حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

الفيلم الوثائقي السيريالي

بقلم: بروس هودسدون

ترجمة: أمير العمري

"سوف أتأمل في الوجه الآخر من العالم"

بنيامين بيريه في "اختراع العالم"

 

يوصف الفيلم الوثائقي باعتباره "خيالي لا يشبه أي شكل خيالي آخر".  وبدلا عن المفهوم القائل إن الخيالي يقدم مدخلا إلى "عالم"، يزعم الوثائقي أنه يقدم مدخلا إلى "العالم"، وهو زعم بأنه يمتلك وضعا خاصا، فيه نوع من التفوق الأخلاقي، يتمثل في الرابطة المباشرة التي تتكون بين الواقع وتجسيد الواقع في السينما.

الفيلم الوثائقي السيريالي يتحدى هذا الزعم ويطوع هذا الزعم لتحقيق وضعا خاصا.

لقد قام روبرت فلاهرتي بإعادة تجسيد بعض المشاهد من أجل المحافظة على أنماط حياة الإسكيمو المهددة بالتلاشي، على شريط الفيلم السينمائي، والجمع في سلاسة، بين اللقطات المصنوعة واللقطات الوثائقية المباشرة في فيلمه "نانوك من الشمال" (1922). وفي الوقت نفسه، كان بنيامين كريستنسن يقفز من مستوى للواقع الى مستوى آخر في فيلمه "هاكسن: السحر عبر العصور" Häxan: Whitchcraft through the Ages ".

الأشكال السردية التي وفق بينها كريستنسن، جامعا بين الواقع والخيال في "هاكسن" Häxan كانت نوعا من الإرهاصات الأولية لظهور الفيلم الوثائقي السيريالي. تطمس السريالية، خلال سعيها لفتح الخيال على الواقع، الفرق بين الحقيقة والخيال. في الأفلام الوثائقية السيريالية والأفلام السيريالية بشكل عام، يتم استخدام التأثير الواقعي لتقريب المتفرج من العالم الذي يجسده الفيلم، من أجل مصادرة الافتراضات المسبقة في ذهن المتفرج حول هذا العالم. وقد تجسد استخدام المزج بين الحقيقة والخيال في استخدام لقطات من فيلم وثائقي عن العقارب في المشهد الأول من فيلم "العصر الذهبي" للويس بونويل (1930)، وفي استخدام جان فيجو للمزج بين الذاتية، والتصويرالذي تتخذ فيه الكاميرا مكان العين، والهجائية الساخرة، والمسح الاجتماعي في تصويره لمدينة نيس في فيلمه " حول نيس" propos de Nice A(1930).

عرض فيلم "العصرالذهبي" عرضا عاما  قبل 75 عاما في ستوديو 28 في باريس في 28 نوفمبر 1930. وقد أتاح هذا العرض وضع الفيلم الوثائقي على حافة المثلث السيريالي  الذي بلغ ذروته عندما فتح الطريق أمام السيريالية الاثنوجرافية في فيلم "أرض بلا خبز" Las Hurdes (1933)، الذي كان ثوريا ورجعيا على حد سواء، غامضا ومتصل، منفصلا بقسوة في تعليقه الصوتي، ومتكلفا بعبثية في اختيار خلفيته الموسيقية.

كانت اللقطات الأولى في فيلم "العصر الذهبي" تعكس إشكالية الرغبة في اقتحام حقل اجتماعي أكبر من ذلك بكثير" من خلال فيلم لا يمكن تصنيفه بسهولة، سيريالي بشكل أساسي، مزيج من الأنواع السينمائية genres ومن الخيالي والوثائقي،و شبه التاريخي،  والميلودرامي، وهو ما كان أكثر قدرة على مقاومة استفزازات فيلم "الكلب الأندلسي" لبونويل (1929) بلقطاته التي تشبه الأحلام، في سياق "خطاب التحليل النفسي للرغبة الكامنة على مستوى اللاوعي". لقد أصبح "العصر الذهبي" عرضة لهجوم متواصل من اليمين، ومنع من العرض العام في غضون أسبوع من عرضه الأول (استمر حظر عرضه عمليا لمدة 50 عاما) ، بينما تمتع فيلم "الكلب الأندلسي" بالعرض بشكل متواصل في باريس لمدة ثمانية أشهر، وهو نجاح استقبل استقبالا متناقضا في أوساط السيرياليين.

