الكتاب الشهير، بل هناك عشرات النسخ تتفاوت قيمتها بين واحدة وأخرى، ولا نعرف ماذا يضيف فوكاناغا إلى زملائه الذين سبقوه في نقل نصّ برونتي الى الشاشة. ربما لا شيء، سوى ان ماكينة الانتاج السينمائية عليها أن تواصل دورانها لأسباب لها علاقة بالتجارة والمال.

هذه السنة، معظم الأفلام الـ12 المتسابقة لجائزة "كرة الكريستال" لأفضل روائي طويل، هي من أوروبا. دزينة من الأعمال الجديدة ستعاينها لجنة مؤلفة من سبعة أعضاء، هم ايضاً من الأوروبيين، ما عدا الناقدة الاسرائيلية المعروفة ايدنا فاينارو. الرئيس؟ ايتسفان تسابو، المخرج المجري الذي يحمل خلفه تاريخاً مجيداً لكنه بات مقلاً في المرحلة الأخيرة من مساره. لا نعرف كيف سيتلقى هذه الافلام التي فيها الكثير من التجارب الاولى والشابة. صنع الرجل بعض الأمجاد من خلال سينما نجد جذورها في تقلبات أوروبا الشرقية الملهمة، وخياراته ستنم ربما من هذا المنطلق.

كارلوفي فاري منصة لأفلام أوروبا الشرقية التي تتيح لك ان تراها كجدارية كاملة متكاملة، مع نقاط ضعفها وهواجسها، ولكن أيضاً بأسماء جديدة واعدة. لذا، على المرء ان يكون مهيأ للاكتشاف وجاهزاً لنسيان كيف تُصنع السينما في بلدان تملك صناعة سينمائية. برغم من أن هناك فيلمين فقط في المسابقة الرسمية من تلك الأوروبا، واحداً من البلد المستضيف وآخر من بولونيا، فثمة قسم كامل لهذه المنطقة، تحت اسم "شرق الغرب"، حيث تتنافس أفلام من قازاقستان وجورجيا ومقدونيا، ويبلغ عددها في هذه الدورة 12 فيلماً، فيها الطالح والصالح. لكن المشكلة الكبرى في كارلوفي فاري تبقى الكيفية التي يتم فيها اختيار الأفلام، وهو انتقاء يخضع لإشكالية تاريخية دخلت ربما في لاوعي المهرجان. وإذا كانت الادارات المتعاقبة منذ سقوط الستار الحديد تجاوزت المعايير المزدوجة، فبعض الهواجس تعود الى الواجهة بين حين وآخر، محاولة افساد صدقية خيارات المنظمين، الذين، ليس هناك ادنى شكّ في انهم ضحايا منظومة مهرجانية حيث الكبير يأكل الصغير.

من برنامج متنوع تتفرع منه اقسام كثيرة، يحار المرء ماذا يشاهد ووفق أي معطى يخطط ليومياته داخل الصالات المظلمة. وبرغم أن المسابقة هي المكان الذي من المفترض أن يحمل التجارب المثيرة، فمن الأكيد ان من "يضل" طريقه الى هوامش المهرجان، قد لا يتعرض للخذلان. اكتشاف سينمات جديدة، تلك التي تبقى أسيرة العتمة وقلة الاطلاع والفضول، شيء لا يعطيك اياه المهرجان بل تأخذه بالقوة. من بين اكتشافاتنا هذه السنة، في قسم "نظرة اخرى"، الفيلم الأول لرومان غافراس، ابن المخرج الفرنكو يوناني المعروف كوستا غافراس. في بدايته هذه، لا يختار غافراس السهولة: "يومنا آت" رحلة بسيكولوجية يقوم بها شخصان الى اقاصي العنف والمجون والحياة التي تنطوي على مقاربة نيهيلية. شابان أقل ما يمكن القول عنهما انهما غاضبان ويحملان في نفسيهما ضغينة ضد مجتمع كامل. وهذا كله لأنهما أصهبان.

