حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

شادية.. معبودة الجماهير

بقلم: زياد فايد

تربعت علي عرش النجومية منذ عرفها الجمهور في أدوار البنت الشقية الدلوعة منذ احترافها الغناء والتمثيل عام 1947، وحتي اعتزالها الفن في عام 1987 بعد غنائها «يا ختام المرسلين»، وظلت تبكي وهي  تردد المقطع الأخير، وأدي حالي وحال جميع المؤمنين».

 مشوار طويل، قدمت خلالها 106 أفلام سينمائية وما يقرب من 700 أغنية ما بين عاطفية ودينية ووطنية وأطفال، وهي من  مواليد 8 فبراير 1930 - بحي عابدين باسم فاطمة أحمد كمال شاكر، وهي  نجلة المهندس الزراعي «أحمد كمال شاكر» مدير مزارع الخاصة الملكية بأنشاص - وهي ابنة السيدة «خديجة طاهر» التركية، قضت طفولتها ما بين مدرسة السنية الابتدائية، مدرسة شبرا للبنات.

 بداية المشوار

 دور صغير في فيلم «ازهار واشواك» عام 1947 - بناء علي ترشيح مدرس الموسيقي للمخرج أحمد بدرخان - الذي قدمها بدوره لمخرج الفيلم حسين حلمي المهندس في تلك الفترة كان المطرب «محمد فوزي» يستعد لفيلم «العقل في إجازة» كمنتج - واختار لإخراجه الماكيير «حلمي رفله» وكان يبحث عن وجه جديد للبطولة أمامه، فرشح له أحمد بدرخان «فاطمة شاكر» التي ظهرت في هذا الفيلم ولأول مرة باسم «شادية» وحقق الفيلم نجاحا غير متوقع مما جعل محمد فوزي يوقع معها عقد احتكار لتمثيل خمسة أفلام متتالية معه دون أن تمثل مع غيره، ولأن هناك علاقة قوية وصداقة عميقة تربط بين أنور وجدي ومحمد فوزي- فقد أستأذن وجدي من فوزي أن يسمح له بأن يستعير شادية لتقوم ببطولة فيلم من إنتاجه وإخراجه هو «ليلة الحنة» أمام كمال الشناوي ووافق فوزي وبدأت مرحلة الثنائيات في السينما المصرية وبدأت بين كمال الشناوي وشادية ومثلا معا 25 فيلما.

 وفي هذا العام 1951 حطمت شادية كل الأرقام القياسية ومثلت خلاله 14 فيلما ضاربة الرقم القياس المسجل باسم «إسماعيل يس» وهذه الأفلام هي مشغول بغيري، ليلة الحنة، السبع أفندي، سماعة التليفون، في الهوا سوا، الدنيا حلوة، عاصفة علي الربيع، القافلة تسير، حماتي قنبلة ذرية، أولادي،اشكي لمين، الصبر جميل، قطر الندي واستمر هذا  النجاح أعوام 52، 53، 1954 ومثلت خلال السنوات الثلاث 34 فيلما أولها «آمال» الذي شاركتها فيه البطولة شقيقتها عفاف شاكر وآخرها فيلم «ليلة من عمري» وكان نقلة جديدة في حياة «شادية» تخلصت منه من شخصية الفتاة الدلوعة الشقية الساذجة وبدأت مرحلة النضوج الكبير.

 نجمة الفيلم الغنائي

 في فيلم «ليلة الحنة» قدمت شادية أجمل أغنيات مرحلة البداية، مثل أغنية «يا حسن يا خولي الجنينة يا حسن»، «غاب عني ليه.. يا تري»؟ من ألحان محمود الشريف، كما غنت من ألحان منير مراد، «واحد اثنين» يا دبلةالخطوبة، ما اقدرش احب اثنين، دويتو أنا وحبيبي»، ويذكر أن شادية كانت السبب في تحول منير مراد من مساعد مخرج مع أنور وجدي إلي ملحن ومعه قدمت سلسلة من الألحان الجميلة منها «أن راح منك يا عين، يا سارق من عيني النوم، القلب معاك، قلبي علي قلبي، فارس أحلامي» وتقريبا فقد مثلت شادية أمام جميع المطربين المشاهيرفي عصرها مثل محمد فوزي، عبدالحليم حافظ، فريد الاطرش، عبدالعزيز محمود، كارم محمود، كمال حسني، سعد عبدالوهاب، وشاركت من خلال أفلامها في أداء ثنائيات مع فريد الاطرش، عبدالحليم حافظ، منير مراد، كمال الشناوي.

