حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

لماذا عرض الأفلام بأقراص «دي في دي» المختصّة بالمنازل؟

«بشر وآلهة» الذي يعرض لأول مرة حَدَثٌ في «مهرجان السينما الأوروبية»

نديم جرجورة

إنه سؤال معتاد، يُطرح دائماً: لماذا تستعين إدارات مهرجانات سينمائية، مُقامة في بيروت أو في مدن عربية عدّة، بأقراص «دي. في. دي.»، لعرض أفلام مُشاركة في دوراتها السنوية، سواء في المسابقات الرسمية، أو في برامجها المتفرّقة؟ لا يُطرح هذا السؤال على «مهرجان السينما الأوروبية» فقط، المُقام حالياً في بيروت، لأن هناك مهرجانات محلية وعربية تستخدم هذه التقنية، لعرض أفلام سينمائية بحتة. تبطل أهمية السؤال وشرعيته، إذا أنجز مخرج فيلمه بالتقنية هذه. لكن، أن يكون الفيلم سينمائياً، ويُعرض بنسخ «دي. في. دي.» (وإن كانت حسنة الجودة)، فهذا ما لا يُمكن تبريره أو فهمه أو الموافقة عليه. أن يستعين بعض المهرجانات بها لأسباب مالية مرتبطة بتقلّص الميزانيات، فهذا أمر قد يوافَق عليه، بهدف المُشاهدة ودعم الحراك الثقافي المحلي (على الرغم من عدم ميلي الشخصي إلى هذا الجانب، لأن نسخ «دي. في. دي.» مصنوعة خصيصاً بالاستخدام المنزلي فقط، مع أن نوادي سينمائية عدّة وجدت نفسها «مضطرّة» للاستعانة بهذه النسخ، في نشاطاتها «السينمائية»). لكن، أن تقع «بعثة الاتحاد الأوروبي»، أي الجهة الدبلوماسية والسياسية الرسمية التي تُمثِّل دول الاتحاد الأوروبي في بيروت، بهذا الفخّ، فهذا أمر غير مفهوم.

في الأحوال كلّها، لم تكن الدورة السابعة عشرة لـ«مهرجان السينما الأوروبية»، المنتهية مساء الأحد المقبل بعرض الفيلم السويدي «كرات» للّبناني الأصل جوزف فارس، المرّة الأولى التي يواجه فيها عشّاق الفن السابع هذه المعضلة. زملاء عديدون طرحوا السؤال، وناقشوا المسألة. غير أن الحجّة، كما يبدو، هي نفسها المستخدَمة من قِبَل إدارات المهرجانات الأخرى: الميزانية لا تسمح، أحياناً، بالحصول على نسخ سينمائية للأفلام المُشاركة كلّها. أو ربما لأن الحصول على نسخ «دي. في. دي.» أسرع وأسهل من الحصول على النسخ السينمائية. لكن، ألا يكفي أن البعثة تُقدِّم أفلاماً أوروبية عادية أو أقلّ من عادية غالباً (بسبب تعاونها مع سفارات ومراكز ثقافية، أكثر من تعاملها المباشر مع موزّعين ومنتجين)، حتّى تُضيف مأزقاً آخر على حضورها ومكانتها الثقافيين في المشهد اللبناني؟ ألا يكفي أن معظم الأفلام المختارة في هذه الدورة، أو في دورات سابقة، تكاد لا تستحقّ المُشاهدة، إلاّ انطلاقاً من قناعة أو رغبة في الاطّلاع على نماذج قليلة جداً من النتاج الأوروبي المحلي هنا وهناك؛ حتّى يُشكِّل استخدام نسخ «دي. في. دي.» عائقاً إضافياً أمام متعة المُشاهدة؟

هذا لا ينفي الأهمية الإبداعية التي تميّز المهرجان. فهو، بقدرته على الحصول على عدد من الأفلام المهمّة في كل دورة، انضمّ إلى المهرجانات المحلية الأكثر جذباً للمُشاهدين المهتمّين، كـ«مهرجان الفيلم اللبناني» و«أيام بيروت السينمائية». وهو، بمشاركته في الإضاءة على ما تُنتجه المعاهد الجامعية والأكاديمية اللبنانية من أفلام التخرّج، تحوّل من مجرّد واجهة عامة لصناعة بصرية أوروبية ما، إلى منبر للتفاعل بين ما يجري في القارة القديمة سينمائياً (أو بعضه بالأحرى)، وما يُصنع هنا على المستوى الطالبي. بالإضافة إلى أن بعض العناوين المختارة في كل دورة عكس إبداعاً سينمائياً مؤثّراً ومحرّضاً للنقاش النقدي.

