حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

أكد أن للسينما فقهاءها الكاذبين

العمري: عصابات "عواجيز الفرح" تحكم قبضتها على مهرجانات السينما

محمد الحمامصي

تشكل تجربة الناقد والكاتب السينمائي أمير العمري تميزا مهما في الحقل السينمائي المصري والعربي، حيث تواصل عطاءها متابعة وتحليلا وتنظيرا دون انقطاع منذ عام 1973،جامعة في رؤيتها بين النقدين السينمائي والثقافي، فنشر مئات المقالات والدراسات والأعمدة والأبحاث والمراجعات النقدية في عدد كبير من الصحف والمجلات والدوريات العربية والأجنبية، وحاضر في عدد من الجامعات والمعاهد الفنية والمراكز الثقافية في القاهرة وطهران وروما ولندن.

خاض العمري حملة ضارية لسنوات ضد السياسات الثقافية في مصر في عهد الوزير فاروق حسني، وكشف الكثير عن التجاوزات التي تحدث في مجال العمل الثقافي والسينمائي المصري، وعرف بكتاباته المثيرة للجدل التي تطرح قضايا يحجم الكثيرون عن التطرق إليها مثل قضية التطبيع في الثقافة عموما، وفي السينما بوجه خاص، من زاوية عقلانية.

وللعمري أيضا تجربة عمل في عدد من محطات التلفزيون العربية في الأخبار، وأنتج مئات النشرات الاخبارية ومئات التقارير والتقارير الوثائقية والتحقيقات التلفزيونية والإذاعية.

عضو لجان التحكيم الدولية في عدد من المهرجانات السينمائية في مصر، والعالم العربي وأوروبا، منها مهرجان أوبرهاوزن السينمائي للأفلام التسجيلية والقصيرة (ألمانيا)، ومهرجان طهران للأفلام القصيرة (ايران) ومهرجان لوكارنو السينما (سويسرا)، ومهرجان تطوان السينمائي (المغرب)، ومهرجان كان السينمائي (اللجنة الدولية للنقاد).

وترأس جمعية نقاد السينما المصريين في الفترة من 2001 إلى 2003، تحرير مجلة السينما الجديدة في الفترة من 2002 إلى 2003، مدير مهرجان الاسماعيلية للأفلام القصيرة والتسجيلية 2001
صدر للعمري 12 كتابا في النقد السينمائي وغيره منها "سينما الهلاك: اتجاهات وأشكال السينما الصهيونية"، "اتجاهات جديدة في السينما"، و"هموم السينما العربية"، و"السينما الصينية الجديدة"، "سينما الرؤية الذاتية"، "حياة في السينما"، "اتجاهات في السينما العربية"، "شخصيات وأحداث من عصر السينما"، كما ترجم كتاب "سينما أوليفر ستون" لنورمان كيجان.

وفي هذا الحوار مع العمري نتعرف إلى رؤيته للعديد من القضايا الحيوية والمهمة في السينما العربية الآن.

·         بم تفسر الصعود المتميز للسينما العراقية واللبنانية والتركية والإيرانية والتونسية فيما تتراجع أو على أقصى تقدير تقف محلك مثل مصر وسوريا؟

** أوافق على وجود سينما، بمعنى حركة إنتاج سينمائي وسوق وآلية للتوزيع والعرض والتسويق في كل من تركيا وإيران، وان كانت السينما الإيرانية تخضع لقوالب نمطية خاصة جدا بسبب فرض رقابة مشددة عليها من قبل النظام السياسي الحاكم الذي لا يسمح بتعدد الاتجاهات والتيارات الموجودة في كل السينمات "الطبيعية" في العالم بل يفرض نمطا أخلاقيا ورمزيا واحدا على معظم الأفلام وان كان الكثير من السينمائيين الإيرانيين يسعون دائما للالتفاف حول هذا القيد. لكني أختلف معك في وجود سينما في العراق وتونس ولبنان، ففي هذه البلدان تنتج بعض الأفلام طبقا لمبادرات فردية خاصة تعتمد أساسا على التمويل الخارجي وعلى الشكل المغامر في الإنتاج وهو ما قد يمنح بعض هذه الأفلام نوعا من الجرأة والتحرر في طرق المعالجة لكن تغيب تماما أوليات قيام صناعة سينمائية أو حركة إنتاج سينمائي متواصلة وسوق حقيقية للتوزيع والعرض في هذه البلدان.

