حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

الماضي الشيوعي والحاضر يتواجهان في معظمها

الأفلام الروسية تتخفى في الأساليب الرمزية

محمد رُضا

حين أنجز عميد المخرجين الروسي الحالي أندريه ميخالكوف فيلمه الجديد “حرقتهم الشمس - 2” في مطلع هذا العام وعرضه على الشاشات الروسية قبل التوجّه به إلى مهرجان “كان” الفرنسي، تعالت صرخات التحذير التي أطلقها قسم كبير من مثقّفي روسيا ونقّادها على أساس أن ميخالكوف أنجز فيلماً يداعب حكم المؤسسات الرسمية وسنوات العهد الشيوعي ويدعو إلى الوقفة الوطنية على غرار الدعوات التي كانت تُطرح أيام الدولة السوفييتية .

الفيلم الذي يتناول الحرب العالمية الثانية ودور المدنيين والعسكريين معاً في الذود عن البلاد هوجم أيضاً، كونه تكلّف كثيراً ولم يحمل لغة سينمائية عصرية أصبحت لدى بعض النقاد والمثقّفين الروس دلالة على الانتماء إلى الدولة الحديثة .

الفيلم جيّد الإخراج وعميق الدلالات، بصرف النظر عن لغته الكلاسيكية (الى حد)، وعلى الرغم من أنه يعكس حبّاً لروسيا حين كانت دولة تحت قيادة حزب واحد . المرء، بصرف النظر عن موقعه السياسي، عليه أن ينظر إلى الإنجاز الفني من دون انحياز ويمنحه القيمة التي يستحق . الكلام نفسه ينطبق على أفلام أخرى تختلف مع فيلم ميخالكوف في الرأي متوجّهة إلى نقد الفترة الشيوعية من دون تردد، ولو أن ما ترسمه في واقع الحياة الحالية يبقى داكناً . الأمر نفسه نلحظه في فيلم جيّد آخر عنوانه “1612” ظهر أواخر العام الماضي وعرضته الشاشات الروسية بنجاح ملحوظ . إنه فيلم حربي آخر، كما حال فيلم ميخالكوف، لكنه يدور في زمن أبعد (القرن السابع عشر) وفيه النَفَس الملحمي والوطني ذاته لروسيا قويّة ومتّحدة .

أحد هذه الأفلام هو “أرواح صامتة” لأليكسي فيدورشنكو حول صديقين في رحلة يحملان فيها رفات زوجة أحدهما إلى حيث يودان نثرها فوق صفحة الماء تبعاً للتقاليد . الحكاية تدور في الزمن الحالي، وهي بالنسبة لبطليها لا تقل أهمية عن رحلة رواد الفضاء الروس الخمسة إلى القمر في فيلم المخرج السابق “أول بشر على القمر” . فيدورشنكو يرسم ملامح جميلة وشعرية للمحيط الطبيعي حتى من قبل بدء الرحلة، وذلك بفضل مدير تصويره، ولو أن جوانب من التصنّع تحيط بتلك الملامح .

الفيلم من ناحية أخرى قصيدة حنين حزينة لحياة يبدو معها أن الحال اليوم، مع سياسة منح الأقليات العرقية (شخصيات الفيلم تنتمي إلى بقايا شعب فنلندي الأصل كان نزح إلى روسيا قبل مئات السنين) حريّاتها، ليست أفضل بكثير مما كانت عليه سابقاً .

في “متعتي” لسيرغي لوزنتزا، نجد علاقة بالتاريخ والحاضر أكثر حضوراً . إنه عن رحلة طريق يقوم به سائق شاحنة عليه تسليم حمولته . بعد قليل من انطلاقه، يوقفه مركز شرطة يشغله شرطيان فاسدان. يهرب منهما ويلتقط بضع شخصيات على الطريق بعضها يشخّص حضور الحياة السياسية للاتحاد السوفييتي، في حين يعكس بعضها الآخر الوضع الحالي بعد انهياره .

لوزنتزا ينفذ من خلال عالمين متناقضين فينقل في المستوى نفسه من التعبير سلبيات “النظام” الدكتاتوري و”فوضى” الوضع الحالي . في النهاية، ورغم ما يحمله من نقد للأمس، فإن نقده للحاضر لا يقل قسوة ليخرج المرء بعد نهايته وهو يدرك أنه كان في حضرة فيلم يطرح أسئلة تحمل أجوبتها معها، حيث لا يمكن لروسي صادق أن يفضل وضعاً على آخر ضمن تلك المعطيات .

