حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

"ميرال": عودة إلى مناقشة جادة لعمل سينمائي مهم 1/2

أمير العمري

كنت أتخيل أن يكون فيلم "ميرال" Miral للمخرج الأمريكي (اليهودي) جوليان شنابل، الفيلم الأكثر إثارة للاهتمام، للنقاش، والجدل حول موضوعه ومحتواه في أوساط النخبة المثقفة العربية والإعلام العربي بشكل عام في 2010، باعتباره أول فيلم احترافي كبير مصنوع للجمهور العريض، يتناول تاريخ الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، منذ فيلم "حنا ك" الذي أخرجه الفرنسي (اليوناني الأصل) كوستا جافراس، والذي تعين على مخرجه فيما بعد أن يدفع الثمن باهظا، ويقدم فيلما آخر "يكفر به" عن تعاطفه مع القضية العربية، كما دفعت بطلته جيل كلايبرج الثمن أيضا، متمثلا في تجاهل هوليوود لها حتى وفاتها أخيرا.
أما "ميرال" الذي صور في عدد من المدن الفلسطينية داخل وخارج ما يسمى بالخط الأخضر، فلم يعرض سوى في اليوم الأخير من مهرجان أبوظبي، وعرضا واحدا في مهرجان الدوحة-تريبيكا فقط من بين كل المهرجانات السينمائية العربية لعام 2010، وغابت بالتالي فرصة مناقشته بشكل حقيقي يبتعد عن الانطباعات الأولية.

سيناريو الفيلم مأخوذ عن مذكرات رولا جبريل التي صاغتها في شكل رواية تروي فيها قصة حياتها، وهي الفلسطينية التي جاءت من قلب المأساة الى أوروبا لكي تصبح حاليا من أشهر مقدمات البرامج الشعبية في التليفزيون الإيطالي.

قصة الصراع

يروي الفيلم، أو يطمح إلى أن يروي، قصة الصراع الدائر في فلسطين، منذ عام 1948 حتى اليوم، من خلال التركيز على دور هند الحسيني، التي أنشأت بيتا لإيواء الأطفال اليتامى الذين فقدوا أباءهم في حرب عام 1948، واتسع هذا البيت الذي كان يأوي في البداية 55 طفلا فأصبح يستوعب ألفي طفل.

أما "ميرال" فلم تفقد والديها في الحرب، وهي التي ولدت في اوائل السبعينيات، بل فقدت أمها بعد ان انتحرت هربا من مصيرها الذي يرويه الفيلم بالتفصيل، فأودعها والدها "دار الطفولة" لكي تصبح في رعاية هند الحسيني، تلك الشخصية الفلسطينية "الأسطورية" التي تحدت كل الظروف غير الانسانية، ونجحت في الحفاظ على مدرسة تعليم الأطفال، وكانت ترى أن التعليم هو طوق النجاة الأساسي أمام الشعب الفلسطيني.

فيلم "ميرال" شاركت في إنتاجه شركات من فرنسا وايطاليا والهند وإسرائيل. وصنع أساسا لكي يخاطب الجمهور الأمريكي العريض. وقد بدأت عروضه العامة في السوق الأمريكية في شهر ديسمبر 2010. والمشاركة الاسرائيلية فيه مجرد تقديم خدمات للتصوير، وهو ما يحدث أيضا لافلام المخرجين الفلسطينيين الذين يصورون في اسرائيل مثل ايليا سليمان، ولا يجب التوقف امامه باعتباره نوعا من "المشاركة" الإسرائيلية في الإنتاج.

يبدأ الفيلم بلقطات تسجيلية (سيتكرر كثيرا استخدام لقطات من الأرشيف خلال الفيلم) لإعلان بن جوريون قيام دولة إسرائيل ووصول أعداد كبيرة من المهاجرين اليهود إلى فلسطين، ثم مظاهر الاحتفالي الشوارع بما يطلق عليه الإسرائيليون "يوم الاستقلال" في 15 مايو 1949 ثم قيام الحرب العربية- الإسرائيلية الأولى التي تنتهي بـ"النكبة" الكبرى.

ونرى لقطات لعشرات الأطفال يتحدثون عن فقدانهم لذويهم، وقد أصبحوا بلا مأوى في عرض الطريق، وهند الحسيني وهي تصطحبهم معها.

