حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

عامٌ ينتهي ويعود سؤال «ماذا أمام السينما العربية»

مــن أيــن يأتــي الجديــد؟

نديم جرجورة

غداً الجمعة، ينتهي العام الحالي. لن تتبدّل أحوال البلد والدنيا كثيراً. إيجابياً على الأقلّ. الأمور المفرحة نادرة الوجود. في الحياة اليومية كما في الحراك الثقافي والنشاط الفني. في السياسة، السوء طاغ. في الاقتصاد والإعلام والأمن أيضاً. غداً الجمعة، ينتهي العام الحالي. هذه لحظة سنوية، اعتاد كثيرون التوقّف عندها لإلقاء نظرة أخيرة على ما جرى. للتمعّن قليلاً بما سيجري. اللحظة مناسَبة عادية لاستعادة شريط الأحداث السابقة. والاستعادة، إذ تفتح أفقاً متواضعاً أمام المرء لتبيان شيء من المقبل إليه في العام الجديد، تُصبح قراءة نقدية في الراهن.

المدى الجغرافي للاستعادة النقدية واسعٌ. العناوين أيضاً. أشكال التعبير وأنماطه ونماذجه السيئة والحسنة. السينما العربية لا تزال مرتبكة. هناك أفلام تمنح المهتمّ أملاً بـ«نهضة جديدة»، وهناك أفلام تعكس رغبة دفينة في اعتماد مقولة «نعي حاسم». معادلة، صيغت على شكل تساؤل نقدي، طرحها الناقد السينمائي اللبناني إبراهيم العريس في مقالته المنشورة في الزميلة «الحياة» في الرابع والعشرين من كانون الأول الجاري. تساؤل متكرّر، لأن السينما العربية عاجزة عن تثبيت خطّ تصاعديّ باتجاه تفعيل حضورها الإبداعي. لأن السينما العربية منذورة لخضّات تبدأ بعقل متحجّر وذهن منغلق، ولا تنتهي عند الصعوبات الإنتاجية. لأن السينما العربية محتاجة إلى نَفَس إبداعي حقيقي، ينتشلها من جحيم الرقابات الممتدّة من الأمن والسياسة والدين إلى الذات الخاضعة، طوعاً أو قسراً، لهذه الرقابات. أو لمعايير السوق التجارية، بالمعنى الاستهلاكيّ الفجّ. لأن السينما العربية مثقلة بتجاذبات حادّة، تضعها عند مفترقات لا تنتهي، وتحدّيات دائمة. لأن السينما العربية توهم المهتمّ بأنها على طريق «نهضة جديدة»، قبل أن تثير فيه شعوراً بأن الغالبية الساحقة من إنتاجاتها الحديثة تفرض «نعياً حاسماً».

