حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

رحيل المخرج الأميركي سيدني لوميت

هوليــوود لــم تعــد كمــا كانــت

نديم جرجورة

لا يُمكن للمرء، عند سماعه نبأ رحيل السينمائي الأميركي سيدني لوميت في التاسع من نيسان الجاري عن سبعة وثمانين عاماً، إلاّ أن يستعيد فيلمين اثنين له بشكل سريع: «اثنا عشر رجل غاضب» و«قبل أن يعرف الشيطان أنك ميتٌ». لعلّها الصدفة وحدها جعلت الاستعادة السريعة هذه تُشكّل المسار الإبداعي الذي تركه الراحل: فـ«اثنا عشر رجل غاضب» فيلمه الأول (1957) و«قبل أن يعرف الشيطان أنك ميت» فيلمه الأخير (2007). الصدفة؟ أم هو القدر الذي يُعِين المرء، أحياناً، على إكمال مسار أو الانتهاء من سيرة؟

تمرين

هذا مرتبطٌ بمزاج شخصي: الفيلم الأول درسٌ سينمائي في الأداء التمثيلي، المستلّ من تقنية العمل المسرحي إلى حدّ ما، والذاهب بالشخصيات وممثليها إلى تخوم المواجهة الصعبة مع الذات. والفيلم الأخير إعادة بصرية لمعنى هذا الأداء، وإن بدا الأداء هنا متحرّراً من سطوة المسرحيّ، لمصلحة الاشتغالات السينمائية الصرفة. الفيلم الأول حلقة مغلقة على نفسها، لكنها مفتوحة على البحث الجوهري في قدرة التقنيات المتواضعة على إيلاء النصّ والفضاء الإنساني وآليات التمثيل شروطها الإبداعية الصرفة. والفيلم الأخير محصورٌ في دائرة واحدة، وإن لم تكن مغلقة على نفسها، مرتكزة على براعة الممثلين أيضاً في جعل النصّ أقوى تعبيراً عن بؤس الفرد وشقائه.

لا يُمكن اختزال اللائحة الطويلة للأفلام التي حقّقها سيدني لوميت (مواليد بنسلفانيا، فيلادلفيا، 25 حزيران 1924) بين العامين 1957 و2007. التنويع محرّض على قراءات مختلفة. غير أن أفلاماً قليلة يُمكن إيرادها هنا، في سياق الكتابة على فعل التمثيل كركن أساسي أول في اشتغاله السينمائي: «جريمة قتل في قطار الشرق السريع» (1974) و«بعد ظهر يوم كلب» (1975)، وهي ترجمة عربية حرفية للعنوان الإنكليزي «Dog Day Afternoon». في الفيلم الأول، قدّم الممثلون أداءً متلائماً والحسّ التشويقي في فيلم مستلّ من إحدى الروايات الشهيرة لآغاتا كريستي بالعنوان نفسه. شيءٌ من التحليل يحيل المرء إلى مقارنات عدّة: أنتوني بيركنز مثلاً. هل تتذكّرون «بسايكو» (1960) لألفرد هيتشكوك؟ «المحاكمة» (1962) لأورسون ويلز؟ «الفضيحة» (1967) لكلود شابرول؟ ماذا عن ألبرت فيني؟ لوران باكال؟ شون كونري؟ جان ـ بيار كاسال؟ ماذا عن إنغريد برغمان؟ ما أرغب في قوله كامنٌ في أن مُشاهدة «جريمة قتل في قطار الشرق السريع»، الذي يُمكن وضعه في لائحة الأفلام الأقلّ أهمية من غيرها في سيرة لوميت إلى حدّ ما، بدا تمريناً من نوع آخر على مدى أولوية الأداء التمثيلي في تحويل الحساسية التشويقية والبوليسية إلى مادة جذب ومتابعة، وإلى سبب ما لإرهاق المُشاهد في متابعة التفاصيل والحكايات، من دون كلل أو ملل. النصّ ضروري. الرواية مكتوبة بنَفَس تشويقي أصلاً. لكن الأداء هنا اتّسم بتلك البراعة في جعل العاديّ أهمّ، وتطويع المهمّ لمصلحة التبسيط السرديّ. في الفيلم الثاني (بعد ظهر يوم كلب)، بلغ أداء آل باتشينو حدّاً من الروعة، وجد له ركيزة سابقة في «سيربيكو» (1973) للوميت أيضاً: اللحظة التي يُفترض بها أن تكون عادية وعابرة، تحوّلت إلى حلقة مغلقة على نفسها داخل مصرف أراد أحدهم سرقته. الدوائر المغلقة «تيمة» أساسية في النتاج السينمائي للوميت. لكنه مع آل باتشينو داخل المصرف المذكور اتّخذ أبعاداً تجديدية، برهن المخرج بفضلها عن براعته في دفع الأداء التمثيلي (والممثلين أيضاً) إلى أبعد حدّ ممكن من التماهي المطلق بالشخصية.