وإذا كان "الكلب الاندلسي" يعتبر مغامرة عظمى سيريالية داخل عالم اللاوعي، فربما يكون "العصر الذهبي" هو الأكثر في تعبيره الصلب والعنيد عن العزيمة الثورية.

وقد أعيد إحياء طريقة استخدام أسلوب التعارض بين اللقطات الخيالية والوثائقية  في فيلم "فيلهلم رايش: ألغاز الكائن الحي" الذي أخرجه اليوغسلافي دوسان مكافييف عام 1971.  وقد وصفه الناقد ديفيد تومبسون في دراسة له، بأنه "أسلوب صاعد ومترابط ينتقل من الخصوصية البشرية، إلى السلوك السياسي، وينظر أيضا إلى السلوك السياسي باعتباره رد فعل للإحباط النفسي والجنسي، وهو ما يمكن تطبيقه على قدم المساواة، على فيلم "العصر الذهبي".

بالمقارنة، يستخدم كريس ماركر أسلوبا يجمع بين اللقطات 'الحقيقية'، والتعليق الصوتي الخيالي، والبناء القائم على شكل الرحلة، وذلك في فيلمه "عديم الشمس"  Sans Soleil (1983). إنه يتجاوز الأسلوب التقليدي الشائع لأفلام الرحلة، عن طريق الجمع بين  المشردين الحقيقين والمتخيلين في سياق سيريالي يمكن مقارنته بما حققه السيريالي باتريك كيللر في فيلميه (من أفلام الرحلة): لندن (1994) و"روبنسون في الفضاء" (1997).

لقد أعرب سيرجي أيزنشتاين عن رفضه للسيريالية عندما تعرف عليها في باريس عام 1930. وقد وصفها بقوله: "إنها بعيدة كل البعد، سواء في الفكر أو في الشكل، عن كل ما قمنا به ونقوم به"، وهو رأي لا يشاركه فيه السيرياليون. بونويل، على سبيل المثال، اعترف في سيرته الذاتية بأنه كان على قناعة، لسنوات عديدة، بأن فيلم "المدمرة بوتيمكين" (1925) هو الفيلم "الأكثر جمالا في تاريخ السينما". ووصف أيزنشتاين فيلمه " الخط العام" (1929)، الذي يعتبر ظاهريا 'دراما وثائقية رسمية حول المزارع الجماعية" ، بأنه "محاولة لتصوير تجربة العمل اليومي عند الفلاحين بطريقة مثيرة للاهتمام ". وهو يحتوي على أحد أكثر المشاهد في ذاكرة السينما تعبيرا عن الشهوة الجنسية (بمعنى التحول المكثف)، الحصول على آلة لفصل الزبدة عن الحليب، حيث تتحول الإثارة الجنسية هنا"من الجسد البشري إلى الآلة" إن لقطات أيزنشتاين الأساسية المثيرة للنشوة في هذا الفيلم هي لقطات كان قد صورها أصلا  لفيلمه المكسيكي " تحيا المكسيك" (1932).

ويربط المونتاج بين التعارضات المقلقة، الكامنة في ثنايا الصور، وبين الصوت والصورة (التعليق، المؤثرات الصوتية الحية، والموسيقى) وذلك في الأفلام الوثائقية التي صنعها سينمائيون سيرياليون من أمثال جان بينليفيه Painlevé، هنري ستورك، جورج فرانجو Franju، آلان رينيه، وهمفري جينينجز، ويان سفانكماير Švankmajer، وفي هذه الأفلام يستخدم هؤلاء المخرجين ازدواجية المغزى الشعري في مادة الفيلم: العلوم الطبيعية، جزيرة عيد الفصح ، مسلخ، الضريح، المكتبة، ثقافة الطبقة العاملة، والعرض المروع للعظام البشرية في صندوق عظام الموتي داخل الدير. إن ما يجمع بينهم هو الإحساس الناتج عن خلق عوالم موازية، سطح كوكب حضارة ميتة (في فيلم L’Ile de Pâques، لهنري ستورك، 1935)، والضريح الذي هو أرشيف كبير (في "كل ذاكرة العالم" لآلان رينيه، 1956) أو الرعب المكتوم من المسالخ في الضواحي (في فيلم "البهائم"، لفرانجو، 1949)- العلاقة الكابوسية الخيالية في علاقتها مع العالم الواقعي. وحتى في تصوير كيف تقضي الطبقة العاملة أوقات الفراغ (كما في "وقت الفراغ"، 1939)، تمكن المخرج همفري جينينجز من العثور على "نوع من الخيال القاتم. وبعض الكرامة... ".