ونقفز الى حرب 1976 ودخول القوات الإسرائيلية إلى القدس. لكننا نعود في الزمن الى الوراء لكي نتوقف أمام قصة "نادية" (ياسمين المصري) التي تهرب من حياة الفقر والفاقة مع أسرتها المتعددة الأطفال، ووالدها الفظ الذي يسيء معاملتها، لتعمل راقصة في ملهى ليلي، ثم لا تستطيع أن تتحمل اهانة امرأة لها داخل حافلة، فتضربها بعنف ويقبض عليها وتحكم بقضاء ستة أشهر في السجن. وهناك تلتقي نادية بفاطمة، وهي ممرضة فلسطينية صدرت ضدها ثلاثة أحكام بالسجن المؤبد بعد أن قامت بزرع قنبلة داخل دار سينما.

تدور حوارات طويلة بين المرأتين داخل السجن، حول معنى القتل، وكيف يصبح من الممكن قتل أناس لا تعرفهم، قد يكونوا من الأبرياء، وحول مغزى الاحتلال، وقسوة العيش تحت سطوته. ويصور شنابل عملية زرع القنبلة داخل دار السينما في "فلاش باك" حيث نرى السينما تعرض فيلم "نفور" Repulsion لرومان بولانسكي في تحية واضحة لهذا المخرج (اليهودي، البولندي الأصل) الذي كان وقت إعداد الفيلم موضوعا تحت الإقامة الجبرية في سويسرا.

بعد خروج نادية من السجن يزوجونها من رجل لا تحبه، تنجب منه طفلتها "ميرال" لكنها تختفي ذات يوم، ونعلم أنها انتحرت. وهذا هو الجزء الأكثر غموضا في الفيلم، وفي عام 1985 يقوم هاني زوج نادية بتسليم ميرال الى مدرسة الدير أي الى هند الحسيني.

مشهد الجرافات

وفي 1987 تندلع الانتفاضة الأولى وتذهب ميرال الى مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الضفة الغربية لتعليم الاطفال. ويركز الفيلم هنا كثيرا على فلسفة هند الحسني في ضرورة التعليم للفلسطينيين، مع ضرورة أن يعرفوا دائما من أين جاءوا والى أي وطن ينتمون، في إشارة إلى توازن نظرتها، وعدم ابتعادها عن القيم الوطنية الفلسطينية.

ولكن سرعان مما تشهد ميرال كيف تلقى زميلة لها مصرعها برصاص القوات الإسرائيلية أثناء قمع الانتفاضة، كما تشهد هدم منازل قريتها بواسطة الجرافات الاسرائيلية، وتشريد العشرات من السكان. في مشهد من أعظم مشاهد الفيلم ولعله أيضا أكثر المشاهد من نوعها، "تعبيرية" في السينما، وهو مشهد يستغرق عرضه على الشاشة زمنا يوازي الزمن الحقيقي في الواقع، ويتم تقطيع لقطاته من زوايا مختلفة، مع تصاعد الموسيقى الحزينة المؤثرة التي تستخدم فيها آلات التشيللو والكمان، وتتناوب لقطات لعشرات الأشخاص من الأطفال والكبار وهم يتطلعون بأسى إلى ما يحدث أمامهم من هدم وتدمير، حتى يصل المشهد إلى ذروته في التأثير على المشاهدين، وبما يتجاوز عشرات المرات ما نراه يوميا في نشرات الأخبار والتقارير التليفزيونية. إن هذا المشهد وحده، يتجاوز أيضا فكرة الواقعية أو التصوير الواقعي لحدث تراجيدي، ليصل إلى فكرة "القهر" بالمعنى الشامل، أو وقوف الإنسان بكل انسانيته وعذابه ورغبته في مجرد العيش الكريم، عاجزا أمام جبروت الآلة، آلة الدمار التي ابتكرها الإنسان أيضا للقضاء على الأمل، وزرع الشقاء والحقد والرغبة في الانتقام. إننا نشاهد تلك الآلة العملاقة الجهنمية التي تقضي على رمز الحياة، أي البيت، كما لو كنا نشاهد وحشا من وحوش ما قبل التاريخ، وقد عاد لتهديد حياة البشر. إنه شيء فاقد أصلا لكل قيم الإنسانية. وهذا هو المغزى الذي يبقى في الأذهان طيلة الوقت، ولكن دون ان ينفصل في العقل البشري ابدا، عن صلته الوثيقة الثابتة بالبربرية الإسرائيلية العسكرية الغاشمة.