 الممثلة

تمردت علي دور الدلوعة واقتحمت الأدوار الصعبة مثل دورها في فيلم المرأة المجهولة، زقاق المدق، اللص والكلاب، شيء من الخوف، ميرامار، واستمرت تؤدي أدوارها الرائعة حتي آخر أفلامها «لا تسألني من أنا» إخراج أشرف فهمي عن قصة احسان عبدالقدوس، وفي عام 1985 نجح المخرج حسين كمال في اقناعها بأداء شخصية «ريا» السفاحة القاتلة صاحبة القضية المشهورة «ريا وسكينة» وأثناء عرض المسرحية توفي «طاهر» شقيقها الذي كان أقرب الاشقاء إليها - فاصيبت بحالة من الحزن والاكتئاب وقررت السفر إلي  الولايات المتحدة الأمريكية للإقامة لدي شقيقتها «عفاف» التي تعيش هناك منذ سنوات، وعقب أدائها مناسك الحج أعلنت في 25 نوفمبر 1987 اعتزالها الفن نهائيا وارتدت الحجاب.

 قصص الحب في حياتها

 كان أول أزواجها ضابط مهندس بالقوات المسلحة الذي استشهد في حرب فلسطين 1948 قبل موعد زفافها بشهر، عقد قرانها بعد ذلك علي مدرس-وبعد عقد القران طلب منها اعتزال الفن بعد إن كانت قد حققت أولي درجات الشهرة، إلا أنها رفضت وتم الطلاق.

 وفي عام 1953 تزوجت بالفنان عماد حمدي الذي كان يكبرها بـ23 عاما ولكن هذا الزواج لم يدم أكثر من ثلاث سنوات بعده تزوجت بالكاتب الصحفي مصطفي أمين الذي كتب لها قصة فيلم «معبودة الجماهير» من إخراج حلمي رفله، وتم هذا الزواج سرا وانفصلا سرا أيضا.

 وفي عام 1956 عاشت قصة حب حقيقية مع فريد الاطرش - إلا أنها لم تنته بالزواج، ففي العام التالي تزوجت من المهندس الإذاعي «عزيز فتحي» وانتهي بالطلاق بعد ثلاث سنوات، وفي عام 1965 تزوجت بالفنان صلاح ذو الفقار- إلا أنها طلبت في أحد أيام أن يعود إلي زوجته الأولي أم أولاده، وبقيا اصدقاء حتي أنها قررت عدم الزواج مرة أخري.

 ارتداء الحجاب

 بعد أدائها فريضة الحج بدأت تتردد علي الشيخ محمد متولي الشعراوي الذي  قيل أن له دورا كبيرا في اعتزالها الفني وتفرغها للعبادة.

 كان أول شيء فعلته بعد ذلك إقامة مسجد أو مركز لتحفيظ القرآن الكريم ومستوصف خيري ودار لكفالة الايتام وجمعية خيرية للانفاق علي المسجد باسم والدتها السيدة «خديجة طاهر» - أيضا  اشترت شقة بعمارة الأوقاف بشارع جامعة الدول  العربية ووهبتها لمسجد الدكتور مصطفي محمود لتكون مركز الاشعة والتحاليل الطبية لعلاج الفقراء كصدقة جارية علي روح شقيقها محمد طاهر متعها الله بالصحة والعافية وبارك لها فيما اعطاها.

جريدة القاهرة في

25/01/2011

 

الشوق.. شخصيات شعبية ودراما عشوائية

بقلم: د.وليد سيف 

لا أتفق في الرأي علي الإطلاق مع من يرون أن أي فيلم يعرض لمشاكل المجتمع أوظروف فقرائه وانحرافاته يعد متاجرة بآلام هذا الشعب . وأنا لا أتحدث علي الإطلاق عن صورة مصر التي في رأيي لا يمكن أن يسيء لها مجرد فيلم أوحتي سلسلة أفلام . كما أنني  أقدر أيضا الجهد الكبير الذي بذله صناع فيلم ( الشوق ) ونالوا عنه جائزة مهرجان القاهرة الكبري الهرم الذهبي، إضافة إلي حصول بطلته سوسن بدر علي جائزة أحسن ممثلة . ولا أشك علي الإطلاق في نواياهم الطيبة ودوافعهم النبيلة في طرح صورة واقعية لمجتمع من الفقراء مهدد مع كل موجة غلاء بالسقوط من عالم المستورين  مؤقتا  إلي دنيا المتسولين إلي أن يحل الأجل . إنها صورة صادقة لبيوت تعيش علي الكفاف وليس لديها أدني استعداد لأي ظرف طاريء أوعبء إضافي، وهذا بالتأكيد ما يريد فيلم الشوق أن يعبر عنه . ولكن كيف كانت طريقته في التعبير؟ تلك هي المشكلة .

