حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

قضية

هل يتحسس أحمدي نجاد مسدسه كلما سمع كلمة سينما؟

جعفر بناهي، ست سنوات سجناً لفيلم لم ينجزه بعد...

هوفيك حبشيان

ما إن خرج من السجن بكفالة مالية قدرها مئتا ألف دولار في بداية الصيف، حتى وجد النظام الايراني وسيلة جديدة لإعادة جعفر بناهي الى خلف القضبان ومعه هذه المرة معاونه المخرج محمد رسولوف. تصعيد غير متوقع من المحكمة الثورية التي قررت سجن بناهي، البالغ الخمسين من العمر، لستّ سنوات، ومنعه من تصوير الأفلام للسنوات العشرين المقبلة، مع حظره من التعاطي مع الصحافة الأجنبية والايرانية للفترة عينها، هذا كله في اطار قضية باتت تشبه تفاصيل رواية "المحكمة" لكافكا، لشدة عبثية الموقف والسخرية اللتين وقع فيهما صاحب "الدائرة". التهمة ذاتها موجهة الى بناهي: المشاركة في تجمعات، والرغبة في انجاز فيلم بروباغندا ضد النظام. طبعاً، الفيلم لم ينجز بعد، لكن النظام الايراني ليس في حاجة الى دليل ملموس. محاكمة النيات كافية ووافية!

كان للخبر الذي جاء في العشرين من الجاري، وقع الصاعقة على الوسط السينمائي، ما جعل شبكة الانترنت تعود وتتناقل من جديد العرائض وتجمع تواقيع المعترضين على هذا القرار القمعي المعيب. كثر لم يصدّقوا! قالوا: "مجدداً؟". لكن يبدو أن هذا النظام الذي يمرغ صيت بلاد وحضارة عظيمتين في الوحل، لا يأبه بما يقال، ويتمادى في مطاردة السينمائيين الذين يعترضون على كل تلك التجاوزات في البلاد باسم المحافظة على المصلحة الوطنية في مواجهة الخطر الآتي من الخارج. أي واحد ليس مع نظام "غوبلز" هذا، هو ضد الوطن وعدوّ له.

حتى كتابة هذه السطور، لا يزال بناهي مع عائلته، حراً طليقاً. لكن أياماً قليلة وسينفَّذ الحكم الصادر في حقه، ويعود الى الزنزانة التي شغلها بين الأول من آذار و25 أيار 2010. ماذا ستفعل دنيا السينما في تلك اللحظة المصيرية، وبأي لغة ستخاطب نظاماً لا يستمع الى أحد؟ لم يعد التنديد كافياً مع شلة لا تؤمن بالديموقراطية بل بإلغاء كل رأي يخالف رأيها. لم يعد فتح صفحات التضامن على الـ"فايسبوك" يجدي نفعاً. المواقف المستنكرة من مهرجانات كالبندقية وكانّ وبرلين (الأخير كان سمّى بناهي عضواً في لجنة تحكيم دورته المقبلة) تنظر اليها السلطة الحاكمة كتواطؤ غير مستحب مع الغرب الذي يريد شنّ حرب على ايران، ما يورّط بناهي في المزيد من التهم أكثر مما ينقذه منها. وفي حين دعا مارتن سكورسيزي الى "حملة عدوانية" ضد هذا العسف، تعاقبت المواقف المتضامنة من كل حدب وصوب، من دون أي نتيجة الى الآن.  

لا شك ان الحملة التضامنية ستزداد حجماً ما إن يدخل الحكم حيز التنفيذ، لكن المزاج العام، هذه المرة، يشير الى انه لا يمكن توقع نتائج كتلك التي حصلنا عليها غداة الحملة في مهرجان كانّ، وادت الى اطلاق سراحه، لأن مسألة الزجّ بالسينمائي الإيراني في السجن، تأتي هذه المرة من مرجعيات عليا، بحسب عباس بختياري، المقرّب من بناهي، الذي يعتبر هذه المحاكمة "كارثة للسينما الايرانية".  وهي فعلاً كارثة، ليس فقط للسينما الايرانية بل لسينمات البلدان القمعية التي لا شك ان المسؤولين فيها يراقبون "التجربة الايرانية" لاستخلاص الدروس المفيدة لهم ولوجودهم الثقيل فوق رؤوس الناس.