الطابع التسجيلي يسود النصف الأول من الفيلم (الذي يستغرق زمن عرضه 111 دقيقة). فنحن نشهد الكثير من الأحداث، خاصة الانتفاضة، مجسدة كما لو كانت مسجلة وقت وقوعها، في حين أن كل شيء في الفيلم مصنوع، أو أعيد تجسيده، بدقة مدهشة، وباستخدام كل امكانيات السينما الحديثة (تكلف انتاج الفيلم حسب تصريحات المخرج شنابل 15 مليون دولار).

نهاية القصة

في ظل هذا الدمار كله تسعى هند الحسيني بكل ما تملك من قوة، للحفاظ على المدرسة، وعلى الأطفال. ولكن بعد مقتل هديل صديقة ميرال، تتحول ميرال الى ناشطة، ترتبط بعلاقة مع شاب من النشطاء وتشارك في عملية تفجير داخل مستوطنة إسرائيلية عام 1990 ويتم اعتقالها (مع مائة آخرين) والتحقيق معها وتعذيبها لكي تعترف على زملائها، إلا أنها تصمد وتتمكن من الخروج بعد أن تتعهد بعدم المشاركة في العمليات ضد اسرائيل.

وفي النهاية تقنعها هند بمغادرة البلاد الى ايطاليا بعد ان تكون قد دبرت لها سبل مواصلة تعليمها هناك.
ولعل من أكثر نقاط الفيلم ضعفا وتهافتا واخلالا بالإيقاع، الفصل الأخير الذي يروي قصة "ليزا وسمير". وليزا هي فتاة اسرائيلية يهودية، وسمير هو ابن عم ميرال. والاثنان يرتبطان معا بعلاقة عاطفية. لكن ليزا ابنة لضابط في الجيش الاسرائيلي. وتعترض والدة سمير على تلك العلاقة وترفضها، وتسعى بشتى الطرق لجعل ليزا تترك ابنها. أما والد ليزا فهو أيضا يتحفظ على تلك العلاقة لكنه يبدو أكثر تفهما، ويصر الاثنان على مواصلة تلك العلاقة، وتتجاوب ميرال معهما، في إشارة رمزية مباشرة تؤكد الفكرة الثابتة لدى أصحاب الأفكار الليبرالية في الغرب، أي فكرة ضرورة التعايش بين العرب واليهود، وأنه لا يوجد حل آخر، وأنه قد آن الأوان لوقف مسلسل القتل والقتل المضاد، وهو ما عبر عنه المخرج شنابل في المؤتمرالصحفي الذي عقد في مهرجان فينيسيا، عندما أصر على أنه كيهودي، كانت أمه مسؤولة عن ادارة فرع الهستدروت في أمريكا من أجل دعم إسرائيل، وجد أن من الضروري تقديم وجهة النظر الأخرى، من أجل تقريب المسافات بين الطرفين، وإن فيلمه يمكن أن يكون مادة جيدة أمام الرئيس الأمريكي وهو يفتح ملف الشرق الأوسط من جديد

 

"ميرال": عودة إلى مناقشة جادة لعمل سينمائي مهم2/2

أمير العمري

مشاكل السرد والإخراج

ناقشنا في الجزء الأول من هذا المقال، الجوانب والإشكاليات الفكرية في فيلم "ميرال" لجوليان شنابل، وتطرقنا لما يتضمنه الفيلم من قضايا وجوانب تتعلق بالصراع العربي الفلسطيني.

هذه الرغبة الملحة في اطلاع الجمهور الأمريكي على القضية بتفاصيلها ولو من خلال فيلم واحد محدود المساحة والزمن، هو الذي يؤدي في واقع الأمر، الى وقوع الفيلم في الكثير من المشاكل الفنية.

من هذا المشاكل أولا: السقوط في الطابع التعليمي المباشر، من خلال الشروح، والتوقف، والسرد الذي يستخدم الوثيقة المصورة، لكي يذكر ويربط، ويجعل التعقيدات التي شهدتها المنطقة خلال أكثر من نصف قرن، شديدة التبسيط بل والتنميط أيضا كما نرى في الجزء الخاص بتردد ميرال بين الانتماء النهائي لحركة المقاومة المسلحة، أو الخضوع لقيادات منظمة التحرير التي كانت قد بدأت الترويج لخطة أوسلو. هنا يوجد الكثير جدا من الحشو والمشاهد الزائدة، والحوارات العقيمة التي لا تضيف بل تقطع مسار الأحداث. وإن كانت تحاول أن تقدم "تلخيصا" للتناقضات بين الأجنحة الفلسطينية المتصارعة.