من هذه العناوين، ما يُعرض عند الثامنة مساء غد الجمعة. إذ تشهد الصالة الأولى في سينما «متروبوليس» في «أمبير صوفيل» في الأشرفية حدثاً استثنائياً بعض الشيء: العرض اللبناني الأول للفيلم الفرنسي الجديد «بشر وآلهة» لكزافييه بوفوا. استثنائية الحدث منسحبة، أيضاً، على العروض اللبنانية الأولى لعدد من الأفلام التي أحدثت صدى نقدياً وجماهيرياً دولياً، في الأشهر الفائتة. فالدورة السابعة عشرة للمهرجان الأوروبي قدّمت أفلاماً بديعة بطرحها الدرامي والفكري، وبجمالياتها الفنية والبصرية. لكن القول ان العرض اللبناني لـ«بشر وآلهة» حدثٌ استثنائي، كامنٌ في أن الفيلم، المستلّة قصّته من الحادثة الدموية التي ارتكبها أصوليون إسلاميون بحقّ رهبان فرنسيين في جزائر الحرب الأهلية في التسعينيات الفائتة، بات اليوم جزءاً أساسياً من المشهد السينمائي الفرنسي تحديداً. بات اليوم لحظة تاريخية في إعادة صوغ الحكاية الإنسانية للرهبان الفرنسيين، وللعلاقة الإنسانية الحميمة التي جمعتهم بجيرانهم المسلمين، ولحقبة تاريخية قد تكون ماثلة في الوعي الجماعي الفرنسي، الذي هزّته تلك الجريمة عند وقوعها، وعند افتضاح أمرها إعلامياً في فرنسا لاحقاً. وهذا كلّه حصل بعيداً عن الخطاب السياسي واللعب على الانفعال المباشر، بل بالتوغّل في السير الذاتية لهؤلاء الرهبان، ولتلك الحقبة الزمنية المفتوحة على السياسة والمجتمع والدين والإيمان، كما على مفردات التسامح والغفران والبُعد الإنساني للحياة اليومية بين أناس منتمين إلى دينين سماويين مختلفين عن بعضهما البعض.

ثم إن استثنائية الحدث، المتمثّل بعرض «بشر وآلهة» مرّة واحدة فقط أثناء الدورة السابعة عشرة هذه (تردّد أن هناك إمكانية كبيرة لإطلاق عروضه التجارية في بيروت قريباً، بالإضافة إلى الفيلم الفرنسي الآخر المُشارك في الدورة نفسها «بوتيش» لفرنسوا أوزون)، نابعةٌ من صدفة التزامن بين إنجاز المشروع وظهور فضيحة مدوّية في فرنسا، مرتبطة مباشرة بالحادثة الدموية، التي وصفها البعض بأنها «مجزرة» حقيقية. خلاصة الفضيحة أن ضابطاً أمنياً فرنسياً كشف أن لديه معلومات مؤكّدة بأن الجيش الجزائري ارتكب المجزرة بحقّ الرهبان، أثناء مطاردته إسلاميين متطرّفين. ولتغطية «الخطأ»، تمّ قطع رؤوس الرهبان بالطريقة المعتمدة لدى الجماعات الإسلامية الجزائرية، لتوريط هذه الأخيرة في الجريمة. قيل إن الضابط المذكور أعلن إبلاغه السلطات الفرنسية بالأمر، وإن السلطة السياسية الفرنسية ارتأت، والفاتيكان، التسترّ على المسألة، علماً بأن تقارير صحافية فرنسية أخرى أفادت أن تلاعباً حصل بين القيادتين السياسية والعسكرية/ الأمنية الجزائرية وأحد أمراء تلك الجماعات، لإغراق هذه الأخيرة في بحر من الدماء، يُبرّر للسلطة مطاردتها الوحشية لهم.

منذ إطلاق العروض التجارية الفرنسية لـ«بشر وآلهة»، نشرت صحف يومية ومجلاّت أسبوعية غير متخصّصة بالفن السابع (بالإضافة إلى مجلات سينمائية فرنسية شهرية) ملفات ومقالات نقدية وتاريخية وسجالية، تناولت الفيلم والمجزرة معاً، بالإضافة إلى إعادة فتح ملف رجال الدين المسيحيين في الجزائر. فقد ذكّرت المجلة الأسبوعية الفرنسية «إكسبرس»، في عددها الصادر في الثالث عشر من تشرين الأول الفائت، أن هناك أربعة كهنة اغتيلوا في المنطقة الجزائرية «قبيلة» في السابع والعشرين من كانون الأول 1994، أي قبل أقلّ من عامين على عملية خطف الرهبان ليلة السادس والعشرين والسابع والعشرين من آذار 1996، علماً بأن شهرين اثنين مرّا، قبل العثور على جثثهم وإعلان مقتلهم في الواحد والعشرين من أيار 1996. غير أن «بشر وآلهة» لا يذهب إلى الجريمة، ولا يفتح ملف الاغتيال، ولا يتعاطى مع اللحظة الدموية التي فجّرها حقدٌ أعمى في صراع السلطة الجزائرية ضد الجماعات الأصولية الإسلامية. إنه فيلم إنساني بحت، أعاد رسم الملامح العامّة للرهبان ولحياتهم اليومية ولتفاصيل عيشهم الدائم في مواجهة التحدّيات المختلفة.

 

كلاكيت

الحياة بقلم «بيك»

نديم جرجورة

مرّ وقتٌ طويلٌ من دون أن أستخدم قلم الحبر الناشف «بِيكْ» لكتابة المتوجَّب عليّ كتابته. ظهور الكمبيوتر بدّد العلاقة المديدة التي ربطتني بهذا النوع من الأقلام. مع أني عشتُ طفولة ومراهقة وشباباً أول في ظلّ التعاون الوثيق بيني وبينه، إلاّ أن الزمن الجديد فتّت العلاقة وأنهكها إلى أقصى حدّ ممكن. الاستعانة الراهنة بقلم الحبر الناشف هذا باتت حكراً على تدوين ملاحظة من هنا، أو نقل جملة من هناك. وعلى الرغم من استخدامي النادر له، لا يزال قلم «بِيكْ» موجوداً على طاولتَي المكتب والمنزل، تحسّباً لطارئ ما. أو ربما لنزوة تعبر سريعاً في الذات، فتحرّك انفعال الحنين إلى أزمنة مضت. والحنين، إذ يضجّ أحياناً في شعاب النفس والروح، لا يقتصر على قلم حبر ناشف فقط، لأنه يمتدّ إلى حالة ومرحلة كانتا، بالنسبة إليّ، أجمل من أن أختزلهما في حكاية، إن تسنّت لي كتابتها في نصّ، فلا بُدّ من أن أستعين بقلم «بِيكْ».