الرسالة الأكثر وضوحاً، يريد النظام الايراني توجيهها من خلال "قضية بناهي" الى أهل السينما، هي القول ان ما من صوت يعلو فوق صوته، وعلى كل مخرج يريد انجاز فيلم أن ينضوي تحت لواء هذه السلطة. أمثال كيارستمي، يواصلون الضحك على ذقون السلطة بلغة سينمائية راقية يستعصي على الرقابة المسبقة فهمها. مجيد مجيدي يمشي مع الحائط. أبو الفضل جليلي ينجز كوميديات تافهة غير جديرة باسمه. أمير نادري انخرط في وسط المقامرين في لاس فيغاس ولا يريد أن يسمع شيئاً عن الوضع الايراني. محسن مخملباف يقود حملة على النظام من خارج ايران. أما بناهي فيقول انه لا أحد سيجبره على مغادرة البلاد، حتى لو كانت الأيام التي سيمضيها في السجن، وقائع موت معلن. "قبل أن يشاهدوا الفيلم، يكونون قد اتخذوا قرارهم... لن اسمح لهم بالمساس بأفلامي لأنها لن تعود أفلامي، هذا يعني ربما أنني سأضطر الى اعتزال السينما". هذا ما تنبأ به بناهي عام 2004...  في انتظار معرفة ما سيؤول اليه مصير مخرج لم تشهد السينما مثيلاً له منذ قضية يلماز غونيه ومعاناته في السجون التركية الحقيرة، نسأل: هل يتحسس محمود أحمدي نجاد مسدسه كلما سمع كلمة سينما؟   

رفيع بيتس في رسالة مفتوحة الى الرئيس الايراني: لماذا ثورتنا اذاً؟

"عام 1979 حدثت ثورة. الذكرى الـ32 لتلك الثورة تقع في الحادي عشر من شباط 2011. اذكّركم بهذه الوقائع لأنني أشعر بأنكم نسيتم أسبابها. قد اكون على خطأ، أو عليكم ربما أن تشرحوا موقفكم. قد يكون لديكم تعريفكم الخاص لثورتنا... في هذه الحال، اعتقد انه يجب عليكم الردّ على السؤال الآتي: "لماذا حصلت تلك الثورة عام 1979؟".

لقد آن الآوان لتوضيح أسباب اضطهادك للسينمائيين ودوافعك خلف رغبتك في التضحية بحياة وبمسار مهني باسم الثورة... أو ربما لم يكن سؤالي السؤال المطلوب: الا يتعلق الأمر ببساطة تامة بإعادة انتخابك؟

جعفر بناهي، واحد من أهم السينمائيين الايرانيين، صديق أكنّ له احتراماً كبيراً واعجاباً، مسجون حالياً على يد حكومتك والتزاماً لقانونك. انه محكوم بست سنوات من السجن لأنه اراد أن ينجز فيلماً، ولم ينجزه بعد. ست سنوات سجن لأن فكرة خطرت في باله. يضاف الى هذا، منعه من مزاولة المهنة لمدة عشرين عاماً، ومنعه من الخروج من ايران. محمد رسولوف، مخرج شاب آخر، محكوم ايضاً بالتهمة نفسها. جريمته: العمل مع جعفر بناهي.

عوقب الاثنان لمجرد انهما اهتما بمواطنيهما. عوقبا لأنهما رغبا في فهم ما حدث في حزيران 2009. عوقبا لأنهما اهتما بالحيوات الضائعة الناتجة من الانتخابات. هل يجب أن أذكّركم بأن الترشيحات كانت مشرعة من النظام؟ الخيارات كانت واضحة وقانونية. جعفر بناهي ومحمد رسولوف اتخذا قرارهما بالوقوف الى جانب الأكثرية في صناعتنا السينمائية. نتجت من هذا، حركة الخضر. هذا حقّ اعطي لنا.