·         أيضا يلاحظ أن أغلب الأعمال المتميزة الآن عربيا يعيش مخرجوها في أوروبا هل من علاقة بين ذلك وتميز رؤية هؤلاء المخرجين مثال ذلك إيليا سليمان المخرج الفلسطيني ومحمد الدراجي العراقي وغيرهم؟

** نعم هذه ظاهرة سببها الأساسي غياب سوق حقيقية تكفل ان يسترد الفيلم المنتج محليا معظم تكاليفه من العرض في الداخل واعتماده بالتالي على الدعم الخارجي الذي يأتي من بعض الجهات كنوع من التشجيع، أو الترحيب بعرض نماذج (إثنية) من الافلام ربما تساهم في زيادة وعي الأقليات العربية في الدول الأوروبية مثل هولندا وفرنسا وبلجيكا وايطاليا بالفنون، ووعي المواطن الأوروبي بمشاكل هذه الأقليات، أو كنوع من تلبية متطلبات قنوات تلفزيونية تساهم في الإنتاج لعرضها على جمهور الدول الأوروبية المتعددة الثقافات أي التي يتكون جمهورها من شرائح اثنية متعددة.

هذا الدعم أو التمويل الخارجي لاشك أنه يتيح مساحة أكبر أمام السينمائي للتعبير الحر عن رؤيته مهما بلغت من جموح أو طموح نتيجة تخلصه من قيود السوق العربية الضيقة بطبيعتها والتي تخضع للكثير من القيود الرقابية المباشرة من جانب الدولة المهيمنة القمعية، أو من جانب فئات اجتماعية عديدة متزمتة تفرض رقابتها الخاصة على الفنون وتعادي الإبداع الفني الذي يخرج عن نطاق الدعوة الى "الأخلاق الحميدة" وما إلى ذلك.

·         هل تعتقد أن التمويل وحده قادر على صناعة سينما متميزة حيث أرى أن جل المخرجين والممثلين والنقاد أحيانا يرجعون أمر تردي أوضاع صناعة السينما العربية إلى التمويل؟

** التمويل يتيح إمكانية أفضل أمام السينمائي صاحب الرؤية الطموح بلا شك لتجسيد طموحاته، لكنه ليس العامل الوحيد لظهور فيلم جيد، فالأصل والأساس ان يتمتع السينمائي أصلا بالموهبة الراسخة التي لاشك فيها. وقد سبق ان حصل مخرجون على الكثير من الدعم (الداخلي وليس الخارجي من جانب الدولة كما حدث لفيلم "المسافر" مثلا) ولكن دون أن يؤدي هذا الدعم الكبير بالضرورة الى ظهور فيلم جيد. إذن التمويل مهم لضمان استمرار الإنتاج وبروز المواهب لكنه لن يصنع سينما متقدمة من دون توفر المواهب أصلا.

·         وما قولك في قضية التمويل الأجنبي للأفلام العربية وتأثير ذلك على الرؤية الموضوعية والإخراجية للأفلام ولا أريد ضرب أمثلة فالأفلام الممولة أجنبيا كثيرة جدا؟

** التمويل الأجنبي لا يمكن أن يؤثر في الرؤية الخاصة للسينمائي العربي أو يفرضها فرضا عليه الا إذا كان لدى هذا السينمائي أصلا هذه الرغبة في "التنازل" وتقديم الصور الفولكلورية النمطية أو القوالب الاجتماعية التي تدور في مسارات معنية، لإرضاء جهات التمويل الأوروبي، أو إبهارها. وهذا يحدث كثيرا بكل أسف. لكن الملاحظ مثلا أن السينمائيين الراسخين الذين يحصلون على تمويل أجنبي أو أوروبي لافلامهم لا يكونون مضطرين لتقديم مثل هذه التنازلات. وأمامنا الكثير من النماذج في الشرق وفي الغرب، من أميركا اللاتينية وروسيا والفليبين والصين واليابان، بل ولا أظن أن يوسف شاهين مثلا كان يقدم تنازلات محسوبة مسبقة للحصول على التمويل الفرنسي، فهل انقد الاجتماعي الحاد في فيلم مثل "هي فوضى" مثلا كان لفائدة الممول أم لفائدة المجتمع المصري نفسه!