إنه «المثل الوحيد للاشتراكية المتحقَّقة». هكذا علّق أمبيرتو إيكو على اختراع البارون مارسيل بِيكْ قلم الحبر الناشف قبل ستين عاماً. في حين أن رولان بارت، الذي سخر من «أعوام البلاستيك»، لم يشكّ في أن القلم المذكور سيبلغ مرتبة الأسطورة. إنه أحد جوانب سلسلة حركات التمرّد التي عرفتها فرنسا وأوروبا غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية، تماشياً مع تداعيات تلك الحرب وإفرازاتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية. ذلك أن دخوله المدارس الابتدائية الفرنسية، بعد خمسة عشر عاماً على ابتكاره، أثار ردود فعل حادّة ضده من قِبل محافظين ومتزمّتين رأوا فيه انقلاباً على تقاليدهم الخاصّة، ومنها استخدام الحبر السائل وأنواع الأقلام المستخدَمَة حينها. البارون، الذي منح اسمه للاختراع الجديد، قال إن «يد المرء تبحث عن أقلّ قدر ممكن من الجهد. هذا النوع من الأقلام يُحرِّرها، لأنه يستطيع أن يجري على الإيقاع نفسه للفكرة (المنوي كتابتها)». ألا يدلّ هذا على أن هدف الاختراع، أو أحد أهدافه الأساسية، لم يكن مجرّد «ضربة معلّم» على المستويين الصناعي والتجاري، بل رغبة أكيدة في مواكبة التطوّر واللحاق بالعصر، والعمل الدؤوب على تخفيف أعباء شتّى عن كواهل الناس؟ أما الصناعيّ والتجاريّ، فحاضران في ما بعد الاختراع: مئة مليار قلم بيعت منذ ولادة «بِيكْ»، بألوانه الأزرق والأحمر والأخضر والأسود والبنفسجي. علماً بأن الجانب الثوري في الاختراع ماثلٌ للعيان: تواضع شكله وسهولة الكتابة به وخفّة حمله، أمور منصبّة في صلب الاجتهاد الاجتماعي الهادف إلى تحسين وضع التلامذة أولاً في علاقتهم بالدرس والمدرسة، وصولاً إلى إيجاد أساليب أخفّ وطأة في المعاملات الإنسانية بين البشر، كما في كافة أنماط المعاملات الأخرى.

إنه حنين إلى زمن مضى. الاحتفاء به تأكيدٌ إضافي على أن الجمال ولّى، وأن الحياة باتت أكثر بؤساً وشقاءً.

السفير اللبنانية في

02/12/2010

 

الماعز في فيلمين إيطالي وهندي يخترق دورة الأزل

زياد الخزاعي 

كلاهما ماكر وحاذق. فيلمان يقولان السبّة السينمائية من دون تورية. لا يخشيان زلّة السياسة، ولا يردعهما التهكّم. الكائن الجامع فيهما: ماعز. لا تمثيل أو تقليد، بل أريحية مطلقة. في نص الإيطالي مايكل أنجلو فرامارتينو «المرّات الأربع» (أفضل فيلم أوروبي في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان» في أيار الفائت) تجتمع مفردات الكون: الأرض ـ الوجود بعظمة يومياتها، الإنسان ـ المالك بقوة سعيه وحيواته، الحيوان ـ الشريك باعتباره الاستكمال الحقّ لمعادلة التكافل. في حين تتقاطع مفردات الحداثة من بابها التأويلي لمفهوم السلطة وعسفها في نص الهندي مورالي ناير «المِعْزاة العذراء»، إذ يظهر منزل البطل كالايان سينغ (روغوبير ياداف) بفقره المدقع كشكل كاريكاتوري لبؤس الهامشي، الذي يفترض أن تقوِّم يومه وتؤمِّن قوته سلطة تتحصّن بموقع بعيد وجنود مدجّجين بالسلاح والعنف. إنه العبد الجديد الذي عليه أن يوفّر المبلغ الطائل لزيجة ابنته الوحيدة، كونه الشرط الاجتماعي الأقسى في التقاليد الهندية، الذي يقوده خبلها ولوثتها إلى ربط بكارة ابنته بنظيرتها لدى مِعْزاته.

إن المحيط العائلي (الزوجة الضخمة القمعية، الهاتف المحمول المعلّق في الشجرة البائسة الوحيدة وسط حوش الدار، الابن المهووس بشاشة التلفزيون وألعابها) جمهورية سينغ الفاشلة، حيث انه بلا حول بينهم. لا يستطيع ردع الأم المتأفّفة من تعلّقه بمعزاته. لا يقدر على إرغام ولده اليافع لتحقيق فعل نافع. لا يتمكّن من تخليص ابنته من الزيجة غير المتكافئة. سينغ نموذج باهر للخسارة الفردية في الديموقراطية الأكبر في العالم.

