حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

"سمك فوق سطح البحر"..محاولة على الطريق

رانيه حداد –عمان

الطريق الممتدة أمامنا تبدو مغرية ومحفزة على الاكتشاف، والموسيقى المصاحبة تضاعف هذا الإحساس، في لقطة عامة نتحرك مع السيارة باتجاه المجهول؛ طريق نائية..غامضة.. لكن دافئة في آن..؛ تلك هي اللقطة الأولى الموفقة من الفيلم الروائي الطويل الأردني "سمك فوق سطح البحر"، إخراج/ حازم بيطار، الذي افتتح عرضه الأول الأسبوع الفارط، لكن ما يلبث المرء أن يدخل هذا الجوّ المحفز والمشوق، حتى يقطع المخرج إلى مشهد حواري بين شخصيتين؛ المحامي وطلال –ابن المرحوم – في لحظة قراءة الوصية، ثم تتناوب اللقطات بين الطريق وحوار الشخصيتين، ومن هنا تحديدا تبدأ مشاكل الفيلم؛ بداية شكل المعالجة هذا والانتقال بين حدثين لم يُستثمر في تدعيم شعور الغموض والرغبة بالاكتشاف الذي خلقته اللقطة الأولى لدى المتلقي، إنما قطع المخرج هذا الشعور وتلك الرغبة، فقط لاعطاء المتلقي معلومات ومعرفة بالمسوغ الذي سيجبر طلال (ربيع زريقات) على الذهاب إلى منطقة غور المزرعة، لبيع منزله هناك - كل ما تبقى من ثروة والده المهدورة- فيسدد بثمنه البنك ويفك رهن بيته في عمان، كذلك كان من الممكن تأجيل معرفة سر السمكة في الزجاجة التي ورثها طلال، واستثمار هذا الرمز بشكل أفضل في بنية الحكاية، وفي خلق التشويق.

 ثانيا لم نرَ استمرارية أو استثمارا للأسلوب والبناء الزمني المستخدم في المقدمة على باقي مجريات الفيلم، حيث يبدأ الفيلم بلقطة الطريق التي يسلكها طلال بسيارته نحو غور المزرعة، والتي يأتي ترتيبها زمنيا بعد مشهد فتح الوصية وكنتيجة له، ثم ينتقل إلى زمن سابق عليه وهو زمن فتح الوصية، ويستمر التناوب بين الزمنين في مقدمة الفيلم، خالقا ايقاعا سريعا نسبيا، ومعززا  لشعور الترقب والغموض والتشويق عند المتلقي، لكن إبعد ذلك يواصل الفيلم سيره الزمني كرونولوجيا، وبايقاع ، وكأن مقدمة الفيلم تتبنى أسلوبا وايقاعا مختلفا عن باقي أجزائه.  