ولكن دعني أيضا أقول لك إن من الطبيعي أن يلجأ السينمائي العاجز عن التعبير عن رؤيته الفكرية والسياسية والنقدية في السينما الى البحث عن تمويل خارجي لأنه لن يحصل عليه من الداخل، من جانب أطراف تخضع خضوعا تاما للسلطة السياسية والثقافية، تماما مثل الكاتب الذي يلجأ للنشر في الخارج بسبب عجزه عن نشر كتاباته في الداخل. إن أساس القضية سياسي كما ترى، وهو ليس قاصرا على العالم العربي بل يشمل الجميع.

·         وكيف ترى مسؤولية الدول في دعم ومساندة صناعة السينما في مصر؟

** على الدولة أن تقدم الدعم لصناعة السينما عموما عن طريق تحرير الصناعة من الضرائب الباهظة ودعم الفيلم الخام وتسهيل استيراده مع خفض الضرائب عليه وعلى كل الأجهزة والمعدات التي تستخدم في صناعة السينما، كما يتعين عليها أن تدعم إنتاج الأفلام المتميزة فنيا بغض النظر عن رؤيتها السياسية فلا تشترط ان تكون معبرة مثلا عن سياسة الحزب الحاكم أو نظرة السلطة تجاه القضايا المختلفة بل يجب أن يكون المعيار الوحيد هو الطموح والمستوى الفني، فالسينما النقدية العميقة هي التي تصنع قيمة للبلد في الخارج أما السينما الأخرى، المهادنة، الخاضعة للمنظومة الفكرية السائدة، فلا تقابل في الخارج سوى بكل ازدراء وإعراض مهما بلغت تكاليف دعمها. ومقياس النجاح العالمي هو الصدق والإخلاص في الطرح وأيضا القدرة على رؤية العيوب الاجتماعية في الواقع وتجسيدها، تماما كما في الأدب الرفيع من أميركا اللاتينية مثلا. لقد كان هذا دائما أدب رفض وليس مهادنة، وكذلك السينما.

لكن المشكلة التي تتعلق بدور الدولة في دعم السينما تتلخص في رأيي بكل صراحة، في استعانة الدولة أو تفضيلها الاستعانة بمن يمكن تسميتهم بـ"فقهاء السينما الكاذبين". هؤلاء عبارة عن مجموعة شبه ثابتة من الأسماء، قد تضم مثقفين أو من كانوا في حكم ذلك وأصبحوا من المنتفعين الانتهازيين الذين يخدمون مصالح جهات معينة إنتاجية، وبالتالي تخضع أحكامهم في اختيار منح الدعم لفيلم ما، لاعتبارات المصالح والمنافع، وهو جزء من منظومة الفساد الكبرى التي كانت ولا تزال سائدة ولم يتم القضاء عليها بعد. والدليل على كلامي هذا وعلى أن هذه المنظومة مستمرة أن وزير الثقافة المصري الجديد عماد أبو غازي، لا يزال يرفض الاستعانة سوى بالأسماء والعناصر نفسها من القديمة التي نهبت النشاط السينمائي الثقافي على الأقل وصادرته لحسابها عبر عقود، في حين أن الوزير نفسه لا يكف عن التصريح بضرورة تولي الشباب المسؤولية. والمضحك مثلا أنه يعين لجنة من حوالي عشرين اسما لإدارة "المركز القومي للترجمة" هذه اللجنة تضم ناقدا سينمائيا لا يعرف أيا من اللغات الأجنبية، فكيف سيحكم على الكتب المقترحة للترجمة.. أليست هذه مهزلة لها علاقة بالمجاملات والموروث الفاسد. وربما يكون هذا التخبط ناتجا من أن الثوار المصريين لم يصلوا للسلطة بل هناك من يحكم بدعوى الوكالة عنهم مثل أبو غازي نفسه إذ عرف بارتباطه الوثيق بالدولاب الثقافي المصري التقليدي القديم في عهد "وزير الحظيرة" فاروق حسني!