ثانيا: ربما يكون ما يميز الجزء الأول من الفيلم ذلك التصوير البديع باستخدام الكاميرا المحمولة الحرة بطريقة فنية، في لقطات طويلة، من اليسار الى اليمين، ثم إلى أعلى، ثم تهبط الى أسفل مجددا، بحيث تصبح اللقطة مشهدا كاملا، تحيط بالمكان وبتفاصيله الموحية الخاصة التي روعيت فيها أكثر درجات الدقة، مع البشر، بملامحهم وملابسهم وسلوكياتهم المميزة: في الفيلم نسمع الآذان، ونرى المصلين، والمضربين، وأصحاب الحوانيت الصغيرة، ومرتادي المقاهي، وتلاميذ المدارس ودورهم في الانتفاضة، والقوات الإسرائيلية تغلق الطرق وتضع المتاريس والحواجز، وتقوم بأعمال الدورية والتفتيش، ومظاهر الموت والدفن والصلاة على الميت.. الخ

إلا أن هذا التشكيل البديع سينمائيا سرعان ما يختل بسبب ذلك الخلل في طريقة القص، الحكي، أسلوب السرد، البناء (وكلها تعبيرات مختلفة عن جانب واحد هو الـ narrativity  فنحن نبدأ عام 1994 أي من نهاية الأحداث عمليا بعد أوسلو، لكي نعود الى 1948 وتأسيس اسرائيل، ثم الحرب، ثم 1967 ثم الانتفاضة وهكذا. ولكن السرد يتوقف لكي يقدم وجهات نظر متباينة، أولا الفيلم يبدأ من وجهة نظر هند الحسيني، وتمر 40 دقيقة قبل ظهور ميرال، التي يفترض أنها الشخصية المحورية في الفيلم، لكننا نذهب قبل ذلك لنتعرف على والدتها "نادية" ثم الى زميلتها في السجن "فاطمة"، وكل له قصته، وله وجهة نظره في الأحداث، مما يخلق فوضى غير منظمة، واضطرابا فكريا في مسار الفيلم وليس فقط فيما يتعلق بسلاسة البناء، فمن الممكن أن يتمحور الفيلم بين الماضي والحاضر، ولكن مع التركيز دائما، على موضوعه الأساسي.

العنصر الثالث يتلخص في أن الفيلم، نتيجة لهذا التشتت في الرؤية والرغبة في رواية كل شيء، يفتقد وحدة الأسلوب، فهو تارة يشبه فيلما بوليسيا من أفلام الاثارة السياسية، وتارة أخرى يبدو كعمل وثائقي أو توثيقي من خلال الافراط في استخدام الوثائق ومراعاة الدقة التسجيلية في اعادة تصوير الأحداث التاريخية، ومرة ثالثة يتجه نحو الميلودراما أو أسلوب المسلسلات soap opera في لعبه على المصادفات والأنماط التبسيطية والتقابلات المصنوعة لخدمة فكرة "التعايش" مثلا، ومرة رابعة يبدو كعمل "تعليمي" موجه.. وهكذا.

ورغم الجهد الواضح في أداء دور ميرال تبدو الممثلة الهندية فريدا بنتو غريبة على الدور، بل وعن الأماكن التي تدور فيها الأحداث في فلسطين، وغير منسجمة لغويا وشكليا ودراميا مع الممثلين الآخرين ومنهم الكثير من الممثلين العرب وعلى رأسهم هيام عباس التي تبدو الأكثر بروزا وتألقا في الفيلم، في تقمصها لدور هند الحسيني ببراعة جديرة بالتقدير والثناء بحيث يبدو الدور وقد كتب لها خصيصا.

