حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

"تيتا ألف مرة" وثائقي لمحمود قعبور في صالة "متروبوليس":

الحبّ عندما لا يأتي متأخراً

ريما المسمار

يبدو تتمة لسلسلة الأفلام الوثائقية التي أنجزها مخرجون لبنانيون في الآونة الأخيرة عن عائلاتهم (إيليان راهب، غسان سلهب، زينة صفير وآخرون)، وانخراطاً في تيارها، يقدّم المخرج محمود قعبور شريطه الوثائقي الثاني "تيتا ألف مرة". ولكن بخلاف طابع المواجهة/الإعتراف الذي اتخذته غالبية تلك الأفلام، لا يسلك قعبور في فيلمه ذلك الإتجاه. بل إن المواجهة، إن وجدت في الفيلم، فهي مع مخاوف المخرج من الفقد أو الحنين. والإعتراف هو بالحب وبالتصالح بين جيلين. لذلك نراه يلملم ذكريات جدته المتناثرة على مدى أكثر من أربعة عقود، يجمعها بحنان بين دفتي فيلمه، كأنما يعيد ترميم خزفية ثمينة وقديمة، لا مثيل لها في العالم. والمحصّلة فيلم يروي تاريخها (أي الخزفية) ويعيّن قيمتها انطلاقاً من علاقة "مقتنيها" بها. غير أن "تيتا" قعبور تكشف عن شخصية سينمائية بامتياز، تتجاوز الصفات المرتبطة بالجدة من طيبة وحنان وحكمة، إلى شيء من الطرافة المعجونة بفرادة الشخصية. والمخرج، بإدراكه ذلك الجانب سلفاً، لا يوفّر حيلة لتعزيز الجانب "المتخيّل" في تقديمه الشخصية. هكذا يفتتح فيلمه بسلسلة مشاهد تحريك للجدة، تحضّر القهوة أو تطهو الطعام أو تعدّ النارجيلة، تسليتها شبه الوحيدة. كأن قعبور يجمع في تلك المقدّمة بين ملمحين لجدّته، الطرافة والسينمائية، ويمنح الشريط منذ البداية تلك النبرة اللّعوب التي ستتخذ لاحقاً أبعاداً أخرى، متطرّفة أحياناً.

في منزلها القديم في أحد أحياء بيروت القديمة، تعيش الحاجة فاطمة (الجدة) وحيدة مع خادمة تعتني بها وبشؤون البيت. تلوح لنا نهاراتها متشابهة، تتنقّل خلالها بين الداخل والشرفة التي غدت نافذتها على العالم الخارجي، تشرب القهوة و"تقرقع" بالنارجيلة، ويزورها الأولاد بين الحين والآخر. لحظات قليلة فقط تستسلم خلالها للذكريات: الزوج "محمود" عازف الكمان الذي رحل قبل عشرين عاماً وصورة باهتة عن بيت كان يعج بالأولاد والأحفاد ذات يوم. ولكن شخصيتها المرحة، إلى جانب حرص الفيلم، يحولان دون تحول الحنين مناخاً عاماً. بل إن مناخاً احتفالياً يهيمن على الأجواء، متخذاً من عملية التصوير حدثاً غير عادي في روتين الجدة. والأخيرة بذكائها الفطري وطرافتها تنأى بالفيلم عن الإفتعال. فهي مدركة تماماً لوجود الكاميرا وفريق التصوير وتتعامل معهما على أنهما ضيوف حفيدها، وإن لم تكن عارفة تماماً لقدرات ذلك الوسيط. فهي لا تتوانى عن التعبير عن عدم إعجابها بخطيبة حفيدها الأجنبية أمام الكاميرا، كأنها تبوح بسر لن تطلعه إلا على محمود وفريق التصوير! كما لا تتردد في مخاطبة الكاميرا، أو الأحرى مديرة التصوير خلفها (موريال أبو الروس)، مشرّعة بعض خصوصياتها وذكرياتها الحميمة أمامهما. يسهّل المخرج عليها المهمّة من خلال ملازمتها وممازحتها أمام عدسة الكاميرا حيث تجري الحوارات بينهما. يسألها عن جده الراحل فتستعيد طيبته وحسنه وحبّه الكبير لها بفرحة مراهقة تذوب هياماً وعشقاً. يستعيدان معاً، المخرج وجدته، مقطوعات موسيقية كان الجد يسجّلها على شريط كاسيت في غرفة نومه، فتدمع عيناها. تخبره عن والده وأعمامه وعماته وعن طفولته وتعلّقها به لشبهه الكبير بجده، فضلاً عن حمله اسمه. فيتراءى لنا ذلك الحنان المتدفّق تجاه الزوج الراحل أقرب إلى عاطفة أمومية، تبثّها هذه المرأة الثمانينية نحو ذكرى الشاب الذي كانه الزوج. صورة الجد في شبابه التي تتوسط الصالون هي نفسها المطبوعة في مخيلة الجدة، لا تهرم ولا يؤثر مرور الزمن فيها، في حين مرّت السنوات على فاطمة حتى غدت أماً لزوجها وجدة لحفيدها الذي يشبه زوجها ويذكّرها به.