ونرى أصداء لهذا الفيلم في “ظهيرة حقيقية” لمخرج أسمه نصير سعيدوف . نحن هنا في قرية على الحدود ما بين طاجيكستان وأوزبكستان نتابع علاقة عمل بين روسي ومعاونته . العلاقة تتعقّد ليس بسبب اختلاف الدين والتراث فقط، بل حينما يدرك الجانبان أنهما يتعاملان الآن كقوميّتين منفصلتين كانتا ذات مرّة تحت سقط دولة واحدة .

والمجابهة بين الماضي والحاضر متمثّلين بشخصيّتين تملكان الفيلم بأسره للتعبير كل عن موقفه نجده في فيلم أليكساي بوبوغربسكي “كيف أنهيت هذا الصيف؟” . الجميل هنا هو أن هذا التعبير يتم غالباً بلا حوار . في “ظهيرة حقيقية” حرفة البطلين هي دراسة الطقس الجوّي . هنا في “كيف أنهيت هذا الصيف؟” هو أيضاً رصد المناخ، إنما في منطقة قطبية بعيدة . الشخصان اللذان يعيشان في ذلك المنزل المعزول وينتظران المؤونة بالبحر أو الجو في زيارات متباعدة يعبّران عن جيلين لكل وجهة نظره في الحياة، وسريعاً ما ينشغلان في صراع إرادة بين ما يمثّله أحدهما من ماض والثاني (الأصغر سنّاً) من حاضر .

في حين كانت الأفلام السوفييتية في عهدها تتوخّى الوضوح تبعاً لرغبات النظام، فإن الأفلام الحديثة تعمد إلى الرمزيات والميتافيزيقيات، ولو أن لكل أسلوب مزاياه الفنية البديعة على حدة . 

الـ “سي آي إيه” داخل حلقة الاتهام من جديد

عنوان الفيلم الجديد هو RED، لكن ترجمته إلى “أحمر” خطأ، لأن الكلمة هي مجموع الحروف الأولى من ثلاث كلمات هي Retired and Extremely Dangerous ومعناها “متقاعدون وخطرون جداً” . وهو عنوان ساخر ودال في الوقت نفسه، ففي حين أن معظم أبطال هذا الفيلم الجديد المعروض في الصالات حالياً والذي أخرجه روبرت شونتكي هم من فوق الخمسين والبعض منهم كان تقاعد بالفعل قبل أن تسحبه السينما إليها مجدداً .

 “رد”، كما يجب أن نسمّيه، له زاوية أخرى يمكن النظر إليه منها: إنه ضد ال “سي آي إيه”، بل ضد البيت الأبيض .

حسب القصّة، هناك عميل ال “سي آي إيه” السابق فرانك (بروس ويليس - 55 سنة) الذي كان ترك الخدمة قبل سنوات عدّة ويبحث، ولو متأخراً، عن الاستقرار . هناك فتاة يتحدّث معها على الهاتف اسمها سارا (ماري-لويز باركر) والغرام يبدأ بغزل شباكه فيقرر زيارتها في اليوم الذي يكتشف فيه أن ال “سي آي إيه” ترصد تحرّكاته بهدف قتله . الآن عليه أن يحمي من يحب ويحمي نفسه ويجد طريقة للاتصال بأترابه من عملاء تقاعدوا ليبحث عن سر المكيدة، فيتّجه إلى رفيق الأمس جو (مورغن فريمان - 73 سنة) ثم يلتقي برفيق آخر اسمه مارفن (جون مالكوفيتش - 56 سنة) . وبين اللقاءين، لا تتوقّف الأحداث عن الدخول والخروج بشخصياته في مغامرات ومعارك، لكن المعركة الأكبر تأخذ معظم النصف الثاني حين يتسلل هؤلاء جميعاً، بعدما انضمت إليهم العميلة السابقة فكتوريا (هيلين ميرين- 65 سنة) والعميل الروسي إيفان (برايان كوكس - 64 سنة) وساعدهم على الحصول على بعض المعلومات المهمّة موظّف الأرشيف هنري (ارنست بورغنين - 93 سنة) .

النصف الثاني من الفيلم هو الذي يحفل، لا بالمواجهات القتالية وحدها، وهي منفّذة كالفيلم كله بقدر من السخرية . كما لو أن المخرج يتقصّد

الإقلال من تأثيرها من دون أن يقلل من كم المستخدم من الرصاص والانفجارات والمطاردات بالضرورة، بل أيضاً بالمواجهات السياسية .