عن المكان

في المقابل، يكون محيط الراعي العجوز مختزَلاً بين غرفته المتقشِّفة وأبواب البيوت الجبلية في مقاطعة كالابريا في جنوب إيطاليا، حيث يسلّم قناني حليب الماعِز الذي يرعاه ويشاركه المكان. الخارج لدى فرامارتينو مليء بالتكوّن الربوبي، كواجهة أخرى للطبيعة الغنية التي تتساير مع حياة العجوز المريض، الذي يشرب مياهاً يخلطها بتراب الكنيسة، عسى أن تشفيه هذه الرقية وتمد من عمره. وفيما نراه يصارع موتاً لا يُعلن عن ميعاده، يذهب فرامارتينو بفطنة لا حّد لجماليتها ولمكامن مغازيها الدينية نحو الفضاء الخلاّب، نشاركه متعة السيرورة اليومية للبشر، وسعيهم اليوميّ إلى الرزق والعيش. هذا العمل تمّ عقله السينمائي فنقص كلامه، وأمام فورة اليوم، لا مجال للتزلّف الصوري. استاتيكة محكمة تراقب التحوّل الزمني للمنفسح الأخضر، والجرد الجبلي، والشارع الريفي، ومرور البشر، وتعاقب الوقت، وزفرات الطبيعة وحكائها العجائبي وأصواتها. يتابع فرامارتينو بخفة سينمائية مذهلة (تصوير أندريا لوكاتيلّي) تشبّث راعيه العجوز بالحياة إثر الهزّة الأولى لوجيب قلبه، إشارة الموت المرتقب، ليجول مرغماً بين أبواب القرية النائمة من دون أن يحقّق الخلاص بمساعدة أحد. إنه قدّيس يبحث عن رعية تستغيث به وله من قانون قِوام الحياة. وحدها الطبيعة سائرة بتحوّلاتها الخلاّقة إلى الأبد بمشيئة الرب، لا تراعي رعب العجوز الجبلي الذي كان يستكين وسط مراعيها، أو يرقد ظهاريها عند جذع شجرة معمرة. فهو كائن عابر بالضرورة الكونية، فيما البقاء الوحيد لدورة الأزل. يلتقي الهندي سينغ بمقابله الإيطالي في كونهما أداتين تتحكّمان في أقدارهما قوى واحدة. بيد أن ظروف التعاطي معهما ومواجهة استحقاقاتهما، تكشف عن فرادة البشر الذين تستهويهم عجالة الحياة، فيسعون إلى سرقة البهجة ومواردها، الغنى وأمواله وسيئاته، السلطة وعفونة ممارساتها وضحاياها، الإيمان الكاذب ووهم غفرانه غير المؤكّد. عليه، يحوِّل المخرج مورالي ناير يوميات بطله إلى ضحية غلّ بشري، يبدأ من الزوجة العنيفة، وينتهي بالمضارب العجوز الذي يقتنع أن تيسه لا يستهوي مِعْزاته العجفاء كي يفضّ بكارتها ويخلّصها من هياجها الجنسي. مروراً بقوى الأمن ذات الأزياء التنكرية، التي تسرق حيوانه ـ معشوقته وتحيلها إلى رمز إرهابي يُمكن تفخيخه، قبل أن تتحوّل المِعْزاة إلى رمز ثورة وهبّة شعبية في المشهد الأخير الخاطف بسورياليته الهندية الطعم والإيقاع. سينغ ضحية جماعية حيث ان الربّ لا يتعجّل بإنقاذه أو حراسة مسيرته الغاندية الطابع.

هذا الفلاّح النحيف يمرّ بطبيعة أكثر تحديثاً من جبال «مرات فرامارتينو الأربع الإيطالية» وأكثر عنفاً. بل إن منطقها السياسي يجبر الجميع على البحث عن بطل لا يكذب أو يداهن أو يدلس. بالضرورة، فإن الكائن الوحيد الذي تتجمّع فيه خصال الصبر والكرم والصمت هو: المِعْزاة العذراء. هذه الأخيرة تتلبّس لبوساً تكميلياً متألّقاً ببعده الأسطوري لدى فرامارتينو، حيث تتجاور مَعِيزه بحيويتها وثغائها وسليقتها مع جثّته وسط الغرفة الفقيرة. تندفع قطعانها لتستولي على الفراغ البشري، وتعلن مِلاءها له بقوة جماعيتها ووفائها للراعي الراحل. إعلان فرامارتينو في لقطاته الآسرة جليّ وشجاع: إن عظمة الطبيعة تكمن في أنها لا تفرز بين حيواناتها حتى وإن حبا الله بعضها بعقل راجح وبصيرة تقودها إلى الإيمان بوحدة الكون ومصيره الفاني، فإن الأخريات البيهمة لا تُخالف في وعيها اشتراطات الطبيعة (كما مشهد ولادة المِعزاة في الزريبة حيث تتركها الأخريات لوحدتها)، وتعرف كيف تعبّر عن مواجعها أمام الموت (كما المَشاهد المفعمة بالحنين لضياع المعزاة الصغيرة وثغائها اليائس إثر ميتة العجوز). ولكي يجعل هذا المخرج الموهوب (مواليد ميلانو، 1968) من نظرته المتفلسفة أقل غلواً، يجبرنا على مدى الدقائق الثماني والثمانين على مراقبة النشاط اليومي لبشره، حيث يخصّص المساحة الأكبر إلى فحاميه المجتهدين وبنائهم المعماري الصاعق والموغل بقدمه لمراديمهم ذات الشكل المخروطي. ومثلما يفتتح فيلمه بهم وهم يشيدون قبتهم وإحراقها، يختتمه بعد الأيام العشرة اللازمة لصناعته وهم يزيلون أكوامه ويرتّبون موقعه، كما هي الحياة التي تنظّم التتابع الخالد بين البقاء والموت. هذه المعادلة تعود بقوة بصرية وسردية في المشاهد الطويلة للتقليد الشعبي المسمّى بـ«بيتا» (الخبز)، حيث تُقطع شجرة ضخمة وتُرفع وسط القرية ليتبارى الشبّان في الوصول إلى هامتها، قبل أن تُقطَع وتُنقَل إلى مركز الحرق، لتحوَّل إلى فحم يشيع لاحقاً الدفء في البيوت، وينظّف مياه الشرب في الأكواز، ويمدّ الناس بعمر أطول.