لعلّ محمود قعبور انتظر بعض الوقت لينجز الفيلم حتى يتسنى له التماهي مع صورة جدّه في شبابه. شكّل هذا التماهي لعبة الفيلم المكشوفة، ينخرط فيها المخرج وجدته بشكل واعٍ وبقرار مسبق. هو يدلّلها ويغمرها بعاطفتها وحبّه كأنه محمود الزوج، وهي تجاريه في لعبته، فتتغزّل بحسنه وتكشف له عن مكنوناتها وتطعمه البرتقال بيديها. ذلك التبادل العلني للأدوار بين محمود الحفيد ومحمود الزوج من جهة وبين فاطمة الجدة وفاطمة الزوجة من جهة ثانية يصل ذروته في مشهد طريف، كان ضرورياً، بتطرّفه، لتجنيب الفيلم الكليشيه والترميز السطحي. لا يكتفي المخرج بارتداء بدلة جده واعتمار طربوشه، بل يشبك ذراعه بذراع جدته ويسير الإثنان في الشارع كعريسين، ترشّهما إحدى الجارات بالأرز، على وقع تعليق الجدة "خلصنالها الرز" لفلانة ورد المخرج "معليش منجبلها غيرهن".

ليست طرافة الجدة هي وحدها مركز جاذبية الفيلم ولكنّه أيضاً فعل الحب ذاك الذي يقف وراء الفيلم، حاملاً المُشاهد على حسد المخرج على قيامه بتلك الخطوة قبل فوات الأوان. إنها القدرة على المكاشفة والتعبير عن المشاعر تجاه من نحب التي غالباً لا تستفيق إلا في أعقاب فقداننا لهم. أما محمود قعبور ففعل ذلك في الوقت المناسب وإن لم يكن الخوف بعيداً من أن يكون محرّضاً على البوح. فهو يقول لجدته كم كان يخشى خلال السنوات السبع التي قضاها في كندا أن تموت قبل أن تتسنى له رؤيتها. وهي تبدو مسكونة بهاجس مغادرة الحياة بلا وجل، يقلقها فقط أن يسبق الموت مرض يتسبب بالمتاعب لمن حولها. ومثلما أعاد الحفيد لجدته ذكرى زوجها الراحل في مشهد العرس الإفتراضي، يواجه خوفه من رحيل جدّته بأن يحوّله لعبة أيضاً ومزحة، يمكن التندّر عليها في ما بعد. هكذا تسجى الجدة على سريرها بلا حراك كأنما تقوم ببروفه للموت، بينما يجتمع الأحفاد وأولادها حولها باكين أو متأثرين. اللعبة هنا مكشوفة للمشاهد أيضاً الذي يعرف ان الجدة مازالت على قيد الحياة من دون أن يمنع ذلك سريان قشعريرة خفيفة في أوصاله. عندها تفتح الجدة عينيها مرددة جملتها الشهيرة في الفيلم بعد كل مشهد: "منيح هيك؟" فيغرق من حولها في الضحك. وإذ لا يخفّف التمرين على الموت من وقع الموت الفعلي إلا أنه يمنح عائلتها ذكرى طريفة موازية للموت، هي هذا المشهد ومرونة الجدّة في مجاراة حفيدها لصنع الفيلم الذي يريد. هو فيلم تحية في نهاية المطاف للجدة الحاضرة والجد الغائب، وتعبير خالص عن الحب قبل فوات الأوان.

