حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

كساد الموسم السينمائي المصري ... والمستقبل غامض

القاهرة - أحمد فرغلي رضوان

ربما لم يعرف السوق السينمائي المصري غموضاً في خريطته مثل ذاك الذي يعرفه هذا العام الاستثنائي للسينما المصرية وصناعها، بعد ثورة الشباب في 25 يناير، وبعد أن تغير كل شيء في مصر وتوقفت تماماً عجلة الإنتاج في الصناعة لمدة تقترب من شهرين وهو ما كلف صناع السينما عشرات الملايين بحيث أن متوقع مداخيلها لهذا العام لن يزيد عن 100 مليون جنيه بنهاية عام 2011، بعد أن كان في الأعوام الماضية اقترب من 300 مليون جنيه. وأكبر المتأثرين كانت الأفلام التي بدئ بتصويرها وتوقفت.

بعضها حاول العودة من جديد والبعض الآخر رأى أن الموضوع الذي سيطرحه الفيلم لا بد أن يختلف بعد الثورة. والبعض علق مشاريعه لإشعار آخر، بل ووصل الأمر إلى تفكير بعضهم في الهجرة إلى مدن عربية مثل دبي لاستئناف النشاط الفني. ولكن الجميع حاول التقليل من هذه الخسارة الفادحة قائلاً: «فداء» للثورة ولإنجازاتها المنتظرة والتي تحول معظم الفنانين إلى مدافعين عنها بخاصة بعد نجاحها وسقوط نظام الرئيس مبارك؟!

تعتبر دور العرض السينمائية هي التي تعرضت للضربة الأولى من أحداث ثورة 25 يناير، فتوقفت تماماً ودون سابق إنذار جميع دور العرض وأطفأت أنوارها.

ويعتبر أحمد عز وفيلمه «36 يوم حب» وهو أول إخراج روائي للبناني سعيد الماروق أكبر الخاسرين؛ حيث تم طرحه في دور العرض يوم 26 يناير ثم ألغي العرض الخاص، ولكن لم يتوقع أحد أن يتطور الأمر في مصر إلى ما حدث، فتعرض الفيلم لخسارة فادحة، ومعه فيلم كريم عبد العزيز «فاصل ونعود» والذي عرض قبل الثورة بأسبوع، ومعه فيلم المهرجانات «ميكرفون»، إلى جانب بعض أفلام السوبر ستار، والتي كانت مستمرة في حصد الإيرادات مثل «زهايمر» لعادل إمام، و «بلبل حيران» لأحمد حلمي، وفيلم الموسم «678» لبشرى ونيللي كريم.

واليوم يأمل صناع هذه الأفلام بتعويض خسارتهم بعد أن عادت دور العرض لفتح أبوابها مجدداً. ولكن لا يزال المصريون مشغولين بتعديلات الدستور، والانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة؛ فجميع الشباب (القوة الرئيسة لجمهور السينما المصرية) تحول تفكيرهم للعمل الوطني والسياسي.

في المقابل تجد أن بعض الأفلام التي بدأ تصويرها وأنجز أكثر من 50 في المئة من مشاهدها، عادت لاستئناف التصوير، ومنها فيلم «جدو حبيبي» لعلي إدريس من بطولة محمود يس وبشرى ولبني عبدالعزيز، «الفاجومي» من تأليف وإخراج عصام الشماع وبطولة خالد الصاوي عن قصة حياة الشاعر أحمد فؤاد نجم، «بيبو وبشير» للمخرجة مريم أبو عوف وبطولة منة شلبي وآسر ياسين.

ولا زال المنتج وائل عبدالله يبحث عن حلول فنية لاستئناف تصوير فيلم «المصلحة» للمخرجة ساندرا نشأت وبطولة أحمد السقا وأحمد عز. وهو أضخم إنتاج للعام 2011، ويدور حول علاقة تجار المخدرات برجال الشرطة المصرية، من الواضح أن ما حدث لجهاز الشرطة بعد الثورة يجعل الأحداث (قديمة). وفي الوقت نفسه أعلن أحمد حلمي عن تأجيل فيلمه «إكس لارج» مع المخرج شريف عرفة.

على جانب آخر، وقف الحظ مع بعض سوبر ستار السينما المصرية بعد أن أعلنوا نيتهم خوض سباق الدراما التلفزيونية، وبدأوا التصوير بالفعل قبل انطلاق ثورة 25 يناير وفي مقدمهم عادل إمام في مسلسل «فرقة ناجي عطالله»، ومحمد هنيدي في مسلسل «مسيو رمضان» حيث استأنفا التصوير ليكون أكبر تعويض عن كساد مواسم السينما في 2011.

