حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

الرجل الأكثر خطورة في أمريكا

قيس قاسم

حتى شهر سبتمبر من عام 1969 كان دانيل ألسبيرغ من أكثر الشخصيات قربا لوزير الدفاع الأمريكي روبرت ماكنمارا، وأشدهم أهمية بين العاملين في مكتبه خلال الحرب على فيتنام. فألسبيرغ كان من بين المحللين السياسيين الأكفاء ومن القلة التي رسمت أستراتيجات الحرب الفيتنامية قبل ان يتحول من مخطط للحرب الى مناهض عنيد لها؟.   

شخصية مثل هذة، تغوي، دون شك، مخرجين كثر لصنع أفلام وثائقية عنها، غير أنه في نفس الوقت يدرك من يشتغل في هذا الحقل، وقبل غيرهم، ان الاقدام على ذلك فيه من الخطورة الكثير. فرسم ملامح شخصية بهذة السعة والأهمية، وبعد أكثر من نصف قرن على بروزها بقوة، يحتاج الى فهم عميق لها، وأمتلاك قدرات فنية تساعد على تجميع تفاصيل صورتها كاملة، فغياب أي جزء منها، مهما صغر، سيشوهها، وسيلغي مبرر محاولة اعادة تشكيلها سينمائيا. كما أن محاولة اسقاط بعدها السياسي على الوقت الحاضر، وبشكل مباشر، سيبدو مفتعلا إذا لم يبرر وفق سياقات مستمدة من ظروفها التي نشأت وتفاعلت فيها، أي، وقبل كل شيء من الشخصية نفسها ومن تجربتها الحقيقة، وهذا ما حاولت المخرجة جوديت أرليك وزميلها ريك جولدسميث، تحقيقه في فلمهما، مستفيدين من أكثر وسائل التعبير البصري استخداما في الوثائقي: صور من الأرشيف؛ فوتوغراف، وثائق تلفزيونية وسينمائية، وثائق شخصية، تسجيلات صوتية، رسوم متحركة ومقابلات "صحفية". تسجيلات بالأسود والأبيض، ملونة ووسائل توضيحية حديثة التقنية. ومن أجل كسب أكبر قدر من المصداقية أحضروا أغلب الشخصيات التي كانت لها علاقة بألسبيرغ، وبالوثائق التي سربها. وكان من المنطقي أن يكون هو وأفراد عائلته في مقدمة المتحدثين عن التجربة التي عرضت حياتهم يوما لخطر حقيقي.

بدا دانيل، وهو في العقد السابع من عمره، متصالحا مع نفسه ومع تاريخه وهو يسرد تجربته مع الحرب وكيف أنتقل من مؤيد لها الى معارض. لقد أستخدما المخرجان حديثه كأرضية وخلفية لسرد الأحداث، فما كان يهمهم ليس الكلام نفسه قدر الصورة وقوة اقناعها. ومع أنه ساعد كثيرا في رسم صورته الشخصية ومعه زوجته، إلا ان الكم الهائل من الصور والوثائق أعطت لكلامه مصداقية وعمق مدهشين. فكل مقطع أو حادثة كانت الصورة تصاحبها بعناد وكأنها لا تريد له أن ينفرد بسرد الأحداث دون أعطاء الأخرين فرصتهم في تكريب المشهد كاملا، ولهذا لجأ المخرجان ومنذ المشهد الأول بالاستعانة بالمؤثر البصري الفعال، فدخلنا الى الشريط عبر مشهد لخزانة تفتح أقفالها ثم يأخذ منها رجلا أوراقا ويختفي! ثم يعود نفس الرجل ليكمل كلامه. قال وقبل كل شيء أنه ساهم في الحرب وكان مقتنعا بها: لقد كنت مؤمنا بأننا بتدخلنا في فيتنام انما نرسخ الديمقراطية ونقف ضد الدكتاتورية الستالينية. لهذا شاهدناه في فيتنام مقاتلا متطوعا لا لشيء سوى ليعيش أجواءها ثم يخطط في ما بعد لرسم مسارها على ضوء التجربة المعاشة. كان دانيل نموذجا نادرا في حماسته، ولكن وبعد مضي وقت قصير من الحرب أقتنع بأن ما يقومون به هو حرب ابادة ولهذا وقف ضد الهجوم الجوي وضد اسقاط القنابل فوق رؤس البشر، ونجح في اقناع ماكنمارا في اجتماع سريع وهما على متن طائرة حربية بفكرته، ولكنه فوجيء بموقف مختلف تماما، فقد أعلن الوزير فور هبوطه من الطائرة الى الصحفيين أن مسار الحرب يسير لصالح أمريكا وأن القصف الجوي نفع ولكن ما يهمه هو حقن دماء المدنيين. لقد شعرت حينها بأنني أتعامل مع كذاب وليس سياسي نزيه، هكذا وصف دانيل وزير دفاعه ومسؤله المباشر.