مشاركة بالاكراه

في المشاهد الافتتاحية من الفيلم نستيقظ مع أهل الحارة وهم يبدأون يومهم . حارة ضيقة وفقيرة تعبر عن ضيق الحياة وصعوبتها . تتسلل إليك الحالة من خلال الصورة الموحية بألوانها القاتمة وإضاءتها الباهتة والأماكن المختارة بعناية والديكورات والإكسسوارات الفقيرة وجمل الحوار المقتضبة التي تعكس ما يعانيه هؤلاء الناس . مع قدوم الرجل الضرير تتأكد أجواء الظلمة ثم نتابع صاحب محل البقالة وهويفتح محله مع صبيه. ثم نري صاحب الكشك وهو في طريقه لإجراء التراخيص وحوار مع ابنه - محمد رمضان - طالب الهندسة الغاضب والناقم علي الاوضاع . ثم تنتقل الأحداث إلي الجارة ذات العود الفارع - دعاء طعيمة - زوجة بائع الجاز وهي تستدعي الصبي ابن جارتها ليقضي لها حاجتها. وفي أكلاشيه فاضح ومكشوف من أول وهلة للمرأة الجائعة المتعطشة للجنس ولكننا لن نعرف عنها ولا عن زوجها لاحقا  سوي القليل.

الشوق للأمان

وننتقل بعد ذلك للأسرة المحورية  فنتعرف علي بنتين في عمر الزهور .. شوق أوروبي التي يحمل الفيلم اسم شخصيتها دون أن تكون هي محور الحكاية ..  وشقيقتها الأصغر في الحقيقة والفيلم - ميرهان  - وهي اكتشاف مدهش كممثلة تلقائية وبليغة في التعبير  . ثم نتعرف علي شقيقهما المريض والذي ستؤدي أزمته الصحية إلي ضياع الأسرة .. ثم  الأب ويؤدي دوره سيد رجب، وهونفسه كاتب السيناريو، عامل الأحذية الذي أنهكه الفقر وتعبر ملامحه الحادة الصارمة ونحافته المفرطة عن الحياة الجافة والهم المستمر . وفي قلب هذا المحور تأتي أم شوق - سوسن بدر -  والتي تحمل فضلا عن كل هموم الفقر ومسئولية البيت والبنتين همها الأكبر وهو اعتلال ولدها الوحيد بالكلي واحتياجه لغسيلها أسبوعيا وفوق كل هذا مرضها النفسي ونوبات الصرع التي تنتابها من حين لآخر .

نحن في قلب عالم من الفقر المدقع والضيق المستمر والاحتياج الشديد والشوق إلي الحياة النظيفة والكريمة  والمتعة الجسدية والبحث بجنون عن الشعور بالأمان من غدر الزمن وتقلباته . لا يخفف من وطأة هذا القلق والجفاف إلا لحظات قليلة تقضيها الفتاتان علي الشاطئ كل مع فتاها . ولكن سرعان ما يختفي الأول في سعيه للخروج عن هذا الواقع المر وبحثا عن سبيل للخروج من الحارة بكل ما تمثله . ولمواءمة هذه الأجواء يحافظ مدير التصوير الإنجليزي نيستور كالفو باستماتة علي ظلاله الخانقة وألوانه الباهته حتي في لحظات البهجة القليلة . ومن الواضح أنه يحقق رؤية المخرج الذي يصمم علي أن يضعنا في هذه القتامة طوال زمن العرض . وهو في الحقيقة يشكل  أسلوبية بصرية معبرة سواء في سيطرة مساحات السواد أوفي وضع الشخصيات دائما خارج دائرة الضوء .

