حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

"ضباب الحرب"

رؤية كاشفة لأمريكا الأخرى

أمير العمري

يعتبر المخرج الأمريكي يعتبر المخرج الأمريكي إيرول موريس أحد أهم السينمائيين الذين يصنعون ما يعرف بالأفلام الوثائقية أو غير الخيالية non-fiction في عالمنا اليوم.

وقد أخرج حتى الآن 12 فيلما من هذا النوع، بدأها عام 1978 بفيلم "بوابة الجنة" Gates of Heaven  الذي يوثق لتجربة إنشاء مقبرة للحيوانات المنزلية الأليفة في كاليفورنيا ومغزاها الفلسفي وأهدافها التجارية أيضا، أما أحدث أفلامه فهو فيلم "كانوا هناك" They Were There (2011) الذي صنع في إطار الاحتفال بمرور مائة عام على تأسيس شركة أي بي إم الشهيرة.

وقد عرف موريس بكونه أحد السينمائيين القلائل في عالمنا الذين أعادوا الاعتبار الى الفيلم الوثائقي، وقاموا بتطويره وإعادة إطلاقه في ثوب جديد، بحيث يتخلص من التقاليد القديمة الجافة التي ارتبطت بسيطرة الفكرة الأيديولوجية وحدها، وكان البعد التعليمي فيها هو الأكثر بروزا. أما أفلام إيرول موريس فهي تسعى إلى جعل الفيلم الوثائقي جذابا بنفس قدر جاذبية الفيلم الخيالي أو الروائي الدرامي، بل إن لأفلامه أيضا "دراماتها" الداخلية الخاصة التي تنبعث من تصادم الصور وطريقة تركيبها معا، وكذلك من المفاجآت التي تكشف عنها، ومن خلال طريقته الخاصة في المزج بين المقابلات الحية التي يجريها مع الشخصيات الرئيسية التي تظهر في أفلامه، وبين الوثائق العديدة المباشرة التي يصورها أو يعثر عليها ويعيد توليفها معا في سياق خلاق دونما حاجة إلى استخدام التعليق الصوتي المباشر.

ولعل من أهم أفلام موريس وأكثرها ذيوعا وبلاغة في التعبير عن أسلوبه فيلم "ضباب الحرب: أحد عشر درسا من حياة روبرت مكنمارا" (95 دقيقة) Fog of War: Eleven Lessons from the Life of Robert McNamara الذي شاهدناه في عرضه العالمي الأول في مهرجان كان السينمائي عام 2003، وكان حقا مفاجأة مدهشة، وذهب بعد ذلك ليحصل على جائزة الأوسكار لأحسن فيلم وثائقي في العام، ويذيع صوته كأحد أهم الأفلام الوثائقية في تاريخ السينما.

وقد حضر موريس في تلك السنة إلى مهرجان كان لتقديم فيلمه ومناقشته مع حشد كبير من النقاد والسينمائيين غاب عنه بكل أسف، معظم النقاد العرب في المهرجان.

يتخذ الفيلم من شخصية غير عادية بالمرة هي شخصية روبرت مكنمارا (1916- 2009) محورا لكي يقص علينا باستخدام المادة الوثائقية الهائلة كيف يرى هذا الرجل القرن العشرين الذي كان طرفا مباشرا في صنع أهم تراجيدياته، فقد كان وزيرا للدفاع في فترة من أخصب فترات التاريخ الأمريكي والعالمي في عهد الرئيس جون كنيدي ثم خلفه الرئيس ليندون جونسون في الستينيات، وبعد ذلك رأس البنك الدولي المعروف بتوجهاته التي تخدم السياسة الأمريكية، لمدة 13 عاما،كما رأس شركة فورد.

لكن مكنمارا لا يظهر هنا بعد أن أصبح شيخا طاعنا في السن، لكي يبرر، ويبحث عن ذرائع لتفسير المواقف الأمريكية التي لعب فيها دورا المخطط بل والعقل المدبر أيضا للكثير من السياسات الهجومية الأمريكية في أكثر فترات الحرب الباردة سخونة، والتي كادت أن تنفجر وتتحول إلى حرب نووية إبان أزمة الصواريخ الكوبية عام 1961.