انها سينما تذكّر بالأفلام الاستفزازية التي نشأت في نهاية الستينات وبلورت نظرة فارغة من أي محتوى ايديولوجي، سوى المقاربة العدمية للحياة وما حولها واعتبارها همّاً لا بد من تجاوزه بالمخدرات والجنس السريع وخوض المغامرات الخطرة. أحد هذه الأفلام هو "الخصيتان" لبرنار بلييه الذي انطلق فيه كلٌّ من جيرار دوبارديو وباتريك دوفير. الإبحار في هذا الميدان ليس جديداً بالنسبة الى غافراس الذي سبق أن أنجز كليباً غنائياً لفرقة "جوستيس"، صوّر فيه مجموعة من شباب الضواحي، من ابناء المهاجرين، يقصدون باريس ويثيرون فيها الرعب والفوضى ويتحشرون بالناس ونلتقط في عيونهم الكره والفراغ. الفيديو، ذو الواقعية المقلقة والمتقنة الصنع، اسمه Stress وقد شاهده على موقع "يو تيوب" أكثر من مليون شخص واستفز كثيرين. لا تختلف باكورة غافراس عن هذا الكليب، مع فرق أساسي انه لا بدّ من أن نتعاطف هنا، ولو قليلاً، مع البطلين لأنهما ضحية التمييز الاجتماعي الصارخ، حتى لو بقي هذا التمييز خارج الاطار. لذا، يتحول الفيلم في ادارة غافراس وانتاج فنسان كاسيل (انتاجاً وتمثيلاً، ولا ننسى انه ممثل فيلم "الكراهية" لماتيو كاسوفيتس)، الى نقد اجتماعي وتعليق سياسي لاذع يقفز خلالهما المخرج من التمييز الذي يتعرض له الأصهب، الى كل اشكال التمييز، في اطار استعارة لا تحمل أي خبث.

لا يملك المخرج الشاب، أقله الى الآن، لا عظمة ليو كاراكس ولا جنون بلييه، لكنه على شجاعة تخوله الذهاب الى الآخر الى أن تصبح الفكرة عبارة عن قطعة قماش مهترئة في يده، فيمزقها ويرميها في وجه المشاهد. ليس في الفيلم مجانية العيش ولا التمرد اللذان يكمنان في بعض أفلام هذا الصنف، لكن راديكاليته تأخذه الى طرح خطاب فوقي أخاذ من وجهة نظر شخصين تجمعهما الضغينة ذاتها، المتكونة من جراء نظرة الناس اليهما. على مدار 90 دقيقة، يتشارك هذان اللذان يلتقيان بالمصادفة، نفقاً محفوفاً بعدائية مرضية، لن يلاقيهما الخلاص في نهايته، كما هي الحال في افلام أقل سوداوية وشؤماً من هذا. صوِّر العمل في العمق الفرنسي: أراض خالية من أي جمالية تولّد فيها كاميرا غافراس فتنة وخللاً، الى مساحات متروكة لمصيرها وشخوص مهملة. لا يوفر المخرج أياً ممن يلتقيهم على طريقه، من المهاجر العربي القبيح ومصدر الازدراء الى اليهودي المحاط بخطوط حمر، الى المثلي غير المرغوب به وصولاً الى فرنسا بأكملها، التي يجعل منها غافراس سجناً كبيراً على رغم الحرية الموقتة التي يمنحها لبطليه.

اذا كانت كلمة "بطل" لا تليق كثيراً بما هو عليه وضع الشخصين اللذين يضعهما غافراس في مواجهة محيطهما، فتعبير "البطل المضاد" هو الأنسب لوصف الشاب مرتكان في فيلم المخرج التركي سيرين يوجيه (1975)، "الأكثرية"، الذي عُرض في قسم "آفاق". هذا الشاب الذي نراه منذ افتتاح الفيلم يمارس رياضة الركض مع والده في الغابة، لن نتأخر في اكتشافه شاباً كآلاف الشباب في المجتمعات الشرقية المحافظة حيث الاعتماد على الأهل. لا طموح لهذا الذي يتسكع مع أصحاب لن نعرف عنهم الكثير، سوى القبول بالمستقبل المرسوم أمامه سلفاً، وهو تسلم شركة والده للبناء.