- هل هناك مشكلة في الرغبة في فهم سبب موت اشخاص خلال الانتخابات الايرانية الاخيرة؟

- هل تعتقد ان الناس يجهلون العنف الذي اثارته نتيجة تلك الانتخابات؟

- هل جريمة أن يرغب جعفر بناهي في إنجاز فيلم آخر؟

- هل تخافون من وجهة نظر مخالفة لوجهة نظركم؟

في هذه الحال، أرجو الردّ على السؤال الآتي: لماذا ثورتنا اذاً؟".

(•) رفيع بيتس مخرج إيراني من مواليد 1967 أنجز أخيراً "الصياد" الذي عُرض في مسابقة مهرجان برلين السينمائي. 

نقد

محمد صالح هارون، رجل يصرخ: الانسان هو صخرة أفلامي

وصل المخرج التشادي محمد صالح هارون الى بساطة معبّرة جداً في تثبيت ركائز الحكاية في أفلامه. فهو من الذين يؤمنون بأن إخبار القصة عبر الصور اهمّ من إخبارها بالحوار. كونه فرنكوفونياً ومقيماً في باريس منذ سنوات، وبما ان بلاده خضعت للاستعمار الفرنسي، وبما أنه أتمّ دراسته في بلد المستعمر، تأثر كثيراً بالافلام الفرنسية. مع ذلك فهو مقتنع بأن الفرنسيين كثيراً ما يستوحون افلامهم من المسرح حيث يكثر الكلام، بعكس الافلام الروسية التي تركّز على الصورة. اما هو فلديه رغبة عالية في الاقتصاد في الحوارات لكي يعطي المشاهد فرصة اختراع بعض ما ليس موجوداً في الفيلم على نحو مباشر. أسوأ ما عنده، هو المخرج الذي يلقم المشاهدَ القصة، كما لو كان طفلاً جاهلاً.

يأتي هارون من بلاد، هي تشاد، دُمّرت فيها صالات السينما والبنى التحتية كافة، فبات مصيره ان يخرج افلاماً "متنقلة" تسافر وتعرض في البلدان التي تدعى اليها، وهذه حال كثيرين يعرفهم صالح. "احياناً، تسنح لنا الفرصة بعرض افلامنا في بعض البلدان"، يعلّق صالح، مسلّماً بأن هذا مصير الافلام المتنقلة. فهي تتوقف في البلدان التي تفتح لها المجال، وحالياً هذه البلدان هي البلدان الاجنبية. هل الامر مرتبط بواقع ان فرنسا تنتج افلامه؟ "نعم، صحيح ان البلدان الاوروبية انتجت فيلمي ولا سيما فرنسا، لكن ليس هذا السبب الذي يجعل منه فيلماً "متنقلاً"، يقول في ردّ قاطع.

فيلمه المعروف، "باي باي أفريقا" (1999)، مهّد له الطريق. "أبونا" (2002) اطلقه. و"دارات، موسم جاف" (2006) كرّسه كمخرج مؤلف بعدما نال عنه جائزة "تنويه النقاد" في مهرجان البندقية. أما "رجل يصرخ" فكان ردّ اعتبار غير معلن الى سينمائي يروي المعاناة الافريقية وأوجاع قارة، من دون استدرار عواطف أو "اكزوتيكية" مملة يقع فيها أحياناً مخرجو القارة السوداء. وطبعاً، لم يكن عرضه في مهرجان كانّ، حيث نال جائزة لجنة التحكيم، الا تتويجاً لسينما فقيرة "محمولة على الظهر"، ولا سيما ان هذه السينما الافريقية كانت قد غابت عن المسابقة الرسمية لأهمّ مهرجان في العالم، منذ 13 عاماً.