الفيلم في واقعه يتمحور حول كيف تأكل الآلة السياسية أبناءها . كيف أن ال “سي آي إيه” قد تنقلب على عقبيها لتحاول قتل رجالاته . هذا طبعاً لا يعني أنه فيلم واقعي وأنه يقصد حالة بعينها، لكن ما يرد في سياق الأحداث أن نائب رئيس الجمهورية هو الذي أمر ذلك الفرع من جهاز المخابرات الأمريكي بقتل من بقي حيّاً من مذبحة قام بها حينما كان ضابطاً في دولة لاتينية . حينها، يقول الفيلم، فتح الضابط وجنوده النار على أبرياء وهؤلاء المتقاعدون كانوا شهود عيان . ولأن نائب الرئيس يريد أن يصبح رئيساً، وعليه أن يطمس كل معالم جريمته، أمر أعوانه في جهاز المخابرات بقتل هؤلاء . أحدهم (كارل كوبر) شاب لا يعرف الخلفية، لكن عليه الامتثال في كل الأحوال .

إلى حد بعيد، يعيد الفيلم إلى الواجهة بضعة أفلام حديثة تحدّثت عن حكايات مماثلة تآمرت وكالة المخابرات الأمريكية لقتل بعض أعضائها . في “سولت” لفيليب نويس شاهدنا أنجلينا جولي تدافع عن حياتها بعد اتهامها بأنها عميلة روسية لكي يكون ذلك تمهيداً لقتلها .

في “الفرقة أ” هناك جهاز من ال “سي آي إيه”

يلاحق فريقاً من الجنود الأمريكيين الذي خدموا في الجيش الأمريكي في العراق، وذلك لقتلهم خوفاً من انكشاف تورّطهم في عملية تزوير ضخمة للعملة الأمريكية .

قبل ذلك توقّفنا مليّاً عند سلسلتين شهيرتين في هذا الاتجاه: “مهمّة: مستحيلة” و”بورن” حيث توم كروز في السلسلة الأولى ومات دايمون في الثانية يدافعان عن حياتهما ضد خطر الوكالة التي عملا لمصلحتها .

ناحية أخرى لافتة في “رَد”: العون على اتمام المهمّة الصعبة يأتي من العميل الروسي إيفان، الذي كان جاسوساً لموسكو في الولايات المتحدة . كما لو كان الفيلم يود أن يقول إن أعداء الماضي هم أصدقاء اليوم . 

قبل العرض

جوني دِب رجل نحيف

الممثل جوني دب ينوي نبش سلسلة حكايات بوليسية كان الكاتب داشل هاميت أقدم عليها في الثلاثينيات من القرن الماضي بعنوان جامع هو “الرجل النحيف” واقتبستها “هوليوود” للتو في سلسلة من الأعمال انطلقت من العام 1934 وحتى منتصف الأربعينيات . دب سيؤدي دور التحرّي الذي يجمع، حسب الروايات الأصلية على الأقل، بين السخرية الكوميدية والجرأة البوليسية . 

شاشة البيت

جديد على أسطوانات ... (The Tenth Victim (1965 الضحية العاشرة

في هذا الفيلم الإيطالي الذي حققه المخرج الجيّد إليو بتري عن قصّة أمريكية قصيرة، نجد أنفسنا في عالم خيالي مستقبلي قريب حيث يستبدل إتاحة الفرصة أمام البشر للقتال بالقتال بين الأمم . بتري لا يتخلّى عن نقده السياسي اللاذع لما بدا -في ذلك الحين- قراءة في واقع محتمل . الفيلم من بطولة مارشيللو ماستروياني وأرسولا أندرس (أحدهما سيقتل الآخر) التي كانت في أفضل حالاتها في هذا الفيلم المنسي . 

علامات

يساريو “هوليوود” في الثلاثينيات

منذ بداياتها، أصبحت السينما أداة تعبير لمواقف سياسية، سواء أكانت سياسية مباشرة أو غير مباشرة، وسواء أكانت هذه السياسة يمينية أم يسارية أم ناتجة عن مواقف وجودية أم أخلاقية أو عن أساليب عرض سوريالية أو واقعية . هناك دائماً موقف يوجّه الفيلم ليخدم فكرة ما هي ما يرصدها المشاهد ليتّخذ منها موقفاً معارضاً أو مؤيداً .