في البيت، لا يزال يعامله والداه على انه صبي لا يفقه شيئاً. لكن هذا كله لا يولد عند الشاب الأخرق وغير المتعلم أي احساس بالتمرد على سلطة الأب الذي لا يتوانى عن صفعه أو شتمه. أما الأمّ فلا تنفع أكثر من أن تكون طباخة المنزل، علماً انها تعاني من "رجل بلا احاسيس" (الوصف لها). هؤلاء من ذوي الطبقة الاجتماعية الوسطى في تركيا اليوم، حيث كل خطاب يلفلف ببعض الاجتهادات الخرقاء في حبّ الوطن. هذا ليس اسقاطاً نقدياً، بل خطاب واضح في نصّ يوجيه. فالعمل بأكلمه يدور على مرتكان واحتمال صراع ما إن يطلّ برأسه الخجول حتى يقمع نفسه بنفسه. اللحظة المفصلية التي يصوّرها المخرج هي لحظة انتقال الشاب من الضحية الى الجلاّد، هي اللحظة التي كان يمكن فيها بطلنا المضاد أن يفلت من سلطة العائلة والوطن (يهدده والده بإرساله الى الجيش ويريد اقناعه مستخدماً شعارات الوطنية)، لكن تربيته وتكوينه لا يؤهلانه لذلك. فهو يختار راحة الالتصاق بالعشّ العائلي على أن يحقق ذاته.

كما كان يقول جان رونوار "أسوأ ما في الأمر أن الكل محقّ!". فكل من الأمّ والأبّ والإبن ضحية تربية ذكورية غير محببة تظهر الى العلن ما إن يقع مرتكان في غرام غول، فتاة بسيطة تعمل في مطعم، فنكتشف ان أكثر ما يُشعره بالسعادة هو تمضية لحظات حميمية ملهمة برفقة انثى هي دائماً في دائرة الاقصاء والابعاد (الأمّ، الخادمة، الحبيبة). هذا اللقاء مناسبة لنا لنكتشف شاباً غير قادر على أن يسلم نفسه لأحاسيسه. وهو، على كل حال، لا يملك أي سلطة لتقرير مصيره، اذ ما ان يكتشف والده أنها كردية (الفيلم يعرّفها كـ"غجرية"، نظراً الى حساسية تناول شخصية كردية في افلام تركية)، حتى يطلب من ابنه أن يتخلى عن هذه العلاقة.

يقدم "الأكثرية" ربّ العائلة في قالب رجل ظالم لا يُهزم. وحش يفسد ابنه معتقداً انه يبني له مستقبلاً. زوج غير حنون ورجل أعمال لا يتأخر عن غش سائق سيارة أجرة يصدمه ابنه بسيارته. شخصية الأب هذا، لا تتحول في اي لحظة من اللحظات الى كاريكاتور للأب الظالم والمستبدّ، لأن يوجيه يعرف كيف يلعب مع توازناته. كل تركيا في هذا العمل الذي ينتهج اسلوب المعالجة الهادئة ويحمل قدراً معيناً من الجرأة لا سيما في مشهد المضاجعة الذي لا يمكن ايجاد مثله في أفلام تركية كثيرة.

على رغم رتابة ايقاعه المشغول بعناية وذوق، يفلح الفيلم في الخروج على نفسه واشاعة جوّ من القلق والانغلاق في الجزء الأخير منه. على خلفية التراكمات (موت، انفصال، خوف...)، يعود الشاب الى المنزل، بعد أن يسلّمه والده احدى الورش في منطقة نائية، اي بعد أن يكون قد انقذ نفسه من أي احتمال للتغيير.

"لا للبيع ولا للإيجار"، وهو ثالث أفلام الرسام الفرنسي باسكال راباتيه (عُرض في المسابقة الرسمية الخاصة بالأفلام الروائية الطويلة)، يختلف، نهجاً وفكراً، عن معظم ما شاهدناه في المهرجان. هنا، ايمان حقيقي بالصورة كوسيط وحيد لإخبار قصة ونقل معلومات. التحدي ليس سهلاً ولا سيما أن راباتيه يطمح الى أن يكون جاك تاتي آخر، ولا يخشى التقاط المشاهد في منطقة قريبة من سان مارك حيث جرى تصوير "عطلة السيد أولو" لتاتي. الفيلم طريف جداً بشخصياته الغريبة ومواقف متكررة نخرج منها في كلّ مرة بنتيجة مختلفة. لكن الخفة التي يقتفي راباتيه أثرها، تمنعه من تعميق خطابه والتحليق عالياً في سماء الفنّ السابع، على الرغم من براعته في توليد الضحك من اللاشيء، وانتهاج السخرية من هؤلاء المصطافين الذين يضعهم قبالة عدسته. السيناريو يعمل وفق منطق السرد المتوازي، أي اننا نرافق شخصيات عدة نتركها ثم نعود الى كلٍّ منها. النصّ مشيّد على عاهات كلاسيكية في الكوميديا. في حين يكون ملهماً في اطلاق نكتة معينة، لا يسعفه خياله المحدود في اطلاق نكتة اخرى، لذا يظلّ الفيلم أسيراً للتفاوت الدائم. يبقى أن هناك لمسة سحرية، ضوءا مبهرا، مواقع خلابة تحرسها الشمس والسماء الفاقعة، سينماسكوب "أعرض" من الحياة نفسها، ومشروع مخرج لم يقل كل شيء بعد.