لكن مكنمارا يقدم هنا شهادته كرجل التحم بالسياسة الأمريكية، ولكن من وجهة نظر نقدية كأنه يراجع مسار حياته الشخصية، بعد أن نضج العقل والفكر، وأصبح يمتلك رؤية نافذة وبصيرة شفافة يمكنها التأمل في الماضي واستخلاص الدروس المستفادة منه حتى لا تنغمس أمريكا مجددا في تلك الأخطاء الكبرى التي ارتكبتها في كوبا (عملية الغزو الفاشلة في خليج

الخنازير)، وفيتنام (الحرب الضارية التي كلفت أمريكا عشرات الآلاف من الأرواح) فيما بين 1965 و1973 وانغمس فيها مليونان ونصف مليون جندي أمريكي في بلاد بعيدة لم تكن تمثل أي خطورة مباشرة على المجتمع الأمريكي

بين الخاص والعام

ويعود الفيلم مع تلك الشخصية التراجيدية الكبيرة الى دور مكنمارا في قيادة التفكير الاستراتيجي خلال الحرب العالمية الثانية، والخطط الجهنمية التي تم التوصل اليها وقتذاك وكانت تتجاوز في حجم ما أنتجته من دمار كل ضرورة استراتيجية حربية، كما يتوقف أمام دور مكنمارا فيما بعد الحرب الثانية، في قيادة مؤسسة فورد للسيارات والمركبات العسكرية، والدور السياسي المباشر الذي لعبته في مناطق الصراعات في العالم.

من الحياة الخاصة لمكنمارا، الطالب المتفوق صاحب المعدل الاستثنائي للذكاء، ابن الطبقة الوسطى، الذي يلتحق بجامعة هارفارد، وسرعان ما يشق طريقه إلى عالم السياسة في واشنطن، ومن تكوينه الشخصي وميله إلى التفوق، وزواجه م شريكة حياته وانجاب أولاده، ثم إلى مكنمارا صاحب الدور العام الذي يتحكم بشكل ما، في مصير العالم: كيف تغيرت السياسة الأمريكية بعد اغتيال الرئيس كنيدي واصبحت أكثر ضراوة وتوحشا في عهد خليفته جونسون، وكيف أصبح التورط الأمريكي في فيتنام معادلا لكل شرور البشرية التي تتمثل، ليس فقط في قتل البشر، بل في إبادة مساحات شاسعة من البيئة الطبيعية، والتسبب في كوارث لايزال كوكبنا الارضي يعاني منها حتى يومنا هذا بل إن المعاناة تزداد يوما بعد يوم.

وكالعادة يمزج إيرول موريس هنا بين المقابلات الطويلة العميقة مع مكنمارا (الذي يفتح قلبه وعقله ليقدم حقا شهادته للتاريخ) وبين الكم الكبير من الوثائق السينمائية النادرة، والعودة لمواقع الأحداث، والتوقف أمام تواريخ معينة ودعمها بالصور الفوتوغرافية أحيانا، أو بالتسجيلات الصوتية أخيانا أخرى، مع التوقف امام هذه الرؤية الهائلة المرعبة لدور الفرد في تشكيل العالم، مع محاولة اللحاق بتلابيب الصورة والقبض عليها من خلال الموسيقى اللاهثة التي وضعها فيليب جلاس Philip Glass شريك موريس في معظم أفلامه.

ولعل من اهم ميزات هذا الفيلم انه ليس أحد الافلام "الماضوية"، أي تلك التي تضفي صورة خاصة ساحرة على الماضي أو تعرضه كجانب "تاريخي" انقضى وأصبح من الذاكرة، بل كونه يتواصل مع المشاهدين طيلة زمن عرضه، ويذكرهم على نحو غير مباشر، بما تفعله أمريكا اليوم: في العراق وأفغانستان ومناطق أخرى من العالم، كيف أصبح العملاق الأمريكي يكرر أخطاءه، وكيف تجتمع الطاقة الهائلة على الدمار، مع القدرة على تدمير البيئة والطبيعة في كوكبنا، وما هي المخاطر الحالية التي تحدق بنا وكيف يمكننا وقفها. وهو بهذا المعنى، عمل شديد المعاصرة

الاستخدام المفرط للقوة

مكنمارا يكشف أيضا حلال مقابلاته في هذا الفيلم البديع عن الكثير من الجوانب التي لم تكن معروفة من قبل مثل الاستخدام المفرط للقوة في اليابان قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية كما يكشف مثلا من خلال تسليط الضوء على حملة تدمير المدن كما حدث عندما القيت كميات هائلة من القنابل المدمرة على مدينة طوكيو بعد ان كانت اليابان قد استسلمت بالفعل مما تسبب في قتل مائة الف ياباني دون أي ضرورة حربية بل لمجرد الترويع!