المستقبل اللبنانية في

15/04/2011

 

"طريق العودة" للأسترالي بيتر وير في الصالات المحلية:

بين الإنسان والطبيعة صراع هو الأعنف لكنه أيضاً الأكثر حريّة

ريما المسمار  

في 17 أيلول/سبتمبر 1939، اجتاح الإتحاد السوفياتي بولندة من الشرق، نافياً أعداداً كبيرة من البولنديين إلى معسكرات العمل السوفياتية في مناطق نائية، في ظل ظروف شديدة القسوة. في احد المعسكرات في سيبيريا، قامت مجموعة من ستة أشخاص بالفرار جنوباً في اتجاه الحدود الروسية المونغولية ومنها إلى الهند عبر صحراء غوبي ومن ثم جبال الهيمالايا. حول رحلة الأربعة آلاف ميل، أنجز المخرج الأوسترالي بيتر وير فيلمه الأخير "طريق العودة" (The Way Back) الذي بدأت عروضه اخيراً في الصالات اللبنانية.

يشكّل الفيلم عودة مخرجه إلى السينما بعد غياب سبع سنوات، مرّت على إنجاز آخر أفلامه "السيد والآمر: الجانب البعيد من العالم" (Master and Commander: The Far Side of the World، 2003). والفيلمان، الأخير والحالي، يشتبكان حول تيمة اساسية في أعمال وير وغيره من المخرجين الأوستراليين: الصراع بين الإنسان والطبيعة الذي يتخذ ديناميته من جدلية العلاقة بينهما حيث الأرض أم الإنسان وعدوّته في آنٍ معاً. يتّخذ وير من ذلك الصراع قلب الفيلم وقالبه، مولياً عناية فائقة وبحثاً عميقاً لأطوار الطبيعة وتأثيرها على الإنسان. بهذا المعنى، يستحيل المكان شخصية اساسية بامتياز، ذا أمزجة وتقلّبات وصاحب فعل ورد فعل. يعاين المخرج ذلك كلّه بدهشة وإجلال، راصداً تبادل الأدوار بين الإنسان والطبيعة، وكيف يروّض أحدهما الآخر على إيقاع الصبر والإرادة والعزم. العيش فعل إرادة ومواجهة. هكذا ينبئنا "مستر سميث" (إد هاريس) قبيل نهاية الفيلم، مضمراً بصمت أن الموت هرباً من المواجهة فعل استسلام. ولكن الحياة في عرفه عقاب أيضاً، هو الأميركي الذي جاء بولده ابن السبعة عشر ربيعاً إلى روسيا ليلقى الأخير حتفه قتلاً بالرصاص. يعيّن "مستر سميث" نفسه الملام عن مقتل ابنه، معتبراً شقاء العيش في معسكر العمل السوفياتي أقل عقاباً، فيقرّر الصمود. هكذا عندما يرى "يانوش" (جيم ستورجيس) الشاب يتنازل عن حصّته من الطعام لرجل عجوز، يبادره بالقول: "الطيبة تقتل صاحبها". و"يانوش"، الشاب البولندي، عازم أيضاً على الصمود من أجل زوجته التي عُذِّبت شرّ تعذيب قبل أن تُجبر على الإعتراف كذباً بأنه جاسوس. الزوجة هي الصورة المكمّلة لـ"مستر سميث"، تحيا ذنب خيانة زوجها، وربّما تصرّ على الحياة كعقاب أيضاً. ولكن "يانوش" يختار طريقاً آخر للصمود: يقرّر الهرب من المعسكر بعد أن يؤكد له "خباروف" (مارك سترونغ)، الممثل المعتقل بتهمة مديح البوجوازية في دور سينمائي، أن ثمة طريقاً للهرب إلى مونغوليا عبر بحيرة بايكال جنوباً. ولكن "خباروف" لا يعدو كونه مؤلّف حكايات، يستخدمها طمعاً لجذب المعتقلين الجدد ولممارسة سحره عليهم، بينما هو لا يمتلك الشجاعة للهرب. هكذا يغدو "يانوش" قائد عملية الهروب الكبرى، ينضم إليه فيها "مستر سميث"، القاتل الروسي "فالكا" (كولن فاريل)، الرسام "توماز"، البولندي "كاجيك" الذي يعاني عمى الليل، "فوس" الكاهن اللاتفي و"زوران" المحاسب اليوغوسلافي. تتخذ المجموعة من عاصفة ثلجية قوية غطاء للهرب، ولكنها تفقد "كاجيك" خلال الايام الأولى متجمداً في عراء سيبيريا. ينجح الخمسة الباقون في اجتياز المرحلة الأولى من الرحلة بوصولهم إلى بحيرة بايكال، حيث ستنضم إليهم "إيرينا"، الفتاة التي تدعي أنها هاربة من مزرعة جماعية بعد مقتل والديها على يد الجيش السوفياتي. تشيع "إيرينا" جواً من الإلفة في المجموعة وتلعب دور الوسيط في تقريب الرجال عاطفياً. ولكن المخرج المتمسّك بالصمت المدوي سبيلاً ليحتفظ الهاربون بطاقتهم سلاحاً في وجه وعورة الجبال ومن ثم قيظ الصحراء، يستعين بشخصية الفتاة للكشف عن بعض حكايات الرجال. بواسطتها، يتقرّبون ويكتشف المشاهد أمراً أو اثنين عن الشخصيات.