بطء ايقاع

يعاني الفيلم بوجه عام بطئا في الإيقاع وبصورة معتمة متعمدة ليس كنوع من العقاب للمشاهد لا سمح الله ولكن لرغبة صناعه في إجباره علي مشاركة أبطاله حالتهم . وعلي الرغم من هذا فإن المونتاج يجتهد كثيرا في خلق حالة من التواصل بين اللقطات وفي الربط بين الأماكن . حيث تبدوالمشاهد الداخلية في البيوت وكأنها متصلة حقيقة بالحارة، كما تتصل الحارة بأجواء منطقة اللبان وكأنها في القلب . وهي مسألة تبدو أكثر صعوبة في فيلم تعتمد أغلب مشاهده علي أسلوب اللقطة الواحدة في تصويره . ويساهم المكان والديكور في التأكيد علي الحالة . وفي هذا المجال تلزم الإشادة بإهداء الفيلم إلي مهندس الديكور حامد حمدان كلمسة وفاء للفنان الكبير الذي رحل أثناء عملية الإعداد لديكور الفيلم .

وحدة أسلوبية

يتوغل بك المخرج من خلال وحدة أسلوبية وبتضافر كل العناصر الفنية  إلي بؤرة الظلام في عالم يزداد قتامة مع رحيل فلذة الكبد، بعد أن دبرت الأم  نفقات غسيل كليته من التسول في شوارع القاهرة . وحتي رغم وفاته ستواصل الأم مشوارها مع التسول في العاصمة البعيدة عن أعين الأهل والجيران في الإسكندرية. وسوف تسعي لتحقيق الأمان، وفق مفهومها، لابنتيها بجمع المال بهذه الوسيلة المهينة . وستنتابها حالة من الخوف المرضي عليهما إلي درجة تصيبهما بالاختناق . وسوف ترفض العريس الذي تقدم للكبيرة التي تحبه، بحجة أنه فقير لن يوفر لها الحياة السعيدة المريحة التي حرمت هي منها بزواجها من الأب الفقير وخروجها عن طاعة أسرتها  .

 وفي انتقالة درامية خشنة تنحرف الفتاتان سريعا سعيا وراء المتعة في مشاهداستطاع المخرج  خالد الحجر أن يحيلها من لحظات متعة عاطفية إلي مناطق من العذاب والألم والسقوط والانهيار النفسي والجسدي . وفي هذا الصدد  تحسب للمخرج قدرته علي الحفاظ علي أسلوبيته وعدم استسلامه لأي أكليشيهات أوأنماط سائدة في تحقيق هذا النوع من المشاهد . ولا يشغلني كثيرا تلك النظرة الموغلة في السواد للواقع التي يطرحها الفيلم  . فمن حق أي فنان أن يعبر عن رؤيته من المنظور الذي يختاره  . ولكن بشرط أن يمتلك المعادلات الموضوعية الدرامية التي تعبر عن هذه الرؤية بأسلوب تعبيري  وألا يعتبر أن مجرد إصابة المشاهد بالاكتئاب هوغاية المراد .

ولكن سيناريو سيد رجب يعاني  التشتت والارتباك والتأثر بلا مبرر بمسرحية زيارة السيدة العجوز . يبدوهذا حين يدفع الأم للسيطرة علي أهل حارتها والسعي إلي إذلالهم وإخضاعهم بحصيلتها من التسول، مع أنها تختلف تماما عن السيدة العجوز التي خرجت من الحارة مهانة وعادت  إليها للانتقام بنقودها عبر السيطرة علي المحتاجين وذوي النفوس الضعيفة . فلم نر أي إساءة منهم لها تدفعها للانتقام، فكلهم من قليلي الحيلة قصار اليد كما أن  علاقتها بالجميع كانت طيبة . كما بدي فقر السيناريووالإخراج في مشاهد التسول التي كانت فرصة لتحقيق رؤية بصرية أكثر رحابة وأقوي تعبيرا عن المجتمع بمختلف طبقاته. ولكنها جاءت عبارة عن مشاهد صماء نمطية متكررة . ولا يتجسد من خلالها إلا علاقة واهية بين الأم وبائعة علي الرصيف تعاني من البدانة وجحود الأبناء.