وفي حالة نادرة من حالات تقريب الأمور الى العقل الأمريكي يعقد مكنمارا مقارنات بين المدن اليابانية التي تم تدميرها مثل هيروشيما وناجازاكي ويوكوهاما وطوكيو، وبين مدن أمريكية مشابهة في الحجم وعدد السكان، وماذا كان يمكن أن يحدث لها في حالة تعرضها لقصف مشابه بنفس أنواع أسلحة الدمار.

يتوصل مكنمارا في لحظة نادرة من لحظات الوعي ويقظة الضمير وهو في الخامسة والثمانين من عمره، يخوض تجربة الاعتراف والتكفير على مقعد أمام كاميرا إيرول موريس، إلى أن مقولة الكولونيل الأمريكي كيرتس لوماي كانت صحيحة تماما عندما قال "إننا لو كنا قد خسرنا الحرب العالمية الثانية لكنا قد حوكمنا باعتبارنا مجرمي حرب". ويتساءل: ما الذي يجعل الأمر غير أخلاقي في حالة الهزيمة، وأخلاقيا في حالة النصر"؟

هل يدين مكنمارا نفسه في هذا الفيلم؟ هل كانت ادانة النفس هدفا أساسيا يهدف الى ارضاء المشاهدين، أم أنه يدين، ربما من حيث لا يدري، عصرا، وسياسات وتصورات كانت سائدة في زمن الحرب الباردة، وأفكارا وممارسات كانت مدفوعة بالرغبة في تحقيق أهداف محددة في زمن الصراع بين كتلتين كبيرتين؟ هذا ما يُترك للمشاهدين للتوصل الى استنتاجات بشأنه.

ميزة الفيلم

ولعل الصعوبة الفنية في السيطرة على تلك المادة الهائلة التي تمكن من جمعها ايرول موريس، هي في ذات الوقت، الميزة الكبرى التي يتحلى بها هذا العمل البديع الاخاذ. فنحن أمام مزيج فني دقيق ومتقن من الوثائق البصرية المصورة، المقابلات، الصور الفوتوغرافية، قصاصات الصحف، التسجيلات الصوتية للمكالمات التليفونية(بين جونسون ومكنمارا مثلا)، صور من نشرات الأخبار التليفزيونية، مقتطفات مصورة من المؤتمرات الصحفية لمكنمارا وغيره، تقارير اخبارية من الستينيات، صور لاجتماعات كنيدي مع وزرائه ابان أزمة الصواريخ الكوبية مع تسجل صوتي لما قيل في تلك الاجتماعات، لقطات من الطائرات لعمليات القصف الجوي الوحشي للقرى الفيتنامية.. وغير ذلك الكثير والكثير.

إن "ضباب الحرب" في النهاية فيلم معاصر يساهم في إزالة الكثير من الضباب، ليس فقط من عالم السياسة وما يجري في كواليسها، بل ومن عالم الفيلم الوثائقي وما يحيط به من أفكار مسبقة باتت في حاجة ضرورية حاليا للمراجعة والتنقيح.

وقد بات حري بالمهرجانات السينمائية العربية أن تحتفي بهذا المخرج وأعماله وتسلط الضوء عليها. ولمن عودة ثانئة إليه لتناول المزيد من أعماله المهمة.