مواضيع

هذه نماذج قليلة جداً. المواضيع المختارة للمعالجة الدرامية مهمّة، وإن لم تكن أكثر أهمية من الاشتغالات الفنية الأخرى، أحياناً. «اثنا عشر رجل غاضب» استند الى قصّة متداولة: أعضاء لجنة التحكيم يتناقشون، في غرفة مغلقة، الجريمة المطلوب منهم إصدار حكم بحقّ المتّهم بارتكابها. هنا، ينكشف التمرين الأدائي. فالحكاية لا تذهب إلى أبعد ما تحتمله. والتمثيل قادرٌ على جعل الفضاء الدرامي أوسع من تلك الغرفة، لأن الأداء المتحوّل تدريجاً بين المسرح والسينما (المنتقل بينهما بخفّة وبراعة بالأحرى)، جعل الحكاية معقودة على التداخل المُعقّد والجميل بين الشخصية والممثل. الجريمة المرتكبة في «قطار الشرق السريع». الشرطيّ الذي يكافح فساد زملاءه (سيربيكو). السرقة المتحوّلة إلى فضيحة أخلاقية واجتماعية (بعد ظهر يوم كلب). هناك أيضاً فيلمه الأخير: الشقيقان (فيليب سايمور هوفمان وإيثان هوك) العاملان على سرقة محل المجوهرات الخاصّ بوالديهما لحاجات مالية. مثلٌ آخر: «أمير نيويورك» (1981). النزول إلى أعماق الحياة السفلية في نيويورك، طريقٌ محفوفة بشتّى أنواع المخاطر. لكن الشرطة النخبوية لمكافحة المخدّرات كفيلةٌ بتحويل المطاردة إلى معاينة حسّية لشيء من فعل التمثيل ومعانيه الإبداعية، بفضل تلك التقنية المرتكزة على تحرير الجسد من وطأة الشخصية، وعلى جعل الدور مفتاح الولوج إلى معنى الشخصية.

«حكم المحلّفين» (1982) تعاونٌ جميل بين لوميت والممثل بول نيومان. تميّز هذا الأخير بأمرين اثنين: اتّخاذه التمثيل «ترفاً» (متحدّرٌ هو من عائلة مثقفة وغنية) كما قيل مراراً، وتمكّنه من اتقان لعبة الأداء، دراسة وتدريباً أكاديمياً. لعلّ هذا الأمرين المتناقضين عملياً بين بعضهما البعض، جعلا نيومان يجد، في تعاونه هذا مع لوميت، حيّزاً للتمرين الأدائي. فقد أدّى نيومان فيه دور محام أُصيب بانتكاسة مهنية دفعته إلى اليأس والخمر، قبل أن يستعيد مكانته بالدفاع عن مريضة مُصابة بالغيبوبة منذ أربعة أعوام، بسبب خطأ طبّي. بين الانحدار إلى قاع اليأس، والذهاب إلى قمّة الانتصار على الذات أولاً وأساساً، بدا التمرين التمثيلي أقرب إلى رحلة في داخل المتاهات البشرية والتداخل العميق بين المهنة (كـ«ترف») والتسلية.

يتساقط الكبار واحداً إثر آخر. يرحلون إلى المجهول. يحاولون، خلال مساراتهم الحياتية، قول أشياء وممارسة أفعال. أفلام السينمائيين مثلاً أدوات ثابتة لمعنى اختلاق حياة من قلب العتمة. سيدني لوميت آخر الراحلين. بعض الكبار لا يزال منزوياً في صمت أو عزلة. لكن هوليوود لم تعد كما كانت عليه سابقاً. موت سيدني لوميت تذكير بهذا الواقع.  