بالنسبة لكثيرين، فإن “هوليوود” كانت دائماً يمينية، في حين أن المسألة مرتبطة بالظروف السياسية المحلية وتلك المحيطة، فنشوء اليسار الأمريكي في السينما الأمريكية في العشرينيات من القرن الماضي كان مرتبطاً بالهجرة الأوروبية إليها . سينمائيون وجدوا أنفسهم أمام المد الفاشي في إسبانيا وألمانيا وإيطاليا فتركوا أوطانهم وهاجروا . كذلك كان مرتبطاً بسنوات اليأس الاقتصادي، حيث بات محرجاً تقديم أفلام لاهية أو واعدة بتحقيق الحلم الأمريكي . خلال الحرب العالمية الثانية انتقل الموقف من أفلام لا علاقة لها بالحرب إلى موجة من الأفلام الحربية (مع الحرب أو ضدّها) منذ دخول الولايات المتحدة تلك الحرب . كما تبدّل الموقف من الاتحاد السوفييتي من الاعتراف برفقة السلاح لدحر النازية إلى اتخاذ موقف حاسم “حيال الخطر الشيوعي الذي يهدد الحياة الأمريكية”، كما جاء على لسان المحافظين .

معظم رموز اليسار السينمائي في هوليوود الثلاثينيات وما بعد كانوا من المهاجرين الأوروبيين الذين نزحوا غالباً من روسيا الشيوعية أو ألمانيا النازية إلى نيويورك و”هوليوود” . نيويورك لأنهم كانوا مسرحيين وأحبوا مواصلة العمل في هذا الميدان، ولو أن بعضهم قرر الرحيل إلى “هوليوود” لاحقاً، أو كانوا سينمائيين توجّهوا إليها منذ البداية .

بعض هؤلاء المسرحيين كانوا كتّاباً وفي أيامها (ولليوم إنما على نحو أقل) كانت “هوليوود” على استقطاب دائم لكل موهبة تحقق نجاحاً في نيويورك، تمثيلا أو إخراجاً أو كتابة . وأحد أفضل الكتّاب المسرحيين وأنجحهم آنذاك كان كليفورد أودتس، وجون هوارد لوسون، ولستر كول، وألبرت مالتز، وجون وكسلي . بعض هؤلاء ألّفوا جماعة مسرحية بإسم “مسرح العمال العاملين” أو Workers Labor Theater .

ونتيجة نجاح أعمالهم وجدوا أنفسهم مطلوبين من استديو رئيس في “هوليوود” هو ستديو “وورنر” . وبعضنا لابد يعلم أن الاختلاف الخاص لهذا الاستوديو عن سواه في تلك الفترة كان تبنّيه لمشاريع أفلام أكثر ليبرالية في مفاهيمها وطروحاتها من تلك التي عند سواها . كل أفلام العصابات التي اشتهرت بها آنذاك، مع همفري بوغارت وجيمس كاغني وجورج رافت وسواهم، كانت على يسار الاعتدال من حيث تحبيذها لاتهام المجتمع بمسؤوليّته حيال انتشار الجريمة وعدم تصوير الوضع على أساس أبطال وأشرار.

هؤلاء الكتّاب النازحون مع مجموعة أخرى كانت موجودة قبلهم في “هوليوود” وجدوا أنه من الضروري تأليف نقابة تدافع عن حقوقهم وحريّات تعبيرهم فألّفوا ما يمكن تعريبه إلى “نقابة كتّاب السينما” Screen Writers Guild،

وذلك في منتصف الثلاثينيات . حينها كانت هناك جمعية أخرى باسم Screen playwrights وكانت على علاقة وثيقة باستوديوهات “هوليوود” (ويُقال أيضاً إن الاستديوهات كانت تهيمن عليها) ما أشعل نار حرب بين الجمعيّتين الجديدة والقديمة . ولم يقتصر الأمر على النقاد، بل انتشر مثيل له بين نقابات وجمعيات ممثلين ومخرجين . اليد القويّة لاتحادات العمّال أمسكت بخيوط اللعبة وكانت في الشأن الأعظم لها يسارية التوجّه (وفي بعض الكتب شيوعية التوجّه) والصراع من أوّله تبلور سياسياً بين مجموعة محافظة وأخرى ليبرالية . بين اليمين واليسار .