الجزيرة الوثائقية في

14/04/2011

 

فزع ناتالي بورتمان من بلوغ الكمال

فجر يعقوب

فيلم “ البجعة السوداء “ لدارين اورونوفسكي هو في النهاية فيلم ناتالي بورتمان. ويمكن القول، إنه لولا أداء هذه الممثلة، لما وصلنا هذا الفيلم كما وصلنا، ولما حمل هذه الرسائل الجوّانية المبطنة عن عالم أنثى  يتمزق  وينزف أمامنا دون أن يأخذ هذا الفعل أبعادا تجريدية، لأن حجم المشاعر هنا يغرق كل التأويلات الخاصة بفيلم يخضع الانسان لعالم الحب ونار الشهوات والظمأ المتعدد الوجوه للكمال المطلق، دون أن يترك شيئا ليذروه على الشاشة سوى تفاصيل الحكاية نفسها وقد أفضت إلى عوالم رحبة لم يكن ممكنا بلوغها لولا راقصة الباليه نينا، التي ستقدم من الآن فصاعدا باليه “بحيرة البجع” بطريقة لم يسبقها إليها

أحد، حين تبلغ الكمال، كما تقول لنا وهي تتماوت، ولاتموت، بعد أن التبس عليها الموت ذاته، أو هو التبس على المشاهد نفسه، الذي لم يعد يفرق هنا بين ماهو واقعي وماهو متخيل، لأن نينا، لا تعود راقصة منحبسة على نفسها، فكي تصل مرتبة الكمال، لابد من أن تخرج من سجن المشاعر المضطرمة والمتأججة بفعل نقصان بقوة الدفع العاطفي الذي تغلق عليه طوعا، وأن تغادر ما كانت قد ارتضته لنفسها من طيبة وبراءة ودعة وطمأنينة تحتاج إليها البجعة البيضاء لا يمكن أن ترضي الجانب المظلم فيها، الجانب الذي يفرض علينا مشاهدته معها حين تنظر دوما في المرآة، ليقابلها ""بورتريه"" لها  أسود غامق يقود نحو البجعة الشريرة القاسية، ولا تعود محاولات إطلاقها قرينة بالنسخة الأصل التي توصّلها بيتر تشايكوفسكي في زمنه وفي فضائه ذي البعد الواحد، فما هو مطلوب هو قراءة مختلفة ونافرة تعتمد على أداء منفلت وشيطاني يخالف بياض الوجه الذي يميز ناتالي بورتمان وعلى خلط لهذا الزمان والفضاء في لعبة جديدة يجري فيها تكثيف المشاعر الانسانية بأبعاد جديدة ومتعددة، لا بل إن نينا سوف تجد كما يخبرها المدرب توما “ فنسنت كاسيل “ إنها الوحيدة التي تقف في طريقها وتهدد موهبتها ، نتيجة خوفها وجبنها، وهو ما تحرص عليه طوال الفترة التي تتنازعها فيها صراع البجعتين، فبدلا من الحكاية المعروفة التي ذهب إليها تشايكوفسكي، نجدها تعيش الصراع في داخلها وتتشظى بنتيجته فيزيولوجيا، فتشقق أطرافها وكتفها، وهو ما لا يبدو مفهوما في البداية، إذ تحيل هذه التشققات الجسدية إلى قراءة مختلفة في فلسفة الجسد المريض لاتتوضح إلا حين اكتشاف العالم المظلم الذي يسكن فيها، وهو العالم الذي تقضي وقتا فيه غير محدد، لتطلق منه البجعة السوداء التي يبدأ توما باكتشافها فيها حين يقبلها عنوة، فتعضه من شفتيه، فيدعوها من هذه اللحظة، لأن تتوحش وتنفلت حسيا وجسديا، فالطريق نحو هذه القاع المظلم في النفس سيكون معبدا بالشهوات وبالدم .