هنا يصبح استخدام اللغة الانجليزية معظم الوقت، مفتعلا خاصة عندما نشاهد رجلا وزوجته يجلسان على السرير في غرفة النوم، يتبادلان الحديث بالانجليزية بلكنة فلسطينية، أو عندما تخاطب ميرال صديقها الناشط الفلسطيني بالانجليزية، ويخاطب الضابط الاسرائيلي ابنته بالانجليزية بلكنة اسرائيلية قوية.. وهكذا، وهو ما يساهم في "تغريب" الفيلم وان كان دفاع المخرج شنابل عن هذا  الاختيار يتركز على رغبته في وصول الفيلم الى الجمهور الأمريكي بسهولة كما أوضحنا!

وأخيرا لا أجد مكانا هنا للظهور الرمزي للممثل الأمريكي وليم دافو، ولا للممثلة الانجليزية العظيمة فانيسا ريدجريف، من زمن الانتداب البريطاني، ووجود قوات الأمم المتحدة بعد حرب 1948، وهو استخدام لاثنين من كبار الممثلين يبديان، كما هو معروف، تعاطفا مع قضية الشعب الفلسطيني، وبهما، يظن شنابل أنه سيضمن نوعا من الشعبية لفيلمه.

وقد يكون أخطر ما في رسالة الفيلم أنه يدين على نحو ما، فكرة النضال المسلح، دون أن يطرح بديلا حقيقيا يصلح تبنيه من جانب المجموع، بل يكتفي بتقديم حل فردي "طوباوي" يتمثل في ضرورة البحث عن التعليم، والتمسك بفكرة التعليم كوسية لمقاومة الاحتلال أو الوقوع في التطرف، وهي رؤية ساذجة تبدو كما لو كانت تطالب الشعب الفلسطيني بمغادرة أراضيه بحثا عن التعليم وفرص العمل في أوروبا!

ولكن رغم كل الملاحظات السلبية على الفيلم، إلا أنه يساهم بشكل ما، في إضاءة بقعة من الضوء أمام الجمهور في الغرب، على ذلك الملف الملتبس، ويصور بشكل قوي وغير مسبوق، معنى العيش الفلسطيني تحت الاحتلال، وما يمكن أن يولده ذلك اليأس والإحباط، وتلاشي كل فرص تحقيق السلام يوما بعد يوم، من لجوء إلى كل أشكال التطرف والعنف. وهو تحذير سينمائي غير مسبوق في السينما الروائية الغربية الموجهة للجمهور العام.

الجزيرة الوثائقية في

23/02/2011

 

كوكب من بابل ...سيرة الأغنية العراقية

بشير الماجد 

آثر المخرج العراقي المغترب (( فاروق داود )) ان يكون آخر افلامه الوثائقية (( كوكب من بابل )) هو سيرة عن حياة الاغنية العراقية في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي – بعد ان انجز في المهجر العديد من الوثائقيات ، منها : العائد ، نخل السماوة ، ذاكرة وجذور ، والتي صورّت بخامة 35 ملم – عبر ابرز ملحنيها ، الملحن  ( كوكب حمزة ) الذي يعتبر ملحنا مجددا في الاغنية العراقية منذ مطلع السبعينيات ، في هذا الفيلم يتناول ( فاروق داود ) حياة التجديد الذي طرأ على الاغنية ، ودور ( كوكب  حمزة ) كأبرز مجدد ، وصاحب لمسات الحداثة فيها التي انعكست بشكل محسوس من خلال دراسة ( كوكب ) في ( باكو ) والمعروف انها عاصمة الموسيقى الشرقية ، والتي تصل بأعلى ذراها مع قدر المساواة مع الموسيقى الكلاسيكية ، كذلك دراسته في  ( براغ ) التي تتساهل مع المرء اذا اخطأ في الرياضيات او علم الفلسفة او العلوم الأخرى ، لكنها لاتتساهل في النوتة الموسيقية ، وكان ( كوكب ) ثاني عراقي يدرس في هذا المعهد ، ويعرض المخرج تتبع الاغنية الخمسينية والستينية التي بدأت لمسات التغيير على يد جيل من الشباب ، وكان في الصدارة ( كوكب حمزة – طالب القره غولي – كمال السيد ) ومحاولتهم في ايجاد هوية خاصة بالاغنية العراقية .