م .ر

merci4404@earthlink.net

http://shadowsandphantoms.blogspot.com

الخليج الإماراتية في

24/10/2010

 

خمسة عقود على أفلام العمالقة (الأول)

جيل الستينات راهن على تغيير وجه الحياة والنحت في الزمن

محمد رُضا 

في أحاديثه التي صاحبت عرض فيلمه الأخير "بداية"، أكّد الممثل ليوناردو ديكابريو أنه إذا ما كان هناك فيلم واحد في تاريخ السينما يستحق فيلم كريستوفر نولان "بداية" أن يُقارن به فهو فيلم فديريكو فيلليني "ثمانية ونصف". السبب؟ ..كلاهما من تحقيق مخرجين يتحدّثان عن نفسيهما من خلال المادة المرئية.

قبل تفنيد ذلك لابد من الإشارة الى أن ديكابريو يعني ما يقول. طبعاً كلما حان وقت إطلاق فيلم جديد، يفرض العقد الموقّع بين الممثل وشركة الإنتاج قيام هذا بالاشتراك بالحملات الترويجية التي سوف لن يذكرها الا بكل الخير. وهذا أمر معتاد وديكابريو، الممثل الأول في فيلم نولان "بداية" لا يخرج بذلك عن المألوف، لكن انتخابه فيلم فديريكو فيلليني "ثمانية ونصف" تحديداً أمر لافت جدّاً وإيمان الممثل بما يقوله، وقد ردده بكلمات وطرق مختلفة أكثر من مرّة، يؤكد أن المسألة ليست طلقة نارية في الهواء للفت الأنظار، بل هو يعني ما يقول ،عظيم، هو يعني ما يقول، لكن هل هو على حق فيما يقوله؟.

أصر فيلليني سنة 1963 حين خرج "ثمانية ونصف" الى الوجود على أنه ليس فيلم سيرة ذاتية. لكن الفيلم يكشف عن غير ذلك. صحيح أن بطله ليس فيلليني ولا أسمه فديريكو الا أن بطله جويدو (مارشيللو ماستروياني) يرتدي نظارة شبيهة بالنظارة التي كان يرتديها المخرج، يضع حول رقبته "شالا" كذلك الذي كان يضعه المخرج حول رقبته (وكذاك الذي خصّه بأحد الممثلين الفتيان في فيلمه الأفضل "أتذكر" او "أماركورد" الذي كان أقرب الممثلين الى شخصه).

طبعاً الأكثر أهمية أن مشاغل فيلم "ثمانية ونصف" كانت مشاغل فديريكو فيلليني الذي كان أنجز بثلاثة أعوام "الحياة اللذيذة" الذي استقبل من قبل النقاد العالميين بترحاب شديد جعله يتساءل كيف يمكن له أن يتجاوزه؟ ما الذي بات مطلوباً منه وكيف يؤمّنه؟ هذا قاده لانقطاع اختياري وحين عاد لإخراج "ثمانية ونصف" (والعنوان يوحي بعدد الأفلام التي أخرجها  والنصف الذي شارك بإخراجه  مع ألبرتو لاتوادا سنة 1950 بعنوان "أضواء المنوّعات") وكل هذا مدوّن في سيناريو "ثمانية ونصف" ومترجمة الى صور وجدانية تطرح تساؤلات المخرج حول نفسه وحول علاقاته النسائية.

"بداية"، من ناحيته، هو فيلم ينص على قائد تلك المجموعة الذي يمتهن دخول أحلام الآخرين. الموضوع مختلف تماماً بين الفيلمين، كذلك جوهر نوعه. فيلم فيلليني، إذا ما كان يجب اختيار كلمة او كلمتين لوصفه، هو "دراما وجدانية". فيلم نولان تشويق خيالي علمي. فيلم فيلليني يرتاح للفضاء الذي يحيط بشخصيّته ويوظّفه لكي يعكس ما يشعر به تجاه الحياة والمدينة والذات. فيلم نولان يستخدم الفضاء كامتداد للمغامرة في العالم الغرائبي حيث يمكن تقويض المدينة وطيّ نصفيها او شرذمتها الى أجزاء صغيرة تطير في الهواء. علي ذلك، النقطة الوحيدة التي يمكن أن يلتقي بها كلا الفيلمين هي أنهما لا يعتبران أن أياً مما يدور، لا على المستوى الذاتي للشخصية في فيلم فيلليني ولا على المستوى الخيالي للشخصية الأولى في فيلم نولان، حقيقي. بذلك يتساوى مدخل نولان للعالم الذي يؤسسه مختاراً ممثلاً تلحظ قرب ملامحه من المخرج وتشهد ذاتيهما حيث المخرج يدير الممثل ليكون مفتاحه هو كما لو أن نولان يعتبر أنه لم ينجز فيلماً عن حلم، لأن الفيلم هو الحلم كلّه.