تناقض

لن تكون الإجابة عن تساؤل الزميل إبراهيم العريس سهلة. في الأعوام القليلة الفائتة، برهنت السينما العربية على قدرتها الفائقة على التأرجح بين «نهضة» و«نعي». أميل إلى عدم قبول صيغة الحسم، في الحالتين (نهضة ونعي). لا يُمكن القول إن السينما العربية ذاهبة إلى نهضة حقيقية، لأن الغالبية الساحقة من إنتاجاتها الحديثة مُصابة بلعنة التسطيح الفني والادّعاء البصري والتصنّع الجمالي. لا يُمكن القول أيضاً إن السينما العربية ليست بخير، أو إنها تحتضر (ما يؤدّي إلى تهيئة النعي الحاسم)، لأن بعض العناوين المنتجة هنا وهناك (من المحيط إلى الخليج) تثير حماسة ومتعاً وانتباهاً إلى صعود عدد من السينمائيين العرب الشباب تحديداً، المشتغلين بلغة إبداعية صرفة. القلّة، وحدها، لا تصنع حالة. الأفلام القليلة المُنتجة بلغة إبداعية صرفة لا تتحوّل إلى صناعة متكاملة. لكن الصناعة المتكاملة نفسها قابلة لاحتواء الغثّ والسمين. أو ربما مطلوب منها أن تحتوي على الغثّ والسمين، كي يبرز الجميل ويسقط القبيح. لعلّ تنظيراً كهذا يبقى منقوصاً، أو مجحفاً. المسألة أبعد من اختزال الأمور بثنائية «أبيض» و«أسود». غير أن السينما العربية لا تزال عاجزة عن تثبيت خطاها، في نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين هذا. أي عشية بدء الاحتفالات المتفرّقة بمرور مئة عام على نشوء «السينمات» العربية. وهذه الأخيرة، في المناسبة تلك، مدعوة إلى تجديد حضورها وتطوير أدواتها، بدلاً من السقوط الدائم في الاستسهال والتقليد الأعمى والاستنساخ الغبي. مدعوة إلى الخروج من نفق الخراب المُصابة به، جرّاء انسداد الآفاق كلّها تقريباً، بمفردات مناهضة للخواء الضارب في أعماق المجتمعات العربية وفضاءاتها الثقافية والفنية والسياسية والحياتية. هذا ما يجهد سينمائيون عرب شباب في الاشتغال من أجله: الاستفادة القصوى من ثقافة سينمائية وثقافات عامّة مفتوحة على الحراك الغربي والتاريخ العربي العريق. الاستفادة من التقنيات الحديثة، القادرة على تخفيض كلفة الإنتاج، بهدف تحسين شروط القول. الاستفادة من سقوط الحدود بين الأصناف الشكلية للصناعة السينمائية، من أجل صنيع بصري سليم.

العائق الدائم أمام «نهضة» سينمائية عربية حقيقية كامنٌ في استمرار سلطة الجهل على عقل ومخيّلة وانفعال. ليس المال وحده عائقا، وإن كان أساسياً غالباً. المال ضروري للغاية. لكن، إذا توفّر المال وغابت المخيّلة، سقط الفيلم في التسطيح والفراغ. إحدى أبرز أزمات الفيلم العربي وأكثرها سوءا، تنامي الأمية، بالتزامن مع إحكام السلطات الدينية والثقافية والسياسية قبضتها على الإبداع. على الرغم من هذه الصورة المأسوية، برهن سينمائيون عرب شباب، أقلّه في العام الآيل إلى الأفول، أن الإبداع عصيٌّ على الموت، إذا نشأ من داخل الانفعال الذاتي الرافض قيوداً، أو القادر على التحايل عليها من أجل سينما جدّية وممتعة وضاربة.

أمثلة

بعض الأمثلة انعكاسٌ لإمكانية تفعيل «نهضة جديدة» في السينما العربية: بعيداً عن حيوية النتاجين الوثائقي والروائي القصير، بدت صناعة الفيلم الروائي العربي الطويل مصابة بمآزق شتّى. مع هذا، قدّم سينمائيون عرب شباب أفلاماً مثيرة للنقاش والمتعة معاً. المصري أحمد عبد الله، الذي أعلن ولادته السينمائية قبل نحو عام بإنجازه «هيليوبوليس»، أطلّ في العام الآيل إلى الأفول بفيلم جميل عنوانه «ميكروفون»، المسرف في تبيان واقع الحال الإنسانية المقيمة في هامش المجتمع الإسكندراني. المغربي هشام عيوش أنجز رائعته «شقوق» بتقنيات بسيطة، وبجمالية الغرق في قاع المجتمع الطنجاوي، عبر قصص أناس هامشيين وانفعالاتهم ومخاوفهم وآلامهم. اللبناني جورج هاشم انتقل من فضاء المسرح إلى صناعة الصورة المتحرّكة للمرّة الأولى في حياته المهنية، منجزاً «رصاصة طايشة»، الذي استعاد لحظة تاريخية في بدايات الحرب الأهلية اللبنانية (نهاية صيف 1976)، لرواية قصص الأفراد الممزّقين والتائهين وسط أدغال الخيبة والوجع والنار الملتهمة كل شيء من حولهم. السوري عبد اللطيف عبد الحميد مستمرّ في تحقيق أفلامه المحيّرة غالباً، فإذا به يلتقط، في «مطر أيلول»، نبض الانفعال العشقي في ذوات أفراد عائلة مقيمة في أحاسيسها الجيّاشة، قبل اصطدامها ببؤس الحياة وشقاء الواقع. اللبنانية رانيا عطية غاصت، بمساعدة الأميركي دانيال غارسيا، في هوامش البيئة الطرابلسية في «طيّب، خلص، يللا»، متوغّلة في أنماط العيش داخل بيئة مغلقة، من خلال حكاية ابن وأمّه. العراقي عدي رشيد جال في أروقة الخيبة والتمزّق الذاتي أيضاً، في «كرنتينة»، باحثاً في تفاصيل البؤس الإنساني المفتوح على جنون التحوّلات. اللبناني غسان سلهب خرج، في فيلمه الأخير «جبل»، من مدينته المفضّلة بيروت، وأغلق الباب على بطله الوحيد، وذهب معه إلى أقصى النزاع الداخلي والتبدّلات القاتلة التي يعاني جراحها وأوجاعها. المغربي محمد مفتكر أعلن انطلاقتها الروائية الطويلة الأولى بـ«براق»، الغائص في أعماق الذات الفردية، بلغة سينمائية حادّة. أما اللبناني بهيج حجيج، فعاد إلى موضوعه الأثير (مفقودو الحرب الأهلية اللبنانية) بروائيه الطويل الثاني «شتّي يا دني».