حين تصل المجموعة إلى حدود مونغوليا تكتشف انها اضحت تحت الحكم السوفياتي بما يعني استحالة عثورهم على الأمان والحرية فيها. عندها يقرّرون المضي في رحلتهم باتجاه الهند، عابرين صحراء "غوبي" ومن ثم جبال الهيمالايا. في الصحراء، تفقد المجموعة اثنين من أفرادها- الرسام وإيرينا- وتمر في التجربة الأصعب التي تتيح للفيلم توظيف عناصر سردية هي مزيج من الكلاسيكية والعضوية. يستعيد بيتر واير فكرة الواحة السراب. ولكن الطبيعة تقرر هنا ان تلين بعض الشيء، فتعثر المجموعة على بئر ماء بعد أيام طويلة من العطش وألتهام الأفاعي المشوية. في حين يتسبب المشي الطويل والقيظ بتقيّح الأقدام وتورّمها إلى حد مروّع. ويكاد "مستر سميث" يلاقي مصير رفاقه الذين سقطوا أمواتاً لولا طيبة "يانوش" التي تأبى أن تترك الأميركي لمصيره، وإن عنى ذلك تعليق الرحلة اياماً أو اسابيع. على الرغم من أن الفيلم لا يغوص على علاقات الشخصيات أو في اكتشافاتها وتحوّلاتها غير تلك الجسمانية، إلا أن علاقة مميزة تنشأ بين "مستر سميث" والشابين الاصغرين في المجموعة، "يانوش" و"إيرينا"، بسبب من أبوة ثكلى يرزح الرجل الستيني تحت وطأتها. تتيح تلك العلاقة لحظات حميمية قليلة، يخبر "مستر سميث" خلالها "يانوش" عن ابنه الذي قتل، ويعترف له "يانوش" بأن خطته تقضي بالعودة إلى بولندا لتحرير زوجته من الذنب الذي تحيا فيه بسبب وشايتها به. وفي حين تنتهي رحلة "مستر سميث" في "لاسا" ملتحقاً بقاعدة عسكرية أميركية ستعيده إلى بلادها، ويستقر الكاهن والمحاسب في الهند، نرى "يانوش" مستمراً في رحلته. على صور أرشيف مولّفة لأبرز تداعيات الشيوعية في أوروبا، يكمّل "يانوش" كأنه يعبر تلك المراحل سيراً على ألاقدام إلى أن يصل في المشهد الأخير، وقد اصبح كهلاً، إلى بيته حيث تحيا زوجته العجوز في الذكريات والذنب. ولعلّ الجانب الواقعي المؤثر في الحكاية والذي لم يستخدمه المخرج في الفيلم هو أن الإتحاد السوفياتي أصدر، بعيد الإجتياح الألماني في العام 1941، عفواً موافقاً على إطلاق سراح البولنديين وانضمامهم إلى القوات البولندية الحرة. ولكن العفو لم يكن علنياً تماماً، متسبباً ببقاء الكثيرين في منفاهم، غير واعين لإمكانية عودتهم إلى بلادهم. بيتر وير الذي سبق له معالجة فكرة تحول الحياة سجناً في "برنامج ترومن" (The Truman Show، 1998) ومحاولات الإنسان التفلّت من الأسر، يجد في "طريق العودة" المرتع المثالي للعودة إلى تلك الفكرة من جديد، فيجسّدها في بعدين متداخلين. الأول هو المعتقل نفسه حيث يتم إقناع المعتقلين بأن سجنهم "ليس الأسلاك الشائكة ولا الحراس ولا كلاب الحراسة... بل الطبيعة نفسها" القاسية والتي يستحيل التعايش معها. وحين يتمكّن "يانوش" ومجموعته من كسر حصار المعتقل يجدون أنفسهم في أسر الجبال والصحارى وفي صراع بدائي مع الحياة. الصورة قريبة جداً من فكرتنا عن بداية البشرية، عن خوف الإنسان الأول الذي دفعه إلى تشييد آلهة لكل ما يخشاه. ومن هنا يمكن أن نفهم عنوان الفيلم على انه "طريق العودة" إلى فجر الإنسانية، مع إضافة أساسية هي فكرة الحرية. فعلى الرغم من سقوط كثيرين خلال الرحلة، يبتهج الآخرون بموتهم أحراراً. لا يحتاج أبطال الفيلم إلى آلهة لاحتواء خوفهم لأنهم آتون من تجربة أكثر مرارة وقسوة، أنزلها بهم آلهة الإيديولوجيا السياسية. فهل نسمع بيتر وير يقول في فيلمه أن الموت تجمّداً في الثلج أو تورماً في قيظ الصحراء أفضل من الموت عبيداً في معسكرات الإيديولوجيا؟