انحراف مفاجئ

وبالإضافة إلي هذا فإن السيناريولم ينجح علي الإطلاق في توليف الخطوط الدرامية المتشابكة . فغابت شخصيات لمساحات طويلة وعادت لتظهر من جديد بعد أن كدنا أن ننساها مثل شخصية أحمد عزمي ومحمد رمضان، وكذلك الجارة زوجة بائع الجاز التي تقيم علاقة جنسية مع الصبي المراهق ابن الجيران . كما فقد بعض الممثلين التوجيه المطلوب في الأداء، فعبروا عن معان غير مقصودة مثل أم الصبي التي كان أسلوبها في الأداء مع الجارة يكشف عن تلميحها بأنها تعرف رغبة المرأة المشتعلة تجاه الصبي، بينما عادت في مشاهد أخري لتؤدي بطريقة تعبر عن عدم معرفتها بأي شيء . وهونفس الأمر الذي ينطبق علي سلوك أهل الحارة تجاه انحراف الفتيات . فتارة تراهم وكأنهم علي علم بكل شيء وأخري تجدهم وكأنهم في غفلة تامة .

من حق المخرج أن يكرر بعض المواقف أويعيدها ولكن يفترض أن تكون في كل مرة ذات دلالة مختلفة أومتطورة في الدراما وأن يكون إيقاعها في المرات المتكررة أكثر سرعة ولكن هذا لم يحدث علي الإطلاق فكانت ضربات رأس سوسن بدر في الحائط تطول إلي حد أثار إشفاقنا علي الحائط، كما كانت مشاهد الصراخ والعويل والبكاء تمتد بلا حدود ولا انضباط وكأننا في مأتم حقيقي .

ليس من حقي أن أصادر علي حرية الفنان خالد الحجر في تحقيق أسلوبيته حتي ولو كنت أختلف معه في رؤيتي لدور الفن . كما أنني لا أشكك في قدرته علي تحقيق التأثير وتوصيل الحالة الإنسانية والواقع البائس المؤلم لهؤلاء البشر،  ولكني  أري أن الفنان إذا اراد أن يعبر عن البؤس والقتامة  بصدق، فهو ليس مطالباً بأن يحيل الصورة إلي كتلة من العذاب. فهل من المنطقي مثلا أن يموت الممثل بالفعل في مشهد موته حتي يحقق التأثير المطلوب . وهل من الفن أن أقدم لك صورة لرجل يفرغ ما في جوفه لأصيبك بالقرف . وهل من المعقول أن تمتد ساعات العرض مع لحظات من الملل والكآبة حتي أنقل لك هذا الشعور .

جريدة القاهرة في

25/01/2011

 

«678».. المتعة الفنية علي جناح التحرش الجنسي

بقلم: فريال كامل 

في يوم واحد وفي موضع واحد يتم إصابة رجلين في منطقة حساسة بأداة حادة، أثناء تواجدهما في أحد الأوتوبيسات المزدحمة- كالعادة- فيتعالي صراخهما وتنزف دماؤهما مما يتطلب نقلهما إلي المستشفي.

وعلي الفور يتوتر جهاز الأمن، ويكلف المقدم عصام (ماجد كدواني) من إدارة المباحث بإجراء التحقيق اللازم، للكشف عن مرتكبي الحادث ومبرراتهم، وعلي الرغم من أن الضابط هو حامل لواء الدراما ومحركها منذ ظهوره في منتصف الفيلم تقريبًا، إلا أن المعالجة الدرامية لم تأخذ المنحي البوليسي بعناصره المعروفة من التشويق والمطاردة والمفاجأة وتدفق الإيقاع، لقد تبني المؤلف منهج الكشف للمشاهدين عن مرتكبي الحادث منذ البداية ليوفر لهم متعة المتابعة لأداء الضابط المتمكن في التحقيق وجمع الأدلة إلي أن يكشف أطرافها ذلك كله في فيلم اجتماعي فياض بالإنسانية.

موضوع مسكوت عنه

فيلم 678 (وهم رقم أتوبيس عام) هو العمل الأول لمخرجه (محمد دياب) الذي كتب أيضًا السيناريو- عن قصة حقيقية- بعد أن كتب للشاشة ثلاثة سيناريوهات ناجحة هي: سيناريو فيلم الجزيرة وأحلام حقيقية وألف مبروك.

