حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

"الحياة ولا شيء أكثر" استعادة لكيارستمي في "متروبوليس" تدعونا الى إعادة اكتشاف مخرج "طعم الكرز"

سينما الألم الخبيث وهوس الشكل تضع ايرانيين في فخّ مطبق

هوفيك حبشيان

يبدو أن مصير كلٍّ من عباس كيارستمي وجعفر بناهي متلازم. فبعدما تتلمذ الثاني على يد الأول، اضطر المخرج الايراني الأكثر شهرة حول العالم، بعد سنوات من سلوك كل واحد منهما طريقاً خاصاً به، أن يتنازل ويخضع للعبة لا يستسيغها وهي اعلان موقف. انه تضامن ديبلوماسي مع زميل، أكثر من كونه عطف والد على ابنه. هذا الموقف المتضامن مع تلميذ له يتعرض لظلم لم تعش مثله الا قلة من الفنانين، هو الشيء الذي امتنع عنه كيارستمي طوال حياته، ولم يستعن بأي وسيلة إدانة أو شجب في ايٍّ من افلامه، لا بل كان يتعمد دائماً أن يكون خطابه قائماً على الاستعارة، وهذا ما صنع مجده وجعله مؤلفاً استثنائياً.

لجأ كيارستمي الى هذه اللغة ليس فقط حباً بها، بل خشية من أن يصطدم بسلطة يعرف جيداً انها لا ترحم. وها ان طريق الاثنين يلتقي في مهرجان كانّ الأخير في ايار العام الماضي، واحد يحضر والآخر يغيب لأسباب تتعلق باعتقاله في ايران، فيضطر كيارستمي تحت ضغط معنوي لا سابق له، أن يطالب، وللمرة الأولى في حياته، بإطلاق سراح مخرج صار "عدو الثورة الايرانية" لأنه تجرأ على أن يفكر في انجاز فيلم مستوحى من الحوادث التي تلت انتخابات الولاية الثانية لأحمدي نجاد. لم يكن في مقدور كيارستمي، وهو في المهرجان الفرنسي وفي حضور الآف وسائل الاعلام، أن يتجاهل تلك الحقيقة وكأن شيئاً لم يكن، تلك الحقيقة المرة التي منعت مواطنه من أن يسافر الى كانّ للمشاركة في عضوية لجنة التحكيم. في حين نقلت بعض الألسنة أن كيارستمي لام بناهي في مجالس خاصة لكونه يتحرش بوكر دبابير وهو في غنى عن فعل ذلك.

كيارستمي غير مسيّس. في المقابل لا يمكن سينماه الا ان تكون مسيسة. في حوار سابق لنا معه، قال: "بعضهم يميل الى رؤية كل شيء من خلال النافذة الضيقة لعالم السياسة. في النتيجة انهم يتوقعون تلقي رسائل وهو الأمر الذي يزعجني". أما المفارقة الكبرى فهي أن جولييت بينوش التي اضطلعت بدور البطولة في أحدث افلام كيارستمي، "نسخة طبق الأصل"، الذي عُرض في تلك الدورة، هي التي بدت صاحبة الحماسة الكبرى في مجال الدفاع عن بناهي، مستدرجة كيارستمي الى هذا الفخّ "القاتل" في المؤتمر "الكانيّ" الشهير.

اليوم، يلتقيان مجدداً في "متروبوليس"، من خلال افلامهما، في حدث مشترك، "الحياة ولا شيء أكثر"، ينطلق الأحد المقبل ويستمر الى 26 كانون الثاني، علماً ان افلام بناهي الثلاثة المختارة لهذا الحدث تُعرض بدءاً من 24 الجاري (لنا عودة اليها في صفحة الخميس المقبل). سينما الصمت والتأمل والغنائية مقابل سينما ترفع القبضة وتضج برغبة تغيير بلد يحاكَم فيه فنان على نياته. الصورة قاتمة والظرف حالك في كلا المعسكرين، لكن لكلٍّ من المخرجين اسلوبه في التعامل مع الحدوتة الايرانية.