هناك نوعان من المخرجين: بعضهم يستوحي من الحياة وبعضهم الآخر من السينما. أما صالح فيستقي أفكاره من الانسان بتناقضاته وانسانيته. هذا الانسان يجده في كل مكان، في اللقاءات العابرة والاسفار.

المهم بالنسبة اليه هو ان يتمكن من التأثير في الناس لأنه بكل بساطة يمحو الديكور والجغرافيا ويتكلم عما يتجاوز المكان والزمان الفعليين. الانسان بالنسبة اليه هو الصخرة التي يبني عليها سينماه.
استوحى هارون عنوان فيلمه من جملة لإيميه سيزير تقول: "رجل يصرخ ليس دباً يرقص". تنتقل فكرة الصراخ الى الفيلم كعدوى. تلتصق به ليصبح الفيلم برمته عبارة عن صرخة. الحرب الأهلية التي عرفتها تشاد تتربص بالفيلم. لا يهتم هارون كثيراً بها قدر ما يهتم بالنحو الذي تركت فيه هذه الحرب بصماتها في جلود الناس. نشعر بسنوات الرعب والألم في أقل وحدة تصويرية. في "رجل يصرخ" يعود هارون مرة رابعة الى هذا الانسان الذي يتحدث عنه. انه رجل في الستين يعمل كمراقب حوض في احد الفنادق الفخمة. يأتي اليوم الذي ينتقل فيه من وظيفة يمارسها منذ ثلاثة عقود الى العمل بوّاباً للفندق نفسه، ويساهم هذا التغيير في تسلّم ابنه مهام مراقبة الحوض. لكن هذه الاستمرارية العائلية والأخلاقية ستنقلب رأساً على عقب عندما ينزع عنه الابن اللباس المدني ليضع البزة العسكرية بغية الرحيل الى الجبهة...

ما سيحصل بدءاً من تلك اللحظة وحتى نهاية الفيلم، يسحق القلب. علماً ان هارون يتعامل مع الحوادث بحسية وذكاء يجعلانه حليف السينما الكبيرة التي ترتكز على بسيكولوجية الشخصية وليس الحدث في ذاته. هناك وعي في نظرة المخرج ازاء ما يصوّره. وعي ينمّ عن ادراك بأن الغضب لا يفيد، وبأن المسألة دائماً أكثر عمقاً وتعقيداً مما يريه الفيلم. الحرب لا يعالجها هارون بتأثيراتها المباشرة، بل برمزية تجعل النص يخرج عن محدودية المكان والزمان. هذه الرمزية تجد مداخل كثيرة الى الفيلم، حيناً من خلال الراديو وحيناً آخر من خلال هذه الفعلة التي يقوم بها الاب وهي التخلي عن وظيفته لمصلحة ابنه. ما يصوّره هارون هو عنف داخلي لا ينفكّ يمسك بكل ضلوع الفيلم، حتى الانهيار العظيم. أما العلاقة بين الأب والابن، فهي النقطة الوجدانية الاقوى، ينطلق منها المخرج ليثبت كم ان الصمت، صمت الأب عندما يصبح الابن بعيداً عنه، أبلغ وأقوى من كل أنواع الصراخ.

( hauvick.habechian@annahar.com.lb

نقد

"غابة نروجية" لتران آن هونغ

قــصـــــيـــدة يــابـــانــيـــة

عُرض في الدورة الأخيرة من مهرجان دبي السينمائي واحد من أهم افلام هذه السنة، "غابة نروجية" الذي شارك ايضاً في مسابقة مهرجان البندقية. يقتبس تران آن هونغ رواية الياباني الشهير هاروكي موراكامي التي بيعت بالملايين لدى صدورها، في دراما رومنطيقية تبلغ مدة عرضها ساعتين وربع الساعة. فيلم حميمي، يترك للمشاهد المجال ليتأمل في الطبيعة البشرية وتناقضاتها المؤلمة، وكذلك حاجتها الى الحلم والحب.