هذه أمثلة قليلة. مصر، التي لا تزال تتغنّى بكونها «هوليوود الشرق»، مستمرّة في انهياراتها السينمائية. والانهيار، إذ يفتك بالروح الإبداعية، يواجه أحياناً نشوء حالات صدامية، بفضل براعة مخرجين متنوّعي الهواجس والأساليب في تحقيق الجمال السينمائي المؤثّر. محمد دياب و«678». هشام عيساوي و«الخروج». هذان مثلان اثنان لا يلغيان عناوين أخرى لم تتسنّ لي مشاهدتها لغاية الآن (علّق زملاء عديدون على بعض هذه العناوين، مشيدين بجمالياتها الفنية والإبداعية، كـ«الحاوي» لإبراهيم بطوط). داود عبد السيّد حقّق «رسائل البحر»، المثير لجدل نقدي مرتكز على تناقض واضح في اشتغاله: من جهة أولى، هناك الرموز السينمائية المُسقطة في سياق درامي يروي سيرة شاب عاد إلى الإسكندرية ليواجه تحوّلات البيئة والناس والأحوال والحكايات. من جهة ثانية، هناك نقص في الدعامة السينمائية المطلوبة لتحويل هذه الرموز إلى متتاليات بصرية. دياب وعيساوي جاءا الفيلم الروائي الطويل للمرّة الأولى. والمرّة الأولى تحتمل، غالباً، هنات عدّة. غير أن ميزات متنوّعة وسمت فيلميهما: الغوص في أعماق المجتمع المصري، بجراحه وانهياراته وبؤسه. سرد حكايات فردية مستلّة من وجع الجماعة.

انشغال بالهاجس الفني، وإن ارتفعت لهجة خطابية ما في هذا الجانب أو ذاك. «678» عكس ظاهرة التحرّش الجنسي، وناقش موقعها في البيئة المصرية، وحلّل أسبابها، جاعلاً من قصص ثلاث نساء ركيزة درامية لفضح المستور والجهر بالمبطّن المُراد إخفاؤه. لم يذهب دياب بعيداً في طرح مواضيع كهذه. بدا كأنه راغبٌ في تحصين فيلمه من أي صدام مع أي جهة أو جماعة. لكنه اشتغل، سينمائياً، بحرفية واضحة. تماماً كزميله عيساوي. العلاقة العاطفية بين مسلم وقبطية، في مرحلة الغليان الطائفي المصري، سببٌ لهجوم غبيّ على الفيلم ومخرجه. لكنها (العلاقة) بندٌ من بنود المآسي الكثيرة المتراكمة في المجتمع المصري وعليه. العلاقة حاضرة، لكن وقائع العيش في بؤر الجحيم الأرضي ظاهرة في الفيلم أيضاً.