·         يرى البعض أن السينما الاستهلاكية في مصر ممثلة في سينما هنيدي وسعد وحلمي وغيرهم من الشباب الذين ظهروا خلال السنوات العشر الأخيرة أزاحت السينما الجادة تلك التي تحمل مضمونا أو رسالة في إطار معالجة فنية، وأن الذوق العام انساق وراء الاستهلاك وأن أي محاولات جادة سيكون مصيرها الفشل جماهيريا .. هل هذا صحيح؟

** لاشك أن السينما الاستهلاكية التي تشير اليها أزاحت السينما الأخرى الجادة، أو الفنية ذات الطموح، والسبب يعود إلى رغبة قطاعات كبيرة من المجتمع خلال السنوات العشرين الأخيرة، في الفرجة على سينما هروبية، تدغدغ الحواس، أي أقرب إلى عروض التهريج والتسلية والحركات المقززة، وهذا بحكم عدم الشعور بالأمان الاجتماعي، والإحباط الذي تولد في مجتمع الفساد، وعدم رؤية أي تغيير قادم. والمأمول فيه أن تتضاءل هذه السينما في المرحلة الحالية بعد ان يشهد المجتمع تقدما حقيقيا وليس مجرد تسيير الأعمال كيفما اتفق. ان السينما الاستهلاكية ظاهرة اجتماعية وليست نتاجا فنيا. إنها مبتدعة للترويج لصور نمطية ساذجة ومضحكة وقيم منحطة، تدعي النقد الاجتماعي فيما هي في الحقيقة، تنافق الحاكم. ولعل في فيلم مثل "طباخ الريس: نموذج لما أقوله. إنها تذكرني بما كان يطلق عليه في ايطاليا قبل الحرب العالمية الثانية "سينما التليفونات البيضاء" والتي سقطت بعد التغير الاجتماعي الكبير وظهرت محلها السينما الواقعية الجديدة.

·         وسط كل هذا ألا ترى أن هناك غيابا للدولة في دعم صناعة السينما وأنها الآن تكتفي بدعم المسلسلات والتوك شو وغير ذلك مما لا يصنع دورا ولا ثقافة ولا حضورا لمصر؟

** كما سبق أن قلت الدعم يجب أن يكون غير مباشر، أي ندعم الأفلام الفنية والمهرجانات التي يجب أن تعتمد على جمعيات ثقافية وجمع السيناريوهات المتميزة، وليس الإنتاج المباشر.. أنا أحذر من دخول الحكومة (وأؤكد على كلمة الحكومة) مجال الإنتاج المباشر لأنني أرفض أن يصبح الرقيب هو المنتج السينمائي. وقد قلت هذا قبل 31 عاما عندما كان الكثيرون (ممن غيروا موقفهم اليوم) يدافعون بشدة عما أسموه "القطاع العام" في السينما. والسبب يعود الى أن الحكومات تتغير أو ستتغير في النظام الديمقراطي الجديد، كما أن السلطة تتغير (كما تغيرت بالفعل من زمن عبد الناصر إلى السادات الى مبارك) وتتغير معها توجهاتها وما يدعونه "الثوابت"، ويتغير بالتالي ما تطلبه الدولة من السينما. فمن يملك المال يملك التدخل المباشر، لكن النموذج الناضج للدعم أن نقدم المال بناء على القيمة الفنية فقط وليس الولاء الأيديولوجي. لكني أحذر فقط من مجموعة "عواجيز الفرح" من نقاد وأشباه مثقفين ينتقلون بين كل اللجان عبر عشرات السنين، ويحكمون مصالحهم ومصالح جيوبهم الشخصية. وربما كان الأفضل ان نستعين في المرحلة الحالية بخبراء أجانب من اليابان وفرنسا مثلا.. وهذا رأي يعكس عدم ثقتي بالكامل في المنظومة الحالية الفاسدة من المثقفاتية!