لعلّ الغوص على تفاصيل الفيلم الحكائية من شأنها أن تخلّف مفارقات كثيرة، ولكن ثمة شيء روحي إنساني غامر في رحلة هؤلاء، شيء عن معنى البطولة والشجاعة والإرادة، يمسك به المخرج ويبثّه بكلاسيكية لا تشيخ.

بين الواقع والرواية

المفارقات تلك هي نفسها التي تجعلنا نفهم لماذا لم يقدم أحد قبل بيتر وير على أفلمة هذه الرواية "الواقعية". ذلك أن أفلمة حادثة لا يحدث فيها شيء أمر لا يستهان به. ويسجل للمخرج انه لم يستسلم في أغلب الأحيان لمغريات روائية كان من شأنها أن تجعل الفيلم أكثر تشويقاً. كل شيء هنا مدجّن، بداية بنجومية كولن فاريل في دور صغير نسبياً وحتى دخول "إيرينا" على المجموعة مناقضة تصوراتنا عن إمكانية أن تشعل الرغبة أو مجرد الرومنسية في قلوب الرجال. بهذا المعنى، امتلك المخرج، مثل "يانوش" ورفاقه، الإرادة للمضي في مغامرة مجهولة وخطيرة. ولم يثبط عزيمته الجدل المضروب حول الرواية التي أوحت له بالفيلم قبل سنوات طويلة. "المشوار الطويل" (The Long way) هو عنوان الرواية/المذكّرات التي كتبها الملازم البولندي سلافومير رافيتش في العام 1956، كاشفاً فيها فصول فراره من معسكر سوفياتي في العام 1940 واجتيازه مع آخرين رحلة الأربعة آلاف ميل من سيبيريا إلى الهند التي يرويها الفيلم. ولكن غياب الوثائق، إلى جانب موت رفاق الرحلة، أرخى بظلال الشك على رواية رافيتش منذ إبصارها النور. لاحقاً، خرج من يدعي أن الحكاية حكايته وأن رافيتش سرقها ونسبها إلى نفسه في حين أنه لم يهرب من المعسكر بل أطلق سراحه. بين تأكيد ونفي، لم تنجُ من الحكاية سوى حقيقة واحدة هي أن هناك من قام بهذه الرحلة ولكن أحداً لا يملك الدليل لتأكيد هويته. إلى هؤلاء الناجين المجهولين يهدي وير الفيلم، ولعلّه بإدخال شخصية "خباروف" على النص، الممثل الذي يقتات على حماسة الآخرين وشجاعتهم، أراد أن يلمّح إلى مصادرة البطولة وتداخل الواقع والمتخيّل. إذا صحّت رواية رافيتش، يصبح الفيلم وثيقة عن ملحمة إنسانية فريدة. وإذا تبيّن لاحقاً أن ما من حقيقة فيها، يكون وير قد قدّم الصورة القصوى للصراع من أجل البقاء. والرهان رابح في كلتا الحالتين.  