في البدء، كان المشروع يقتصر على تقديم استعادة لكيارستمي في مناسبة اطلاق العرض التجاري لتحفته الأخيرة "نسخة طبق الأصل" الخميس المقبل، لكن أمام الحكم الذي صدر في حقّ بناهي الشهر الماضي (ست سنوات سجناً و20 سنة منعاً من العمل)، لم يكن من الممكن تطبيق "سياسة النعامة". فارتأت ادراة "متروبوليس" (أمبير ـــ صوفيل) اشراك ثلاثة أفلام لبناهي ضمن استعادة كيارستمي. فكرة محببة اذا اخذنا في الاعتبار أن افلام كل منهما تختلف عن افلام الآخر في نظرتها الى ايران، وايضاً في نظرتها الى السينما. ففي حين ان الاهتمام الغربي منصبّ على الجانب السياسي غير المرئي في اعماله، أبدى كيارستمي طوال مسيرته الفنية اهتماماً بالمجتمع الايراني خارج التجاذبات السياسية وتأثيراتها المباشرة، الا اذا عدنا الى شعار الستينات الذي كان يعتبر أن كل شيء هو فعل سياسي.

قبل التطرق الى بعض جوانب سيرة كيارستمي السينمائية، لنعد افتراضياً الى كانّ، اي الى آخر محطة من السيرة تلك، حيث قدّم كيارستمي قبل ثمانية أشهر فيلمه الأول المصوّر خارج ايران (اذا استثنينا الوثائقي "ا ب ث أفريقيا"): "نسخة طبق الأصل". هو الذي كان وعد بأن لا يشارك في المهرجانات الا خارج المسابقة، عاد مع هذا الشريط الى السينما الكبيرة التي كان غادرها طوال العقد الماضي لمصلحة تجارب صغيرة جعلته مخرجاً تجريبياً يريد فهم حدود الصورة، أخطارها وطاقاتها الهائلة. يتضمن "نسخة طبق الأصل" قدراً هائلاً من الثراء ويقوم على طبقات عدة من القراءة. كان ينبغي لكيارستمي ان يذهب الى ايطاليا لتصويره. لم يكن ممكناً صنعه في ايران لأسباب جوهرية تتعلق بالديكور واللغة وطبيعة المادة المصورة. لكنْ، أن يذهب مخرج مثله الى توسكانا للتصوير، لا يعني نفياً ولا بحثاً عن وطن جديد.

قبل هذا الفيلم لم يستعن كيارستمي يوماً بنجمة سينمائية. جولييت بينوش كانت تبدو منذ البداية جزءاً أساسياً من المشروع، لأنها لا تقوم في الفيلم الا بلعب دور جولييت بينوش، الممثلة الكوزموبوليتية التي لعبت في أكثر من بلد وفي ادارة سينمائيين من جنسيات مختلفة. هذا المشروع طرحه كيارستمي بدءاً، على شكل فيلم تدور حوادثه في بيروت ويكون من تمثيل ايزابيل أدجاني وينطق بلغات ثلاث. ثم راحت الفكرة تنضج في رأسه لينتقل مع التحولات الطارئة في النصّ الى توسكانا.

ليس الشريط الا لقاء بين رجل وامرأة لا نعرف اسميهما، يتيح كيارستمي لهما مناسبة للكلام والبوح، مع المحافظة على طريقته في التأطير والمونتاج وروحانياته الايرانية. هذه المرأة تقيم على ارض غريبة، وهي تشكو من قلة اهتمام زوجها الغائب دائماً. لعبة كليشيهات ودال ومدلول وتزوير وحقيقة ومظاهر خادعة... هذه كلها يتجول فيها كيارستمي مركّزاً على فكرة سوء الفهم المستمر بين الجنسين.