المكان والشخصيات

بنى المخرج فيلمه بالاعتماد على تجربته الشخصية هو و"ربيع زريقات" مع سكان منطقة غور المزرعة القريبة من البحر الميت، ليكتشفا عبرها الإهمال الكبير الذي خصت به الدولة سكان هذه المنطقة، فبقيت احتياجاتهم خارج التغطية، بالاضافة إلى الظلم الذي لحق بسكان غور المزرعة جراء السطو على ممتلكاتهم من قبل شخصيات من خارج المنطقة، وهو الألم الذي يحاول هنا المخرج عبر الفيلم أن يضع إصبعه عليه من دون أن ينجح في تقديمه بالشكل الملائم، إذ من المفترض أن تشغل منطقة الغور وحياة سكانها -المراد ابرازها- حيزا محوريا في الفيلم، لكن المخرج يمنح هذا الحيز الكبير لشخصية "طلال" لحياته ولمعاناته إثر صدمته بفقد ثروة أبيه، وتشرده في شوارع وسط عمان وفنادقها المتهالكة، ثم ذهابه إلى منزله في غور المزرعة، حيث تبدأ علاقة لطيفة بالنشوء بينه وبين الشخصية الرئيسية الثانية "أبي داوود "(عبدالله دغيمات) ابن الغور - خصم طلال في النزاع على منزل المزرعة- الذي ما من شيء يثبت ملكيته للمنزل سوى شهود على كلمة شرف أعطاها إياها والد طلال قبل وفاته مقابل عمله في المزرعة، في حين أن طلال يمتلك الأوراق الرسمية التي تثبت ملكيته هو لها، لكن أغلب الأحداث بينهما تنحصر مكانيا في هذا المنزل ونطاق ضيق أمامه -كلعب الأولاد في الشارع، والاجتماع حول اللحمة الزرب- وباستثناء مشهد يتيم في مزرعة صغيرة للبندورة، ليس هناك ما يقربنا من حياة المزارعين سكان تلك المنطقة ومعاناتهم، كما يقدم المخرج عددا كثيرا من اللقطات البعيدة لطلال والمكان حيث يظهر الطريق ونسيج الغور العمراني في خلفية اللقطة، مبرزا جماليات المكان في كادر جميل، لكن هذه اللقطات والحيز الكبير الذي تشغله من بناء الفيلم من شأنها أن تبني وتؤسس في ذهن المشاهد لعلاقة مؤثرة سيمارسها المكان على طلال، توحي بأنها ستقود إلى انعطاف ما في شخصيته أو خيارته بعد رحلة اكتشافه وتأمله العميق لهذا المكان، لكن شيئا من هذا لم يحدث في النهاية، وعدم توظيف هذه اللقطات في خدمة البناء الدرامي، يجعل المتلقي في نهاية الأمر يستقبل هذا الكم من المَشَاهد على سبيل الاستعراض السياحي التعريفي بالمكان فقط، محتفظا عن المكان بالمسافة البعيدة ذاتها التي تفرضها حجم اللقطة، إذن شخصية "طلال" على مدار الفيلم بقيت ثابتة بدون أي تغيير يطرأ عليها، لا كما توحي المشاهد التي تجمعه بالمكان، في المقابل يمكن رصد التحول في شخصية أبي داوود بعد ذهابه مع "طلال" إلى عمان لاتمام المعاملات الرسمية لرهن منزل المزرعة، فعندما يَغدُر طلال به، يحدث التحول في خياراته، فيبقى في عمان ليعمل بائعا للجرائد في الشارع، بالطبع هذا الخيار والتحول غير مقنع لشخص أظهر قبل بضع دقائق رفضه القاطع البقاء في عمان، وأبدى تمسكه بالغور كسمكة لا تستطيع أن تعيش بدون ماء، لكن فجأة ذهب موقفه السابق أدارج الرياح، من ناحية أخرى رغب المخرج بإظهار طيبة وبساطة ودفء أهل الغور ازاء سوء أهل المدينة التي يمثلها طلال، نتفهم ونقدر هذا لكن ليس للحد الذي تبدو فيه شخصية أبو داوود ساذجة يمكن أن تقع من جديد في مصيدة طلال بسهولة، كما حدث في الفيلم.

لكن لا يمكن إلا وأن نشيد بأداء أبطال العمل "ربيع زريقات" و"عبدالله دغيمات" -ابن الغور- في أدائهما العفوي وغير المصطنع وفي حضورهما الظريف، وبإدارة المخرج الجيدة لهما، كما  لابدّ من الإشادة بالموسيقى التصويرية التي أعطت دفعا للعمل، أما الأغنية الغورانية التي استخدمها المخرج أثناء قيادة "طلال" للسيارة في منطقة الغور، كان من شأنها أن تضفي عمقا للفيلم لو أنها وُظفت في مشهد مزرعة البندورة.   