تكريم برتولوتشي في مهرجان كان

اختار مهرجان كان السينمائي المخرج الإيطالي برناردو برتولوتشي لمنحه السعفة التكريمية خلال دورته الرابعة والستين المقبلة. ومع تغيير طفيف في التقليد، حيث باتت الجائزة تسلم يوم الإفتتاح، سيتسنى لبرتولوتشي الإجتماع على المنصة مع روبرت دينيرو، رئيس لجنة تحكيم الدورة المقبلة من المهرجان، وبطل أحد أفلام السينمائي الإيطالي، "1900" (1976).

اتخذت مسيرة السينمائي الايطالي برناردو برتولوتشي مساراً متعرجاً منطلقة من افلام فنية صغيرة مشغولة كالكانفاس الى ملاحم سينمائية ضخمة. فالسينمائي الذي اشتهر بتقديم مشاهد الجنس بدون مواربة في السينما في فيلمه "التانغو الأخير في باريس Last Tango in Paris، تميز ايضاً بمسيرته المستقلة وبدفاعه الشرس عن ذلك ليصنع لنفسه مكانة بارزة بين السينمائيين المعاصرين. وفي حين نالت أعماله التقدير والجوائز في العالم، بقيت عصية على مسقط رأسه حيث لم ينل جائزة واحدة في ايطاليا حتى سنوات قليلة فائتة حينما كُرِّم بجائزة الاسد الذهب عن مسيرته في مهرجان البندقية السينمائي. "البندقية لم يمنحني اية جائزة وكان علي ان أنتظر 45 سنة كي أحصل عليها ولكنني أرحب بها" قال برتولوتشي في حوار الى موقع "سي.أن.أن" الالكتروني.

يُعد السينمائي ضيفاً دائماً على البندقية منذ العام 1962 عندما ظهر للمرة الاولى هناك بباكورة اعماله The Grim Reaper . وعن ذلك قال: "أتيت الى البندقية مراراً ومازلت أتذكر لحظات كثيرة. في الستينات والسبعينات كان المهرجان ساحة تحدٍ وقتال. كانت الصحافة الايطالية عنيفة ودرامية. لقد دُبحت أفلامي مراراً في الصحافة ولكن هناك ايضاً لحظات سعادة كبرى".