كما ان المؤثرات الحضارية ، والبيئة الخارجية – بفضل الدراسة – خلقت هذا المنجز ذات التلوين او لنقل الأغاني الزاهية ، البعيدة عن الأطر الثابتة الجامدة التي عاشتها الاغنية لفترات طويلة ، رغم رقّة بعضها وجمالية وبساطة البعض الأخر ( هذا مايراه فالح عبد الجبار ، باحث – احدى الشخصيات التي اختارها المخرج للحديث عن كوكبه البابلي ) ، ويرى ( كوكب حمزة ) ان ظهور بعض الشعراء الذين استخدموا لغة عميقة وسهلة ، مليئة بالطراوة ، ومنهم الشاعر ( زهير الدجيلي ) وهذه اللغة الجديدة بحاجة الى لغة موسيقية جديدة ايضا وهذه المرحلة ، هي مرحلة جديدة في حياة كل من الأغنية ، وكوكب ، ومثال ذلك اعنية ( ياطيور الطايرة ) التي جمعت بين إيقاعات الريف والمدينة ، واستخدام اللغة الريفية المفصحة ، والانتقال من لحن الى أخر ، بعيدا عن النمطية والرتابة ، التي كانت طاغية على الأغاني التي سبقت كوكب ، يؤكد ذلك ( هاشم العقابي شاعر ) في الحديث عن القصائد المغناة وقلتّها آنذاك ، واعتماد كل الأغاني على شعر ( الدارمي – نوع من انواع الشعر الشعبي ، يعرف بسهولته ، لأنه يتكون من سطرين ) حتى بدا الشاعر ( مظفر النواب ) بتجديد القصيدة الشعبية منتصف الستينيات ، اذ كان 95% من شعر الأغاني يعتمد الشعر الدارمي ، كما في اغلب اغاني – مسعود عمارتلي – داخل حسن – زهور حسين ، لكن ( سعود الناصري – صحفي  - رابع المتحدثين ) يوعز هذا التجديد الى دراسة ( كوكب ) الموسيقية خارج العراق والظرف آنذاك ساعد في قبول هذا التجديد اذ كان هناك نوع من الاستقرار ساعد ايضا في نمو الفنون الأخرى وهو تتويج لنقلة حضارية من معالمها ( السياب – نازك الملائكة )  كذلك هناك نقلة في الرواية والفن التشكيلي على يد ( جواد سليم – الرحال – محمود صبري  ) وهذا ما جعل ( كوكب) يتجاوز التشظي والانغلاق الذي لم يكن يسمح بتبادل الثقافات المختلفة ، فرجل الجنوب يقتصر غناءه على ( المحمداوي ) ورجل البادية على ( النايل ) كذلك ابن المدينة وانقطاعه عن ابن الريف والبادية ، الأغنية التي أبدعها (كوكب ) كانت تستميل هذه الشرائح باختلاف ثقافاتها ، والذي ساعد في ذلك ان بيئة ( كوكب ) في ناحية ( القاسم في الحلة ) كانت تتقاطع فيها ثقافات مختلفة ، فهي قريبة من الحواضر ، والريف ، والبيئة البدوية ، والمناطق الزراعية، الثقافة الصوتية ، بما فيها الكلام المغنى ، الأصوات ، كذلك ثقافة ( البصرة ) كونه عاش بها ، ثقافة الميناء والجنوب ، وأغاني الزنوج ، وإيقاعات ( الخشابّة ) ومصادر صوتية ونغمية أخرى ، كل ذلك جعل ( كوكب حمزة ) يحمل التجديد عبر ثقافته الموسيقية .

ويرى ( العقابي ) ان أغنية ( يانجمة ) للشاعر ( كاظم الركابي ) الذي جدد في أسلوب القصيدة
كما جدد ( كوكب ) في اللحن ، واعتماد صوت جديد دافئ ( حسين نعمة ) جعل من هذه الأغنية مفتاح للغة التجديد في الأغنية العراقية ، اذ ان للمفردة وعاء حسّي ، تطلب من الملحن ان يؤطرها موسيقيا ، ومن المطرب ان يوصلها بالاداء ، وكان ( كوكب حمزة ) قادرا على ذلك ، برغم الحزن الذي كان طاغيا على الاغنية العراقية منذ أزمنة بعيدة ، بحكم عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية .

وقد يطغي هذا الحزن او الاغتراب ، كما يصفه ( كوكب )  بشكل لاشعوري على بعض الأغاني ، فأغنية ( جنة هلي ) لايدري كيف كتبت وكيف لحنت ، لكن ربما صنعها الشعور بالاغتراب
داخل الوطن ، برغم بحثه المستمر عن المفردة الجمالية في الشعر الشعبي العراقي .