محاولة على الطريق

"سمك فوق سطح البحر"... ودلالة الإنسان المرتبط بأرضه، كالسمك لا يمكنه أن يحيا إلا بتنفس هوائها رغم صعوبات الحياة فيها، كذلك هو الأمر بالنسبة للمخرج/ حازم البيطار الذي لا يمكنه إلا تنفس هواء السينما رغم مصاعب العمل فيها، لكنه أخذ على عاتقه منذ تأسيسه لتعاونية عمان للأفلام على أن يتحمل العناء، فأخرج وأنتج عددا من الأفلام المستقلة ذات الميزانية شبه المعدومة-كما هو الحال في هذا الفيلم حيث تبرع طاقم العمل بجهودهم- وحاز عام 2008 على جائزة الفيلم القصير في مهرجان الشرق الأوسط السينمائي عن فيلمه "المشهد" – إخراج مشترك مع رفقي عساف- كذلك أقام عدة ورش عمل سينمائية، ومنح الفرص لعدد كبير من الشباب لخوض تجربة الإخراج عبر تعاونية الأفلام، علاوة على جهده في إقامة مهرجان الأردن للفيلم القصير سنويا... شغف وجهد يثمن، لكن هذا الرصيد لم يحصنه هنا لتقديم فيلم محكم شكلا ومضمونا عن بيئة ومعاناة أهالي غور المزرعة، أنما هي محاولة على الطريق، لا يمكن إلا وأن نقدرها.

الجزيرة الوثائقية في

03/07/2011

 

أسطورة السينما الإيرانية

ناصر ونوس 

للسينما في إيران خصوصية لا نجدها لدى أي شعب آخر، وهي خصوصية، كما أرى، نابعة من طبيعة الشعب الإيراني وطبيعة السلطات الحاكمة في إيران سواء في عهد الشاه أو في عهد الجمهورية الإسلامية. من بين ملامح هذه الخصوصية أن هذه السينما "نجحت في أفضل أعمالها في إعادة تشكيل الذات الإيرانية، وهو الأمر الذي أخفقت فيه الحداثة"، حسب تعبير الباحث الإيراني "حميد دباشي" الذي وضع كتاباً عن هذه السينما تحت عنوان "لقطة مقربة- السينما الإيرانية ماضياً وحاضراً ومستقبلاً" وصدر بالإنكليزية عام 2001 وبالعربية عام 2003 عن المؤسسة العامة للسينما في دمشق.

لكن الحديث هنا لا يدور حول هذا الكتاب بل حول فيلم بعنوان "أسطورة السينما الإيرانية" كان قد عرض على شاشة الجزيرة الوثائقية؛ وهو فيلم وثائقي يقوم على مقابلات مع أهم وجوه هذه السينما، ماعدا "عباس كياروستامي" الذي ربما لم يستطع مخرج الفيلم التقاطه، ومقاطع من أفلامهم، كل منهم يروي تأملاته في هذه السينما التي حققت نجاحات باهرة على الصعيد العالمي، ويتحدث عن تجربته في صنع أفلامه والمعارك التي خاضها مع الرقابة.

لقد اختار المخرج المشهد الافتتاحي لفيلمه ليكون حديثاً عن علاقة السينما بالسلطة الدينية بعد انتصار الثورة، مقدماً هذه العلاقة على نحو إيجابي. وذلك عندما يورد رأياً لآية الله الخميني بشأن فيلم "البقرة"، أهم علامة في تاريخ السينما الإيرانية حتى تلك اللحظة، فالخميني، وبعد مشاهدته الفيلم قال: "نحن لسنا ضد السينما، بل ضد ما هو غير ديني، فيلم البقرة هو فيلم تعليمي واقعي".

وهنا يعلق مخرج الفيلم بالقول: "وهكذا بدأ إطار السينما الإسلامي الصحيح بالظهور".

لقد شجعت السلطات الإيرانية الأفلام التي تُصوّر المجتمع وتحاكي الواقع، حسب تعبير المخرج "دريوش مهروي"؛ ومن ثم أنشأت معهد صناعة السينما الذي درب حتى تاريخه، أكثر من تسعين ألف شخص على صناعة الأفلام وفق ما يقول مدير المعهد.