مزاج

بعد نحو ثلاثة أعوام على إنجازه «بلديون»، الذي أثار ضجّة في فرنسا إلى درجة أدّت برئيسها آنذاك جاك شيراك إلى الاهتمام بأوضاع المغاربة الأفريقيين الذين حاربوا في صفوف الجيش الفرنسي في الحرب العالمية الثانية؛ حقّق الجزائري رشيد بو شارب «الخارج عن القانون» في السياق التاريخي نفسه: مقتطفات من سيرة الثورة الجزائرية ونزاعاتها الداخلية وحروبها الطويلة الأمد مع المستعمِر الفرنسي، من خلال قصّة ثلاثة أشقاء فرّقتهم أحوال الدنيا قبل أن تعيدهم الحياة إلى بعــضهم البعض، والموت إلى ألفة ما مفقودة. فيلم متين. سيــناريو محبوك. هذا مثلٌ على ثنائية المال والمخيّلة السينمائية.

اختيار الأفلام المذكورة أعلاه لا علاقة له بالأفضل فقط. هذا جزء من مزاج ذاتي خاصّ جداً، معطوفاً على مشاهدتي أفلاماً عربية عدّة خلال العام الآيل إلى الأفول. القراءة وحدها لا تمنح المرء قدرة على التعليق النقدي. هناك أفلام أهمّ وأجمل وأقدر على تأكيد جزء من قول الزميل إبراهيم العريس: «نهضة جديدة». هناك أفلام كثيرة شاهدتها بدت انعكاساً لشعور ألمّ بي، مفاده أن «النعي» (وإن لم يكن حاسماً) أفضل وسيلة للقول ببؤس إنتاجات سينمائية عربية شتّى. فلسطين، في المجال الروائي العربي الطويل، غائبة. العام الفائت، شكّل «الزمن الباقي» لإيليا سليمان ذروة الجمالية السينمائية في قراءة وقائع العيش الفلسطيني على فوهة البركان، أو داخله. لكن فلسطين السينمائية منتعشة أكثر في المجال الوثائقي. سواء أنجزه فلسطينيون مقيمون في بلدهم ومنفيون/ مهاجرون/ مغتربون، أم حقّقه سينمائيون غربيون. اختيار الأفلام المذكورة أعلاه محاولة شخصية لتباين معالم الخريطة السينمائية العربية الراهنة، عشية بدء عقد جديد في الألفية الثالثة هذه. أما استشراف المستقبل، فصعبٌ. الأفلام الجدّية والمهمّة والمثيرة للنقاش والمتعة البصرية والروحية قليلة، وعاجزة عن رفع لواء النهضة الجديدة لوحدها. المصاعب يزداد سوؤها. أي تلك المتعلّقة بأحوال البلاد والعباد. بالمعيشيّ والإنساني. الفرد العربي عنيد. تحديداً السينمائي المبدع. متشوّق هو لمزيد من القول. لمزيد من الإبداع. للاستمرار في جعل «المبادرة الفردية» عاملاً إيجابياً، مهما واجه من عوائق.

أما المستقبل، فمرهونٌ بما ستصنعه مخيّلة السينمائيين المبدعين. المقبل من الأيام كفيلٌ بتبيان الخطّ السينمائي العربي: هل سيذهب بالإنتاج الإبداعي إلى تحقيق معادلة الشكل والمضمون، في قوالب درامية جميلة ومهمّة؟ أم إن الانهيار سمة قاتلة، لا فرار منها.  

كتـــاب

أوليفييه بار وماري كولمان: «جــاك دومــي»