غني عن القول إنه من أجل ادراك افضل لهذا العمل، ينبغي ان ندرك جيداً كل ما تتكون منه سينما كيارستمي. فلغته السينمائية مزيج من الشفافية والواقعية، لكن الغنائية والحس الشاعري هما اللذان يحتلان الصدارة. مقتنعٌ الاقتناع كلّه بأنه لا يمكننا فصل الشعر عن الحياة. "فالشعر يعوم بها"، يردف هذا الذي يبلغ اليوم السبعين من العمر، وقد اضطر لاسباب طبية ان يخفي عينيه خلف نظارات سوداء تحجب عنهما النور المزعج. يراقب العالم من خلف ستارة، خشية أن تتسلل الشاردة والواردة الى بصيرته التي هي مملكته وأغلى ما يملكه. مثقف من الطراز الرفيع، لا يستشهد في معرض الحديث عن الفن السابع بأقل من عمر الخيام وفوروغ فرخزاد، ولا ينفي مراجع في السينما الاوروبية مارست تأثيراً مؤكداً في لاوعيه: روسيلليني، بروسون، روزي وآخرون. الرجل كاتم أسرار سينمائية، مقلّ كلاماً، واذا سألته عن مدلول السلحفاة في "سوف تحملنا الرياح"، فلا تتوقع منه جواباً قاطعاً.

اذا اردتَ معرفة المزيد عن عالمية سينماه، وانهلتَ عليه بالكيف واللماذا، فالجواب الذي ستتلقاه سيكون حتماً: "لا اعرف. قد يكون الرد الأوجز ان اقول لك "بالحظ"، المصادفة المحض اذا كنتَ تدرك ما اتوخى قوله".

احرز كيارستمي شهرته العالمية تقدماً في بداية التسعينات مع "كلوز آب"، وتابعته باهتمام، الصحافة المتخصصة التي لم تتوان عن مدح مزاياه. ونال عمله حق قدره في الغرب اكثر منه في موطنه.

عبقريته التي لا يرتقي اليها الشكّ، كامنة في واقع ان أفلامه تشاهدنا أكثر مما نشاهدها. الزمن السينمائي هو الحجة التي ينطلق منها على الدوام، ويوازي الوقت عنده ما يوازي الـ"ماك غوفين" عند هيتشكوك. في هذا المعنى، من الراجح انه اقرب الى "معلّم التشويق" منه الى تاركوفسكي أو مونتيرو.

أفلامه تصمد في امتحان الوقت. يمرّ الزمن ولا تكسو وجهها التجاعيد. بطله من كل زمان ومكان. لكنه ايضاً من ايران. تراوح شخصياته بين محسن مخملباف (رائد آخر) في "كلوز آب"، والمرأة التي يصعد معها المشاهد في سيارتها في فيلمه - الاطروحة "عشرة". لكنه أيضاً ذلك الانسان "الضعيف" الذي، في "طعم الكرز"، يتنقل بسيارته الرانج روفر باحثاً عمّن يرمي على قبره حفنة من تراب بعد أن يكون أنجز عملية الانتحار بنجاح. لكن هذا الشخص الضعيف يتغيّر في نظرنا في سياق الحوادث المتعاقبة. فجأةً ندعم "مشروعه"، بحيث نتمنى لو كنا قادرين على مساعدته في حفر القبر، لأن ما من شيء في هذه الدنيا، باستثناء رواية عجوز عن طعم الكرز، يستحق عناء الصمود في وجه هذا الموت المغامر الذي لا يقول لنا "الى اين نحن ذاهبون معه".

من خلال الموت، صنع كيارستمي فيلماً عن الحياة. في هذه التحفة الازلية، التي استحق عنها "السعفة الذهب" في مهرجان كانّ عام 1997، طرح كيارستمي الاسئلة الثلاثة الازلية: مَن نحن، من أين نأتي والى أين نذهب؟ عن هذا الفيلم، قال في "النهار" مباشرة بعد العرض الأول للفيلم في كانّ: "اعتقد ان الحياة امتحان، سؤال، وقبل ان نتوصل الى حلّه نستبعد، نغادر العالم. العجوز في الفيلم شاهد على ما اقول. يملك الفهم الأفضل للحياة حين لم يبق له الكثير ليعيش. المنتحر لديَّ لا يمثل انتحاره الشخصي. انه يجسد طرفاً آخر. في معالجتي هذه، الانتحار ليس سوى ذريعة. للحقيقة ابعاد كثيرة. انما في الكذب ايضا جانب من الحقيقة. يتيح الفن للكائن ان يخلق حقيقته بحسب امنياته ومعاييره".