هناك فيلمان على قدر من الأهمية عُرضا ايضاً في المسابقة الرسمية: "شروخ في القوقعة" للالماني كريستيان شواشو و"ترميم" للاسرائيلي جوزف مادموني. في الأول، ذي العنوان الذي يختصر ما هي عليه السينما في كارلوفي فاري، نتابع حكاية ممثلة شابة تدعى فينه تقع في شباك تجسيد دور مسرحي يتطلب منها التورط الكامل في المستلزمات النفسية لذلك الدور. على الرغم من أن المحيطين بها لا يؤمنون بموهبتها، تأتيها الثقة من مخرج يعرض عليها الاضطلاع بدور كاميّ بعد أن يجد فيها المواصفات المطلوبة. لكن عالم المسرح لا يرحم والعمل مع المخرج قاس. فما بالك اذا كانت فينه تعاني ايضا من عدم استقرار، وعليها معاونة شقيقتها المريضة؟ النتيحة: دراما بسيكولوجية تحملها شتين فيشر كريستنسن على كتفيها النحيلتين، وتقنعنا بما تقدمه، على أمل أن تقتنص جائزة أفضل ممثلة مساء السبت المقبل. أما شواشو فيعرف كيف يلتقط النبض المسرحي، من خلال النحو الذي يحرك به الكاميرا، والتقنية المونتاجية التي تجعلك تعتقد انك أمام المرحلة الدوغمائية للارس فون ترير. خيبات الأمل، العلاقات المكلومة، تعرّفها إلى شاب ومن ثم الانفصال، هذا كله يصنع منها الممثلة التي تعتلي الخشبة في المشهد الأخير بعد أن تكون قد نجت من الموت. كما كتب نيتشيه ذات يوم: ما لا يقتلك، لا بدّ من أن يجعلك أقوى.

أما الفيلم الثاني، فهو "ترميم" الذي يتبع طريقة كلاسيكية جداً في الصناعة، ليقول لنا ما لا نتوقعه عموماً من فيلم اسرائيلي. فالعمل أولاً خال من أي مقاربة سياسة، الا اذا رأينا في بعض جوانبه "لطشات" خاطفة لا يملك الفكر الوقت الكافي لإدراكها. يبدأ كل شيء عندما يموت مالامود بسكتة قلبية وهو على أبواب السبعين. للرجل شريك هو ياكوف فيلدمان (الممثل ساسون غاباي الذي لعب في "زيارة الجوقة") يقع تدريجاً في فخّ مساءلة الذات واعادة النظر في جدوى الوجود وسط قول الجميع له إنه لا يصلح لشيء في غياب شريكه الراحل. يترجح الفيلم بين النوستالجيا لزمن غابر (البيانو الألماني رمزاً)، يقطن في ياكوف أكثر مما هو يقطنه.