ولم يبقى الأمر عند هذا الحد، فأمتد الى نيكسون الذي وصل الى الحكم بناءا على برنامج انتخابي روج لفكرة ايقاف الحرب، ولكن التسجيلات الصوتية أكدت له ان الرئيس لا يقل كذبا، بل هو أكثر وقاحة وعدوانية من غيره كما ظهر في التسجيل الذي سمعه وهو يتحدث الى  كيسنجر مقترحا عليه فكرة استخدام قنابل نووية، إذا لم تنفع القنابل التي يستخدمها جيشه. لقد أراد كسب الحرب وليس وقفها وهكذا حال جميع ادارته. موقف دانيل ألسبيرغ، تكون كما بين لنا الشريط تدريجيا وبتأثير من تجربته أولا ومن مواقف زوجته التي كانت معارضة للحرب منذ بدايتها ولكن تجربته مع الصحافة عززت قناعته بأمكانية المضي في صراعه حتى النهاية. لقد كان موقف "نيويورك تايمز"ثابتا ولم تتراجع أما الضغوط، فأفشلت، ومعها بقية الصحف التي تلقفت الكرة وراحت تنشر بدورها الوثائق وتعري الحقائق، كل خطط الإدارة الأمريكية. لقد انتزعت قرارا مهما من المحكمة العليا سمح لها بنشر ما أعطاها لها دانيل ضاربة عرض الحائط تهديداتهم بالسجن والاغلاق. لقد اجتمع الإعلام والموقف النزيه سوية فكسبا المعركة. صحيح ان ضحايا الحرب لم يعودوا الى الحياة ثانية ولكن على الأقل استطاع ألسبيرغ ومعه الصحافة في كشف جزء كبير من الحقيقة، التي أمتد دورها فيما بعد لتسقط نيكسون في فضيحة "ووترغيت". وصحيح أيضا ان هؤلاء الرؤساء لم يقفوا أمام القضاء ولم تدنهم المحاكم لجرائمهم، إلا ان حركة مناهضة للحرب قد بدأت هناك وأتسعت شعبيتها، لدرجة أستطاعت فرض شروطها بانهاء الحرب. فيما  ظل ألسبيرغ نشطا في دعوته للسلام ومؤيدا لحركاتها في العالم. فما حدث أن "الرجل الأكثر خطورة في أمريكا" صار هو حمامة السلام فيما بعض رؤساءها قد دخلوا التاريخ، معه، ولكن كصناع حروب مدمرة.

الجزيرة الوثائقية في

10/11/2010

 

جلد حى: أطفال وسط السموم يحلمون بالقفز على السور

القاهرة – سهام لطفى 

من فوق عربة كارو يجرها حمار، تسلل المخرج الشاب فوزى صالح بكاميرته،  فى أكثر المناطق نسياناً فى القاهرة، و"المدابغ" فى عين الصيرة بالقاهرة القديمة ليخلق صورة حقيقية فى فيلمه الوثائقى الطويل الأول "جلد حى"، والذى حصل مؤخراً على جائزة أفضل فيلم وثائقى عربي فى الدورة الماضية من مهرجان أبوظبي السينمائى الدولى.

وبعيداً عن كل المحاولات الإستشراقية التى أنجزت بها أفلاماً وثائقية حول عمالة الأطفال ، إخترق المخرج الشاب فوزى صالح عالم الأطفال العاملين فى صناعة دبغ الجلود، وكثف فى 56 دقيقة – هى مدة الفيلم –  احلام أطفال  يتنفسون السموم والمواد الكيماوية أثناء صناعتهم الجلود، حيث يعكس إسم الفيلم "جلد حى" صورة صادمة وقاسية، تصل لحد الألم والغضب  لأطفال  يعيشون ويعملون فى مكان لا يصلح إلا ان يكون معقلاً للحيوانات المفترسة.

هناك  بشر من لحم ودم،  يصنعون من جلود الحيوانات، احذية وحقائب ومعاطف، يستخدمها الأغنياء، دون أن يشعروا بالملمس الحقيقي لمن أعدوها لهم، فى مقابل تعرضهم للسموم، والإصابة بأمراض، لا ينهيها سوى الموت..