لكن ما يتبادر للذهن خلال مشاهدة الفيلم ، ان ( كوكب حمزة ) واقرأنه الذين ربما كانوا اقل شهرة منه ، لماذا لم يكن عطائهم باديا على الاغنية الحديثة الان ، ويبادرنا ( سعدون الناصري ) بالإجابة : الانقطاع عن الأرض ..... لماذا لم يظهر ( كوكب ) وآخرون على النطاق العربي ؟

لانهم انقطعوا عن جمهرهم اولا ، وعدم توفر امكانات التسجيل في المنفى ، وليس هناك فرص مادية كبيرة ، رغم انهم واصلوا التلحين ، لكن لو كانوا بين جمهورهم لكانوا شيئا آخر، لكن 
اضطراره – لأسباب سياسية – للعيش في المنفى ، جعل فرص انتشاره ضئيلة ، وهذه خسارة كبيرة ، رغم انه صمّد في المنفى وواصل التلحين ، حتى كان صاحب الفضل الأول في اكتشاف أصوات عربية شابة .

اما ( كوكب حمزة ) فلا زال يقاتل ضجر اوربا  .... بالقدرة على الحلم .

ان فيلم ( كوكب من بابل ) اضاءة جديدة في سلسلة افلام ( فاروق داود ) عن الثقافة العراقية
والذي سبقه بفيلم ( ذاكرة وجذور ) عن حياة الاديب الروائي العراقي ( غائب طعمة فرمان )
ويكون بذلك برغم مغادرته العراق منذ السبعينيات – متواصلا مع همه الثقافي والفني المرتبط بجذوره العراقية ، التي ما انفكت تلح علية ليخرجها الى حيز البقاء  ....

بطاقة

فاروق داود

سينمائي عراقي يقيم في لندن .

ماجستير في الاخراج – معهد السينما والتلفزيون – موسكو – فكيك .

افلامه في موسكو : وثائقي بعنوان ( زينب ) .

وثائقي بعنوان ( صياد كهل ) .

تسجيلي بعنوان ( اللعبة ) .

افلامه في ستوكهولم : وثائقي بعنوان ( ELVAN ) .

تسجيلي بعنوان ( HON OCH HAN ) .

تسجيلي بعنوان  ( LIVSKVALITE L VARDAGEN  ) .

الجزيرة الوثائقية في

23/02/2011

 

رُمُوز السّينما الوثائقيّة:"أندري بَازان"

الهادي خليل 

إذا هنالك مُنَظِّرٌ أشَعَّ على أدبيّات النّقد السّينمائي إشْعاعًا لا نَظير له، فهو حقًّا المُفكّر الفرنسي "أندري بازان" (André Bazin) الذي ولد سنة 1918 وتوفّي مبكّرا سنة 1958، كانَ مُتَيَّمًا بالفنّ السّينمائي بكلّ أنواعه وأجناسه، كتب عنه بروح الفيلسوف وبحسّ الفنّان. ويُعدّ مؤلّفهُ "مَا هي السّينما؟" (Qu’est-ce que le cinéma ?) من أهمّ المراجع إن لم نَقُلْ أهمّها إطلاقًا التي تَتَطَرَّقُ، من خلال بعض التّحاليل الفيلميّة، إلى ما هية الفنّ السّابع وأهمّ النّقلات النّوعيّة التي عرفتها اللّغة السّيمائيّة.

كان "أندري بازان"، مُؤَسّس المَجلّة الشّهيرة "كرّاسات السّينما" (Les Cahiers du Cinéma)، شَغُوفًا بالأفلام الوثائقيّة وخاصّةً تلك التي تُصوّرُ الحيوانات الوحشيّة. مثّلت هذه الأفلام، بالنّسبة إليه، رَكيزة أساسيّة للتّفكير في مسألة "المُونتاج" (Le montage) وأهمّيّته في بنية السّرد الفيلمي. كَانَ لا يُخْفِي تَحَفُّظَهُ إِزَاء المُونتاج إن لم نقل كُرهه له، إذْ أنّ المونتاج، حسب رأيه، يعتمدُ على خدع وعلى تَمْوِيهات شتّى كان يرفضها رَفْضًا كُلِّيًّا. وهذا التّحفّظ ناتج عن ممارسة نظريّة ثاقبة وصارمة كانت تسعى إلى النّفاذ إلى ماهيّة السّينما الأنطولوجيّة واللّغويّة. وفي نَظْمِ هذه النّظريّة وتحديد الاهتمامات  الجوهريّة التي تحفزها، تحتلّ صُورة الحيوان أهميّة قُصوى.