المهرجان لا يكتفي بعرض الجديد. هناك حيز كبير للاستعادات والقراءات المستحدثة لأعمال طبعت زمنها في ظل المعطيات الاجتماعية والسياسية الجديدة. فالدورة الحالية تشهد تكريم صامويل فوللر وجون تورتورو. يُعرَض للمخرج 11 فيلماً من بينها "رواق الصدمة" (1963) و"القبلة العارية" (1964) و"كلب أبيض" (1982). هناك تكريم موجه أيضاً الى دوني فيلنوف، الكندي الذي أخرج "حرائق" مستوحياً من الحرب اللبنانية ذلك الفصل الدموي الذي يقود امرأة (لبنى أزابال) الى تراجيديا عائلية مؤثرة. من قسم "خيارات مجلة فرايتي"، الى الفسحة المعطاة الى جيل جديد من السينمائيين اليونانيين في مرحلة أوروبا قلقة على ما ستؤول اليه الاحوال الاقتصادية في اثنيا، يحار المرء ماذا يشاهد وأي صالة يدخل. الى هذا كله، عشرات الأفلام التي سبق لها أن عرضت في كل من كانّ وبرلين والبندقية: من الفيلم الفائز بـ"سعفة" كانّ، "شجرة الحياة" لتيرينس ماليك، الى "ذات مرة في الاناضول" لنوري بيلغي جيلان وصولاً الى "نادر وسيمين: الانفصال" لأصغر فرهادي (الدبّ الذهبي في برلين 2011) مروراً بآخر أفلام كل من ميشال أوسلو والأخوين داردين وناني موريتي وأكي كوريسماكي وبدرو ألمودوفار وبيلا تار. وأخيراً عملان بديعان كانا في الدورة الأخيرة من مهرجان البندقية: "بوست مورتم" لبابلو لارين، و"فينوس سوداء" لعبد اللطيف كشاش، وهو العربي الثالث المشارك في كارلوفي فاري بعد اللبنانية رانية عطية التي يُعرض لها "طيب، خلص، يللا" وسامح الزعبي الذي قدّم فيلمه الركيك "بدون موبايل"...

( hauvick.habechian@annahar.com.lb)

النهار اللبنانية في

07/07/2011

 

«أُعلنت الحرب» و«حمّام بخاري في القمر» في عروض «أسبوع النقد» في «متروبوليس»

السينما كألم شخصي واستقصاء لأحاسيس الجسد

نديم جرجورة 

سارت أمور «أسبوع النقد»، في نسخته اللبنانية الخامسة المنتهية مساء غد الجمعة بعرض البرنامج الثاني للأفلام القصيرة في صالة سينما «متروبوليس» في «أمبير صوفيل» (الأشرفية) بدءاً من الساعة الثامنة والنصف، بخير. مُشاهدون عديدون جاءوا الصالة للمُشاهدة. لمتعة «الفرجة». للتعرّف على أساليب وأسماء. الأفلام بحدّ ذاتها مختلفة، أو متناقضة. أنماط واشتغالات. هذا ما يثير الرغبة في المعرفة والاطّلاع والسجال النقدي، مع الذات أولاً. أو مع الذات على الأقلّ. الاختبار الذاتيّ البحت مفتوح أمام الجميع. التجارب العامّة أيضاً. الرؤية الخاصّة بهذا المخرج أو ذاك. التمرّد وإثارة إشكاليات أخلاقية واجتماعية وإنسانية وثقافية. هذا جزءٌ من برنامج متكامل، مستلّ من الدورة الخمسين للتظاهرة المنعقدة سنوياً في مهرجان «كانّ» السينمائي الدولي.

لكن، في المقابل، هناك ملاحظة صغيرة: اعتادت إدارات مهرجانات وتظاهرات سينمائية مختلفة، غربية وعربية على حدّ سواء، تقديم الأفلام المنوي عرضها، قبيل عرضها. لا بأس بهذا. التقديم، خصوصاً إذا كان أحد العاملين الأساسيين في الفيلم حاضرٌ في الصالة، خطوة للتعرّف. خطوة للتقارب بين الأطراف الثلاثة: الفيلم وصانعيه ومشاهديه. لكن الاسترسال في تفسير مضمون الفيلم وأسئلته وإشكالياته، يُصبح مسيئاً للفيلم وصانعيه، وللمُشاهدين أيضاً. يُسقِط عن الأخيرين هؤلاء جزءاً من متعة المُشاهدة. من الاشتغال على الذات ومعها في بناء علاقة ما بالفيلم وعوالمه وحكاياته وحالاته وفضاءاته. هذا ما حصل مساء كل يوم في «أسبوع النقد» بنسخته اللبنانية الخامسة. التقديم مفيد، إذا حافظ على خصوصية الفيلم والمُشاهد معاً. على خصوصية العلاقة التي سيبنيها المُشاهد مع الفيلم. لكن الاسترسال مُضرّ.