ثمانية أطفال، هم الشخصيات الحقيقية فى فيلم "جلد حى"، يمثلون نماذج عدة لما يقرب من 2000 طفل  لأطفال  فى مثل أعمارهم، يعملون فى دبغ الجلود، فى منطقة  سور مجرى العيون بالقاهرة القديمة، فهم يحلمون بالقفز من خلف هذا السور الذى يحول بينهم وبين العالم الخارجى – خارج منطقة المدابغ- .. لكل منهم  حكاية، يسردها فوزى، من خلال عربة الكارو المحملة بالجلود ، التى نري من خلالها تلك المنطقة الغارقة فى المواد الكيماوية السامة..

يأتى الفيلم الوثائقى الطويل "جلد حى" - Living Skin-  ليكون أول أفلام مخرجه فوزى صالح، بعد فيلم تجريبى قصير إسمه "موكا" عام 2006...فالفيلم  يعتبر تكملة لمحاولات مخرجه  السابقة فى الكشف عن عالم لا نعرفه، ويقول  : "عندما أردت عمل الفيلم ، فقد كان مجرد تكملة  لتجاربى الغير ناضجة فى هذا المجال، فقد سبق وانا وان قمت بعمل العديد من البرامج التوثيقية فى مناطق بمصر، تفتقر الكثير من الإحتياجات الضرورية واللازمة للحياة"..

"فوزى صالح"المولود فى مدينة الإسكندرية عام 1982، كانت له تجربة مشابهة  لشخصيات فيلمه، فقد كان طفلاً عاملاً، لذلك يصر في فيلمه "جلد حى" علي رفض عمالة الاطفال، خاصة الذين يعملون فى مهنة لا تجلب لهم سوى الموت..

" هؤلاء الأطفال  منسيون و مهمشون خلف سور المدابغ، يستطيعون رغم الظروف الاقتصادية – السيئة-  أن يمارسوا بعضا من انسانيتهم عبر علاقات الحب و  الصداقة ، وإحتفائهم بالحياة بتعبيرهم عن ذلك بالرقص والغناء" هكذا يقول فوزى،  " فالمكان بطل موازى فى الفيلم لباقى الشخصيات، فهو القاتل، والبشر فيه مفعول بهم وليسوا فاعلين، فالأطفال والأهالى هناك محكوم عليهم بالإعدام".

كانت لدى مخرج الفيلم رغبة فى عمل فيلم حقيقى، يميزه عن غيره من المخرجيين الموجودين، فهو يحتفى بالطفولة والحب وقدرتهم علي الحياة فى مكان يحلمون بسلخه منهم، مثلما تسلخ الجلود من الحيوانات.

فى عام  2008 قرر فوزى صالح، عمل  فيلم عن المدابغ، وفى النفس الوقت لم تكن لديه قصة مكتملة، ولا رابط درامى واضح فى الفيلم، فإختار ان يكون العربجى – من لديه عربة كارو- هو الخيط الذى يبدأ به الفيلم..فقد عاش المخرج ، مايقرب من عام فى منطقة عين الصيرة ، المجاورة للمدابغ أثناء فترة دراسته- لذلك فهو يعرف جيداً الأهالى هناك.

فى فيلم "جلد حى" أصر مخرجه بأن يكون مدخله لعالم الاطفال فى منطقة المدابغ من خلال "المولد"، الذى جعل منه مشهداً لبداية ونهاية الفيلم، ولكى يؤكد منه أن حكاية هؤلاء الأطفال لم ولن تنتهى، إضافة إلى رؤيته من أن هذا "المولد" كان من اكثر المشاهد تعبيرية على مستوى الثقافة الشعبية لهذى الطبقة فى المجتمع المصرى، خاصة وأنه الشئ الوحيد الذى يمثل بهجة للأطفال، الذين يرونه وسيلتهم الوحيدة فى إحتفائهم بالحياة، رغم الظروف المريرة التى يعيشون بها.

وبالتالى كان – المولد- هو إلا الرابط الوحيد والحقيقى علي أحقية هؤلاء الأطفال فى الحياة، والذى يعكس لعبة التجدد الدائم، وهى المفارقة التى يقوم عليها إسم الفيلم، لأن الأطفال فى الحقيقة هم "جلد حى"...فحكاية هؤلاء الأطفال ممتدة، وهم يلعبون وتتغير لعبتهم، ولا يدركون هل هم يعيشوا خارج العالم ام داخله ، وذلك فى الحد الفاصل بين خارج وداخل السور؟.