في السينما ، يتم التعبير عن خطابات متناقضة في سياق سائد يعمل بمثابة اللغة التي تستخدم في تعريف لغة أخرى metalanguage. وفي حالة السينما الوثائقية، عادة ما يحدث هذا من خلال التعليق الصوتي المصاحب الذي يربط معا، الرؤى المختلفة للواقع، التي تكشف عنها الصور والأصوات الأخرى في الفيلم. وفي الفيلم الوثائقي السيريالي، إما يتم الاستغناء عن التعليق الصوتي، أو يكون التعليق متناثرا وقليلا، أو يتم تهميشه ليصبح مجرد صوت  نشاز أو مرتبطا بسياق محدد.

لقد تحدى لويس بونويل في فيلم "أرض بلا خبز" Las Hurdes، وجان روش في أفلامه الإثنولوجية، القواعد التقليدية للفيلم الوثائقي. ويمكن قراءة فيلم بونويل باعتباره محاكاة ساخرة سيريالية للفيلم الخيالي "يوسع مساحة اضطراب المفاهيم السينمائية التي سبق أن رسخها في "الكلب الأندلسي" و"العصر الذهبي"، بشكل يتلخص أساسا في طريقة استخدامه للتعليق الصوتي. ويسهم راؤول رويز في فيلمه "الأحداث الكبرى والناس العاديون، 1979) في استراتيجية التفكيك الذاتي للعديد من القناعات الموضوعية في الفيلم الوثائقي.

على مر السنين، كثيرا ما أسيء تفسير التناقض الواضح بين التعليق الصوتي و"الاستخدام غير المناسب" للسيمفونية الخامسة لبرامز في فيلم "أرض بلا خبز" على انه نتيجة تدخل فظ من جانب موزع الفيلم. إلا أن رويز، مع ذلك، لا يترك سببا لمثل هذا الغموض في سخريته اللاذعة من  القناعات الواقعية كما تنعكس في التقارير التليفزيونية.  إن غموض "الأحداث الكبرى" يكمن حيث يمكن أن يقودنا رويز. إن التأملات الأقرب إلى اليوميات لرجل تشيلي يعيش في المنفى، في فرنسا، في الانتخابات المحلية الفرنسية (رؤية رويز نفسه)، تفسح المجال لاستخدام مواد خارجية تأتي من مصادر أخرى، مما يجعل اليوميات التي كانت متدفقة، تتوقف. ومن أجل تقديم تعريف لما هو حقيقي وما هو دخيل في الفيلم الوثائقي يقوم رويز باستدعاء حالته الشخصية باعتباره رجلا من تشيلي يعيش في المنفي، في فرنسا. وهو يجعل النقد يتجه إلى ذلك الشعور بالقبول لدى المتفرجين عن طريق  تثبيت ثلاث حقائق سيريالية تتعلق بالفيلم "الوثائقي المستقبلي" يمكن التعبير عنها من خلال هذه العبارة:

طالما ظل الفقر موجودا، سنكون أغنياء

وطالما ظل الحزن موجودا، سنكون سعداء

وما دامت السجون موجودة، سنكون أحرارا

(من بيل نيكولز: "تجسيد الواقع: قضايا ومفاهيم في الفيلم الوثائقي).

* جزء من دراسة بعنوان "السينما الوثائقية السيريالية: مراجعة الحقيقي"- 2005.

الجزيرة الوثائقية في

15/09/2010

 

"غزتي" اعلان انتماء مخرج سويدي لمدينة فلسطينية!