وكان هدف صناع السينما الإيرانيين المشاركة بفيلم إيراني في كل مهرجان، ويمكن للمرء أن يتوقع أن ذلك هو أحد الأسباب التي ساهمت في رفع وتيرة الإنتاج السينمائي وجودته.

بعد نجاح الثورة شنّ "صدام حسين" حربه على إيران بدعم من الغرب، ورغم الحرب لم تتوقف صناعة السينما، واستمر المخرجون في تحقيق أفضل الأفلام، ومنها أفلام صُوّرت تحت القصف.

وكان "أمير نادري" حسب اعتقاده، أول مخرج محترف يصنع فيلماً عن الحرب مستلهماً تجربة المخرج الإيطالي "روسلليني"، في فيلمه المعنون "البحث الثاني" وصُوّر بعد شهرين من بدء الحرب؛ لكن هذا الفيلم لم يتم توزيعه على الإطلاق، فالصورة التي قدمها عن الحرب لم تعجب النظام الحاكم، فهو يُصوّر الحرب على أنها جحيم آخر، بينما تقول الرواية الرسمية أن الشهداء سيدخلون الجنة.

المخرج "بهرام بيضائي" صنع فيلماً بعنوان "باشو: الغريب الصغير" عن طفل يتمته الحرب. وقد منع عرضه لأربع سنوات وطلب من مخرجه إجراء 47 تعديلاً عليه لكنه رُفض، من بين الاعتراضات على الفيلم أنه كان يخلو من مشاهد الصلاة، فالرقيب السينمائي آنذاك لم يكن بوسعه تصوّر فيلم سينمائي يخلو من الصلاة أو على الأقل الدعوة إليها.

قد يكون ذلك الرقيب شيخ أحد الجوامع قبل أن يتم تعيينه رقيباً على الأفلام السينمائية، وهذا أمر يحدث كثيراً في إيران (عندما كنت أعمل في قناة "العالم" الإخبارية في طهران تم تعيين ضابط في الجيش الإيراني مديراً عاماً للقناة لم يكن لديه أي علاقة أو خبرة بالإعلام ولم يكن ليسعى لمثل هذه العلاقة أو اكتساب مثل هذه الخبرة حتى بعد تعيينه).

يُجمل راوي الفيلم العناصر الجمالية التي تشكل أسس نجاح الأفلام الإيرانية، وهي: شخصية الطفل، والشعر الفارسي، والقيم التقليدية، والطبيعة.

المخرج "محسن مخملباف" يقول إنه بالإمكان القول إن شجرة السينما الإيرانية وجدت جذورها في الشعر الفارسي؛ و"مخملباف" يتحدث عن تجربته مع الرقابة وكيف استطاع الهروب من سطوتها وتمرير بعض المشاهد التي لم تكن لترضى عنها السلطات المختصة في فيلم "زوج المباركين" وهو فيلم عن الحرب.
المخرجة "رخشان بني اعتماد" تتحدث عن مسؤوليتها تجاه مجتمعها وعن مواجهتها للرقابة وإصرارها على صناعة فيلم، وكان بعنوان "نرجس"، يروي قصة حب بعد الحرب في طهران؛ لقد أعطاها الرقيب قائمة بالتعديلات لا يمكن صنع الفيلم إلا إذا طبقتها، فكان جوابها أنها ستصنع الفيلم بعد أن يترك الرقيب هذا المنصب، قالت له: "اليوم أنت في هذا المنصب، قد يتم تعيينك غداً في دائرة المرور، وبعده في مؤسسة استيراد اللحوم..قد لا تكون هنا في السنة القادمة وسأنتظر ذلك، وهذا ما حدث بالضبط"، وأنجزت فيلمها دون الالتزام بتعليمات الرقيب.