«أُعلنت الحرب»

إنه الفيلم الثاني لها بعد مرور عامين على تجربتها الإخراجية الأولى، المتمثّلة بـ«ملكة التفّاح» (2009). فيلم ثان اختبر الحدّ الواهي بين الواقع والسينما. اختبر معنى تحويل الذاتيّ الصرف إلى نصّ بصريّ لا يقف عند حدّ الاقتباس، بل يُحيل الوقائع والناس المرتبطين بها على شخصيات سينمائية. يُحيل الناس أنفسهم إلى ممثلين يُعيدون فبركة الحكاية سينمائياً، كأنهم يتحرّرون من وطأة الألم، وفداحة المأزق. كأنهم يريدون التطهّر، بالسينما، من أدران المرارة، وقسوة الحياة. كأنهم يستعينون بالسينما للخروج من فظاعة الوقائع إلى ما هو أبعد: العيش، مجدّداً، على الحدّ الفاصل والواهي بين الحقيقيّ والمتخيّل. اختبار معنى تحويل الذاتيّ الصرف إلى نصّ بصري دونه صعوبة القطع مع المعيش. أو هكذا يُخيّل إليّ. والقطع مع المعيش يعني تجاوز الاختبار الحيّ، في محاولة إنسانية لجعل المتخيّل وسيلة إنقاذ، بإعادة عيش الاختبار الحيّ نفسه أمام الكاميرا.

الحدود التي يُفترض بها أن تقوم بين الحياتيّ والسينمائيّ منعدمة هنا. القصّة حقيقية، والتفاصيل تكاد تكون هي نفسها التي عاشها أولئك المنتقلين من الاختبار الحيّ إلى اللحظة السينمائية. الممثلون هم أنفسهم الذين عاشوا الاختبار الحيّ بحذافيره. انعدام الحدود نابعٌ من الانتقال الجسدي والروحي والمعنوي والأخلاقي والنفسي، الذي قام به كل من عانى الاختبار الحيّ وعاشه، من وقائع الاختبار الحيّ إلى السينما. كأن الانتقال خطوة إضافية إلى الاغتسال المطلق من وجع الاختبار الحيّ. كأن السينما إضافة إنسانية تتيح بوحاً مغايراً للبوح المرافق للاختبار الحيّ.

هذا كلّه واضح في «أُعلنت الحرب»، الفيلم الروائي الطويل الثاني للممثلة والمخرجة الفرنسية فاليري دونزيلّي. هذه الأخيرة انضمّت إلى فريق الممثلين أيضاً. اختارت أن تكون هي نفسها أمام الكاميرا، بعد أن عاشت التجربة داخل الحياة، وعلى شفير الموت. الذاتيّ المطلق بات نصّاً بصرياً معقوداً على الانفعال المؤثّر. الشخصيّ المطلق بات صُوَراً متلاحقة عن إحدى أقسى الاختبارات الحيّة: العيش اليومي، على مدى أعوام متتالية، مع الموت. فالسينمائية الفرنسية المولودة في الثاني من آذار 1973 في «إيبينال» (فرنسا)، أقامت مع الموت المتفشّي في جسد وليدها آدام بهيئة مرض سرطاني في الرأس، قبل أن تُساق ووالده إلى مذبح التضحيات. أو إلى جحيم الأرض. القصّة السينمائية عادية: والدا طفل مُصاب بمرض خطر يعانيان الأمرّين، نفسياً وروحياً وعاطفياً ومالياً، لإنقاذ وليدهما هذا. القصّة السينمائية تفقد عاديتها، عندما يؤخذ نصّها من الاختبار الحيّ. التداخل بين الاختبار الحيّ والاشتغال السينمائي أساسيّ. إنه المدماك الأول. الجوهر المنبثقة منه العمارة السينمائية. الاختبار الحيّ أُعيد تمثيله أمام الكاميرا. ما أدّى إلى إنجاز فيلم انفعالي: مواجهة المرض، أي الموت، في مقابل التمسّك بالحياة. الطفل وحيداً في مواجهة مرض لا يفقه شيئاً منه. لكن والديه مدركان فداحة المأزق، من دون أن يتخلّيا لحظة واحدة عن الرغبة في إكمال حياة شبابية كادا يفقدانها. الفيلم انفعالي ومؤثّر، لأنه ساع إلى موازنة صعبة: الانزلاق في خوف مرضيّ من الاختبار الحيّ، في مقابل الصعود الدائم إلى الحياة.