الجزيرة الوثائقية في

10/11/2010

 

الحارقون .. الأجساد الطريدة تهرع للبحر القاتل

وثائقي عن عالم الهجرة السرية في تونس

كمال الرياحي – تونس 

يمثل موضوع الهجرة غير الشرعية موضوعا أثيرا لدى سينما العالم الثالث في صنفيها الروائي والوثائقي وقد بدأ هذا الموضوع يشكل ظاهرة في السينما المغاربية ومن الطبيعي أن يكون لتونس نصيبا من هذه الظاهرة السينمائية مثلما كان لها نصيبا مهما من ظاهرة الهجرة غير الشرعية نفسها.

تابع الجمهور التونسي هذه الأفلام في اللقاءات الدولية للفيلم الوثائقيّ وفي أيام قرطاج السينمائية لهذا العام. ومن أهم ما عرض في اللقاءين فيلم وثائقي للمخرجة ليلى الشايبي بعنوان"الحارقون" وهو فيم قصير في 26 دقيقة يعالج موضوع الهجرة غير الشرعية لكنه ينطلق من حادثة حقيقية وهي غرق قارب مجموعة من المتسللين للضفة الأخرى من المتوسط ، وكان معظمهم من مدينة المرسى هي مدينة ساحلية على ضفاف البحر الأبيض المتوسط تقع على بعد 18 كيلومترا شمال مدينة تونس، وينحدر هؤلاء الضحايا من منطقتي "البحر الأزرق" و:عين زغوان" وهي أحيانا تمثل جزءا من حزام خطير من الفقر عرف بعمليات السلب وتفشي الجريمة.

يبدأ الفيلم بصباح تونسي عادي  وشاب عاطل على بنك أمام البحر يتثاءب ثم يأتي المشهد الموالي صورة لأناس من كل الشرائح الاجتماعية تتصفح الجرائد. قبل أن تأخذنا الصورة إلى عناوين الصحف التي تروي قصص الحارقين والمفقودين في البحر القاتل. ثم يبدأ جينيرك البداية ليعلن عن عنوان الفيلم "الحارقون" وسط موسيقى جنائزية تنتهي مع العنوان بصوت احتراق.

يبدأ الفيلم على صوت التكبير "الله أكبر" ليكون  المشاهد منذ البداية أمام جنازة وكأن بتلك النيران التي سمعنا هشيمها خلفت ضحية أولى تتشاهد في الشاشة محمولة في تابوت على الأكتاف ويحمل  التابوت بدوره اسم المنطقة" عين زغوان" .

هذا التابوت الذي حمل جثة واحدة يحوّله الفيلم بطريقة فنية موحية إلى تابوت جماعي يحمل اسم المنطقة كلها وكأن الجنازة جنازة حي بأكمله بعضه داخل التابوت وبعضه خارجه لكن كلهم ميتون بوجوه الحزن التي يحملونها. وتأخذنا الكاميرا الذكية الأمّارة بالتأويل إلى معنى الغرق الجماعي في رمزية الغريق الواحد. والاحتراق الجمعي وهو ما تؤكّده المخرجة في التقاطها لعبارة يتيمة من فم امرأة في المأتم " شكون ما هوش محروق ؟"

ليس الشاب، إذن، إلا رمزا لبقية الشباب الذين في طريقهم إلى القدر المحتوم لذلك لا تتردد المخرجة في أن تراوح في فيلمها بين الحديث عن المفقودين وبين الحديث مع العازمين على الحرقة وتصوير البعض الآخر في حال من اليأس في الشوارع ينظرون إلى البحر العدو والملاذ.

بعدها تبدأ رحلة الكامرا بين المحترقين بنار الفقدان:عائلات الضحايا ووجوه الأصدقاء والحالمين بقارب الموت مدفوع الأجر.الشهادة الأولى لأحد الناجين من الحرقة بعد أن غرق رفاقه. يؤكد انه دفع ألف وخمسامئة دينار تونسي ليعيش تجربة الموت. أو يشتري الموت بالمال كما قال.

الفيلم عبارة عن شهادات حية للأهالي ولأبناء المنطقة ورصد لهواجس الشباب وهم يغالبون الحلم البعيد في الضفة الأخرى بمعاقرة الخمرة وحفر الأوشام على الجلد. يسترجعون قصصهم عن الحرقة ومحاولات الإفلات من اليابسة واقتحام البحر.مذكرين بجماعة الديكامرون لبوكاشو الذي يغالبون الطاعون والمجاعة برواية القصص لبعضهم.