"لو كنت متفائلاً لتوقفت عن العمل"، هكذا يقول كيارستمي، مذكّراً بعبقري آخر، هو انغمار برغمان، التصق به مفهوما التفاؤل والتشاؤم، وقائلاً عنه إنه كان يبحث في العتمة عن نقطة مضيئة، وتلك النقطة المضيئة هي ما جعل عمله ذا صدقية. على رغم خطاب التفاؤل والأمل، الذي كان يكرر بأنه يستحيل عليه العيش من دونه، لبث متشائماً. لكنه فعل ذلك بطريقته الخاصة. والرقابة قادته لأنها سمحت له بابتكار لغة بلورها فيلماً بعد فيلم، ولم تكن علاقته بها عدائية على الاطلاق. "لم نعد نعرف هل نحن نصنع رقابتنا ام تصنعها الرقابة. بالنسبة اليَّ، حتى لو ألغيت الرقابة كليا فسأعمل بالطريقة عينها. في حالتي، لم تلعب الرقابة دوراً قط، ذاك لا يعني ان الرقابة غير موجودة. السينما التي اصنعها ليست في حاجة الى رقابة".

بحث كيارستمي في افلامه حيناً عن الحب أو الموت، وحيناً آخر عن الصفاء وروعة الطبيعة، مع محاولة لا تستسلم لفهم ماهية التواصل المستحيل بين كائنات محكومة بالعزلة. هناك سينمائيون، ومثلهم شعراء وتشكيليون، ولدوا كي يخاطبوا الوجدان العالمي. كيارستمي من هؤلاء، اذ خاطب ما هو حيّ وصارخ، لكن أيضاً ما يخضع لمنطق الصمت الذي عرف كيف "يسدد حسابه" معه عبر تقنية بالغة الذكاء. تحيّرك تناقضاته. أمام هدوئه لا تملك الا ان تحاول الانغماس في غموض طباع تخال انه لا يريد منك الا ان تتركه وشأنه. فمثلاً، لا يتوقف عن تكرار لازمة مفادها ان الموضوعات المتواترة في اعماله عالمية، لكن ليس متأكداً من ان اعماله تحمل تلك الصفة. ومع كل ما تتضمن خلفيتها من قسوة اجتماعية، فحس الفكاهة يطلّ برأسه من هنا أو هناك. "الفن بلا فرح ينحو نحو حتفه"، بحسب نظريته.

يعبّر دوماً عن اعتقاده ان نصف العمل السينمائي يصنعه الذي يتلقاه، لذلك تتضمن أفلامه ثغراً، على المشاهد أن يملأها. لا يخشى الالتباس وسوء الفهم. يتيح مجالاً واسعاً للتفسيرات والاحتمالات. في "سوف تحملنا الرياح" مثلاً، عندما يذهب الزائر الغريب الى النقطة الوحيدة في البلدة حيث وجود إرسال يتيح له التحدث عبر الخليوي، يتكلم مع أحدهم مطوّلاً من دون أن نسمع صوت الآخر. بالنسبة الى كيارستمي، لا مزاح مع هذه الثابتة: قليل من التخيل لا يضرّ المشاهد.

في التسعينات، بلغ كيارستمي قمة المجد. بعد "السعفة"، صارت الصحافة السينمائية ترى فيه إلها حياً. كبر رصيده عند السينيفيليين، ما جعله يطرح تساؤلات حول طبيعة عمله. هذه التساؤلات سرعان ما راحت تنعكس على مساره في سنوات الألفين، وبنتائج متفاوتة، فكان من الطبيعي، والحال هذه، ان يتجه الى تجارب اختبارية عبر الفيديو، الى جانب المعارض الفوتوغرافية والرسم الذي كان يمارسه اصلاً.