لقد أصبح صناع الأفلام في إيران سفرائها في الخارج، فبفضل "عباس كياروستامي" ومحسن مخملباف” إلى جانب “بهرام بيضائي” و”جعفر بناهي” و”أبو الفضل جلالي” و”بهمن قبادي "..أصبحت السينما الإيرانية حاضرة في أهم المهرجانات العالمية مثل مهرجان "كان"، و"البندقية"، و"برلين"، و"لوكارنو".

إن السينما الإيرانية، وكما يعبر المخرج "ابراهيم حاتمكيا"، هي "لقيا بالنسبة للجمهورية الإسلامية... إنّ صور علم الجمهورية الإسلامية يرفف في مهرجان "لوكارنو" هو أمر مهم، بل أهم بكثير من محتوى الفيلم نفسه".

ينهي مخرج "أسطورة السينما الإيرانية" فيلمه بمقطع مقابلة مع المخرج "محسن مخملباف" يتأمل فيه حال السينما الإيرانية، حيث يقول: "إن صور الإعلام وضعت الشعب الإيراني على أنه قادر فقط على الصلاة بينما استطاعت السينما تقديم صورة أكثر واقعية.. إن السينما مكنتنا من إظهار من نكون وليس كما يتم النظر إلينا".

وهكذا استطاع المخرجون الإيرانيون تحقيق "أسطورة السينما الإيرانية" رغم كل العوائق والمحظورات الرقابية؛ كما أن تجربة العلاقة بين السينمائيين الإيرانيين والسلطات الرقابية لهي تجربة تحتذى بالنسبة للسينمائيين الذين يعيشون في ظل أنظمة رقابية مشابهة.

الجزيرة الوثائقية في

03/07/2011

 

غسان كنفاني حاضراً بعد أربعين سنة من الغياب

«سبتمبر 1970: هنا فلسطين».. نموذجاً

بشار إبراهيم 

تمرُّ هذه الأيام الذكرى الأربعين لاستشهاد الأديب الفلسطيني "غسان كنفاني"، الذي طالته يد الغدر الصهيونية، يوم 8 تموز/ يوليو 1972، من خلال متفجرة وُضعت في سيارته، قبالة بيته بـ"الحازمية"، في العاصمة اللبنانية بيروت.

استشهد غسان كنفاني، وستثبتُ الأيام أن قرار اغتياله كان قد اتخذ على أعلى المستويات في الحكومة الإسرائيلية.

كانت رئيسة الوزراء الإسرائيلية حينها "غولدا مائير"، قد وضعت قائمة أسماء عدد من الشخصيات الفلسطينية المُستهدفة بالقتل؛ تنوَّعت الأسماء، التي لم تتوقَّف عند حدود السياسيين، والدبلوماسيين، بل طالت عدداً من الأدباء والمبدعين، وسنجد في الفيلم الوثائقي «قائمة غولدا»، وهو فيلم فلسطيني فرنسي مشترك، من إخراج/ إيمانويل فرانسوا، عام 2002، سرداً لمصير عدد من تلك الشخصيات الفلسطينية، الذين أعدَّت "غولدا مائير" قائمة بأسمائهم، واختارتهم للموت، وهكذا ففي الفترة ما بين عامي 1972 و1993، تم اغتيال ما لا يقل عن ثلاث عشرة شخصية فلسطينية.

كانت "غولدا مائير" تريد إطفاء الصوت الفلسطيني، استكمالاً لنظريتها الصهيونية القائمة على الإنكار التام لأي وجود فلسطيني أصلاً، ومع ذلك فها نحن اليوم، وعلى رأس أربعين سنة، نجد أن الشهيد "غسان كنفاني"، يكاد يكون هو الأكثر حضوراً في حقل الثقافة الفلسطينية.

لقد غاب الجسد، وانطفأت الروح، ولكنه بقي حاضراً بفاعلية ملفتة، في دحض تام لمقولة "غولدا مائير"، والحركة الصهيونية.