في أواخر ستينات القرن الماضي، تنشأ قصة حبّ بين المراهق تورو وناوكو، وهي حسناء انطوائية بعض الشيء. بيد أن العلاقة لا يمكن أن تكون سوية بينهما لأنها مرتبطة بموت صديقهما المشترك انتحاراً. كل من الاثنين يتعامل مع هذه الخسارة على نحو مختلف، لكن يبقى طيف الموت في كل مكان يحلاّن فيه.

المخرج الفرنكو فيتنامي لا يختار السهولة. عالمه مفعم بالجمال ولا يتوانى عن ادخالنا اليه من بابه العريض. مع "الغابة النروجية" تتخذ عبارة "سينما المؤلف" قيمتها الحقيقية. كل تفصيل له مكانه الوجداني والانفعالي في هذا الفيلم. طبعاً، نحن أمام لغة سينمائية آسيوية مئة في المئة (انتاج ياباني)، سواء في المشهدية أو في طريقة معالجة الشخصيات. لكن العنصر الاساسي الذي يعطي الفيلم جماله هو الاسلوب الهادئ الذي يتبناه المخرج للتعبير عن الحبّ، اذ يرتفع به الى اسمى ما في الوجود.

على انغام مقطوعات فرقة راديوهيد التي تولت الموسيقى التصويرية لهذا الفيلم، يؤلف آن هونغ سمفونية سينمائية تخاطب جمهوراً عالمياً بمحلية منعزلة في وسط الغابات التي تتيح للنص أن يكتسب ميثولوجيا ما. واقع ان الفيلم يدور خلال تمرد الطلاب عام 1967، يمنح النصّ معاني اضافية، علماً ان آن هونغ لا يبحث عنها، لكن الأشياء والمدلولات تأتيه تدريجياً لتحتل المساحة التاريخية لنصّ يبقى مفتوحاً على أنواع القراءات كافة. البُعد التاريخي للفيلم مهم، لكنه محض خلفية، لأن النص مشيّد على فكرة سرقة الشخصيات من محيطهم واعادتهم الى بيئة جديدة، بغية الدخول في معاينة الصفاء الروحي والانساني.

يعبق الفيلم برائحة الحنين وبلحظات شاعرية، لا سيما تلك المشاهد المتصلة بالعلاقة الغرامية. يعتب بعضهم على آن هونغ لأنه يولي الأهمية الى الجماليات المشهدية على حساب المضمون، لكنه على الاقل يتعامل مع هذا الجانب بصدق واطلاع وحرارة شديدة، وهذا التعامل يجعل من كل حركة كاميرا قصيدة. الممثلان رينكو كيكيشو وكينيشي ماتسوياما (شاهدناها في "بابل") يبرعان في تجسيد المراهقة التائهة بين فيض المشاعر والنزوع الى المنطق العملي، ويساعدان الفيلم في التحليق عالياً في سماء ملغومة بألوان الحرية. 

خارج الكادر

"وهران 2010": مهرجان لكمّ أفواه الأعداء!

حتى العام الماضي، كان مهرجان دبي يدأب على اختتام سلسلة المهرجانات العربية التي تبدأ مع ابو ظبي في تشرين الأول. هذه السنة، تولى مهرجان وهران هذه المهمة. بعد تأجيل موعد انعقاده من الصيف الى الشتاء، تمخض هذا الحدث الهجين عن دورة ثالثة، تشكلت ملامحها بين ليلة وضحاها، وأقل ما يمكن القول فيها انها عُقدت لكمّ أفواه المنتقدين الذين اعتبروا ان المهرجان الجزائري المنظم في رعاية رسمية، ذهب مع الرياح السياسية المتغيرة في بلاد لا تزال تعاني خللاً حقيقياً في التعامل مع السينما. هذا المهرجان الذي لا يعرف الفرق بين الفنّ السابع والتلفزيون، ولا بين مغنّي راي ومخرج أفلام وثائقية، عاد ليثبت أن مشكلة الكرة التافهة التي نزلت ببلدين عربيين الى القعر لا تزال عالقة في حلقه. كأيّ لقمة كبيرة يستعصي عليها المرور من الحلق الى المعدة.   