انطلق في بحث مثمر عن الرابط بين اللوحة والصورة الفوتوغرافية والفيلم. كتب الشعر وجاب العالم متأملاً جماله وبشاعته من خلف نظاراته السود. هذا التسكع بين الفيديو واللوحة والصورة والشعر، حقق له انفتاحاً آخر على العالم. في تلك المرحلة كان لا يزال ممكنا أن تراه في بلد مثل لبنان. بعدها صار ينتقل تدريجاً الى رمز، تمثال، قيمة. عندما التقيناه في تلك المرحلة في عاصمتنا، سألناه عن خياراته الجديدة، فردّ علينا بالفارسية، وخرجت منه جملة لا بد ان تبقى ماثلة في اذن من يسمعها: "الصورة الفوتوغرافية تمنحني الشعور بأنني مصوّر في كل لحظة، في حين ان السينما تجعلني مخرجاً فقط عندما أقف خلف الكاميرا". اذاً، هذا ما كان يريده كيارستمي: أن يكون رجل صورة في كل لحظة.

هذه التجارب اخذت كيارستمي الى ممارسات راديكالية ("عشرة" ثم "عشرة على عشرة") وأخرى أكثر انسانية مثل "أ ب ث افريقيا". الفيلمان الأولان يشكلان وحدهما اطروحة كاملة متكاملة. أما الثالث، فتتميّز بدايته بوصول رسالة عبر الفاكس، مرسلة الى كيارستمي نفسه من "الصندوق الدولي للتنمية الزراعية"، المنظمة الانسانية التابعة للأمم المتحدة. "أ ب ث أفريقيا" هو الوثائقي الذي لا يُخفي عنّا شيئاً،.حتى الحياة الشخصية للمخرج لا تخفى علينا.

بلغ كيارستمي قمة التجريب مع "شيرين". حقق من خلاله حلمه الأكبر: أن يدخل معاجم السينما كواحد من المخرجين الذين صوّروا فيلماً لا يحصل فيه شيء، لا شيء اطلاقاً.

يصوّر كيارستمي شخصيات وُضعت في فخ مطبق، ولا حيلة لها الا البحث عن منفذ، للنجاة واعادة الولادة ثانياً وثالثاً. لا حياة ممكنة خارج حقل الصورة. يطرح كيارستمي الكثير من الأسئلة، لكن ليس من خلال الفيلم، بقدر ما تأتي هذه الأسئلة على لسان الشخصيات، وتبلغ أحياناً صيغة الاستجواب أو المساءلة.

باعتناء وهوس، يشكل كيارستمي كادرات بديعة، يستخدم الترافيلينغ والبانوراميك، لكن اللقطة البديهية عنده هي تلك الستاتيكية، المنتصبة على قاعدة ثلاثية. بذلك كله يسعى الى توحيد نظرته الى مشهدية ايرانية شاسعة حيث الألم يتغلغل في النفوس كسرطان صامت. السيارة والانتقالات التي تتيحها/ تسمح له بتشكيل اطار في داخل اطار. السيارة هي اللامكان الذي يقول عنه كيارستمي، بقدر من المزاح، بأنه يمكنك ان تستقبل فيه الضيوف والجلوس واياهم ثم تودعهم من دون أن يكون عليك ان ترافقهم الى الباب. مزحة تقول الكثير عن شخصية الرجل!

نفسد براءة اعمال كيارستمي وبساطتها اذا استطردنا في شرحها على نحو أعمق. انه كباراجانوف ولينتش وجون كاسافيتس، لا يقلَد. بساطته ليست جزءاً من المشروع بل المشروع كله، المشروع نفسه. ايقاعه وتناغمه يشكلان الينبوع الذي يغرف منه. عبقرية ما بعدها عبقرية في التزام الدقة والتوازن، في التقاط الجمال والوهم، واستحداث مفردات السينما، علماً ان رجلنا لم يدرس السينما يوماً، بل نما هذا الفنّ عنده بالفطرة وطوّره بالغريزة، وهو لا يخفي انه عمل شرطياً مراقباً لأعمال الطرق اثر فشله في دخول معهد الفنون! فهيّا بنا نُعد اكتشافه في بيروت...