باليه “ بحيرة البجع “ للموسيقي الروسي بيتر تشايكوفسكي يحكي قصة فتاة جميلة تتحول إلى بجعة بيضاء على يد ساحر شرير، ويحول ابنته إلى شبيهة لها، كي تغوي الأمير وتوقعه بحبه . الفتاة الجملية لن يكتب لها الاستيقاظ إلا من خلال حبها للأمير، وفيما تنجح ابنة الساحر الشرير باغوائه في البداية،  يكتشف الأمير حجم الخدعة التي سيعيشها، فيعود إلى حبيبته، وهويوقن إن الحجب السحرية لن يمكن اختراقها، فيقرران الموت معا. ماستفعله نينا “ ناتالي بورتمان “ لا يعود مقتبسا من الحكاية المعروفة، فالحلم الذي تسيقظ عليه في بداية الفيلم يخبرنا أن خطأ دراميا مختلفا سيقود الحكاية نحو تفسيرات مختلفة، ربما يكون الجنس أحد مفاتيحها، وليس كل المفاتيح بالطبع، لكنه سيكون مقرونا بالشهوات والقسوة والمثلية المتخيلة والعواطف الحارقة، وهو ما ستقدم عليه نينا في وحدتها غير المكتملة، فثمة من يتلصص عليها وإن بشكل موارب ومجتزأ، سوف نلتقيه في قطار الذهاب والإياب وهو يأخذ أشكالا متحولة ومتعددة، وسوف تعيشه مع منافستها ليلي في الحانات الليلية، وبين شبان لاهين وفي فراشها وتحت وصاية أمها النائمة وهي مغمضة نصف إغماضة، ولن ترفض “ليلي” مشاركتها واقتسام هذه المشاعر  في لحظة انطفاء عارمة تقودها نحو هذا الجانب المظلم ليصبح أكثر نقاء وصفاء، وهو ما تكون بحاجته لتصل إلى تجسيد دور البجعتين بعد أن تتورم حالتها وتنفجر مشاعرها الجوانية، حين يخيل لها أن قد طعنت منافستها ليلي وقامت باخفاء جثتها في غرفة الماكياج الخاصة بها وما سنكتشفه حين تلهج على المسرح الراقص بأنها قد وصلت مصاف الكمال في أدائها، وأنها قد طعنت نفسها في لحظة غيبوبة نادرة الوقوع، إلا لم هم في مثل نقاء سريرتها. فيما يخص نينا على صعيد تأكيد ذاتها، فإنه مقدر لها أن تختار هذه المعادلة الصعبة في أداء، ربما هو الأهم في حياتها المهنية، فهي تنحني هنا على تقلبات النفس الانسانية وانحباساتها، ومحاولات إطلاق كل ما هو غائر في هذه النفس المعقدة الذي تمثله المرأة هنا بكامل تقلباتها والتواءاتها، ونينا تمكنت باقتدار من أن تعكس هذه الصراعات السيكولوجية  التي تنتج عن فن راقص أقل مايمكن أن يقال فيه، إنه طيران للجسد المثالي في بحيرة الشيطان الآدمي، وليس بحيرة البجع إلا صورة وكناية عن هذا الطيران الرمزي الذي يمثله جسد نينا وهو يدور ويتلوى ويتفتت ويتمزق على مسرح واه لاحدود له، ولا مساحات تخنقه أو تحده طالما أن الصراع بين البجعتين يستوي أبديا في جسد واحد، ولا يتعدى أن يكون جسدا انسانيا هشا وممزقا يقوم عبر تاريخه على خلق أدوات تعبير بالكثافة العاطفية ذاتها، وإن تلّون كما تتلّون المساحة المفروضة عليه، وهذا ما فعلته ناتالي بورتمان في “البجعة السوداء” حين غيّرت من السباحة النفسية في الدورين، فأتقنتهما حدّ صناعة الفزع الانساني من بلوغ مرتبة الكمال الذي استحقت عنه أوسكار أفضل ممثلة، ما كان ممكنا وصولها إليه قبل أن تتشقق روحها المدماة من قبل أن يتشقق جسدها ويتمزق أمام مرايا لم تكن متشابهة في كل لقطة أدمنت عليها نينا وهي تدور من حول الأسطورة الموسيقية لتحولها إلى حكاية يومية في حياة من يعيش معها، وكأن الموسيقى بذاتها تتحول إلى أداة مفترسة للمشاعر المبطنة وهي تتنقل بين بجعتين استعارتا اللونين الأبيض والأسود، المتشابكين أبديا، لتتصارعا في جسد امرأة مكتملة المشاعر وكثيرة الخوف والفزع اسمها ناتالي بورتمان .

الجزيرة الوثائقية في

14/04/2011

 

"اسمي خان"..

نموذج ايجابي للتعاطي مع قضايا المسلمين

سليمان الحقيوي 

يشكل فيلم "اسمي خان" نقطة تحول في مسيرة السينما الهندية التي اتسمت بالابتذال والتكرار، سواء على مستوى التلقي أو الإنتاج، ليس فقط بمعالجته لموضوع الإرهاب بصريا من خلال قصة إنسانية مؤثرة، بل أيضا هو تدشين لسينما هندية جديدة بعيدا عن نمطية الغناء والرقص والانتقام فهو يرسم خطا جديدا لها، إذ أن الفيلم قد سلط على واقع مرير عاشته بعض الأقليات في الولايات المتحدة الأمريكية إبان أحداث الثلاثاء الأسود.