لم احضر الا دورة واحدة من المهرجان، وهذا في رأيي أكثر من كاف. آنذاك اطلقتُ على بدايات وهران الطبعة صفر، كونها شهدت ولادة قيصرية صعبة جداً في مناخ سياسي واجتماعي واخلاقي خانق لا يزال ينظر الى السينما باعتبارها ضيفاً ثقيلاً على بلد يعاني التعتير والعوز وظروف العيش البائسة. نتيجة هذه العقلية السائدة، يشعر المرء كأنه هنا لينتزع لقمة الجزائري من فمه. هكذا استيقظنا في الصباح التالي لحفل الافتتاح لنتصفح جريدة محسوبة على تيار اسلامي متشدد، نشرت صورة على الصفحة الاولى لرئيس المهرجان، الحمراوي حبيب شوقي، تريه كأنه في حال من السكر والنشوة. وكانت الصورة مصحوبة بعنوان يدين المهرجان ويعتبره مكاناً للخليعة والفسق.

الحمراوي هذا، قبل ان يُقال من منصبه كأي اداري يتلقى الأوامر من السلطة المتحكمة في كبير البلاد وصغيرها ويصبح سفيراً للجزائر في رومانيا، كان رئيساً للمهرجان يضع قبعة أميركية عريضة تغطي صلعته وينتعل احذية ملونة على الموضة. قيل عنه انه اصغر وزير في تاريخ الجزائر لقربه من السلطة. وشغل ايضاً منصب مدير التلفزيون الجزائري، لكن اللافت في الرجل الاربعيني انه لم يتصرف كأشخاص يصلون الى منصب مهم في دولة قمعية. كان متواضعاً حدّ اننا رأيناه يشرف على عملية صعود الضيوف الى السيارات ونقلهم الى الحفلات الليلية التي كانت تجري خلال المهرجان.

على ذكر الحفلات، فهي كانت تحتل المتن وليس الهامش في مهرجان وهران. كانت الصالات التي تفتقر الى الشروط التقنية الأبسط، فارغة من المشاهدين وحتى من الضيوف انفسهم. أما السهرات الليلية فهي أمكنة كان يجتمع فيها الكلّ. الحيّز المعطى للترفيه كان أوسع من المساحة المعطاة للسينما. أما التنظيم فحدِّث ولا حرج، وهذا لا يلغي حفاوة استقبال الجزائريين وكرمهم الذي لا حدود له. كنا ننتظر ساعات طويلة ليتحرك الباص، وكل شيء كان يجري وفق الايقاع الافريقي البطيء. وكان يجري الغاء عروض وندوات من دون اعلام اصحاب الشأن، وتحدث أشياء كثيرة لا تحصل الا في مهرجانات مثل القاهرة أو قرطاج. فعلى سبيل المثال، كان لكارلوس شاهين في احد الأيام مؤتمر صحافي حول مشاركته في فيلم "أطلال" لغسان سلهب. ذهب الممثل الى المؤتمر ولم يجد أحداً، لا بل كان في انتظاره أحد غوريلات الأمن. وفي إحدى المرات الأخرى، وخلال وجودنا في المهرجان، قام الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بزيارة لوهران، فأقفلت الشوارع لتسهيل مروره واستقبال الحشود الغفيرة الذي كانت في انتظاره. اعاق هذا الأمر عملية العبور من الفندق الى صالة السينما. من كان ذهب الى الصالة في الصباح المبكر لم يستطع العودة الى الفندق، ومن لم يخرج من الفندق ظلّ عالقاً بين جدرانه. وفي المساء، طُلب من الجميع وبنوع من اصرار يذكّر بالدعوات الى "فنجان قهوة"، أن يشاركوا في الحفل الرسمي الذي يقام على شرف الرئيس! على رغم هذا الاقحام السمج للسياسة في الفنّ، وجد السيد الرئيس من يتملق له، ليس من مجهولي الهوية بل من صحافيي الصفحات الفنية في مجلات تسلع المرأة، وصلوا الى هنا بمحض المصادفة.