يستند الفيلم إلي أحد الموضوعات المسكوت عنها في المجتمع، عن المخرج يطرحها بأسلوب راق بعيد عن الفجاجة. يعرض الفيلم للآلام النفسية التي تعانيها المرأة في تلك الحالة ويقوي عزيمتها لمجابهة أي اعتداء. يأخذ الفيلم طابع التحقيق الرصين والمستمد من طبيعة الضابط «عصام»، وأدائه، ذلك عن حالة من الانحراف السلوكي في المجتمع تأخذ شكل التحرش الجنسي بالسيدات، ذلك الانحراف الذي يتكيء علي دوافع اجتماعية، منها انتشار البطالة وفقر الإمكانات لتلبية متطلبات الزواج إضافة لضعف قبضة القانون، مما أشاع درجة من الفوضي في الشارع المصري.

الضابط الإنسان

يلفت النظر خلال أعمال المؤلف «محمد دياب»، عنايته بتصميم شخصية ضابط الشرطة، وعليه ظهر المقدم «عصام» في «678» كشخصية حية من دم ولحم. شخصية تميل للبساطة شكلاً وموضوعًا كأنه واحد من أهلنا، له هيئة تخاصم الرشاقة ومظهر بعيد عن الوجاهة، إضافة لحس ساخر يفيض عن تعليقاته وحواراته مع الآخرين، وإن بدي متمكنًا من مهنته ومنشغلاً بعمله حتي عن زوجته وهي تمر بأحرج المواقف (الولادة)- عني «دياب» بإضاءة الجانب الإنساني في شخصية الضابط خلال العبور بشقته المتواضعة وأسرته الصغيرة (ولديه وزوجته)، تعاطفنا مع أمنية الزوجة أن تنجب بنتا، وشاركناها أزمتها حين كشف جهاز السونار (علي سبيل الخطأ) أن الجنين ذكر. اكتسب الفنان «كدواني» احترام المشاهدين لأدائه الطبيعي والبعيد عن النمطية (فاز كدواني عن دوره بجائزة أفضل ممثل في مهرجان دبي). وكم كان نبيلاً في حزنه حين حمل ابنته الوليدة بين ذراعيه عقب وفاة زوجته أثناء عملية الولادة، لتكون تلك الوليدة نقطة تحول في توجهات الضابط إلي مناصرة الأنثي فيتعامل مع حالة الشابات الثلاث بحنو أبوي.

ضد التحرش

في مستهل السياق تتعرض ثلاث شابات من شرائح اجتماعية متباينة لفعل التحرش، ذلك في ظروف مختلفة ليكون رد فعل كل منهن بطريقة أيضًا مختلفة. فايزة «فازت بشري عن دورها بجائزة أفضل ممثلة في مهرجان دبي» موظفة كادحة وهي زوجة وأم لطفلين تعاني «فايزة» الإرهاق وتعاني الأسرة  ضعف الموارد حتي تعجز عن تسديد المصروفات المدرسية لطفليهما ما يعرضهما للعقاب يؤنبها زوجها لاستخدامها التاكسي من دون الأتوبيسات العامة ما يستنفذ جزءًا كبيرًا من الدخل، في الوقت الذي يحرم نفسه من أي وسيلة ترفيه، فتقرر العودة لملاحقة الأتوبيس وتجرع المهانة وسط الزحام ما يأجج الصراع داخلها، فتقرر رد العدوان بالعدوان في الموقع وفور حدوثه حتي ولو كانت أداة الدفاع مجرد دبوس شعر. وفي الختام تعجز عن دفع المصروفات، وفي لقطة مؤثرة تأخذ وضع المعاقب بدلاً من ابنيها في فناء المدرسة.

يتضح دور المونتير «عمرو صلاح» في صياغة مسار الشابات الثلاث «فايزة وصبا ونيللي» بنعومة في جديلة واحدة. تسعي «فايزة» بحضور جلسات التوعية ضد التحرش بساقية الصاوي، والتي تديرها الناشطة «صبا (نيللي كريم) بغرض تغيير توجهات المرأة ودعم قرار المواجهة ورد الاعتداء في الموقع وفور حدوثه.

تدور «صبا» في محيط اجتماعي مختلف، ولكنها لا تسلم هي الأخري من الاعتداء.