إن حضور الثقافة المصرية سيتكفل بصنعه مناخ الحرية الجديد وإتاحة الفرصة لأجيال جديدة من الشباب للتعبير الحر عن نفسها، لكن يجب أولا رفع وصاية "عواجيز الفرح" وجمعية الفاشلين والعصابات التي تحكم قبضتها على مهرجانات السينما، وهم يعرفون أنفسهم، كما أنك أيضا تعرفهم.. أليس كذلك!

·         البعض يتحدث عن سينما مستقلة والتي تعمل بعيدا عن لغة السوق، ما رأيك في مسألة السينما المستقلة؟ وما رأيك في المعالجات التي طرحت قضايا الصراع العربي الإسرائيلي، والحرب الأهلية والنزاعات سواء كانت هذه المعالجات من خلال أفلام عربية أو أجنبية وغيرها؟

** هذه قضية طويلة، ولكني أكتفي بالقول إن هناك عددا محدودا من الأفلام الجيدة التي تناولت القضية في الغرب أقصد في إطار السينما الشعبية وليست "النخبوية"، ولكن في الوقت نفسه هناك العديد من الأفلام التسجيلية والروائية التي صنعت في ألمانيا والدنمارك وفرنسا وهولندا بل وأميركا نفسها، وكانت شديدة الموضوعية والإخلاص للتاريخ. لكن هذه الأفلام لا تلقى اهتماما منا لأنها لا تعتمد على النجوم الكبار، ولا على الدعاية وشركات التوزيع العالمية الكبرى الأميركية أساسا، الصهيونية بشكل خاص.

اما على مستوى السينما العربية فلا يزال الخطاب التعبوي المباشر الذي يتعامل مع الفيلم السينمائي كما لو كان منشورا دعائيا، هو السائد، بحكم تهافت الخطاب العربي الإعلامي والسياسي نفسه، وخضوع الكثير من المثقفين لهذا الخطاب. ولكني متفائل بالتجارب الجديدة التي يصنعها سينمائيون فلسطينيون. إن السينمائيين الفلسطينيين هم الأقدر على صنع سينما جديدة، مثل الأدب الجديد، تعبر عن روح الصراع، وعن وجودهم في الصراع، وليس عن صورة الصراع من الخارج.

إيلاف في

28/04/2011

 

من صورة الهوية جاء أطول فيلم في تاريخ السينما

جيرار كوران وصلاحية الخوف السوري

زياد عبدالله - دبي 

التجارب البصرية، السينمائية منها أو الفوتوغرافية، والفنية عموماً، تكون في أحيان كثيرة وليدة منتج تقني، لها أن تشكل مدارس فنية أو اتجاهات جديدة في الفن، بحيث يمسي الشكل استجابة للطارئ والمتغير في هذا السياق، لا بل إن ما تتيحه التقنيات وقفزاتها التي تكاد تكون يومية ستضعنا أمام اجتهادات تجريبية لها أن تكون بوابة كبرى لمقاربة الواقع وتبادل الأثر.

أبدأ بما تقدم وعيني على الحاصل في عالمنا العربي، وأعبر إلى ذلك من خلال تجربة السينمائي الفرنسي جيرار كوران الذي حل ضيفاً على الدورة الرابعة من مهرجان الخليج السينمائي، وقد حضرت شاشات كثيرة توزعت في «فيستفال سيتي» تعرض بشكل متواصل أفلام كوران، إضافة لكتاب عنه من تأليف الناقد صلاح سرميني، له أن يقودنا إلى «السينماتونية» وعوالم كوران، سائلاً القارئ أن يتحلى ببعض الصبر، كون قراءة تجربة كوران ستكون معبراً إلى واقع لنا أن نكون من ضحاياه أو من أصحاب الإرادة فيه.