هذه الدورة الزمنية واجبة لفهم الحركات الأربع للفيلم المتبصّر، وجمعه الكائنات في حيّز واحد يُشبه الفردوس الأرضي. إن رحيل الراعي العجوز يطرح السؤال الدائم والمخيف: مَن يُفهمنا الموت ورحلته؟ مَن يملك شجاعته حين تحين الساعة؟ العاصي أم المجتهد بيومه؟ هل حقاً يستغفل البشر موتهم كي لا يشعروا بجبنهم الحتمي؟ تكمن المرّات الأربع في عرف فرامارتينو في المتوالية التالية: الولادة لمدح الرب، العمل لإعلاء القوة، الواجب لتفاني الجمع، الإيمان بتكافله اليومي، الموت لمدح عطاء الله على متعة العيش نفسه.

ترحيل

لن يواجه الهندي سينغ في «المِعْزاة العذراء» موتاً فيزيولوجيا، بل يشهد ترحيلاً جبرياً لعالم أجداده الذي يُصنف اليوم إلى رحلات مكرورة بين الحقل والبيت والقبر. وبما أن الأول ملك دائم للخالق حتى يوم الحق، فإن الثاني يبقى موئل تتابع الأجيال الذين نراهم في حالة سينغ وهم ساعون إلى التفكّك والعداء. أما الثالث، فهو الفناء المنتظر الذي نجتهد في مخاتلته. ولئن كانت الطبيعة لدى الإيطالي فرامارتينو زينة الحياة، فإن زميله الهندي ناير يحوّلها إلى جحيم شخصي لبطله، حيث أن رحلته من القرية إلى المدينة الكبيرة، حيث يُفترض أن فض بكارة مِعْزاته هو الإيذان بولادة جيل جديد يشي بالديمومة (مقابل العرقلة التي تواجه زيجة ابنته المتمدينة)، تتلبّس عوالم دانتي أليغييري وتستلف كوميدياه. الطبيعة تعاقب العجوز الهندي بالقيظ وفساد الطرق، والبشر يكشفون عن أنانيتهم حيث يفشلون في تصويب وجهته، قبل أن يقع سينغ في الورطة الحكومية التي تنظر إليه كإرهابي يسعى إلى تصفية سياسي كبير من المفترض مروره في السبيل ذاته.

يحدث الانقلاب التهريجي الكبير، عندما يتبرّع عدد من الشباب بمساعدته، لنكتشف مؤامرتهم الهزلية القائمة على اعتبار معزاته شعاراً للانتفاضة الشعبية ضد ظلم السلطة، التي يُراقص أزلامها الشباب المنتفض. تنهي الطبيعة دورتها بألوان وأنوار القنابل وقذائف المولوتوف التي تشكّل صورة مصغّرة لصراع الحزبية العتيد في بلد غاندي، حيث أبناء الأرض الذين لا تسعهم الأرض المترامية يفتقدون الصوت الواحد من أجل خلاصهم المنتظر من مزمني السياسة والنهب. لن يموت سينغ مثلما لن تفقد مِعْزاته بكارتها وتبقى عذراء مثل الموت الذي يروم القضاء علينا جميعا في يوم ما.

انتصر الإيطالي فرامارتينو إلى شعرية باهرة، أُجبر عليها بسبب بهاء المحيط الريفي الذي يذكّر بقوّة لافتة إلى إرث النص الفلاحي للمعلم إيرمانو أولمي، خصوصا في «أبي سيدي» (1977) و«شجرة القباقيب الخشبية» (1978). فيما اختار ناير، الذي سبق أن حصل على «الكاميرا الذهبية» في مهرجان «كان» عن «عرش الموت» (1999)، إنجاز هجائية ملوّنة تقترب من موروثه الشعبي وغنى أرياف قارته الهندية. في «المرّات الأربع»، انسياب سردي يقترب من حكاية الجدّات ومغازيها المفتوحة على الحكمة. أما «مِعْزة» ناير، الذي كتب حكايتها مع جوناثان بيج، فلم تخالف الكثرة الدرامية المشهورة في السينما الهندية، أي ثورة حكايات وجمهرة شخصيات وغمز سياسي مكثّف، لكن من دون ملاحات رقص النجم شروخ خان، ولا تمايل خصر الحسناء كاترينا كايف، إنما خطاب يضمر ماركسيته القديمة.