صدر هذا الكتاب الجديدمنشورات دو لا مارتينير»، 2010) بمناسبة مرور أربعين عاماً على تصوير «لولا» لجاك دومي، وعشرين عاماً على رحيل مخرج «شقيقتان توأمان مولودتان في برج الجوزاء»، بالتزامن مع تنظيم معرض خاص به في المدينة الفرنسية «نانت» وإصدار خمسة أفلام بنسخ «دي. في. دي.» من قِبل «سيني تاماريس» و«آرتي». وفيه، يتابع القارئ المهتمّ تفاصيل حميمة مستلّة من عالم السينمائي الفرنسي، بالإضافة إلى التعمّق في التأثير الكبير الذي أحدثته طفولته في أفلامه.
ثلاثة عقود تقريباً أمضاها دومي في ابتكار الصورة وطرح الأفكار وسرد القصص السحرية للصغار والكبار معاً. وهذه كلّها سطّرت ملامحها في مخيّلة سينيفيليين عديدين، «وهي لا تزال تُعتبر، بعد عشرين عاماً على رحيله، مدرسة من قِبل مبدعي الفنون كلّها»، كما جاء في تعليق نقدي على الكتاب، الذي وصفه ناشره بأنه دعوة للقارئ إلى «اكتشاف/ إعادة اكتشاف سينما جاك دومي».

السفير اللبنانية في

30/12/2010

 

الجنس والدم عنصرا سينما البورنوغرافيا الأوروبية

«فيلم صربي».. اغتصاب الجثث بذريعة سياسية

زياد الخزاعي

ما إن تحضر حكايات الفيلم الـ«بورنوغرافي» وصُوَره الفاحشة، وأولاها قبلة ماي أروين في العام 1896 ومواقعاتها الصادمة، حتى تنبري الرقابات إلى قطع رأسها الفاسد. السينما أكثر الفنون إحراجاً للنظم البطريركية المفتونة بتزمّتها وهَوسها بالحفاظ على القيم العامة. صاحب «أكاتوني»، المخرج الإيطالي الراحل بيار باولو بازوليني، شتم اليمين السياسي وفاشيته في «سالو» (1975)، الذي انبرى إلى تصوير أكثر المشهديات السادية البشرية سوءاً، فهشّموا رأسه على تراب إحدى ضواحي روما انتقاماً.بينما أصرّ زميله الياباني ناجيسا أوشيما في «امبراطورية الحواس» (1976)، ولاحقاً في «امبراطورية العواطف» (1987)، على هزّ عرش الإباحية التي ارتبطت بالإثم وانحطاطاته، وانزواء روّادها في بؤر الشين، عبر مقاربة ثنائية العشق المعنّف بالشبق المخزي، شاتماً مع أبطاله الأربعة بنية المجتمع الياباني ما بعد الحرب الخاسرة، فتحوّل إلى لعنة غربية استهدفت معاقل دوائر الرقابات. السويدي فيلغوت سيومان أثار قبلهما، في عمليه الجريئين «أنا الفضولية» («الأصفر» في العام 1967 و«الأزرق» في العام 1968، وهما لونا العلم السويدي)، هرجا، عندما جعل من بطلته الشابة الفاتنة نموذجاً للأوروبية الجديدة، الساعية إلى وضع حريتها الجنسية كأولوية لا تقبل المقايضة.

جدل

أثار هؤلاء وآخرون جدلاً لم يهدأ حول الفجوة الاعتبارية بين «الشريط البورنوغرافي» وأنواعه (كالسلسلة الشهيرة «إيمانويل»، والعمل المراوغ «ديب ثروت»، أي «الحلقوم العميق» في العام 1973)، الذي لا يلتفت إلى الحكاية بقدر التفرّس في الإيلاجات المتكرّرة التي تسقط معانيها تباعاً، ومقابله «الشريط الإيروتيكي»، الذي يسعى إلى نقل الفعل الشبقي وتماثلاته نحو تأويل مسيَّس وتحريضي، صانعاً خيوطاً متشابكة من الفوضى وقلقها في فهم حدود الحريات الشخصية، وتحكّم السلطات الوضعية بالسجايا الشعبية، كـ«التانغو الأخير في باريس» (1972) لبرناردو برتولوتشي، المغرق بالآروفيوسية وظنونها ضد النيّة الفاسدة، و«البرتقالة الآلية» (1971) لستانلي كيوبرك، المعاكس مفاهيم هيربرت ماركيوز حول التسلّط والجنس، وكنقيض للاشتغال الجريء للمعلّم اليوغوسلافي دوسان ماكافيتشيف في «دبليو. آر.: أسرار الكائن» (1971)، الذي ربط الحراك الاجتماعي وثورته الجنسية في نصّ استلف روح المعارضة للنظم التوتاليتارية، انطلاقاً من مفاهيم الفيلسوف فيليم رايش. لاحقاً، لكن على قدر أقلّ من التألّق، هناك نص «تسع أغان» (2004) للبريطاني مايكل وينتربوتوم، المقسَّم بحسب مزاج مضاجعات بطليه في المتروبوليس الأوروبي والموسيقى التي تقودهما إليها. أيضاً، «شورت باص» للأميركي جون كاميرون ميتشل، الذي ابتكر حقلاً للجنس غير الملفّق، عبر إجماع ممثّليه على البحث طواعية عن الجنس الحقّ بحسب أهوائهم.