لقد حقق "كوران جوهر karan johar" مخرج فيلم "اسمي خان" معادلة صعبة حين تمكن من تحقيق أرباح تجارية كبيرة دون وقوعه في أسر المحمول التجاري بل كانت القيمة الجمالية غاية ووسيلة في الآن نفسه، وهذا التوجه ليس بغريب عن هذا المخرج، فرؤيته الجمالية كانت حاضرة في جل أعماله ضمن مساق تطوري بلغ ذروته في فيلم "اسمي خان".

وتدور أحداث الفيلم حول شخصية "ريزوان خان" الذي يعاني من مرض متلازمة الاسبرجر "هذه المتلازمة تأثر على الشخصية من حيث البراعة والافتقار إلى مهارات الاتصال السليم مع الأشخاص الذين يعانون منها"، وبعد وفاة أمه يلتحق بأخيه المقيم في أمريكا فيتعرف على امرأة هندوسية "مطلقة تدعى "منديرا" ويتزوجا بعد قصة حب قصيرة، ولكن أحداث الحادي عشر من سبتمبر حملت له كما لغيره من المسلمين في أمريكا نظرة دونية تجلت في تحميلهم ذنب سقوط البرجين فتصاعدت وتيرة العنف ضد المسلمين حيث أصبحت صفة المسلم أو شكله سببا كافيا لاضطهاده، ولعل نقطة التحول في هذا الفيلم هو عندما تطلب الزوجة، "مانديرا" من خان مغادرة المنزل، فيسألها بكل براءة: "متى يمكنني أن أعود؟"، لتفاجئه هي بالسؤال، وتستهزئ منه بالقول: إن بإمكانه العودة عندما يخبر الجميع، بمن فيهم الرئيس الأمريكي، بأن "اسمه خان، وأنه ليس إرهابيا"، ففهم هذا الكلام حرفيا وبدأت رحلة البحث عن الرئيس الامريكي، وإذا كان حدث قتل ابن منديرا هو حبكة الفيلم الكبرى وذروة الصراع فإن رحلة روزوان خان تحمل العديد من الدلالات أولاها بالذكر استناد البطل على تعاليم الإسلام الحقيقية، رغم مرضه النفسي ومساهمته في تغير النظرة إلى الإسلام والمسلمين. لقد اعتمد المخرج على تقنية الفلاش باك فمن خلالها سنتعرف على طفولة البطل وعلاقته بأمه وأخيه، فكانت الأم خير معلم لابنها حينما ستلقنه درسا بسيط لكنه سينير كل حياته فقد أخبرته بأن في العالم فقط أناس أخيار وأناس أشرار، مهما اختلفت معتقداتهم الدينية، كما ستتمحور رحلة البطل على ذلك الشعار الذي رفعه في وجه شرطة مطار سان فرانسيسكو" اسمي خان وأنا لست إرهابي" حينما قبضوا عليهم بعد أن شكوا في أمره بسبب سلوكه الغريب، وقاموا بتفتيشه بطريقة لم تحترم حتى مرضه، وهذه الصورة هي امتداده لما يتعرض له المسلمون وغيرهم من الأقليات في أميركا وغيرها من البلدان الغربية، لكن رحلة "رزوان خان" كانت كفيلة بتغير نظرة العالم إلى الإسلام والمسلمين لأنه كان يعامل الناس كالشجر يرمونه بالحجر فيرميهم بأطيب الثمر.