جدول العروض:

الأحد 16: "نسخة طبق الأصل

".الاثنين 17: "المسافر

".لثلثاء 18: "أين منزل صديقي؟

".الأربعاء 19: "كلوز آب".

 () العروض كافة تبدأ الساعة الثامنة مساء. ننشر بقية البرنامج الخميس المقبل.

 ( hauvick.habechian@annahar.com.lb)

 

 

غياب

بيتر ياتس (1929 ــ 2011)

سيد المطاردات كان يفتقر الى التوازن!

ما إن بدأ عامنا السينمائي، حتى وصلنا خبر رحيل المخرج بيتر ياتس عن 82 عاماً. هذا البريطاني الذي لم يُخرج الا فيلماً واحداً في السنوات الخمس عشرة الأخيرة، ظلّ يلاحقه مشهد المطاردة الشهير في فيلم "بوليت" الذي انجزه عام 1968 من بطولة ستيف ماكوين. هذا المشهد ذو الوتيرة العالية، الذي يُعتبر، مع مثيل له في "الشبكة الفرنسية" لوليم فريدكين (ولاحقاً في "رونين" لجون فرنكنهايمر)، أهم مشهد مطاردة بين سيارتين في تاريخ السينما، هو الشيء الذي طرحه كمنفذ جيد وحرفي من الدرجة الاولى، لكن أهميته النسبية أبعد من ذلك بالتأكيد، علماً ان براعته في هذا المجال كانت نتائجها حتمية بالنسبة الى بقية مسيرته الحافلة بالصعود والهبوط.

في المرحلة التي شهدت وصوله الى الاخراج، كانت تسود الحركات النضالية والتغييرية، لكن الفرصة لم تتح له ليكون سيداً في امكانه فضح الدسائس وكشف المستور، دولةً ومنظمات، كما فعل مخرجون يمكننا مقارنته بهم، كسيدني بولاك أو آلان جاي باكولا، سيدني لوميت وآخرين، على رغم ميله الى هذه الظواهر التي عاد ليتناولها في بعض من افلامه اللاحقة. انعدام ثقة المنتجين المغامرين به وضعف الحظ والطموح، وضعته الى ابد الابدين في خانة سينما الأكشن التي لا تحمل عمقاً سياسياً واجتماعياً، بل تتولى تأمين الترفيه الفعال وتعبئة الفراغ.

تعاون ياتس، الذي بدأ حياته المهنية مساعد مخرج في "مدافع نافارون"، مع ممثلين كبار: روبرت ريدفورد وجاكلين بيسيه وبيتر أوتول، ومنح جوليان مور احد أول أدوارها عام 1995 الى جانب بيتر فولك. يلام لكونه طاش سهمه في محاولة إرجاع روبرت ميتشوم الى الواجهة بعد مرحلة عسيرة مرّ بها الممثل الكبير. كان ذلك عام 1973، حين وضع ياتس يده على سيناريو عن رجل عصابات يصير بحكم الظروف واشياً ليحمي حياة المقرّبين منه. تحوّل النص فيلماً قاتماً محبطاً، يفلت من قواعد النوع، عنوانه "اصدقاء ايدي كويل"، لكن الفشل الجماهيري الذي تعرض له كان مؤلماً بالنسبة الى القائمين عليه.

سجلّه السينمائي على قدر من التنوع، مع بعض الميل الى المواضيع الجذابة التي من شأنها ان تأتي بأرباح مادية. كان من الذين فرضوا التصوير الخارجي في هوليوود. في كتابه الشهير، "50 عاماً من السينما الأميركية"، يقول عنه برتران تافيرنييه: "مشكلته انه يجد صعوبة في ايجاد توازن سويّ بين التقنية والمشاعر ثم التمسك بهذا التوازن. لا يعرف كيف يساوي بين الأكشن والانفعال".