)لندن(

السفير اللبنانية في

02/12/2010

 

في وهران انتهت القطيعة بين مصر والجزائر

وهران ــ سعيد خطيبي 

بعد طول انتظار انتهت القطيعة الفنية بين مصر والجزائر... تلك القطيعة التي تلت مباراة كرة القدم الشهيرة في السودان بين منتخبَي البلدَين. وكدليل على انتهاء الخلاف، أُدرج الفليمان المصريّان «ميكروفون» للمخرج أحمد عبد الله، و«أحمر باهت» لمحمد حامد في المسابقة الرسمية لـ«مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي» (من 16 إلى 23 من الشهر الحالي).

وقد عُقد أمس مؤتمر صحافي لإعلان برمجة هذه التظاهرة الفنية. وبدا مدير المهرجان مصطفى عريف راضياً عن انتهاء الخلاف بين بلاده ومصر، مؤكّداً أنّ هذه الأخيرة تمثّل جزءاً مهماً من البرمجة. ويشارك في الدورة الحالية 13 فيلماً، أبرزها «تاكسيفون» لمحمد سوداني (الجزائر)، و«السّاحة» لدحمان أوزيد (الجزائر)، و«المنسيون» لحسن بنجلون (المغرب)، و«حراس الصمت» لسمير ذكرى (سوريا)، و«مرة أخرى» لجود سعيد (سوريا)، و«شتّي يا دني» لبهيج حجيج (لبنان)... أما لجنة التحكيم، فيرأسها الروائي رشيد بوجدرة، بمشاركة الممثلة السورية سوزان نجم الدين، ومديرة «مهرجان بيروت الدولي للسينما» كوليت نوفل. فيما عُيّن المخرج التونسي إبراهيم اللطيف على رأس لجنة تحكيم مسابقة الأفلام القصيرة، تعاونه السينمائية السورية هالة عبد الله. ويشارك في هذه المسابقة 21 فيلماً من 13 بلداً عربياً. كذلك تشهد الدورة الجديدة من المهرجان عرض سلسلة أفلام خليجية من البحرين، والكويت، والإمارات العربية المتحدة والسعودية. أما الافتتاح، فسيكون مع عرض فيلم رشيد بوشارب «خارجون عن القانون»، لِيَليه تكريم للممثل الجزائري الراحل العربي زكّال (1934 ـــــ 2010)، والممثلتَين الجزائرية شافية بوذراع، والكويتية حياة الفهد.

مشروع قانون جديد للسينما في الجزائر، يشرّع الرقابة على الأفلام التاريخية

تأتي الدورة الرابعة من «مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي»، في ظروف استثنائية جداً. إذ استُبعدت اللجنة الإدارية التي أشرفت على الدورات الثلاث السابقة، وترأسها حمراوي حبيب شوقي. كما أنّ الساحة السينمائية الجزائرية تشهد حالياً غلياناً لم تعرفه من قبل، بعد اقتراح الحكومة قانون سينما جديداً، تنص مادّته الخامسة على إخضاع جميع المشاريع السينمائية التي تتناول تاريخ الجزائر ورموزها لموافقة الحكومة. وبعدما استبشر السينمائيون خيراً باقتراح القانون الجديد، جاءت هذه التعديلات الرقابية التي اقترحتها وزارة الثقافة لتزيد من حسرتهم.

ويؤكد هؤلاء أن القانون الجديد ما هو سوى نسخة معدّلة من القانون القديم الصادر سنة 1968، الذي تطغى فيه الأيديولوجيا على احترام الحريات والقيم الفنية. وتزامنت كل هذه التطورات مع نشر إحصائيات تعلن أنّه لا وجود في الجزائر سوى لـ15 صالة عرض، في وقت كان فيه عددها يتجاوز مطلع الستينيات 473 صالة. إلى جانب انخفاض نسبة الإنتاج كثيراً، إذ لم تُنتج عام 2010 سوى ثلاثة أفلام جزائرية.

الأخبار اللبنانية في

02/12/2010

 

فيلم ابن القنصل .. الأقنعة لا تخفي اللصوص

كتب مها متبولى 

فكرة الفيلم قدم أيمن بهجت قمر الفيلم بحرفية كبيرة، عبر سيناريو محكم وشديد العمق والدهاء، حيث يكسر باستمرار توقع المشاهدين ويفاجئهم تباعًا بما ليس في الحسبان، ليؤكد أن التزييف الأخلاقي قد صار مرضًا واسع الانتشار، فلم يقتصر علي العملات وجوازات السفر وعقود البيع والشراء، وإنما انتقل أيضا إلي تقمص الأدوار وانتحال الصفات، فمن «تحسبه موسي يطلع فرعون»، ولا تنتهي الحيل في جراب الحاوي، مادام الهدف هو الوصول للذهب، والحصول علي المال.