كما كان الفيلم رسالة إلى الغرب من خلال تصحيح صورة الإسلام، فهو أيضا رسالة موجهة للمسلمين من أجل إعادة اكتشاف ذواتهم وإعادة إحياء صلتهم بعمق الإسلام، ومن جهة أخرى فهو دعوة لهم من اجل الحفاظ على هذا الدين ونشرة بالطريقة الأفضل وعدم التأثر بالمضايقات التي قد تحصل للمسلم بسبب ديانته بل مقابلة ذلك بمعاملات تعكس جوهر الإسلام وروحه وليس بسلوكات عدوانية، وعلى جانب آخر فالفيلم في عمقه هو انتقاد للسياسة الأمريكية الداخلية متمثلة في التماطل في مساعدة ولاية جيورجيا والتعامل مع السكان انطلاقا من عرقهم، كما أنه تأكيد على أن التطرف ليس حكرا على ديانة معينة فقاتلوا ابن مانديرا هم أمريكيون، مثلما كان الدكتور فيصل مسلما متطرفا حاول دفع المسلمين للانتقام باسم الإسلام، وهذا يؤكد دعوة الفيلم إلى نبد العنف عند كل الديانات، كما أن وجود الإسلام لم يكن بذلك الحضور المنغلق الرافض للآخر، بل على العكس ظهر الإسلام منفتحا على غيره من الديانات كالهندوسية والمسيحية، فعبارات "السلام عليكم، إن لله وإنا إليه راجعون وان شاء الله" كانت حاضرة طوال الفيلم إلى جانب حضور معالم الحضارة الإسلامية كالمسجد الإسلامي والموسيقى الروحية، وأكثر من ذلك عبر الفيلم عن جوهر الإسلام وهو التسامح والتعايش من خلال زواج مسلم وهندوسية، وقد حاول المخرج كذلك أن يمر على مجموعة من القضايا الإنسانية بطريقة مقصودة فعلاقة الحب بين منديرا المرأة الجميلة وبين رزوان خان المعاق هي تجاوز للمظاهر واحتفاء بالجوهر في زمن طغت فيه المادية وأصبحت هي المحدد الأساس لقيمة الإنسان.

لقد اجتمعت لهذا العمل عوامل النجاح من خلال إخراج جيد متمثل في النمط الجمالي الذي اعتمده كوران جوهر، سواء اختياره للموضوع والتحكم فيه فنيا من خلال تكسير بنية السرد وكذلك اختياره لطريقة حكائية من خلال راوٍ مشارك في الأحداث وهي اختيارات أثمرت متعة فنية عالية، وبالإضافة إلى دور المخرج يظهر تماسك السيناريو وتعالقه مع صورة الفيلم وهو للكاتبة الهندية "سيفاني إيجا" التي درست في سان فرانسيسكو فأتاح لها ذلك التعرف على دقائق الأمور في أميركا بمخيلتها وتشويقها المتلاحق فقد استطاع السيناريو أن يكشف عن حقيقة الدين الإسلامي بعيدا عن أية مصالح أو إسقاطات سياسية، وصولاً إلى عبقرية الدور المركب لشاروخانshah rukh khan، الذي نجح نجاحا باهرا في تقمص شخصية مصابة بمرض نادر، بالإضافة إلى نجاح الطفل الذي قام بدور طفولة رزوان خان، وكان تميز شاروخان في دوره نابعا من عاملين أولهما موهبته الكبيرة في التمثيل عموما وفي هذا العمل خصوصا ثم علاقته بباقي الشخصيات سلبية كانت أم ايجابية التي كانت توفر له مساحات شاسعة للبروز والتعبير، حيث اتحدت كل هذه العناصر لتنتج فيلماً ممتازاً يسجل نصراً جديداً لسينما العالم الثالث, أما النقاط السلبية فهي لم تكن ببذلك التجلي الذي قد يؤثر على المسار الجمالي للفيلم، ويمكننا الحديث عن نهاية الفيلم حيث ستنتهي رحلة البطل بلقاء الرئيس الامريكي وإخباره بتلك الجملة الرائعة " اسمي خان وأنا لست إرهابي" فهنا إشارة واضحة إلى انتهاء معاناة المسلمين، وعودة البطل إلى زوجته تمثل عودة الأمور إلى مجراها الطبيعي، لكن الواقع يثبت استمرار هذه المعاناة واستمرار صراع الأنا العربي والآخر كما أن الأحداث في نهاية الفيلم جرت بوتيرة متسارعة وغير منسجمة.

لكن هذا الجزء من الفيلم قد يحمل قصدا خاصا للمخرج يتمثل في مناشدته الكل للإنهاء كل هذه الخلافات الإيديولوجية.

ومهما يكن من أمر فقد حملنا "كوران جوهر" طيلة مدة عرض الفيلم نحو عوالم جمالية تواشجت مع مخلفات الواقع لدينا لتثمر تأثيرا عميق لا يمكن أن يمحي سريعا.

العرب أنلاين في

14/04/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)