أياً يكن، معظم ما نستطيع قوله عن ياتس، هو نفسه نستطيع ان نقوله عن كثر من الحرفيين الأميركيين: فقدان الشخصنة في النظرة الملقاة على المادة المصورة، على رغم ان ياتس كان يختلف عنهم بامتلاكه امتدادات في عمق الايديولوجيا القومية السائدة آنذاك واللاوعي الجماعي. ومع انه عاش وعمل في داخل نظام الاستوديوات الهوليوودية، غير انه كان من الذين جاؤوا بروحية اوروبية سرعان ما تبددت في شبّاك التذاكر

هـ. ح

 

... وتحية الى أحلام محمد ملص السينمائية في بيروت

تحية جديدة من تقديم "نادي لكل الناس" للمخرج السوري محمد ملص انطلقت في "متروبوليس" الاثنين الفائت وتنتهي اليوم الساعة الثامنة والنصف مساء مع عرض أول لآخر اعماله "المهد" الممنوع من العرض.

ملص مخرج مقلّ لكنه مؤثر. درس السينما في موسكو في معهدها الأشهر، شأنه شأن ثلاثة ارباع السينمائيين السوريين. هناك تعرّف الى ذاته، كما يقول في معظم حواراته. تتلمذ على يد إيغور تلانكين. انها مرحلة لا تزال ترافقه الى الآن. يحكي عنها بشغف وحنين. تلك الحقبة تزامنت مع بداية علاقته بالعالم وبالحياة وبمجتمع غير عربي يتميز بخصوصية وينتمي الى التجربة الاشتراكية والى التراث الحضاري السلافي. في المعهد انجز ثلاثة أفلام: "حلم مدينة صغيرة" و"اليوم السابع" و"الكل في مكانه وكل شيء على ما يرام سيدي الضابط". في بداية حياته، لم يكن يحلم الا بالكتابة ويستعدّ ليكون روائياً. في النهاية كتب على الشاشة بكاميراه. عام 1980 دخل المخيمات الفلسطينية ليصوّر وثائقياً. ثم بعد اربع سنوات، كانت الانطلاقة الأهم التي شكلت محطة في سجله: "أحلام المدينة" مع ياسمين خلاط وباسل الأبيض. الشريط حاز "التانيت الذهبي" في مهرجان قرطاج. الحياة الدمشقية اليومية بأسلوب شاعري ذي مرجعية بصرية روسية. حيّ شعبي والحياة المتدفقة من كل اطرافه. مدينة تبحث عن ابطال في مرحلة انتقالية تذهب من الديكتاتورية العسكرية الى أجواء الانتخابات الديموقراطية، أو شبه الديموقراطية. مدينة ترتطم في حلم جديد...

بعد هذا الفيلم، كان على ملص انتظار ثماني سنوات (مروراً بفيلم وثائقي عام 1987 اسمه "المنام")، لتتوافر لديه الظروف لإنجاز "الليل". عودة الى القنيطرة، مسقط المخرج، التي صوّرها مرة أولى في فيلم وثائقي قصير عنونه "قنيطرة 74". هنا اسرائيل واب وذاكرة أم. أفكار مشتتة تتجانس أمام بؤرة ملص، فتوقظ عنده "ملامح من ذاكرة تحمل مذاق السؤال ومرارة الجواب"، كما كُتب عنه في نبذة الفيلم. مرة أخرى ينال "التانيت الذهبي" في قرطاج.

يعبر ملص التسعينات بفيلمين وثائقيين 52 دقيقة، هما "نور وظلال" و"حلب... مقامات المسرة"، وفيلم روائي قصير، "فوق الرمل... تحت الشمس" (يُعرض اليوم السابعة مساء) مقتبس من قصة لغسان جباعي. على خشبة مسرح بلا ديكور، يظهر ممثلون في أزياء المعتقلين ويحملون على أكتافهم القضبان الحديد، ليصنعوا منها قفصاً يحيط بهم من كل الجهات. ثم يظهر داخل القفص المخرج المسرحي ويبدأ معهم بروفا مشهد التعذيب في السجن، لمسرحيته.