لاحقاً، تطلّب الأمر من روّاد على قدر من المغامرة والقليل من الموهبة، أن يُكرِّسوا نوعاً ثالثاً من الاشتغال الشبقي المُصوَّر، الذي يعتمد على فرجة الكوميديا لتسريب استراق النظر إلى الجسد العاري، والتحسّس الجنسي الذي يتمنّع من الوصول إلى المواقعات الكاملة. من هنا، بدت أعمال الأميركيين الشهيرين روس ماير، مؤسّس الـ«سكس فلكس» (شريط الجنس) وباكورته «السيد تيز الفاجر» (1959)، وزميله إد وود، مؤسّس نوعية «الفيلم البذيء»، خصوصاً في «نيكرومانيا» (1971)، بدت هذه الأعمال طعماً سينمائياً مغرِقاً بالسذاجة، لكنه ساع إلى حيلة تستفيد من المزاج العام الميّال إلى جعل الجنس وقضاياه موضع تهكّم وتهليل، عبر مشاهدة بطلات ذوات صدور عارمة (ماير)، أو شباب يتضاجع بشكل سفيه ومفتعل في توابيت المدافن (وود)، قبل أن تخبو مع رحيلهما تباعاً، وتبقى السينما ناقصة من مجرّبيها في هذا المضمار.

فجأةً، ظهر «فيلم صربي»، باكورة المخرج سرديان سباسويفيتش (مواليد بلغراد، 1976)، الذي أعاد الخَبل الصحافي بما يعرضه من مشاهد جنسية مصنوعة على منوال الفيلم الإباحي. في هذه المشاهد، التي لا رونق فيها، تُحاك مؤامرة صغيرة يُراد منها الإيقاع بنجم متقاعد لشريط الـ«بورنو».

بيد ان المخرج الشاب لا يريد أن يدفع بنصّه إلى حافة التهييج، بل أصرّ، في الدورة الأخيرة (أيار الفائت) لمهرجان «كان»، على سعيه إلى قذف النظام الصربي بنعوت الفاشية الجديدة، التي تعمل على تحويل مواطنيه إلى متآمرين لصالح أجهزة الأمن، وتحويل حياتهم إلى جحيم. لم تجد هذه الدعوة صداها لدى أهل الإعلام الأوروبي، قبل أن تهجم عليه دوائر الرقابات منذ العرض العالمي الأول في سوق الفيلم الأميركي، حيث أصابه النجاح إثر هوس الفضوليين ممن شاهدوه هناك. وقبل فترة وجيزة، اعترضت دائرة الرقابة البريطانية على فيلم سباسويفيتش (لكون كلمة صربي تمويهاً عرقياً)، مقتطعة منه أربع دقائق وإحدى عشرة ثانية، هي الأكثف منذ فيلم أوشيما. وكان روع موظفي الدائرة الحازمة على أشدّه، مع المشهد الصاعق للعميل الفحل، الذي يساعد امرأة على إنجاب وليدها، قبل أن يعتدي عليه جنسياً أمامها. ومثله، مشهد مواقعة البطل ميلوش (سرديان تودروفيتش، العازف المُشارك في فرقة المخرج اليوغوسلافي أمير كوستوريتزا)، وهو مخدّر ومُقاد، لشابة قُيّدت إلى فراش مبالغ في بياضه، مُضاجعاً قبل أن ينهال عليها بساطور هائل الحجم فصل رأسها عن جسدها.