واليوم، على رأس أربعين سنة من غياب الشهيد "غسان كنفاني"، لا نكاد نعثر إلا على القليل جداً من المشاهد السينمائية التي تظهره؛ وهو أمر غريب جداً في عالم السينما الفلسطينية، الذي كان "غسان كنفاني" واحداً من أهم من رافقوا بداياتها، وساهموا في التأسيس لها، وتوفير ما يمكن لها من الدعم والتشجيع.

بكى المخرج العراقي "قاسم حَوَل" عندما سألته في لقاء مُسجَّل عمَّا يمكن أن يندم عليه اليوم، بعد تجربته الرائدة والمُؤسِّسة في السينما الفلسطينية؛ ما أبكى المخرج "قاسم حَوَل" إنه انصاع لرغبة "غسان كنفاني"، ولم يقم بتصويره.

كأنما كان "غسان كنفاني" يرغب في أن يبقى في إهاب الجندي المجهول، كان همّه أن تذهب الكاميرا السينمائية لتصوير ما ينبغي لها أن ترصد.. الناس العاديين في المخيمات.. الفدائيين في القواعد.. المقاتلين في تدريباتهم، ومواجهاتهم.

وعندما استشهد "غسان كنفاني" لم يكن بين أيدي السينما الفلسطينية، إلا القليل من المشاهد التي تظهره.

سيبدو الفيلم الوثائقي «سبتمبر 1970: هنا فلسطين»، واحداً من الأفلام النادرة التي تعمد إلى استخدام النادر من المشاهد السينمائية التي يظهر فيها "غسان كنفاني"، متحدثاً بالصوت والصورة؛ ولعلي لا أبالغ إن قلت إن هذه المشاهد كانت كافية لدى "غولدا مائير"، لوضع اسمه في قائمة الشخصيات الفلسطينية المُستهدفة بالقتل، إذا لم تمرُّ سنتان على تلك الوقائع، حتى كان الاغتيال قد وقع.

كان البداية في السادس من أيلول/ سبتمبر عام 1970، عندما قامت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بتنفيذ أربع عمليات خطف متزامنة لأربع طائرات، كانت متجهة إلى نيويورك.

الفكرة الأساسية وراء عمليات الخطف تلك، كانت رغبة الجبهة في طرح القضية الفلسطينية على الصحافة العالمية، والرأي العام العالمي، ووضع القضية الفلسطينية في بؤرة الاهتمام العالمي.

يستعين الفيلم بمقابلة مع "بسام أبو شريف"، الرجل الثاني بعد "غسان كنفاني"، والذي يؤكد أن الهدف من تلك العمليات كان «بلوغ عقول الناس الذين يعيشون في الغرب»!.. بمعنى تغيير الرأي العام، ونظرته تجاه الفلسطينيين، من شعب مشرد، إلى صاحب قضية ونضال للحرية.

كانت البداية مع خطف طائرة رحلة «إلعال» رقم 219، المتجهة من أمستردام إلى نيويورك؛ ولقد قامت بتنفيذ هذه العملية الفتاة الفلسطينية «ليلى خالد»، بالتعاون مع رفيقها «باتريك إيركويلو»، وهو متعاطف من نيكاراغوا.

يعمد الفيلم إلى إعادة تمثيل المشاهد، على النحو الذي يُفترض أنها وقعت، ويستكمل ذلك بلقاء مع "ليلى خالد"، اليوم بعد مرور أربعين سنة على تلك العملية.

تؤكد "ليلى خالد" أن التفكير، حينها، كان يتجه نحو إحداث ضجة عالمية، ولن يكون ذلك ممكناً، إلا إذا نفذنا «عملاً مفاجئاً وصادماً، حتى ينتبه العالم، وينظر، ويرى»!..