كلاكيت

الفساد اليومي

نديم جرجورة

لم تعد الأخبار السينمائية الواردة من مصر مُسرِّة. معظمها يفتقد قدراً وافياً من الصدق، أولاً. الشائعات كثيرة ثانياً، لكن بعضها حقيقيّ: توقيف مشاريع عن التنفيذ. تخفيض ميزانيات وأجور. ارتباك في مسار أعمال شبه منتهية. الشائعات لا تنتهي. إنها الأخطر. التأكّد من صحّة المعلومة ليس سهلاً. مقالات عدّة عكست واقعاً مزرياً. بعضها القليل تحلّى بمصداقية ما.

إلى المشاريع المعلّقة، والنزاعات الحاصلة حول تخفيض أجور الممثلين مثلاً، هناك أمور أخرى. الملفات القضائية استعادت حيويتها: التحقيق في جرائم قتل فنانين/ فنانات، أو أبناء/ بنات فنانين/ فنانات، يُمكن أن يطال مسؤولين في رأس الهرم السياسي الحاكم سابقاً. عمليات انتحار قيل إنها عمليات اغتيال. التداخل بين السياسي والفني متشابك بقوّة في مصر. هذا معروف منذ انتصار «ثورة الضبّاط الأحرار». زمن حسني مبارك أعنفها حدّة، لأن دخول الرساميل إلى اللعبة، وتنامي ظاهرة الأثرياء الجدد المقبلين من المجهول إلى واجهة المشهد، ساهما في تنامي حجم الفحش الاجتماعي والفساد المالي والأخلاقي، وازدياد وحش الجريمة في ارتكاب الفظيع.

لكن، هل الأخبار المتعلّقة بهذه الملفات صحيحة؟ إلى أي مدى تورّط النظام السياسي الأمني الاقتصادي الحاكم سابقاً في الجرائم تلك؟ ماذا عن قضية سعاد حسني، التي أُعيد تسليط الضوء عليها؟ ماذا عن خفايا «الحادث» المأسوي الذي تعرّضت له شريهان؟ ما الذي جعل شريهان تؤكّد أن الحادث هذا «حقيقي»، ولا علاقة لعلاء مبارك ورجاله به؟ ماذا يُمكن أن تقول سعاد حسني، لو أُتيح لها أن تنطق بما تعرفه عن خفايا الحكم وأروقة الفساد الممزوج بالجنس والعلاقات الصاخبة، وبما شاهدته في الثواني الأخيرة من حياتها؟ ماذا عن الفضيحة «الجنسية» التي سيقت ضد نور الشريف وخالد أبو النجا وغيرهما؟ هل تمّ فبركة حكاية «الشذوذ الجنسي» للشريف، ومشاركته في حفلة صاخبة لـ«الشاذين» (التعبير الأصحّ هو: مثليي الجنس) في أحد فنادق القاهرة، ولماذا؟ كيف يُمكن التأكّد من صحّة هذه الأخبار؟ هل تصادم المصالح بين الفنيّ والسياسيّ سببٌ لإشاعة أخبار كاذبة؟ لاغتيالات أيضاً؟ هل تؤدّي التحقيقات إلى نهايات سعيدة، بكشف الحقائق؟

صعبٌ هو واقع حال «ثورة 25 يناير». الارتباك فظيع في الجبهات السياسية والمعيشية والاقتصادية. الارتباك أفظع في مسألة فتح الملفات العالقة، الأمنية والمالية. المطالبة بمحاكمة الفاسدين جميعهم حقٌّ. إنها الطريق المؤدّية إلى المصالحة مع التاريخ والمستقبل، بل إلى المصالحة مع الذات أساساً. الملفات كثيرة. هناك من يعتبر أن الفساد الفني لا يقلّ أهمية وخطراً عن أشكال الفساد الأخرى: ألم يُكشف حالياً عن حجم الفساد المالي داخل نقابة الممثلين المصريين أيضاً؟ الهدر (تعبير مخفَّف وساذج عن «السرقة») فادح وفاضح. تُرى، كيف السبيل إلى معالجة المسائل كلّها هذه؟

لا يكتمل انتصار الثورة الجديدة من دون إزالة العوائق القديمة بحلّ أسئلتها. الأمر صعبٌ، لكنه ليس مستحيلاً.