طبعاً، المنافسة غير آدمية بين المهرجانات العربية، لذا لم تتوان الادارة في وضع الأموال اللازمة لتحقيق المهرجان على أكمل وجه. استؤجر "تشارتر" خاص لنقل الضيوف، الذين استضيفوا في فندق "شيراتون" قبل يومين من موعد بدء المهرجان، وكل ما يعجب خاطر الصحافيين المندسين الذين ينقلون البيانات الصحافية بأخطائها اللغوية. لكن الخبرات كانت مفقودة والنية غير سينمائية، وانعدام الحرية والصالات والسينيفيلية وطغيان الفوضى وعدم امتلاك الجزائر تقليداً مهرجانياً، نسفت الأمل القليل الذي كان يتحدث عنه الحمراوي بحماسة حين تسلم مهامه. رغبة المنظمين في التأكيد أن الجزائر ليست فقط بلد الارهاب والتقاتل الجزائري – الجزائري، لا تصنع تظاهرات ثقافية حقيقية لسوء حظ من أعتقد ذلك! فالمهرجان أخطأ في امكنة كثيرة، بدءاً من منح ابطال السينما المصرية الحيز الأكبر من الاهتمام والخلط المعيب بين ناس التلفزيون وناس الشاشة الكبيرة وصولاً الى اعطاء أمير العمري جائزة افضل مقال عام 2009 مصحوبة بمبلغ خمسة آلاف دولار لم ينلها يوماً. وسمعت من مصدرين على الاقل أن هذه حال فائزين آخرين ايضاً ظلت جوائزهم وهمية.

عام 2010، تغيرت الادارة، وتسلم فرنسيون مهام التنظيم، لكن ما وصلنا من المهرجان لا يقول خيراً. فأكثر ما يثير الذعر، هو وقوع المهرجان في فخّ الغريزة البدائية، مع قرار مقاطعة السينما المصرية وناسها. طبعاً، بعد ما حصل بين البلدين من شتائم واهانات متبادلة وردّ للجوائز، يستحق بعض ناس تلك السينما التي تعيش على أمجاد الماضي، رد فعل كهذا، لكن كان على ادارة المهرجان ان تترفع وألاّ تنزل الى ذلك المستوى اللاسينمائي. في النهاية، فإن ما يجمع البلدين أكثر مما يفرقهما، والزلة الأخلاقية لا يمكن ان تصلح بزلة أخرى. الا اذا كانت هذه الزلة تعبّر عن الوجه الحقيقي للعلاقة بين البلدين، والباقي ليس الا زيفاً ونفاقاً.

ثم، لا افهم هذا الاصرار عند المهرجان على التعامل مع السينما بغير ناسها: الكاتب رشيد بو جدرا رئيساً للجنة التحكيم، والى جانبه سوزان نجم الدين التي اعتذرت لأسباب شخصية وجيّرت صوتها الى آخر! هذا كله يكشف عن تردي مهرجان يصرّ على العيش، لكنه يستخدم اساليب الموت. في اتصال مع المخرج السوري الشاب جود سعيد، اخبرني ان رئيس لجنة التحكيم خرج من فيلمه "مرة أخرى"، المشارك في المسابقة، بعد مرور وقت قصير على انطلاق العرض. عندما اعترض على هذا السلوك، جُبه برسالة ذات نبرة مخابراتية تقول له الحضور الى مكان معين في ساعة معينة. ثم تم ابلاغه بأن اللجنة ستمنح جائزة أفضل ممثل الى الذي لعب دور الجنرال في فيلمه، ولكن عليه حضور حفل الختام، والا فإن اللجنة ستغيّر رأيها وتمنح الجائزة الى ممثل آخر! أما كوليت نوفل، صاحبة "مهرجان بيروت السينمائي"، العضو في لجنة التحكيم، فقالت لسعيد: "أنت سوري، فلماذا تتدخل في الشؤون اللبنانية؟".

هـ. ح. 

النهار اللبنانية في

30/12/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)