أسئلة كثيرة طرحها الفيلم عن عالم "الحرقة" أسبابه ونتائجه. العائلات ترجع سبب الظاهرة إلى حاجة الشباب وبطالتهم وتطلعهم لحياة أفضل ويرى البعض الآخر أنها تفاقمت نتيجة حب التقليد والرغبة في الإمساك بالحلول السهلة. بينما يرجع عم العروسي أب الشاب المفقود سبب الظاهرة إلى الضغط المسلط عليهم من قوات الأمن أو ما يسميه بالرافل الذي أصبح يطارد هؤلاء الشباب في الشوارع مما جعلهم يفكرون في الهجرة بأي طريقة وهو ما دفع ابنه إلى أن يدفع ألفي دينار لشق البحر الذي أدّى إلى مقتله غرقا.

 ولئن كان الحلم أهم الدوافع التي تكرّرت في الأفلام التي تناولت الموضوع فإن فيلم "الحارقون" سلّط الضوء على سبب آخر بدا مغيّبا في الأفلام الأخرى وهو خطورة المجتمع الطارد للأفراد. ليسوا الفقراء هذه المرة إنما التائبون أو أصحاب السوابق. الخارجون من السجون. والعائدون إلى القانون الذي خرجوا عنه. شريحة تجد أمامها الرفض المطلق من المجتمع ومن المؤسسة فلا أحد يريد أن يشغلهم. أجساد مدرّبة على اقتراف أي شيء تُجوّع بتهمة جملها للسوابق العدلية.

تبدو هذه الأجساد مثل القنابل الموقوتة أجسادا يائسة وناقمة. تقول شخصية من شخصيات الفيلم"خرجت كاره الدنيا.." الكراهية إذن هي كل ما كسبه من دفعه ثمن جريمته ودخوله السجن. كراهية زرعها فيه المجتمع الطارد. وزاده الأمر تعقيدا أن هذا الطريد يحمل قناعة أن الدولة تخصص مشاريعها لأصحاب الشهائد وهو لا يرى نفسه مذنبا بعدم إكمال تعليمه ولا يرى في ذلك سبب لأن يقضي نحبه جوعا يقول "أنا ما قريتش على روحي. نموت؟" من يرى نفسه ضحية بهذا الشكل ويرى أنه مهدد بالموت من التهميش سيقدم على الموت إذا كان فيه نسبة ضئيلة من النجاة. ولكن الأخطر أنه مثلما يقدم على قتل نفسه ربما سيقدم عل قتل الآخرين مادام في قتل الآخر أملا في النجاة أيضا من الفقر ولو لحين.

هكذا يزرع التهميش أولى بوادر ولادة التطرّف في المجتمع. هؤلاء هم الفريسة المطلوبة لمافيا التطرف والإرهاب أومأ إليها الفيلم ولم يطرحها صراحة وهذا من مميزات الفيلم أنه يتركك تفكّر وتكمل ما بين السطور دون عملية تلقين صريحة.

يقول الباحث الجامعي العادل خضر في دراسة له بعنوان " الحارقون والمحترقون":" يخوض "الحارقون" مغامرة البحر. فهم يواجهون خطر الموت غرقا. إلاّ أنّهم، بركوبهم البحر، يستعيدون النّشاط الملاحيّ القديم، أي نشاط المخاطرة le risque وقد أضيفت إليه تقنيات السّعادة الجديدة. فكلّ واحد من "الحارقين" إنّما هو ذاك الكائن الّذي يتّجه دوما إلى الأمام بالارتماء في المجهول. فهو يمثّل انتقالا من الكائن المقذوف في العالم l’être-jeté-dans-le-monde على حدّ عبارة هيدغر إلى الكائن المندفع في العالم، الّذي أضحى شكل وجوده هجوميّا اقتحاميّا في العالم، في سياق معولم يبيح انتقال البضائع والأشياء والمواضيع بجميع أشكالها المادّيّة أو الافتراضيّة، ويعطّل في شبكته الهائلة تنقّل البشر.