لهو

هذان المشهدان الحاسمان يعطفان بانحطاطهما الصوريّ على حياة البطل المتمسكن بقرار صعب: الابتعاد عن الدور المضني كنجم لا همّ للكاميرا سوى تصوير عضوه. ميلوش مهموم بزوجته وابنه الذي نراه في المشهد الافتتاحي يشاهد والده منكبّا بفحولة متناهية في مواقعة نساء عاريات، ويأتيه الجواب: «أبوك يلهو مع صديقتيه، مثل شريط رسوم متحركة لكن للبالغين». حين يقع ميلوش تحت إغراء عقد العمل وثروته «التي ستكفي ابنك إلى قبره» بحسب «شيخة» ممثلات الشريط، يكون وقّع على موتهم جميعهم. ذلك أن «نظام التصوير» الذي يحرسه عملاء يرتدون ملابس ميليشياوية، يحوّل عمل سباسويفيتش إلى شريط داخل شريط، وسلطة فيلمية تتوالد من أخرى قمعية خارجية، لا نرى منها سوى إشارات حكمها الأثيرة (مسدسات، سيارات فارهة، هواتف مخفية، كتائب مسلّحة، كاميرات تلصّص، سجينات مرعوبات، طفلات جاهزات لإثم القياديين).

السيناريو المصوَّر توثيقٌ لجرائم ميلوش بحسب طلب حكومي هلامي الملامح، وهو تحت المخدر أو الترهيب. والحكومة تقوده، في مسك العمل المفبرك، إلى انتحاره مع عائلته، إيذاناً بانتهاء المشهد الختامي المدقع في استفزازه، حيث نرى جثتين مغطاتين، يؤمر البطل بتأدية وصلته مع الأصغر حجماً، وهي لابنه الصغير، ليجاوره شخص مقنّع آخر، نكتشف لاحقاً أنه شقيقه ساقط الذمّة، مرتكِباً الجريمة نفسها مع الجثة الأخرى، وهي زوجة ميلوش. تحوّل هاتان الجريمتان المزدوجتان الجميع إلى قتلة: البطل يصفي المخرج المشرف الإعلامي للسلطة الخارجية، الذي يصرخ بهستيريا من بين دمه «هذه هي السينما»، بينما تقطع الزوجة القصبة الهوائية للشقيق الدنيء. هذه الوحشية السينمائية لن تكتمل من دون اللقطة الختامية التي يصوّر فيها سباسويفيتش قائد العملية (الدولة) محاطاً برجليه وكاميرتهما، ليأمر أحدهما بالشروع في تصوير مشهده الجنسي اللاحق مع جثمان الفتى الغرّ.

تُذكّر دموية «فيلم صربي» وسفاهة مقاصده بمثيلتيها في الفيلم الفرنسي «ضاجعني» (2000) للمخرجتين كوريل تريني ثاي وفيرجيني ديسبينيه، حيث ان صور الـ«هارد ـ كور» الشديدة الإباحية صُنعت من أجل مكايدة التهذيب العام، عبر حكاية صديقتين يحصد مسدساهما الكثير من الرجال بعد تعرّضهما لاغتصاب جماعي، في مشهديات مفعمة بالانتقام العكسي، من ذكورية متسلّطة ووحشية. لا ريب أن إغراء ثنائية الجنس والدم في الفيلمين تُجيَّران لصالح ذائقة تشهيرية، نجد صداها اليوم في منطقتنا عبر عُري تلفزيوني جماعي، تتخفّى خلفه سلطات إعلامية ساعية إلى تحقيق مآرب ايديولوجية، يكمن هاجسها الأول في اختراق تزمّت أطراف تتعجّل هيمنة تكفيرية لا تختلف عن تلك الساعية إلى التصفيات العرقية، التي يدّعي المخرج سباسويفيتش أنه يلعنها عبر صُوَر مخيفة بفحشها، على الرغم من أنها «تمثيل بتمثيل».

)لندن(

السفير اللبنانية في

30/12/2010

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)