ينتظر ملص حتى منتصف سنوات الالفين ليأتينا بـ"باب المقام"، روائي طويل آخر كتب له الموسيقى مارسيل خليفة. امرأة شغوفة بأمّ كلثوم، مما يولد لديها الشكّ بأنها قد تكون عاشقة. هذا يدفع شقيقها واثنين من أولاد عمومها وعمها الى قتلها. يصوّر ملص في هذا الفيلم تحوّل الأغنية شبهة، ويموضع حكايته المؤثرة في أجواء سادت الشارع السوري اثناء استعداد الجيش الاميركي لغزو العراق عام 2003. معظم أفلام ملص هي من انتاج "المؤسسة العامة للسينما" في سوريا، لكن كانت له تجارب مع جهات انتاجية أخرى في اعماله الأخيرة. اصطدم برقابة من نوع نادر جداً، هي رقابة الممول، اذ انجز فيلماً برأسمال اماراتي، لكن ما إن انجزه حتى قرر الممول الاّ يعرضه.

هذا الفيلم هو "المهد" وقرر ملص أن يهديه الى الجمهور اللبناني بنسخة "دي في دي" موجودة في حوزته، قافزاً فوق أسوار الجهة المنتجة (أبو ظبي) وقرارها المجحف، والتي لم تعط اصلاً أي مبرر في شأن المطالبة بعدم السماح بعرضه. لكن ملص يقدّر أن تكون الرسالة السياسية هي التي اثارت قلق المموّل.

 

2010 بالأرقام:

12 في المئة ارتفاع نسبة المشاهدين في لبنان

استكمالاً لما نشرناه في هذه الصفحة الاسبوع الماضي عن جردة العام الماضي التي تضمنت ايضاً لمحة عن واقع حال التوزيع في الصالات اللبنانية، نتابع هنا هذا الموضوع، لكن هذه المرة بلغة الأرقام الأكثر دقة. فكما سبق أن قلنا، عدد الأفلام المعروضة في لبنان كان الى ارتفاع في 2010، لكن النوعية الى تردٍّ، لانعدام الهمّ، ولعدم اهتمام القائمين على السينما في لبنان بسوى بيع الفوشار والمكسرات على مداخل الصالات، وهي صالات اصبح البعض منها، للأسف الشديد، غير صالح تقنياً، لكن هذا موضوع آخر ينبغي تناوله في مرحلة لاحقة. على رغم هذا كله، نرى ان الايرادات ترتفع. فعام 2010 سجّل مجموع ايرادات بلغت 2795000 مشاهد مقابل 2500000 للعام الماضي. اي هناك ارتفاع نسبته 12 في المئة تقريباً. طبعاً، هذا الرقم يشمل كل الصالات وكل الأفلام في كل لبنان على مدار عام كامل. أما اذا دخلنا في التفاصيل فنرى أن 1780000 مشاهد اشتروا بطاقات ليروا افلاماً منتجة او موزعة من احدى شركات المايجرز الهوليوودية (وارنر، فوكس، كولومبيا، والت ديزني، باراماونت، يونيفرسال). أما بالنسبة الى الصالات، فلا تزال "سينماسيتي" في الصدارة، تتبعها صالات "غراند" في مول "أ ب ث". وعلى رغم ان "افاتار" بدأ مسيرته مع الجمهور في نهاية عام 2009 (17 كانون الأول)، متربعاً على عرش البورصة مع 163763 مشاهداً (حقق ربع هذا المجموع في عام 2009)، الا ان "استهلال" هو نجم هذا العام مع بلوغ مجموع ايراداته 83521 مشاهداً (وهو اقبال غير مفهوم مئة في المئة)، يليه الفيلم المصري "نور عيني" مع 76560 مشاهداً. اما في المركز الرابع فنجد "سولت" مع 73656 مشاهداً. من الافلام التي حققت نتائج جيدة: "أليس في بلاد العجائب" و"روبن هود". أما الاعمال التي لم تجد طريقها الى الجمهور اللبناني فلا تعدّ ولا تحصى...

النهار اللبنانية في

13/01/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)