ويضيف في المقال نفسه:"ضرب مغامرة "الحارقين" عرض الحائط بتلك الحكمة القديمة الّتي تقول "الدّاخل إلى البحر مفقود والخارج منه مولود"، وتستعيد في الآن نفسه الخيار الّذي راج في الأزمنة الحديثة، زمن الاكتشافات والاستكشافات: "المرفأ أو الموت le port ou la mort". فبين الرّهبنة الدّينيّة أو الانتحار يبدو عبور البحر حلاّ ثالثا يمنح "الحارقين" خلاصا مؤقّتا من حياة أصبحت لا تطاق في وطن مخيّب لكلّ أمل. وهم بهذا الخيار يصنعون جنّة تقع في هذا المابعد الأرضي المنفتح على كلّ المخاطر."

فيلم الحارقون لا يحقق في جريمة بعينها كما قد يتراءى للبعض فلو كان همه أن يحقق لتتبع بعض تعليقات وتصريحات البعض حول مسؤولية الحرّاق إنما كان همه التحقيق في جريمة أكبر وهي فكرة الحرقة في حد ذاتها. لماذا نرمي بأنفسنا للبحر؟ يتساءل الفيلم بين طياته هل المجتمعات التي ترمي أبناءها إلى الجحيم يمكن أن تكون مجتمعات سوية؟

قمة اليأس تظهر على شاب متزوج وأب الطفلة يروي قصة فشله في الحرقة ويختم حديثه أنه لم يستبعد فكرة الحرقة وانه لن يفوّت فرصة جديدة تتاح له ولكنه إن وجد المال سيصرف على زوجته التي يحبها وعلى ابنته ولن يغادر.

يترك الأب في الفيلم أبناءه وزوجه ويفر إلى المجهول لتأكله الأسماك وتبقى الزوجة تطارد لقمة العيش لها ولأطفالها وتفكّر كيف ستجيبهم عندما يسألونها عن قبر والدهم الهالك.

فيلم "الحارقون" يصور أحلام الشباب الضائعة في لقطة خاطفة لحذاء معلّق على خيط الكهرباء إشارة إلى عبارة"تعليق الصبّاط. الحذاء"، يأس الأجساد النشيطة قبل أوان اليأس بفقدان الأمل فحتى الأطفال بعضهم يحلم بأن يكون ضابط شرطة لكي لا يسجن. انعكاس لما يعيشونه فالكبار العاطلون أصحاب السوابق من أقاربهم ومعارفهم مطاردون دائما ومراقبون. وهذا ما عبّر عنه الرجل العاطل صاحب السوابق الذي رفضه أرباب العمل " الحبس ولا الحبس في بيتك" فهو من مجموعة مشتبه فيها دائما ومثار ريبة طوال الوقت. كائنات ضارية يحرّكها الجوع والخصاصة.

ينتهي الفيلم على صوت أخ مروان الغريق الذي يُعرّف الحَرقَة باعتبارها حرقة قلب وفقدان واحتراق لنصفه الآخر؛ شقيقه. قارب ورقي تلوح به الأمواج حتى تقلبه. رمزا لهشاشة هذه الأحلام التي تقلبها أمواج المتوسط بسهولة ولكنها تقلب معها أوضاعا وعائلات ومجتمعات وشعوب تنزل أكثر فأكثر نحو الجريمة والتطرّف  تبتعد رويدا رويدا من تحت خط الفقر.

فيلم ليلى الشايبي "الحارقون" اختصر عالم الحرقة من خلال قراءته للمجتمع الذي يقوم بتفريخ الحارقين والحاقدين؛ هذه الشعوب التي يأكلها البحر وتلفظها الشواطئ. إذ البحر في الفيلم يظهر مثل وحش بشع يصطاد شباب البلاد وفلذات الأكباد وأرباب الأسر فكلما أظهرت المخرجة البحر إلا ورافقته موسيقى مرعبة كما لو كان تنّينا عظيما يخرج ليحرق الرجال.

الفيلم يستجوب شخصيات عديدة ولكنها في النهاية تروي قصة واحدة تكمل بعضها نجحت المخرجة في توليفها عبر ومونتاج جيد وموسيقى جنائزية موحية بفداحة الخسران.

بعض مشاهد هذا الفيلم ذكّرتني بفيلم "المطار حمام الأنف" لسليم بالشيخ الذي يتطرّق إلى نفس الموضوع من المنطقة الأكثر شهرة للحرقة: حمام الأنف حتى سميت بالمطار تجاوزا.نعود أليه في مقالاتنا القادمة.

ليلى الشايبي من مواليد 15 أفريل 1982 من أب جزائري وأم فرنسية درست في فرنسا الفيلم من انتاج سنة 2009 شارك ويشارك في مهرجانات دولية كثيرة.

الجزيرة الوثائقية في

10/11/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)