السفير اللبنانية في

14/04/2011

 

«تيتا ألف مرّة» لمحمود قعبور

الحفيد مكان الجَد والموت لعبة الشيخوخة

نديم جرجورة 

السيّدة العجوز، البالغة من العمر اثنين وثمانين عاماً، بدت أكثر حيوية وحضوراً من أي شخص آخر. أكاد أقول إنها الحراك الأساسي، والجامع خيوط اللعبة والتفاصيل والحكايات. السيّدة العجوز، البيروتية المقيمة في منزلها هذا منذ سنين طويلة، بدت أنيقة في بوحها، وشفّافة في كشف بعض المخفيّ من حكاياتها. حساسيتها بالغة الجمال. حراكها داخل المنزل وخارجه مرتبط بقدرتها على الإمساك بالحبكة، أي بجوهر النصّ المكتوب والمتتاليات البصرية. إمساكها بالحبكة بدا حقيقياً وفعّالاً ومؤثّراً في كيفية الاشتغال البصري. انفعالها الخفر ضروري، لأن بعض حكاياتها موغل في أزمنة مضت. انفعالها الخفر جذّاب، لأن البعض الآخر من حكاياتها معقودٌ على الراهن. يستحيل أن يلتقط المرء ما يشي بانقطاعها عن الزمنين، السابق والآنيّ. فهي لم تنقطع عن الزمنين هذين، أساساً. ذهابها إلى الأمس متين وواضح، كمتانة البقاء في الراهن ووضوحه. السيّدة العجوز سيّدة اللعبة كلّها. سيّدة الفيلم الوثائقي الجديد الذي أنجزه حفيدها محمود قعبور بعنوان «تيتا ألف مرّة».

رحلة

قبل ستة أعوام، حقّق محمود قعبور فيلماً وثائقياً أول بعنوان «أن تكون أسامة». فكرته طريفة، على الرغم من المشهد القاتم الذي عانى تداعياته عربٌ ومسلمون في الولايات المتحدّة الأميركية، غداة وقوع الجريمة القذرة في الحادي عشر من أيلول 2001. التقى المخرج شباباً عرباً ومسلمين يُدعون أسامة. تحدّث معهم عمّا يُسبّبه هذا الاسم لهم من متاعب. قالوا كلاماً عن الجريمة والتحوّل الخطر الذي عرفه العالم بعدها. باحوا بانفعال أو غصّة. ذكروا أملاً بغَدٍ آخر. العلاقة بين محمود قعبور وكاميراه إنسانية في «أن تكون أسامة» و«تيتا ألف مرّة». الإنسانيّ طاغ. الموضوعان يفرضان شكلاً من أشكال الاشتغال الإنسانيّ. أن تحمل اسم أسامة بعد جريمة بشعة كهذه في «أرض المعركة»، أمرٌ مثير للخطر والخوف والمواجهة والصدام. أن تذهب إلى أقرب المقرّبين إليك لتخوض معه رحلة في أعماق الذات والروح والذاكرة والانفعال الخاصّ، أمرٌ مثيرٌ للمتعة. الرحلتان في الفيلمين متشابهتان: قراءة الحالة من خلال بوح المرء. الشباب في «أن تكون أسامة» مشحونون بالغضب، لأنهم نتاج حالة أوجدها الاعتداء الآثم، فباتوا ضحاياه. الجدّة في «تيتا ألف مرّة» مشحونة بالعاطفة الجيّاشة والقدرة على إدراك الراهن والواقع معاً، لأنها جعلت حياتها متتالية بصرية كتبتها بلغتها الخاصّة وعاشتها إلى الحدّ الأخير ربما، قبل أن يأتي الحفيد بكاميراه، طالباً منها العودة إلى ذاتها مرّة أخرى، وقول الأشياء. طالباً منها مشاركته في صناعة الصورة المنبثقة من حكاية الجدّ والجدّة معاً، في تلك اللحظة البيروتية، مع أن مشاهدة الفيلم يُمكن أن تُجرَّد من أي إسقاط اجتماعي أو سياسي أو ثقافي أو مديني. يُمكن لمُشِاهد الفيلم أن يستسلم إلى تلك الرشاقة والخفّة الجميلتين اللتين تمتّعت بهما السيّدة العجوز، وإلى تلك اللعبة البصرية التي أرادها محمود قعبور: الشبه الجسدي بينه وبين الجدّ. المقاربة البصرية الخفرة بين الراهن والماضي. البحث في تطوّر العلاقة بالموسيقى والنغم والأغنية، بين الماضي والحاضر. التماهي بالموت، أو بالأحرى: التحايل على الموت من خلال التمثيل، أي من خلال الصورة. كأن التلاعب بالموت استدعاءٌ له وتحكّم به، بدلاً من أن يستدعي الموت الناس ويتحكّم بهم.