ما افتقده السينمائي الايطالي في موطنه عوضته عنه جوائز أخرى أبرزها الاوسكار الذي مُنحه غير مرة ولكنه كان العام 1988 الاكثر تميزاً حيث حاز فيلمه "الإمبراطور الأخير" عن آخر ايام الامبراطورية الصينية تسع جوائز اوسكار من بينها لأفضل مخرج وهو ما يطلق عليه المخرج وصف "جرعة اوسكار زائدة": "بالنسبة الى الاميركيين، الاوسكار شيء مقدس. بالنسبة الي كان بمثابة انعكاس لأحلامي التي كانت هوليوود محورها في مراحل عملي الاولى." اشتهر الفيلم بأزيائه الباذخة وآلاف الممثلين فيه وقدرة المخرج على انتزاع الموافقة بالتصوير داخل مدينة بكين المحرّمة: "لم يكن ممكناً بالنسبة الي إنجاز الفيلم من دون التصوير في المدينة المحرمة." في المحصلة، يعود الفضل في ذلك الى أحد الممثلين، يينغ روتشينغ، الذي كان ايضاً نائب وزير الثقافة، فأقنع الحكومة الصينية بالموافقة على التصوير. كانت حماسة برتولوتشي كبيرة لدرجة انه لم يستطع النوم لاسابيع طويلة قبل التصوير. ولم تكن الحماسة وحدها هي سبب أرقه بل معايير المشروع الانتاجية الضخمة المختلفة تماماً عن افلامه الفنية الصغيرة السابقة.

"علي أن أعترف انه في يوم تصوير مشهد تتويج الامبراطور الصغير، وصلت الى موقع التصوير ورأيت نحو الفي جندي بلباس الفيلم فارتعبت. أتذكر أنني اختفيت داخل مقطورتي الى أن سمعت نقرة على بابي وصوت المنتج يذكرني بأن موعد التصوير قد حان فقلت له إرحل ورحل واستغرقت وقتاً طويلاً قبل أن أتمكن من التقاط أنفاسي والخروج."

اذا كان "الامبراطور الاخير" يعد ذروة مسيرته فإن "التانغو الاخير في باريس" هو النظير المناقض له. قبله، كان السينمائي قد أمضى وقتاً طويلاً الى جوار السينمائي الايطالي بيار باولو بازوليني مساعداً على فيلم Accattone عام 1961. بهذا المعنى، كان يتعلم درساً في كيفية دفع الحدود والحواجز ولكنه لم يكن بأي شكل من الأشكال مهيئاً لردة الفعل القاتلة التي سيثيرها فيلمه.

"شعرت بأنني متهم موقوف من قبل الرقابة" يقول المخرج عن احساسه عندما أصدرت الرقابة أمر اتلاف الفيلم. ويتابع "ولكن الامر كان بمثابة انعكاس للزمن الذي كانت فيه ايطاليا لاتزال رهينة ردود الفعل. الامر الاكثر مهانة من ذلك انني فقدت حقوقي المدنية لمدة خمس سنوات فكنت ممنوعاً من التصويت مثلاً. لقد كانت تلك المرحلة الاسوأ في علاقتي ببلدي."

على الرغم من ذلك، حمل الفيلم أوقاتاً سعيدة لصانعه حيث حقق نجاحاً نقدياً واحتفى النيويوركيون به، مقارنين افتتاحيته بافتتاحية سترافينسكي في The Rite of Spring. خلال العمل على الفيلم، بنى برتولوتشي علاقة خاصة مع العملاق مارلون براندو: "كان تحدياً العمل معه. قلت له: مارلون أريدك في التانغو الاخير ان تكون مختلفاً عما كنت عليه في كافة افلامك. لقد كنت عظيماً. انت الأفضل ولكنني اريدك مختلفاً. اريدك كما انت بدون قناع. اخلع قناع الممثل عنك." يعد المخرج ذلك من افضل انجازاته خلال مسيرته. وحين التقى براندو بعد سنوات قال له: اعتقد انني نجحت في ما اردت. هذا انت بدون قناع." فأجابه براندو "اوتعتقد ان ذاك هو انا؟!"

ربما لم يثر برتولوتشي الجدل على تلك الشاكلة في أعماله اللاحقة ولكنه حافظ على نهج معين في صنع افلامه: "هناك شيء يتشابه ربما هي القدرة على الإصغاء الى دقات قلبي والاستجابة لها. الوفاء لذلك النبض هو من أهم الاشياء باعتقادي."

آخر أفلام برتولوتشي كان في العام 2003 في عنوان "الحالمون" The Dreamers ولكنه لا يعتبر جائزة التقدير تلك إشارة الى تقاعده حيث يحضّر حالياً لمشروع سينمائي في عنوان "أنت وأنا".

المستقبل اللبنانية في

15/04/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)