فن السياسة يكسب

الأمر لم يقف عند كساد الصناعة أو كيفية استئناف التصوير، ولكنه امتد إلى ما هو أبعد من حيث (محاسبة) شاملة لنجوم الفن المصري، والإعلان عما عُرِف بقوائم سوداء لمن لم يشاركوا بدعم الثورة وكانت تصريحاتهم الإعلامية ضد شباب ميدان التحرير أو تلونت مثل بعض الإعلاميين.

وضمت هذه القوائم التي أعلنها الشباب عبر الإنترنت أسماء نخبة من أبرز نجوم الفن المصري على رأسهم عادل إمام صاحب وصلات الدفاع الدائم عن الرئيس مبارك ونجله جمال في السنوات الأخيرة، وكان يعتبر أبرز أصدقاء نظام الرئيس مبارك ورجاله من الساسة، ودائماً ما كان الفنان الوحيد الذي يتم دعوته لمناسباتهم الاجتماعية.

وفي القائمة أيضاً يسرا وزينة وغادة عبد الرازق وأحمد السقا وطلعت زكريا وعمرو دياب، وتامر حسني الذي يعتبر أبرز ضحايا الثورة. في المقابل، نزل الميدان يومها مجموعة صغيرة من الفنانين شاركوا في تظاهرات الشباب مثل المخرجين خالد يوسف وعمرو سلامة ومحمد دياب إلى جانب خالد الصاوي وبسمة ومنى زكي وأحمد عيد وشريهان صاحبة الظهور المفاجئ في الأحداث. وأصبح هؤلاء هم المتحدثون الدائمون عن الثورة نيابة عن (الفنانين) في وسائل الإعلام المختلفة مع اختلاف رؤاهم وإدراكهم للأحداث، فكسبوا رهانهم على دعم شباب ميدان التحرير.

في حين التزم معظم الفنانين الباقين الصمت، ومن أبرزهم نور الشريف ويحيى الفخراني وليلى علوي.

الحياة اللندنية في

15/04/2011

 

سطو على كرسي التنويري

دمشق – فجر يعقوب 

«في انتظار أبو زيد» عمل وثائقي حققه الكاتب السوري محمد علي الأتاسي شارك به أخيراً في عدد من المهرجانات واللقاءات. والفيلم يرصد محاضرة للمفكر التنويري الراحل نصر حامد أبو زيد دارت وقائعها في وقت سابق، ويمكن منذ البداية القول إنها تتضمن تلخيصاً «مربكاً» لفكر أبو زيد نفسه، سببه افتقاد المخرج الأتاسي لمعادل بصري يوازي به سيلاً من الأفكار الناضجة والملتصقة بواقع إشكالي أحاط بالمفكر أبو زيد، ما يدفع إلى القول إننا نقف أمام كتاب ناجز مصور يمكن تقليب صفحاته أيضاً، أو اللجوء إليه بوصفه فيديو منزلياً يمكن من خلاله متابعة هذه المحاضرة المتميزة التي لم يكن ممكناً «احتضانها» على ما يبدو إلا في أروقة الجامعة الأميركية في بيروت.