ويكشف الفيلم في فكرته الأساسية حقيقة الاتجار بالدين من خلال شخصية ابن القنصل أحمد السقا الذي يسبك الدور من خلال الجلباب الطويل واللحية والطاقية البيضاء ويرسم أيمن بهجت قمر ملامح هذه الشخصية بإتقان سواء في المظهر الرافض للمجتمع أو من طريقته في الكلام، فهو يجذب كل شيء إلي التدين مستندًا إلي كم هائل من الشعارات، إلا أنه يستغل كل ذلك ليقنع «والده» خالد صالح بأنه ابنه، ولابد أن يؤمن به، وتدور بينهما مشاكسات تؤدي وظيفة مهمة في دفع عجلة الأحداث، منذ خروج «القنصل» من السجن، ليكتشف أن الإسكندرية تغيرت وامتلأت «بالتوك توك» الذي يدل في مظهره علي تواضع مواصلات الفقراء، ويري القنصل فتيات متبرجات، وعن يمينه فتيات بالنقاب، في دلالة علي أن المجتمع يعيش نوعًا من الانقسام، وفي الوقت الذي يحرص فيه القنصل علي أن يكون ميالاً للمتبرجات بحكم حرمانه في السجن، يؤكد ابنه انتماءه للنوع الثاني، وعلي هذا الأساس يبني أيمن بهجت قمر مركز هذا الصراع، حيث يجري «القنصل» وراء شهواته، بينما يصر ابنه علي أن يتجنب الحرام، ولكنه أيضًا يتورط مع جماعة إرهابية تجعله يقضي سنوات من عمره داخل المعتقل ومن خلال ذلك يكشف الفيلم عن العقل الباطن الذي يسيطر علي فكر هذه الجماعات، وكيف تستخدم التكنولوجيا الحديثة في التلاقي والاتصال بل تنتقد الجميع علي أساس أن كل شيء قد أصبح «مضروبًا»، وأن الصين قد اخترقت الأسواق المصرية ولا يوجد أي شيء أصلي.

فالتقليد هو النغمة السائدة في الحياة لدي المصريين، ويصادف ذلك هوًي في نفس «القنصل» الذي كان قبل سجنه يضرب توقيعًا واحدًا، وعندما خرج وجد أن الصين قد زيفت كل ما يحيط به من أشياء، وتدور حدة الصراع بين خالد صالح وأحمد السقا بمحاولة كل طرف السيطرة علي الآخر.

وطوال الفيلم يراود المشاهد احتمال مطروح وسؤال مهم.. وهو هل تنتصر القيمة الزائفة للقنصل اللص الافاق، أم لابنه صاحب القيم والأخلاق، وعلي طريقة «يا عزيزي كلنا لصوص»، يتلقي المشاهدون صدمة كبري عندما يتضح أن القنصل كان ضحية مؤامرة، فلا أحمد السقا ابنه ولا هو متدين، ولا غادة عادل التي جسدت دور «فتاة الليل» غانية، كما أن خالد سرحان أمير جماعة الإرهاب بعيد تماما عن هذا الإطار، وكان الهدف هو الوصول إلي سبائك الذهب التي أخفاها «القنصل» عن شريكيه القدامي، ليبدأ المشاهد في رحلة الفلاش باك يستعيد تفاصيل القصة ليكتشف حقيقة التلاعب بالدين واستخدامه كستار، وكأن ذلك هو الأيقونة السحرية التي تحرك عصا الإرهاب في كل زمان ومكان، فالزيف تسلل إلي كل النفوس، وسيطرت المادة علي القلوب والعقول وتحكمت في الوسائل والأهداف، وأصبح نادرًا أن تجد شخصية صادقة، أو ذات وجه واحد، فالكل صار يلعب علي كل الحبال، وأصبح الإنسان متعدد الوجوه والصفات والقسمات.. وقد عبر المخرج عمرو عرفة عن ذلك في المشهد الذي ينزل فيه خالد صالح عن سلم قسم الشرطة، وهو مقيد في الكلبشات، حيث يري أحمد السقا في صور متعددة، تتراوح بين الساعي والشاب المتدين والضابط والعسكري والمواطن، وتزداد كثافة الموقف حتي يتأكد «القنصل» من خداع الناس له، فيقرر الهروب من عالمه إلي البحر في لعبة كوميدية محكمة.

عمرو عرفة أبدع في تحكمه بالمشهد السينمائي

تمسك عمرو عرفة في الفيلم بقدرته علي صناعة المشهد السينمائي النابض بالحياة، واستغل وجود الأشخاص وعلاقتهم بالمكان والأشياء ليعكس العديد من الدلالات، واستطاع أن يوظف طاقات الممثلين بما يخدم طبيعة كل دور علي حدة، كما نجح في توفير حالة من الانسجام التمثيلي، فيما بينهم من أداء فغادة عادل وخالد صالح وأحمد السقا، حيث قدموا مجموعة من المشاهد بنوع من التوافق الكامل مع احتفاظ كل فنان بالكاركتر المختلف الذي يجسده.

يحسب لعمرو عرفة أنه أخرج أحمد السقا من عباءة العنف والبلطجة السينمائية، وجذبه من يديه إلي منطقة أخري يكون التمثيل وحده فيها هو أهم الأشياء، بلا دماء ولا تحطيم سيارات كما أن للمخرج دورا أساسيا في توزيع حجم الأدوار، فقد تم ذلك بنوع من التوازن المحكم، فلا يوجد دور نلاحظ عليه الزيادة أو النقصان أو الترهل أو الإفراط بل تمت صناعة وجبة سينمائية محددة العناصر، وركز المخرج علي أن يطرح كوميديا صادمة تعتمد علي الموقف بلا إسفاف ولا ابتذال، ولم يكن بعيدا عن لمس أوتار المجتمع، فمازلت أصر علي أن الفيلم قدم نقدا اجتماعيا للتركيبة العجيبة من تناقض بعض الشخصيات وما يحيط بها من أمراض المجتمع. وأهم ما في الفيلم أنه يعتمد في طرحه الكوميدي علي فريق العمل بكل ما فيه من ممثلين رئيسيين وثانويين، فالكل له دور في استكمال رتوش الحالة العامة للفيلم مما فجر طاقات كوميدية غير تقليدية.