لعبة

ذات يوم، أراد محمود قعبور إنجاز فيلم وثائقي عن جدّه. هناك شبه خارجي بينهما. هناك علاقة مميّزة بين الجدّة والحفيد. أثناء دراسته الجامعية في كندا، استمع مراراً إلى «تقاسيم» لجدّه مع صباح ووديع الصافي وسعاد محمد وغيرهم: «قرّرتُ تصوير هذا الفيلم عن جدّتي ورحلتها مع ذكريات جدّي، ورصد سيرته من خلال حكاياتها. مثّلت دور جدّي أيضاً، ودور الحفيد طبعاً». الجدّة اعتبرت حفيدها «زوجها الصغير». ردّدت هذا مراراً. قالت إن حياتها توقّفت بعد رحيل زوجها، وعاشت أيامها كلّها في ذكرياتها معه وعنه، مسترجعة بعض اللحظات بالصُوَر الفوتوغرافية. لكنها، في سياق الفيلم، بدت منتبهة تماماً إلى مجريات الآنيّ وعوالمه وتفاصيله: «شعرتُ، أثناء تصوير الفيلم، أن حياتها استعادت بريقها وحيويتها، خاصة عندما استرجعت ذكرياتها وروتها». لا تقتصر قصصها على حياتها وعلاقتها بزوجها فقط: «روت قصص بيروت في الأربعينيات الماضية. أي في مرحلة تألّقها». الماضي برفقة الحاضر، أو من خلاله. الحياة برفقة الموت، أو من خلال التشابك المعقّد بينهما. اللعبة الأخيرة في الفيلم مؤثّرة وجميلة. كيفية التعاطي مع الموت. كيفية مواجهته. وهذان التعاطي والمواجهة رُسِما، في «تيتا ألف مرّة»، بشفافية أقرب إلى السخرية، أو ببساطة إبداعية أقرب إلى التسلية. كأن محمود قعبور يعيد تشكيل التفاصيل الآنيّة للحياة والحكايات معاً، تاركاً الكاميرا وفضاء الغرفة والمناخ المفروض على الشخصيات الأخرى، الممثِّلة أفراداً من عائلته، في حضرة التماهي بالموت، عبر إخضاعه للتهكّم والضحك.

ج.

بدءاً من بعد ظهر اليوم، يُعرض الفيلم في صالات «أمبير دون» (فردان) و«متروبوليس» في «أمبير صوفيل» (الأشرفية) و«أمبير سوديكو» و«غالاكسي» (بولفار كميل شمعون).

السفير اللبنانية في

14/04/2011

 

فيلمان لبرهان علوية في ذكرى الحرب الأهلية

السخرية المدهشة ورائحة الخراب

نديم جرجورة 

السخرية، ومرارة العيش على الحدّ الأقرب إلى الخراب، أو في قلبه. نمطان اثنان قدّمهما السينمائي اللبناني برهان علوية في فيلمين قصيرين، أنجزهما قبل سنين مديدة. أولهما، الذي يُعرض للمرّة الأولى في بيروت على الأقلّ، حمل عنوان «إذا الشعب يوماً...». ثانيهما، الذي يُشكّل جزءاً من فيلم طويل أنجزه خمسة مخرجين عرب بعنوان واحد «حرب الخليج وبعد؟»، اختار له عنوان «في الليلة الظلماء». إنها مناسبة جديرة بالاهتمام: مُشاهدة هذين الفيلمين في اليوم نفسه الذي «يُحتفى» فيه بالذكرى السادسة والثلاثين لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية. إنها مناسبة جديرة بالاهتمام، لأن الفيلمين منتميان إلى العالم السينمائي الخاصّ بعلوية: تنقيب في بؤر الألم والتمزّق والدمار، وفي انفعال الذات وهيام الروح وسط الحرائق المندلعة في الأمكنة كلّها. تفكيك الواقع، بسرد تفاصيله الإنسانية. إصرار على طرح أسئلة الهوية والانتماء والعلاقات القائمة/ المنقطعة بين الناس والمجتمعات والمسائل وتفاصيل العيش اليومي.