لا يعني هذا كلّه اختزالاً للفيلم. فالمُشاهدة أقدر على إتاحة فرصة للمهتمّين في اختبار مماثل: أين هي الحدود «المفترضة» بين السينما والحياة؟ في «أُعلنت الحرب»، محاولة متواضعة جداً للإجابة على السؤال الثقافي للسينما. محاولة للقول إن الصورة السينمائية مُساعِدٌ فعّال على الاغتسال والتطهّر من الحياة، بتناقضاتها كلّها. فمنذ اللحظات السينمائية الأولى، تُفتح الستارة على المعاني الجميلة للحبّ. أو بالأحرى: على البدايات الجميلة للحبّ. لكن المسار الدرامي للاختبار الحيّ والاشتغال السينمائي معاً برهن، بطريقة أو بأخرى، أن البدايات الجميلة قادرةٌ، أحياناً، على تحصين الحبّ، ودفعه إلى مواجهة التحدّيات والانتصار عليها. بل الانتصار للحبّ أساساً.

«حمام بُخاريّ في القمر»

الفيلم الصيني مختلفٌ تماماً. عالم الأحاسيس مُضمَر، وإن انبنت حبكته الدرامية على الجسد وما يصنعه من إحساس. التفاصيل الصغيرة في «حمّام بُخاري في القمر» لزو بينغ مفتوحة على الحميميّ المصطدم بقسوة المحيط. الأجساد النسائية شبه العارية مدخلٌ إلى العالم المبطّن للعلاقات والحكايات. للرغبات المدفونة أو المقموعة. للأحلام المؤوودة أيضاً. البحث عن أجساد طرية وطازجة أشبه برحلة صيد بالنسبة إلى رجال لا يأبهون بالمرأة، لأنها جسدٌ أمام عيونهم. لكنها رحلة عذاب بالنسبة إلى النساء. التدريب على ممارسة «افتراضية» للجنس مع زبون متشوّق إلى إسقاط تهويماته في غرفة صغيرة ومنغلقة على الخارج، دعوة إلى جعل المهنة افتراءً. أو تأكيد على أنها هكذا. والزبون المتشوّق إلى تفريغ مكبوتاته لا ينتبه ولا يكترث. يريد المرأة كما يرغب. أو كما يرى في باطنه. أو في مخيّلته.

حكايات الفيلم الروائي الطويل الثاني لبينغ، بعد عامين اثنين على إنجازه الأول بعنوان «دونغبي دونغبي» (2009)، موزّعة على نساء وحالات. الحب مفقود. الرغبة في تحقيق حلم الغناء عاجزةٌ عن التحقّق. العلاقة بالابن مساحة أوسع لراحة مرتبكة. نساء ورجال وأشياء لا تُعدّ ولا تُحصى. كأن الجسد النسائي سفرٌ إلى حرية موقّتة بالنسبة إلى الرجال الزبائن، ولا بأس إذا تجرّدت المرأة من انفعالها، كما تفعل بثيابها. والمدينة، المعقودة على الانفتاح والتجديد، لم تعد قادرة على منح «حمّام بُخاري في القمر» (أحد الأمكنة المخصّصة بالجنس) أعمالاً جيّدة. إذاً، هناك معضلة، أو أكثر: هناك جانب تجاري/ اقتصادي محتاجٌ إلى تجديد وتطوير ودفع إضافيّ لرفع الإيرادات وتحقيق الأرباح. هناك جانب عاطفي/ انفعالي مقتولٌ في أجساد نساء وأرواحهنّ المتشوّقة إلى الاغتراب عن البؤس. والبؤس لا يظهر في هذا الحيّز فقط، لأن العمل في مصنع خياطة مثلاً سببٌ لبؤس من نوع آخر. سببٌ لاختبار العمل في الملهى أيضاً.

فيلم مختلف. متتالياته البصرية أشبه بقصص قصيرة، مرتبطة مع بعضها البعض بخيط إنساني رفيع، في مقابل جشع رجال وظمئهم المجنون إلى السلطة.  