يعيد الفيلم تمثيل مشاهد الاستيلاء على الطائرة، ويجري مقابلات مع «شلومو فيدر»، وهو طيار مقاتل في سلاح طيران إسرائيل، و«يوري بارليف»، ربان طائرة «إلعال» تلك، و«إبراهام إيزنبيرغ»، ضابط أمن على متن طائرة «إلعال»، وهو الذي قام بالعراك مع "ليلى"، والسيطرة عليها، وتقييدها بربطة العنق.

تعترف "ليلى خالد" أنها أدركت في تلك اللحظة أنهما، هي و"باتريك"، غير قادرين على تنفيذ المهمة، وكان أن تحولت الطائرة نحو مطار هيثرو في لندن، حيث تم إعتقالهما.

ولكن سرعان ما سيتبدى أن اختطاف طائرة «إلعال»، كان جزءاً من مخطط أكبر في الساعة الثانية والنصف ليلاً اختطفت طائرة TWA المتجهة من فرانكفورت إلى نيويورك، وبعد ساعة اختطفت طائرة Swiss Air المتجهة من زيورخ إلى نيويورك، خلال تحليقها فوق فرنسا، وتم اختطاف طائرة Ban Am  المتجهة من أمستردام إلى نيويورك.

ووفق المخطط، وصلت طائرتا TWA وSwiss Air، إلى مطار «دوسن»، على مقربة من العاصمة الأردنية عمان، وسرعان ما وصل الآخرون: الفدائيون الفلسطينيون، من جهة، والجيش الأردني، من جهة أخرى.

سيهدد الفدائيون بتفجير الطائرتين، إذا لم يتراجع الجيش. وسيكون البريطانيون منشغلون بما سيفعلون مع "ليلى خالد"، التي وجدوها بين أيديهم بغتة!..

في تلك اللحظة، سيظهر غسان كنفاني، متحدثاً وناطقاً بلسان الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، سيعقد مؤتمراً صحفياً: "غسان كنفاني"، يُعلن أن مطالبنا بسيطة جداً، ونريدها أن تتحقق، وسيكون هذا جيداً: إطلاق سراح فدائيين. إطلاق سراح "ليلى خالد"، محذراً من تفجير الطائرتين، إذا لم تتم الاستجابة للمطالب.

في التاسع من سبتمبر توقفت طائرة «الخطوط الجوية البريطانية لما وراء البحار»، الرحلة رقم 775، المتجهة إلى لندن، في البحرين، لتحمل ركاباً، وسيتم خطف الطائرة، وتوجيهها إلى مطار «دوسن»، لنقع أخيراً على المشهد الشهير، منذ ذاك الوقت: ثلاث طائرات في مطار «دوسن» الأردني، في صحراء بكل معنى الكلمة.

سيغوص الفيلم في الكثير من التفاصيل، وسيجري العديد من اللقاءات مع شهود عيان، ممن كانوا موجودين في مكان الحدث، سواء من أطقم الطائرات، أو من الركاب، أو ممن أُخذوا رهائن، ريثما يتمكن الجيش الإردني من إطلاق سراحهم، عقب الانغماس فيما عُرف بأحداث أيلول 1970 الدامية، والتي انجلت عن العديد من الكوارث، على أكثر من صعيد، خاصة على صعيد العلاقة الفلسطينية الأردنية.

يؤكد "بسام أبو شريف" أن العملية كانت إعلامية، الهدف الوصول إلى ضمائر العال؛. ومع ذلك، وعلى الرغم من أن العملية كانت إعلامية، إلا أنه جرى تفخيخ الطائرات الواقفة على مدرج المطار، وجرى أخذ بعض ركابها رهائن، ريثما يتم تنفيذ الطلبات، التي أعلنها "غسان كنفاني"، في مؤتمره الصحفي.