وجه الأرض

على الرغم من أن هذه الأفلام الجيّدة ما زالت تصلنا من السينمات المختلفة حول العالم، الا أنه لا توجد فترة في التاريخ تشابه فترة الستّينات. لا من قبلها ولا من بعدها. إنها الفترة التي كان هناك مئة مخرج يستحقّون الاهتمام.

كل سنة من ذلك العقد عوض عن عشرة او عشرين كما هو الحال اليوم. الفترة التي تخلّص فيها المبدعون مما كان يشدّهم الى الخلف: قوانين سلطوية من هنا، شيفرات دينية واجتماعية من هناك، قيود الإنتاج المسيطر من ناحية ثالثة.

في كل قارّة، شهدت السينما نهضة اختلفت عما كانت السينما سجّلته من قبل من أيام ولادتها وحتى مطلع ذلك العقد. من استراليا وحتى قلب أفريقيا، ومن السويد الى أميركا اللاتينية مروراً بعدد من الدول العربية، كانت هناك حركات مختلفة تتشكّل متباعدة حتى ولو كان بعضها نال حوافزه من نجاح بعضها الآخر. سينما جديدة تأسست في البرازيل وفرنسا ومصر وايطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة وتشيلي وكوبا واستراليا والإتحاد السو?ييتي ومنظومة البلاد الواقعة في معسكره. وكلّها كانت معادية للسائد، معبّرة عن جوهر تغيير سيمتد الى السبعينات حيث انتهى على صخور جيل جديد انتمى الى عالم آخر لم يكن هو ذاته الذي عايشه الجيل السابق.

جيل الستينات كان راهن على أنه سيغيّر في وجه الحياة وسينحت في الزمن (قول الحكيم الشاعر والسينمائي أندريه تاركو?سكي) ليكتشف أن الوجه الذي ابتسم له لعقدين استبدل قناعه بآخر.  في الواقع، ما حدث لم يرتكبه السينمائيون ولا لهم علاقة فيه، ولا حتى له علاقة بنجاح او إخفاق مشوارهم الإبداعي. لقد انطلقوا متحسسين الحاجة الى التغيير. لكنهم لم يكونوا الوحيدين في ذلك، بل كانوا وسط بحر متلاطم من التيارات الثقافية والشعبية التي كانت تطلب الأمر نفسه : في الولايات المتحدة كان الجيل الجديد يطالب بالحرية الكاملة للأفرو- أميركيين، ويستجيب لنداءات مارتن لوثر كينغ ومالكولم أكس. هناك أيضاً، كانت حرب فييتنام تواجه انقسام الشارع والبيت الأميركيين: الجيل السابق، ولأسباب مفهومة، كان معها. الجيل الحالي (والاستثناءات في الجانبين محسوبة) كان ضدّها. وكان ضدّها أيضاً كل العالم من بيروت، التي رشقت سنة  1968 فيلم جون واين "القبّعات الخضر" بالحبر والبندورة حين عرضته صالة الحمرا (رحمها الله وأيامها) الى موزامبيق ومن نيودلهي الى أوسلو وساو باولو.
خارج الولايات المتحدة، كلمة جديد واكبت السينما والحركات بأسرها: تجدها في "الموجة الجديدة" في فرنسا و"السينما البريطانية الجديدة" و"السينما البرازيلية الجديدة" وفي "جماعة السينما الجديدة" في مصر او عبر نعوت قريبة مثل "السينما البديلة" في عواصم عربية كبيروت ودمشق وبغداد و"سينما الأندرغراوند" في نيويورك.

إنه العقد الذي أصاب زلزال المتغيّرات الثورية  الحياة اليومية  بأوجهها وحقولها المختلفة كما في ثقافاتها المتعددة، في كل مكان من أميركا اللاتينية وتشي غيفارا الى العالم العربي وجمال عبد الناصر ومن استقلال الجزائر سنة 1962 الى خروج الأميركيين من فييتنام بعد إحدى عشر سنة على ذلك التاريخ.

كل ذلك، والمرء لابد أن يلاحظ ، في الوقت الذي كانت فيه الهويّات الثقافية لكل بلد محفوظة لم تنهار بفعل التطوّرات. وكل ذلك، والمرء لابد أن يلاحظ أكثر، والسينما ترتفع من تابع ترفيهي في مدينة ألعاب، الى كيان فني وثقافي كامل ومؤسس ومنفصل بذاته.

يتبع.....

الجزيرة الوثائقية في

24/10/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)