هي ابنة مسئول كبير ومتزوجة بطبيب شاب وتمتلك جاليري لبيع المشغولات الفنية. وآفة الدكتور «شريف» أنه عاشق للكرة أكثر من زوجته يصحبها إلي الاستاد لتشجيع فريقه وأيضًا المشاركة في مواكب الفوز بشارع جامعة الدول العربية. في تلك الليلة وسط أجواء الفرحة والهوس بالفوز، تفصل بين «صبا» وزوجها موجات من البشر فتتعرض لأحط اعتداء علي كرامتها وجسدها. في لقطة معبرة تبدو «صبا» في حالة انهيار ملقاة علي أريكة في الجاليري، تمحو بكفها الشعار الملون الذي رسمته علي وجهها تحية للفريق الفائز، فتختلط الألوان، وتتحول إلي مسخ يفيض بما تعانيه من الهوان، وتتبلور أزمتها الحقيقية حين ينصرف زوجها عن مساندتها بل يهجر البيت ويعتزل في المستشفي، فتتخذ «صبا» قرار الانفصال وعدم الرغبة في الاحتفاظ بجنينها منه.

ويكون رد فعل الشابة الثالثة نيللي «ناهد السباعي» علي فعل التحرش أكثر قوة وإيجابية، حين تخرج الحادثة من الدائرة الشخصية الضيقة إلي الرأي العام في ساحة القضاء. تنتمي نيللي وخطيبها عمر إلي الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة، وهما يهويان التمثيل ويقدمان فقرات تمثيلية باسمة في ساقية الصاوي حيث تلتقي الشابات الثلاث في يوم الحادث وحين تعبر الطريق إلي بيتها تمتد ذراع سائق بعربة نصف نقل ليعبث بأجزاء حساسة من جسدها، فما يكون منها إلا أن تستدعي مخزون طاقتها وتلاحقه، وبحركة خطرة تعتلي مقدمة العربة، وتجبره علي التوقف لتدفع به إلي نقطة الشرطة. تلقي نيللي منذ البداية مساندة من أمها وخطيبها غير أنها تواجه بعقبتين أولاهما امتناع الشرطي عن تحرير محضر تحرش لتحريك الدعوي وإصراره علي تحرير محضر تعد، والعقبة الأخري تهديد أهل الخطيب بعدم إتمام الزواج لما في القضية من إساءة لسمعة ابنهم، بينما تدور الأقاويل لتتهمها بالإساءة لسمعة مصر، إلا أن الخطيب بما يمتلك من الوعي والثقافة لا يتواني عن مؤازرة حبيبته وعدم الامتثال لموقف أهله، وفي جلسة المحاكمة يقف معلنًا عدم التنازل عن القضية وتتعرض «نيللي» لنوع آخر من التحرش السمعي أثناء تسويقها لبعض المنتجات بالتليفون فتتلقي الكثير من الدعوات المسيئة والعبارات الخادشة للحياء. وعلي الرغم من تحفيز مديرها علي الاستمرار إلا أنها تترك العمل غاضبة.

يتوصل المقدم  «عصام» بالبحث المدقق وجمع الأدلة إلي توصيف القضية، وأيضًا للتعرف علي أطرافها، وحين يستدعي الشابات الثلاث إلي مكتبه يحذرهن بحزم ويصرفهن برفق.  في ساحة القضاء يكون للواقعة شأن آخر إذ يعاقب المتحرش بنيللي بالسجن، لتكون أول قضية من نوعها تنظر أمام المحاكم، وبناء عليه يصدر قانون يجرم التحرش بالأنثي ويحدد عقوبة التحرش بثلاث سنوات.

يقدر للمخرج أن تخير مشكلة حقيقية تحدث كل يوم في المجتمع وحلل دوافعها موضوعيًا وأرجأها للأزمة الاقتصادية وتوابعها التي تعتصر المجتمع كما أبرز المعاناة النفسية التي تعانيها الشابات المصابات بفعل التحرش. كل ذلك عبر عنه المخرج بأسلوب حيوي رصين في سياق سلس وإيقاع متواز.

تبقي ملاحظتان علي السيناريو أولاهما أن تأخر ظهور الضابط إلي منتصف الفيلم قسم الفيلم إلي قسمين وكان ينبغي أن يزرع الضابط في مستهل الفيلم ليتم تفعيل دوره حين يكلف بالمهمة والملاحظة الثانية والتي في تقديري تقوض دعائم القضية وهي الخاصة بمشهد الشابة المحجبة التي تستكين لفعل التحرش وسط الزحام ذلك المشهد الذي يقلب المعالجة رأسًا علي عقب طالما أن هناك حالات استثنائية لا تعترضن علي التحرش ولا يفوتنا أن نحيي الفنانة بشري علي إقدامها لإنتاج فيلم يطرح قضية جادة ولا تغازل شباك التذاكر.

جريدة القاهرة في

25/01/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)