السقا وخالد صالح تناغم فني في الأداء

يثبت خالد صالح أنه ممثل جامع لقدرات التقمص والتجسيد لأنه يعايش الدور بكل ما فيه من تفاصيل حيث يرسم الشخصية بدءا من مظهرها الخارجي ويحدد لها نوعية «المشية» الخاصة بها وكذلك طريقة الكلام بالإضافة إلي الحركات واللفتات، وهو أثناء ذلك كله يحتوي المشاهد الذي لا يجد مفرا من الوقوع تحت تأثير خالد صالح وطريقته في الأداء لدرجة أنك تلاحظ وجود ظلال بعيدة من شخصيات قدمها هذا الفنان من قبل وكأنك تشعر بروح الشيخ مصباح، وسطوة أمين الشرطة وهذا ناتج من تركيبة «القنصل» الذي أعده شخصية تجمع في داخلها شخصيات أخري كثير، وقد برع خالد صالح في تقديم دور الرجل العجوز وما يطرأ عليه من نوبات التصابي والرغبة في الانفلات، وأهم المشاهد التي يشارك فيها خالد صالح داخل أحداث الفيلم هي المشاهد التي كان يجسد فيها الموقف التمثيلي بمفرده بدءًا من مشهد ركوعه أمام قبر أبيه وحديثه المؤثر تجاه والديه رغم رقودهما تحت التراب، وانتهاء بمشهد عودة الوعي إليه في حوش القبر ومن حوله خيوط الدماء وفقده لابنه الذي يعرف أن قد قتل أو واجه مصيرا محتوما، وتخبطه بحثا عن الذهب الذي فقده أيضا، وصدمة الانكسار والضياع، وأهم ما يقدمه خالد صالح في مشاهده انعكاس الصدمات علي تعبيرات وجهه والتحكم في ردود الأفعال.

أعتقد أن الفيلم كان من الممكن أن ينتهي بهذه النهاية إلا أننا نفاجأ بالعديد من التطويل في شرح ما حدث، وهو من باب لزوم ما لا يلزم، لأن الربع ساعة الأخيرة من الفيلم لا تضيف جديدا وإنما تعد «اسكتش» كوميدي تم إقحامه مثل القفلات المسرحية بوجهها المعتاد فالمشاهد الأخيرة من الفيلم كانت مسرحية.

تخلص أحمد السقا من حرق موهبته الفنية في أفلام الأكشن وبدأ يركز علي مفردات التمثيل والأداء ودقة اختيار الدور بغض النظر عن مساحته أو حجمه داخل بنيه الأحداث، وشكل السقا بأدائه شخصيتين مختلفتين أولا شخصية الشاب الملتحي بكل ما يحيط بها من ملامح خاصة جدا، وشخصية الشاب العادي الذي ورث خفة اليد والذكاء والقدرة علي التزوير وكان السقا مقنعا في تقديم نفسه للمشاهد بكلتا الحالتين، إلا أنه أضاف إلي أدائه نوعا من الكوميديا الخفيفة التي تستحق الإعجاب والتقدير، فهي مفعمة بخبرة سينمائية وحدس فني مرهف، وقد ظهرت موهبة السقا في أداء المشاهد المركبة التي تجمع بين نوعين من الانفعال في وقت واحد، ففي المشهد الذي يغضب خلاله من اتهام القنصل له، تبدو عليه تعبيرات الحزن إلا أنه في الحقيقة يبطن سعادة خفية لنجاحه في خداع كل الأطراف، وقد حقق السقا بفيلم «ابن القنصل» نوعًا من التصالح مع جمهوره واستأنف نجوميته التي كادت تفلت خيوطها من يده في فيلمي «إبراهيم الأبيض» و«الديلر».

أما غادة عادل رغم أن الشخصية سطحية في بنائها وتكوينها العام إلا أن غادة استطاعت أن تمنحها نوعا من الحضور القوي علي الشاشة.

ويعكس الفيلم أهمية الأدوار جميعها داخل نطاق أحداثه، حيث لا يمكن حذف أي دور منها علي الإطلاق، لأن الدور يمثل ركيزة أساسية في سبك الإيهام والفيلم أتاح للممثلين أن يقدموا نمطين من الشخصيات.

انطلاقا من فلسفة سينمائية تؤكد أن لكل شيء وجهين في الحياة وما بين الحقيقي والمزيف تتم صناعة الأكاذيب والضحك علي الذقون بمعسول الأفكار الذي تمارسه بعض الجماعات.

علي طريقة ياعزيزي كلنا لصوص

يقدم فيلم «ابن القنصل» رصدًا لتغيرات المجتمع، وما طرأ عليه من انتهاكات وتشوهات، فمصر باتت تضم العديد من الاختلافات والتناقضات الاجتماعية الصارخة.. ووسط هذا التشتت الحضاري تتمزق القيم وتعلو نبرة الاحتيال بكل أشكاله، والفيلم صورة كوميدية مقلقة لما صارت إليه المصائر والأحوال، فالنصابون والمحتالون يباح لهم التلاعب بالضمير والدين لخداع الناس.

روز اليوسف اليومية في

02/12/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)