وفي حين طالبت "غولدا مائير" بإطلاق سراح الرهائن، وعدم المبادلة بـ"ليلى خالد"، وعدم الموافقة على مطالب «الخاطفين»، كان "إدوارد هيث" - رئيس الوزراء البريطاني -، يقول لن نطلق سراح "ليلى خالد"؛ ولم يبق بينهم إلا المهلة التي منحها «الخاطفون» للبريطانيين والإسرائيليين، من أجل تنفيذ المطالب، قبل تنفيذ التهديدات بتفجير الطائرات!..

يستخدم الفيلم الصور الأرشيفية للأحداث، واللقاءات التلفزيونية مع الركاب، ومن بينها لقاء مع راكبة بريطانية تؤكد على حُسن التعامل، وعدم الاساءة لأي منهم.

ويبدو أنه مع تفجير الطائرات، وتطاير قطعها، ومع تصاعد سحب سوداء، ضاع صوت تلك الراكبة، وغيرها من الركاب، الذين قال أحدهم، عن الخاطفين: «لابد من أن أعترف أنهم حفظوا كراماتنا».

جرى إطلاق سراح الأطفال، والنساء، ومجموعة من الركاب؛ وفي الثالث عشر من سبتمبر، وصل الركاب المُفرج عنهم إلى مطار هيثرو؛ و"ليلى خالد" كانت في أسبوعها الثاني محتجزة، لدى البريطانيين، والجبهة الشعبية تخفي الرهائن الذين احتفظت بهم عن عيون السلطة الأردنية.. وهكذا بدأت الحرب، في السابع عشر من أيلول.

يقول أحد الرهائن: «سمعنا إطلاق النار.. هناك من ظنّ إنها مفرقعات..وهناك من ظن أن قوة أتت لإطلاق سراحهم»، وفي الحقيقة كان ملك الأردن قد قرر تحرير الرهائن.

صعَّدت قيادة الجبهة الشعبية من لهجتها، و"غسان كنفاني" - المتحدث باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - يظهر مرة أخرى، وتالية.

وبدت المعادلة وكأنها «حياة امرأة واحدة، مقابل حياة ثمانية بريطانيين»، بات غسان كنفاني في واجهة الصورة الإعلامية.

خلال أسبوع من الحرب الطاحنة، عثر الجيش الأردني على الرهائن، وفي الخامس والعشرين من سبتمبر، اتفق الفلسطينيون والأردنيون، على وقف إطلاق النار.

ويوم السادس والعشرين، وصل الرهائن إلى مطار هيثرو، في لندن، وفي السابع والعشرين، جرى توقيع الاتفاق في القاهرة، ما مهّد الطريق أمام إطلاق سراح الرهائن الباقين.

ونعلم أنه في يوم الثامن والعشرين من أيلول/ سبتمبر 1970، مات "جمال عبد الناصر"، راعي الاتفاق. وفي الثلاثين من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، جرى إطلاق سراح ليلى خالد.

في ختام الفيلم، تتحدث "ليلى خالد": «قد يقول البعض إنها كانت عملية اختطاف.. وقد لا يعجب ذلك الكثيرين»!.. وقد يسأل البعض السؤال التالي: «لولا هذه العمليات، هل أخذ العالم علماً وخبراً بقضية شعب فلسطين، في حينه، أم أنها كانت قد بقيت قضية لاجئين مشردين، في بلاد العرب، والعالم.. يمكننا الجزم أن قضية فلسطين، صارت شغل العالم الشاغل، منذ ذلك الوقت».

حتى اليوم، سيبقى الفلسطينيون منقسمين على أنفسهم إزاء ما جرى حينها؛ ومع الانتهاء من مشاهدة الفيلم الوثائقي «سبتمبر 1970: هنا فلسطين»، يمكن لنا السؤال: هل كانت تلك المشاهد التي ظهر فيها غسان كنفاني، على قلّتها، بل وندرتها، كفيلة بوضعه على قائمة الاغتيالات الصهيونية؟!.. هذا ما ينبغي البحث فيه، لندرك أيّ أثر يمكن للصورة أن يكون!..

الجزيرة الوثائقية في

03/07/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)