يَعْتَبِرُ بازان أنّ علَى المونتاج أَنْ يُلغى كلّ مرّة يصبح فيها ممكنا تصوير كائنين مغايرين ومتضادّين في نفس الإطار، جنبا إلى جنب. وهذان الكائنان هما الإنسان والحيوان وبالتّحديد الحيوان الوحشي. تواجد الحيوان الإنسان معا في لقطة موحّدة دون اعتماد أيّ تركيب يكشف حقيقة السّينما الأساسيّة، وهي أن عمليّة التّصوير تُصْبِحُ مسألة حياة أو موت. من سيلتهم الآخر: الحيوان أم الإنسان؟ السّينمائي الذي يصوّر حيوانا مفترسا، هل سيخرج سالما من هذه العمليّة أم هل سيجد نفسه يتخبّط تحت مخالب الحَيَوَان وأنيابهِ؟ انطلاقا من هذه الرّؤية، لا يخفي بازان إعجابه بِالأفلام الوثائقيّة والعلميّة وبالأشرطة التي تصوّر مباشرة نبضات من الواقع الحي دون تزويق ولا تزوير.

في نظريّة بازان السّينمائيّة، الحيوان هو الاستعارة المُثْلَى لبطش الواقع وعنفه، شريطة أن يصوّر هذا الحيوان بأكمله، دون تقطيع، وأن يقع التقاط ما هو خام وحيّ فيه.

فعل التّصوير (L’acte de filmer) مجازفة خطيرة وهذه المجازفة بالذّات هي التي تمثّل قيمة الفيلم المضافة وتحيطه بنوع من الإجلال. الفيلم يفرض وجوده ومصداقيّته ِلأَنَّ المخرج خاطر بحياته لإنجازه. تحيلنا تحويل عمليّة التصوير إلى قضيّة موت أو حياة على سرّ من أسرار السّينما الجوهريّة وهي أن السّينما لها علاقة وطيدة بالموت.

يفسّر بازان، في الجملة الافتتاحيّة لِلجزء الأوّل من مؤلّفه الشّهير "ما هي السّينما؟"، كيف أنّ عمليّة التّحنيط يمكن اعتبارها السّمة الأساسيّة للفنون التّشكيليّة في الكيفيّة التي ترى بها هذه الفنون النّور. ويذهب به القول، بالاعتماد على مقاربة فرويديّة للعمل الفني، أنّ عُقْدَة المومياء هي مصدر الرّسم والنّحت ومنبعهما. ثمّ يتدرّج به التّحليل إلى تطبيق هذا الرّأي – المأخوذ أساسا، والحقّ يقال، من فكر بشلار (Bachelard) – على الفن السّينمائي. يكتب أندري بازان في هذا الصّدد: "الموت هو من الأحداث النّادرة التي تعلّل استعمال عبارة الخصوصيّة السّينمائيّة".

اهتمّ بَازان كثيرًا بظاهرة "الوَاقعيّة" (Le réalisme) في السّينما واعتبر أنّ الأفلام الوثائقيّة هي المُرشّحة أكثر من غيرها لفتحِ أَعيُننا على صخب الحياة اليوميّة في جُلّ تَجَلِّيَاتها. ومن هذا المُنطلق، نُدرك إعجَابه الكبير بِمَوجَة "الواقعيّة الإيطاليّة الجديدة" (Le Néo-réalisme Italien) التي ظَهرت إبّان الحرب العالميّة الثّانية وبعدها، بفضل سينمائيّين كبار مثل "فيتّوريو دي سيكا" (Vittorio De Sica)، "روبارتُو رُوسّيلّيني" (Roberto Rossellini)، "لُوكينُو فِيسْكُونْتِي" (Lucchino Visconti)، كَانَ همُّهم تصوير الفِئَات الشّعبيّة المسْحُوقة، في إيطاليا المهزومة والمَنْكُوبة، كمَا هي، وَكأنّهم كَانوا مُتحَفِّظين حِيَال بَهْرَج الإخراج والمُونتاج.

الجزيرة الوثائقية في

23/02/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)