التركيز الأكبر على كوران في الكتاب السابق الذكر، سيكون على «أطول وأرخص فيلم في تاريخ السينما»، الذي مازال كوران يصوره إلى الآن، وقد شاركت فيه شخصياً، الأمر الذي لم يتطلب مني سوى الوقوف أمام كاميرا كوران لمدة ثلاث دقائق، كان لي الحرية أن أقوم فيها بما أرغب فيه، وقد كان خياري أن أقوم بتدخين سيجارة، واجداً في ذلك أفضل ما أقوم به في هذه الأيام، أمام الدم الذي يسفح في عالمنا العربي وتحديداً سورية، بوصف التدخين فعلاً عبثياً بامتياز مثله مثل القتل.

«بورتريهات»

عنوان فيلم كوران سابق الذكر «بورتريهات»، وتوصيفه بالأطول والأرخص مفاده أن الفيلم ليس إلا مشروعاً بدأه كوران في فبراير 1978 يقوم فيه بتصوير بورتريهات لشخصيات فنية أو غير فنية، مشهورة أو مجهولة، لنا أن نرى فيها غودار وفيم فاندرز، أو ناقداً صينياً وقع عليه كوران مصادفة في جزر القمر.

أقتبس من كتاب سرميني «جيرار كوران، هل هذه سينما حقاً» للتدليل على ما تقود إليه التقنية من أساليب، فكل بورتريه مدته ثلاث دقائق الأمر المتأتي من «الزمن الفعلي لعلبة شريط فيلم من مقاس (8) ملم سوبر»، وقد بقي هذا الزمن ثابتاً ونحن نتكلم الآن عن ما يتجاوز 4000 بورتريه، الرقم القابل للتزايد في كل يوم، كما أن فكرة هذا الفيلم جاءت من أجهزة التصوير الفوري التي تنتشر في محطات المترو والقطار والمراكز التجارية، إذ كانت الشخصية في البداية تظهر ثابتة في مواجهة الكاميرا الأمر الذي تغير بعد ذلك، إذ للشخصية أن تفعل ما تشاء أمام الكاميرا، من دون أن يفوتنا أن كوران انتقل منذ زمن إلى الكاميرا الرقمية.

قدسية الكاميرا

استجابة الفن للتقنية ستكون معبراً إلى ما يتخطى ما يقدمه كوران والمضي مع شاغلي الرئيس في هذه الأيام، وهي العتبة التي تم تخطيها في السنوات الأخيرة، المتعلقة بقدسية الكاميرا، واحتكارات أدوات التعبير التي تم تدميرها، ولنا هنا أن نتحدث عن الكاميرات الرقمية المتدافعة في تطورها، وصولاً إلى الهاتف النقال و«الآي فون»، حيث أصبح في متناولنا جميعاً أن نصنع أفلاماً بالمعنى التوصيفي للكلمة من دون الفني منه، ولعل الميزة الرئيسة التي يتمتع بها مهرجان الخليج تتمثل في أنه في كل دورة يعزز من هذه الحقيقة، التي تضعنا أمام جيل تشكل ويتشكل بحيث لا تفارق الكاميرا يده، فهي كما القلم في جيل سابق، والتدوين لا يحدث إلا أن طريق الصورة، من دون الخوض في الركاكة والجودة.