كلاكيت

لامبالاة تجاه الفيلم الوثائقي

نديم جرجوره

لا يزال كثيرون يتعاطون مع الفيلم الوثائقي بخفّة ولامبالاة. يسمّونه «الفيلم التسجيلي». ينزّهون عنه كل عمل إبداعي. لا يفقهون المرتبة المتطوّرة التي بلغها، غربياً بصورة أساسية، وعربياً بدرجة ملحوظة وسوية إبداعية لافتة للانتباه. يجعلونه مادة استهلاكية، يستفيدون منها تلفزيونياً وصحافة مكتوبة. أي أنهم يجدونه مناسباً ليملأوا به فراغاً هنا أو هناك.

هذه أزمة ثقافية أولاً، قبل أن تكون أزمة شعبية. مثقفون وإعلاميون وصحافيون يعتبرون الفيلم الوثائقي مجرّد ريبورتاج تلفزيوني لا أكثر. لا يُشاهدون أعمالاً جعلت السينما أساساً في بنائها الفني. لا يُدركون شيئاً من الصنيع السينمائي. لا يملكون ثقافة عامّة (كي لا أقول ثقافة سينمائية)، تخوّلهم التفريق بين العمل التلفزيوني والإبداع السينمائي. صحيحٌ أن التلفزيون قادرٌ على الإبداع، بل مُطالبٌ به أصلاً. صحيحٌ أن الشاشة الصغيرة قابلة للمُساهمة في رفع مستوى الوعي المعرفي، كأداة تثقيفية. لكن هذا كلّه مفقودٌ، لبنانياً وعربياً. والأسباب كثيرة: أبرزها كامنٌ في جهل الأصول المبدئية للعمل الإعلامي، ما أدّى إلى «نقل» الجهل نفسه إلى شرائح واسعة من المُشاهدين المتسمّرين أمام الشاشة الصغيرة كأداوت استهلاكية. والصحافة المكتوبة؟ حدّث ولا حرج.

يُعاني الفيلم الوثائقي مشكلة كهذه منذ زمن بعيد. عاملون في الإعلام والصحافة يجهلون الفرق الكبير بين الريبورتاج/ التحقيق التلفزيوني والفيلم الوثائقي. كثيرون متمسّكون بتعبير «الفيلم التسجيلي». وإذا استخدموا مفردة «وثائقي»، ظنّوا أن الأمر واحدٌ. هذا مسيء إلى الإبداع السينمائي لأفلام وثائقية منفضّة عن اللغة التقليدية في صناعة هذا النوع البصري. غالبية العرب مبتعدة عن شؤون الثقافة والفن. لا ترغب في المعرفة، لأنها مأخوذة بالشكل. لا تكترث بهذا كلّه. تُصرّ على تسميات متداخلة مع بعضها البعض، لأنها تجهل الفرق بين الوثائقي والريبورتاج. هذا الأخير مهمّ. محطّات تلفزيونية غربية عدّة تُنتج ريبورتاجات صادمة بجمالياتها والتزامها الفني مفردات العمل. في لبنان والعالم العربي، هناك ريبورتاجات كثيرة محتاجة إلى تأهيل أصلاً. فما بالك إذاً بالإنتاج الوثائقي؟ هذا صحيحٌ. لكن، هناك سينمائيون لبنانيون وعرب أبدعوا في منح هذا النوع البصري تجديداً بديعاً في الشكل أولاً، وفي المقاربة الدرامية ثانياً. ومع هذا، لا ينتبه إعلاميون وصحافيون لبنانيون وعرب كثيرون إلى نتاجاتهم.

المسؤولون عن هذا المأزق متنوّعو الوظائف: المعاهد الجامعية المنتشرة في البلد كمرض سرطانيّ. المحطّات التلفزيونية التي لا تقلّ عن المعاهد انتشاراً سرطانياً أيضاً. الصحافة المكتوبة، التي يُفترض بها أن تكون متخصّصة بالشأنين التلفزيوني والسينمائي. ثم أن تجربة عرض الأفلام الوثائقية في صالات تجارية لا تزال منقوصة. هناك حاجة ماسّة إلى تفعيلها، للقول إن الفيلم الوثائقي سينمائي أيضاً، وإنه يُمكن للمرء مُشاهدته في صالة سينمائية. خاضت «متروبوليس» التجربة. حاولت إدارة المجمّع السينمائي «بلانيت» أن تفعل الأمر نفسه.

لكن الأمر نفسه هذا محتاج إلى جهود أكبر، وقناعة بالمغامرة. أما سلوك الآخرين هؤلاء، فكارثة.

السفير اللبنانية في

07/07/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)