السخرية أداة حادّة لتشريح الحكاية وواقعها العام. إظهار مرارة العيش على الحدّ الأقرب إلى الخراب وسيلة لفهم تداعيات تلك الحرب الأهلية اللبنانية على مجموعة من الشباب اللبنانيين المهاجرين إلى ما هو أبعد من النار. «إذا الشعب يوماً...» لوحة ملوّنة بمزيج الإنساني والمادي: الإنساني واضح في كلام شباب أدركتهم الحرب بعنفها، فهاموا خارج الدمار قبل أن يلتهمهم الحريق. «في الليلة الظلماء» ذروة السخرية المريرة: المخرج الباحث عن فكرة لتنفيذ فيلم قصير من وحي حرب الخليج الأولى مطلع التسعينيات، يلتقط نبضاً عربياً متناقضاً في تعاطيه مع البؤس المتفجّر من انبثاق عهد جديد من الصراعات الدولية الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط. سرد الشباب اللبنانيون مقتطفات من شقائهم اليوميّ. قالوا وجعاً. واجهوا تحدّيات الأسئلة الصعبة، فظلّت أجوبتهم منقوصة أو منفتحة على مزيد من القلق والارتباك. أرادوا أن يذهبوا بعيداً في مقارباتهم الأولى فضاء الحرب وميدانها المتّسع للجثث والأنقاض وروائح الدم والعفن والجنون. معهم، سار برهان علوية على الحافة الأصعب: قال إن جيل الحرب «جيل الصلح بين الماضي والمستقبل». لكنه لم ينسَ المصاعب، ولم يُقلّل من حجم الخيبة والمسؤوليات. معه، انتبه الشباب إلى التحوّل الأقسى. لكنهم لم يتغاضوا عن قوّة الدمار في كتابة التاريخ والراهن معاً. هذا كلّه في «إذا الشعب يوماً...». الأمل معقود على قدرة المرء على إدراك الحقائق. أو تحليل اللحظة، إذا أمكن. لا سخرية هنا، بل مرارة بدت كأنها لن تنضب. مرارة أشبه بحزام بؤس لفّ أعنـــاق الجمـــيع، فدفعهم إلى الانكسار. لا سخرية، بل مــرارة بلغت حدّ مقاربة الجرح لفهم المخفيّ.

قسوة الراهن

السخرية أقوى وأجمل وألذع في الفيلم القصير الثاني. «في الليلة الظلماء»، وجد المخرج نفسه في خضم العجز عن فهم الحالة الجديدة المنبثقة من اندلاع حرب الخليج الأولى. اتصال هاتفي من صديقه المنتج التونسي، رماه في جحيم الحكاية ووقائعها. في أقلّ من يومين، عليه إرسال نصّ مختصر عن الفيلم. اتصالات ليلية بأصدقاء عرب، فضحت آليات التعاطي المتناقض كلّياً مع الحدث/ الجرح، أو الناتج منه. الكاتبة المصرية روت له حكاية عاطفية عن التسامح والحبّ على خطّ النار. صديقه الصحافي برهوم طُرد من عمله، وانتقد قسوة العلاقات الشائكة بين الإعلان والموقف والمهنة والمتلقّي. زكّور بلغ معه ذروة السخرية والمرارة. أقوالٌ مُدهشة. براعة برهان علوية في صوغ المشاهد المتتالية صادمة بحسّ مرهف وقسوة ذاتية في قراءة الآنيّ. التفاصيل الصغيرة مهمّة للغاية: الغرفة المعتمة. الصُوَر المتتالية. القلق. حركة الجسد. كيفية البوح. جهاز الهاتف. شاشة التلفزيون. الليل. رائحة الخراب. الهُزء. أشياء وأشياء وضّبها علوية في قالب وازن بين عنف اللحظة وجمال الصورة السينمائية في ممارسة الحيلة المقبلة إلى الشاشة من قلب الحياة. زكّور، أحد أصدقاء المخرج، قال له ما معناه: «إقلب الدراما إلى فكاهة، تنجح (في مهمتك)». قال له إن الناس يضحكون كثيراً أثناء المآتم. حرب الخليج الأولى (والحروب كلّها ربما) جعلت عينيّ المخرج أوسع وأقدر على التقاط جوهر الحبكة: المآتم كثيرة. الضحك أقوى في قدرته على استنباط المعجزات. الموت ضحكاً، أو الموت من شدّة الدمار. «في الليلة الظلماء» شهادة إنسانية صيغت بقالب شعريّ متفتّق من قسوة الراهن وجمال السينما.

[ يُعرض الفيلمان الثامنة والنصف مساء اليوم في «مسرح بيروت» (عين المريسة)، بدعوة من «نادي لكل الناس»، وبحضور المخرج.

السفير اللبنانية في

13/04/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)