همّ تسجيلي

هنا ننتقل بالكلام إلى مستوى آخر، والهم التسجيلي المصادق عليه أولاً لدى جيل بأكمله، بحيث تمسي المفكرة اليومية مفكرة بصرية، وحين يتم نقلها إلى مستوى آخر غير ذاتي تمسي توثيقاً موضوعياً، بالمعنى الحدثي، خصوصاً في الأوقات الراهنة، فأنت تصور ما تراه فقط، فيمسي هذا الفعل اشكالياً، فما تشهده اليوم مدينة درعا السورية تتولى نقله كاميرات الهاتف المتحرك بامتياز، وأدوات البث التلفزيوني لا حضور لها، بل هي تنقل ما يحمله الهاتف، وما يتم نشره عبر مواقع التواصل الاجتماعي مع «اليو تيوب»، وهنا يحضر مجدداً حلم غودار الثوري في ستينات القرن الماضي حين كان يتوق لأن يتحول الفيلم إلى منشور سياسي، لكن مع ما يمكن أن نضيفه في هذا الخصوص، بأن ما تحمله تلك «الكليبات» التي يجري تداولها، تحولت إلى منشور تأتي السياسة فيه من زاوية الرؤية فقط، وعليه أصبح فعل التصوير سياسياً لا لشيء إلا لأنه يصور هذا الحدث دون غيره، يلتقط تلك الزاوية وليس غيرها، وهنا على النظام السياسي أن يعمل على ايجاد آليات مجابهة، لكنها، كما هو الحاصل حالياً في سورية، تبدو متآكلة، عاجزة عن مجاراة هذا الفعل المؤسس على الديجيتال و«اليوتيوب» والـ«فيس بوك» أو غيرها من الشبكات الاجتماعية، من دون أن يكون أيضاً من آليات تعترف أولاً بأنه عصر الصورة.

تجييش

أداة النظام السوري في مجابهة ذلك ستكون عبر المحطات الرسمية، وما تسمى خاصة، وهي أشد تجييشاً من العامة، وتكذيب الكثير مما تم تداوله من «كليبات» يكون كلامياً على الدوام، الصورة تقول كل ما تقوله عبر رصد وتسجيل ما وقعت عليه العين، ثم يأتي محلل في القناة السورية ويقول هذا كاذب! هذا تم تركيبه! والمدهش في الأمر أن التلفزيون نفسه يكتفي بتلك الآلية ولا يخرج بصورة موازية أو مجابهة لما تم تقديمه، وإن فعل فإن من يفند ذلك مازال عالقاً بـ«الفوتو شوب» على الرغم من أن الكلام عن صورة متحركة، وهكذا يتحول التلفزيون السوري إلى آلية تجييش كلامي، ومعها حصر الصورة في ما تودّ عرضه، طبعاً مع هيمنة مفهوم يتمثل بتكذيب كل ما هو حاصل، وتخبط عجيب يحصر الشهداء، كل الشهداء، في الجنود والضباط فقط، والأداة التي يفترض أنها تتكئ على الصورة ليست إلا خطابية، والرهان كل الرهان على إثارة مشاعر مناهضة للذي تمت اثارته من خلال فضح الوحشية التي تنقلها كليبات المحتجين والمتظاهرين.

هنا نعود إلى كوران ونستعين لتوضيح تطور الأساليب التي تستجيب للآليات، والمتغيرات السردية وفق المعطيات التقنية الجديدة، فمع الانتقال إلى الإعلان الرسمي الديناصوري تمسي غرفة التصوير، التي استقى منها كوران فيلمه اللامتناهي من «البورتريهات»، موجودة في ذاك الإعلام، والصورة التي يقدمها هي تماماً صورة الهوية حاسرة الرأس، من دون أدنى حركة، ولها أن تكون صورة المذيع أو المذيعة ولا شيء يفعله/تفعله سوى الكلام، الرد الكلامي على الصورة، وليتضح هنا ضرب عرض الحائط بكل ما شهده العالم من ثورات اتصال بصرية، وليبقى التساؤل الأكبر هل ممكن مجابهة النقل البصري والذاتي للحدث بـ«الغوبليزية»؟ هل الخطابة تقف أمام بلاغات الصورة وسردها القادر على أن يكون حيادياً وإن كان غير ذلك؟ الإجابة عن ذلك تنقلنا إلى مستوى آخر، يدخل في مخاطبات الأدرينالين، في الجهوزية النفسية لدى المتلقي للتخلص من الخوف، فالخوف، والإصرار عليه، يجعلان من المتلقي يكذّب كل ما يراه، الخوف البدائي يرى ملاذه أيضاً في الخطابة والبدائية الإعلامية، وهنا يبدو كلما أوغلت في التخبط الإعلامي كان الأمر ناجحاً، طالما كان الرهان على الخوف الذي يوقع على بياض، لكن يبقى للخوف على مر العصور مدة صلاحية.

الإمارات اليوم في

28/04/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)