قيس قاسم - السويد 

سمى المخرج السويدي بيو هولمكفيست فيلمه الوثائقي الأخير: "غزتي"، ليعطيه، ودون مواربة، طابعا شخصيا. فالعنوان يصرخ بالإنتماء الى المدينة، وضمنا بإختياره الواعي للإنتساب اليها. ومع انه في النهاية اختيار شخصي، ولكن بالنسبة لسينمائي مهم مثله، أنتج خمسين فيلما ويُدرس فن الفيلم الوثائقي في معهد الدراما في ستوكهولم، تبقى الحاجة لاشراك الناس خياره الواعي أمرا مهما، تفرضه مهنيته ومسؤليته كفنان قبل كل شيء.

لهذا حرص في فيلمه على توضيح طبيعة علاقته بالمدينة، التي ظل يزورها وينجز أفلاما عنها طيلة ثلاثين عاما، نشأت خلالها علاقة متميزة، مع عائلة مصطفى الحمداني والتي صارت مع الوقت، صداقة حقيقية، فرضت عليه السفر الى غزة فور سماعه خبر اصابة صديقه الفلسطيني بسرطان البروستاتا. من هذة النقطة "الخصوصية" ينطلق هولمكفيست لسرد تاريخ علاقته بمصطفى والتي امتدت الى عائلته ثم الى معسكر جباليا مرورا بغزة حتى فلسطين ومحتلها الاسرائيلي. علاقة تبدأ في فيلمه الأخير بمشهد، صوره هولمكفيست نهاية عام 2008 لمصطفى وهو ينشر غسيله على ىسطح منزله في مخيم جباليا، معافى ومبتسم على عادته رغم ما عاشه من عذاب خلال الهجوم الوحشي الاسرائيلي الأخير على مدينتهم المحاصرة. مشهد نسمع فيه صوت هولمكفيست وهو يسرد لنا بشيء من الحزن ذكرياته الطويلة مع الرجل وكيف ساعده لينجز عمله كصحفي وسينمائي وصل الى غزة في وقت لم يكن أحدا من صحفيي بلاده يفكر في الوصول اليها. قال عنها في مقابلة مع صحيفة "سفينسكا داغبلادت": خلال الثمانينات حاولت اقناع الصحفيين والسينمائيين السويديين بالسفر الى غزة.

لقد جاء بعضهم اليها ولكنهم كان يغادرونها قبل نهاية يوم واحد على اقامتهم فيها. ثم يمضي.. استعنت في مقابلاتي بصحفية أمريكية تعرف العربية وفي احدى المرات التقيت بسيدة علمت بأني أريد نقل ما يجري في المدينة على لسان أحد من سكانها. قالت لي: هل تريد أن أدلك على رجل يفيدك كثيرا. تعال معي! كانت تقصد زوجها مصطفى. منذ ذاك التاريخ ومصطفى معه في أكثر أفلامه عن فلسطين، و"غزتي" هو نتاج هذة المشاركة ومن بعد الصداقة. فالشريط عبارة عن عملية تركيب جديدة لمجموعة مشاهد من أفلام قديمة شارك هو وعائلته فيها مثل: "القدس ـ مدينة بلا حدود، 1979"، "غيتو غزة، 1984"، "الأسد في غزة، 1996" و"كلمة وحجر ـ غزة 2000" الذي أنتج عام 2001 الى جانب "الشاب فرويد من غزة، 2008".

هذا الى جانب لقطات من أرشيف صاحبها، أضيفت اليه فتحول العمل الى ما يشبه السيرة الذاتية. صور مركبة وتعليقات قصيرة سردت جزءا حيويا من مسار حياة مخرج سويدي وعائلة فلسطينية، سجلت الكاميرا مراحل تطورها جيل بعد جيل. فالطفلة عايدة، كان عمرها أثنا عشر عاما يوم صورها هولمكفيست لأول مرة، أما اليوم فهي طبيبة أسنان وعندها طفل صغير، عاش تجربة الحرب الأخيرة وتركت آثارها النفسية السيئة عليه. كل هذة المراحل، لها ولبقية أفراد عائلتها ربطها هولمكفيست بلقطات مصحوبة بتعليقاته التي استخدم فيها صيغة المخاطب المفرد، ليضفي عليها حميمية وشخصانية، فجاءت كشهادة حية على عمر قضاه مع شعب لاقى الويل وتغيرت مواقفه ونظرته الى العالم وفق ما عاناه. ورغم كل هذا استطاع صديقه وغيره أن يغذي في نفوس أطفاله روحا انسانية، ولهذا قال: أردت ل "غزتي" أن يكون بمثابة تحية لهؤلاء الذين عاشوا وسط الحروب ولكنهم ومع هذا استطاعوا ان يربوا أطفالهم تربية رائعة.