لم يكن أبو زيد يدعى من قبل الجامعات العربية إلا لماماً، كما يقول في إحدى لحظات الفيلم غير متحسر في مواجهة كاميرا الأتاسي. أما الفيلم فيبدو على درجة عالية من «التبسيط» لدورانه من حول نقطة واحدة لم تعزز من قوة الوثيقة التي شكلتها محاضرة أبو زيد، إذ بدا واضحاً أن المخرج يتنازل عن كرسيه في الإخراج لحساب كرسي موقت بجانب المحاضر يزول مع توقف الكاميرا عن الدوران. وكان ممكناً مجاراته مجازياً من دون الاحتكام إلى توثيق مفقود. فأبو زيد حضر تماماً في الموعد المحدد، لا بل أن حضوره كان كثيفاً وواضحاً، وأصبح فعل الانتظار من بعده من دون جدوى، فقد قال الرجل كل ما يلزم في محاضرته الشهيرة، وقام بواجبه على أكمل وجه، وبقي لزاماً على الأتاسي أن يقوم بواجبه كمخرج «ذي حظوة» من قبل الموضوع الذي يقدم عليه، فلا نحسب أنه بالإمكان تصوير مادة عن موضوع معين يعكس تبرماً أو ضيقاً، بعكس ما كان يبدو على المخرج الذي كان يتفنن باختراع مصادمات لأبو زيد مع محيطه لم تكن مهمة، كما فعل في حواره مع مذيع الـ BBC حسن معوض حين توجه إليه بالسؤال ما إذا كان قد قرأ المفكر قبل أن يقرر استضافته، فيما ردّ معوض أن طبيعة البرنامج تجيء من طبيعة إعلام اليوم، وهو إعلام لا يدخل في العمق بحكم محدودية تخصصه، وهذا شأن شائع لا يمكن التحكم به ولا حتى إلقاء اللوم على المذيع بسببه. وإن ردّ هذا الأخير بأنه قرأ بشكل مستفيض عنه بما يفي الغرض الذي يعد البرنامج الإذاعي من أجله. وكانت المفاجأة أن يطلب الأتاسي الأسئلة التي من المفترض أن توجه لأبي زيد، إلى درجة أن بعض المشاركين في البرنامج استنكروا مثل هذا الطلب، وهو ما لم يفعله أبو زيد نفسه إذ لا يبدو أن مفكراً حراً وطلقاً مثله بحاجة لأسئلة معدة بشكل مسبق، فيما بدا الأتاسي وكأنه يقدم للتو من على مقاعد «الأحزاب» المدرسية التي تلزم العضو بالخضوع وأن يكون صاغراً تماماً لما سيملى عليه من معلومات وأسئلة، وهي ذات المقاعد الغامضة التي كان يقرأ عليها نوع من الكراسات أصبحت الآن في ذمة التاريخ، لا ذمة السينما المفترضة.

ربما أضاع الأتاسي فرصة ذهبية لا تعوض حين فتح موضوع «تطليق» أبو زيد من زوجته الدكتورة ابتهال يونس. نقول ربما، لأن هذا الموضوع كان يصلح لتقديم فيلم مهم عن المفكر التنويري، لا الذهاب في اتجاه واحد تفرضه المحاضرة، لما لهذا النوع من تكريس مسرحي للحالة الملتبسة التي تنشأ هنا عن العلاقات المتصادمة بين صاحب المحاضرة، والجمهور الذي ينتظر سماع ما يريد أن يقوله له المحاضر - لا أن يبدي المخرج «تورطاً غريباً» في مادته بمحاولاته «تصغير» شأن المحاضر عن غير قصد ربما – كما جرى حين لقاء أبو زيد مع جيزيل خوري لحساب محطة «العربية»، وفيها أوحى الأتاسي للمفكر بضرورة «تهشيم» هذا النوع من المحطات، فيما بدا أبو زيد نفسه أكثر تفهماً وانفتاحاً وديمقراطية واستيعاباً للآخر حتى لو اختلف معه اختلافاً جذرياً.

وثيقة متلكئة

«في انتظار أبو زيد» محاضرة لمفكر تنويري مقدام، لم يكن ممكناً توقع حضور صاحبها من خلال باب خلفي دوار، ومعروف أن الوثيقة تستنفد حين يتم استخدامها ولو مرة واحدة، وإذا ما تحولت إلى رمز بصري في الفيلم لاعتبارات درامية استثنائية يمكن اللجوء إليها وقت الشدة. وهذا ما لم يكن ممكناً حدوثه في حالة انتظار الأتاسي أن يقدم على حلول بصرية تنجيه من تلكؤ الوثيقة في اكتمال قوسها الدرامي حتى يصبح لها قوة الفيلم الوثائقي. أما القول كما فعل الأتاسي حين قدم فيلمه في صالة المعهد الفرنسي في مدينة تطوان بأنه ليس مخرجاً، وأنه لا يتوخى الفعل الإخراجي في علاقته المستفيضة بأبي زيد، فهذا لا يقلل من التباس العلاقة وتأزمها بين المخرج والجمهور الذي يغمض هنا عينيه للمرة الأخيرة، وهو يقرر مشاهدة محاضرة طويلة، غنية بالأفكار والقدرة على استيعاب الآخر، والأهم قدرة المحاضر على أن يكون ديموقراطياً مع «أعدائه»، وهذا قد يبدو صعباً حين يقرر المخرج السطو على كرسي المفكر، لا كرسي الإخراج الذي بقي فارغاً بانتظار محمد علي الأتاسي.

الحياة اللندنية في

15/04/2011

 

«حروب النار» لروزني:

فاشية الرجل الأبيض منذ فجر التاريخ

إبراهيم العريس  

بالنسبة الى البعض لا تقل أهمية الكاتب البلجيكي الأصل ج.هـ. روزني الكبير، عن أهمية جول فيرن في مجال روايات الخيال العلمي. ويرى البعض الآخر ان ثمة تطابقاً «غريباً» بين بعض ما كتبه هـ.ج. ويلز، وما كتبه روزني، علماً أن هذا الأخير - تاريخياً - كان سباقاً على ويلز. ويفترض آخرون ان رواية «طفل روز ماري» التي اقتبس منها رومان بولانسكي فيلمه الشهير الحامل الاسم نفسه، مأخوذة الى حد كبير من رواية كان روزني نشرها بعنوان «الغولة الصغيرة» (1920). والى هذا كله قد يكون من المنطقي عند البداية ان نشير الى ان كثراً من الباحثين اليوم يرون أننا إذا حللنا الأبعاد الفكرية في أعمال هذا الكاتب، فسوف نجدنا أمام فكر فاشي عنصري.

> والحال أن كل هذه السجالات والآراء المتعلقة بروزني، لم تبرز إلا خلال السنوات العشرين الأخيرة، أي بعدما عاد اسمه الى الساحة الأدبية والفنية بقوة، حين حقق الفرنسي جان - جاك آنو، فيلم «حروب النار» انطلاقاً من واحدة من أشهر روايات روزني. وقد أتت استعادة شهرة هذا الكاتب يومها لتذكر بأنه يكاد يكون الكاتب الوحيد في تاريخ الأدب الذي امتد نطـــــاق زمــــن رواياته وقصصــــه (التي يزيد عددها على الخمسين) منذ ما قبل التاريخ، الى وهــــاد المستقبل البعيد، مروراً بعصر الفضاء وصولاً الى اليوم الذي ماتت فيه الأرض، وفق ما يقول لنا عنوان واحدة من رواياته الكبرى («موت الأرض» - 1910). وعلى رغم هذا كله، ومن قبل أن «يكتشف» المخرج آنو رواية «حروب النار» ويؤفلمها، كانت هذه الرواية شديدة الانتشار والشهرة، بل إنها قرئت دائماً من جانب أناس ما اهتموا أبداً باسم كاتبها، وخيّل اليهم انه انكليزي، طالما أن الانكليز كانوا ولا يزالون سادة هذا النوع من الأدب.

> و «حروب النار» التي نشرها روزني للمرة الأولى في عام 1911 تتنافس، عادة، مع رواية جاك لندون («قبل آدم» - 1906) للحصول على لقب «الرواية التي تحكي اقدم الأحداث في تاريخ البشرية»، ذلك ان رواية روزني هذه تدور أحداثها في أزمان ما قبل التاريخ الساحقة، بل حتى في أزمان ما قبل النطق والأسطورة، يوم كان الإنسان لا يزال يقطع خطواته الأولى في التحول الى كائن بشري. وكان لتوّه قد اكتشف وجود النار، ما أضفى على حياته كلها طابعاً جديداً. والرواية تبدأ في ذلك الزمن، ومع جماعة الأولهامر، التي فقدت النار المشتعلة ذات يوم فأحست بالكارثة الى درجة أن واحداً من أفرادها (نوح، وهو غير النبي بالطبع) يبدأ بقطع الفيافي والقفار سعياً وراء الحصول على نار جديدة، مشتبكاً في طريقه مع أنواع الضواري، وجماعات من البشر أكثر ضراوة وأقل «تمدّناً» من جماعته بكثير. وفي الوقت نفسه يتعرض نوح هذا الى منافسة وصراع الشقي آغو، وهو الشاب الأكثر شرّاً بين شباب الأولهامر، والذي يريد ان يحل مكانه لكي يحظى بالحسناء غاملا، التي كان الزعيم قد وعد الفائز بالنار بالحصول عليها.

> غير أن لا أحد، في حقيقة الأمر، يمكن أن يغلب نوحاً، وليس فقط بسبب قوته الجسدية اللافتة والتي تمكّنه من خوض الصراعات على أنواعها، بل كذلك لأنه يتمتع بصفات لم تكن معروفة في زمنه: الذكاء الذي مكّنه من ترويض أعتى الوحوش ووضعها في خدمته، وحسّ التضامن مع الآخرين الذي يجعل منه زعيماً محبوباً، لا مرهوباً، من المقاتلين الذين يرافقونه، كما يمكّنه من أن يتحالف مع شعب مجهول يلتقي به ويرى أن الدنوّ منه أمر محبّب ومفيد. وهكذا، منذ عصر حروب النار المبكر ذاك، يضعنا الكاتب روزني في مواجهة الشخص الذي قد يصحّ أن يطلق عليه اسم «الإنسان الأول» بالمعنى المعاصر للكلمة، أي الكائن البشري بصفاته الإنسانية، خصوصاً أن نوح يبدأ، بين الحين والآخر، التصرّف في شكل هرطوقي يتناقض تماماً مع الأعراف والقيم التي كانت سائدة في زمنه: من ذلك، مثلاً، حين نراه خلال القتال يستنكف عن الإجهاز على الجرحى، إذ يهزمون ويصبحون خارج المعركة، ومن ذلك أيضاً أن حبه للفتاة الموعودة ليس حباً حيوانياً بيولوجياً كما كان شأن «الحب» في ذلك الحيــــن، بل انه حـــب عاطفي خالص يمس شغاف القلب والمشاعر، لا أطراف الجسد وحدها. وبهذا يكون روزني قد رسم ملامح الإنسان، في تميّزه البدائي عن وحوش ما قبل التاريخ.

> غير أن هذه السمات التي صاغها روزني لبطله، وعلى ضوء التحليل الفكري لهذا العمل - ولأعمال أخرى أيضاً لروزني نفسه - لم تتمكن من اخفاء سمات عنصرية واضحة في سجايا هذا الفكر ككل. ففي هذه الرواية، كما في أعمال أخرى للكاتب، نجد ان الشعوب المجاورة هي دائماً شريرة وقبيحة ومعادية، قصيرة وذات أخلاق كريهة، لذا تتعين مجابهتها وبالتالي إما «تمدينها» وإما «تصفيتها» لكي تستقيم الأمور. وهذا الأمر إذا كان قد بدأ جنينياً ويحمل شيئاً من الحياء التعبيري في «حروب النار»، فإنه كان أوضح بكثير في رواية أخرى لروزني نفسه نشرت في عام 1929، وفي وقت كانت فيه الفاشيات وشتى ضروب العنصرية تعتمل في أوروبا واضعة اياها أمام الكارثة. وهذه الرواية هي «الرجال - الضباع» التي اعتبرت من الكثيرين، منشوراً سياسياً ضد سكان المستعمرات و «انشودة تتغنى بمزايا الانسان الشمالي الأبيض وتفوقه»... علماً أن المرأة في الرواية، حتى ولو كانت بدورها بيضاء وشمالية، تظل مثل البشر الأدنياء متّسمة بالغريزة الحيوانية المسيطرة عليها.

> والحال أن هذا البعد الجليّ الى حد كبير في «الرجال - الضباع» كان هو الذي فتح الأعين على الجوانب التي كانت تبدو خفية بعض الشيء في «حروب النار». ومع هذا، فإن روزني نفسه لم يبال كثيراً بالتحليلات التي طاولت عمله، وأبدى دائماً استغرابه من دون أن يردعه ذلك عن مواصلة التعبير عن فكره نفسه، كما نرى في رواية «الهر العملاق» التي هي امتداد لرواية «حروب النار» اذ تروي مغامرات ومآثر أبناء نوح وغاملا، بعد زمن من اتحاد هذين الأخيرين إثر انتصار نوح في الرواية الأولى.

> وروزني (واسمه الحقيقي جوزف بوكس، غيّره لكي يتميز عن أخيه الذي كان يكتب معه شراكة أول الأمر) ولد عام 1856 في بروكسل التي أمضى فيها طفولته قبل أن ينتقل الى لندن حيث عاش عشر سنوات، عاد بعدها واستقر منذ كان في الثلاثين في باريس التي ظل فيها حتى مماته عام 1940. وهو اضافة الى امتهانه الكتابة وخوضه شتى أنواعها، ولا سيما الخيال العلمي والرواية التاريخية، كان رجل علم حقيقياً، واعتبر عالماً من جانب العلماء أنفسهم، من الذين حين عقدوا مؤتمراً لعلم الفلك في باريس في عام 1929 لم يتوانوا عن دعوته الى المشاركة فيه بصفته مبتكراً ورائياً في هذا المجال، لا بصفته أديباً. واللافت في هذا كله أن روزني كان، في مجال المعرفة الأدبية والعلمية، عصامياً لأنه ترك المدرسة وهو بعد في الخامسة عشرة. وفي فرنسا أثارت قصصه ورواياته الأولى اعجاب ادمون دي غونكور، الذي وجد نفسه تلقائياً يسند اليه رئاسة اكاديميته بدءاً من عام 1907. وكما أشرنا أربى عدد روايات روزني على الخمسين، بين نصوص طويلة وقصيرة. وهو عاش طويلاً وظل ينتج حتى آخر أيامه. ويروى أنه لم يمرض ولم يتعب في حياته على رغم تقدمه في السن، وانه لم يزر طبيباً على الاطلاق.

alariss@alhayat.com

الحياة اللندنية في

15/04/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)