وكلام هولمكفيست عن العائلة الفلسطينية نجده مجسدا في رؤية سينمائية، واسلوب عمل ينتمي الى المدرسة الاسكندنافية المعتمدة كثيرا في البحث عن جوانيات الكائن البشري، وفي الوثائقي بشكل خاص تميز باقتصاد كبير في حركة الكاميرا ومحدودية المشهد المنقول مع التركيز الشديد على تقريب مناخه النفسي للمشاهد. تلك السمات السينمائية الخاصة ظل هولمكفيست امينا لها في أغلب أعماله عن فلسطين، والعلاقة بين العام والخاص كانت أكثر تجلياتها وضوحا (بالمناسبة أفلامه الأخيرة ساعدته فيها زوجته سوزان خارداليان).

وجدنا ذلك الأسلوب واضحا في "غيو غزة" ومشهد مصطفى وعائلته يوم كانوا في زيارة نظمها لهم والده الى بيتهم العتيق وأرضهم والتي اجبروا على تركها، وصل المشهد وبكثافة حقيقة ما كان يجري على هذة الأرض والحوار الذي دار بين الطرفين، الفلسطيني والاسرائيلي، كان كافيا ليتعرف المشاهد غير العربي من خلاله على جوهر المشكلة وخلاصتها: أرض لبشر كانوا مقيمين فيها وبالقوة أخرجوا منها، وما تلاها من مشاكل مرتبط بهذة الحقيقة! هكذا وصل هولمكفيست الحقيقة الى مشاهديه ومضى في تتبع ما سيجري للعائلة/ النموذج. عايدة في شريطه الأخيرة تعترف بعجزها عن تغذية روح الأمل والايمان بالسلام الى طفلها الصغير. ما علمه لها والدها لا يمكن تعليمه الى الفلسطينيين الصغار اليوم. فالتجربة الدموية حولت الفكرة المتفائلة الى فكرة عقيمة. ولولده عايد، المعالج النفسي، كرس له فيلما عنونه ب''الشاب فرويد في غزة'*.

ومن خلال العينات، التي كان يستقبلها عايد في عيادته، أو بالأحرى التي يذهب إليها في بيوتها أغلب الأوقات، نقل الشريط تفاصيل المشهد العام لحياة قاسية، أقل ما يقال فيها إنها مدعاة لتأزمات جسدية ونفسية، لا تحتاج لطبيب واحد يعالجها، بل إلى مليون طبيب نفساني، كما قال عايد نفسه في الفيلم.

صرخته اليوم أقل حدة فالشاب الطموح حصل على فرصة لاكمال دراسته في النرويج وصار بعيدا عن الأحداث حتى عن عائلته التي نقلها له هولمكفيست عندما زاره في أوسلو وحمل له صور والده وأخباره. صورة عايد لوحدها تكفي لرسم تفصيل حزين من تفاصيل المشهد الفلسطيني.  وهولمكفيست لا يركز كثيرا على العواطف فيمضي مسجلا واقع غزة الآن. حالة الانقسام الفلسطيني والألم الذي تركه الاسرائيليون في نفوس سكانها. ولقطاته في بيت مصطفى وهو ممد على فراشة قالت الكثير. سيموت الرجل الذي طالما أحب وطنه وعائلته. وصديقه السويدي سينجز عنه فيلما وربما أفلام كما قالت زوجته: سيظل يصورك حتى في القبر! بموت مصطفى خسر هولمكفيست صديقا، لكنه ربح مدينة سماها "غزتي".

• كتبنا مراجعة نقدية عن الفيلم نشرت في صحيفة "الاتحاد " الاماراتية

الجزيرة الوثائقية في

15/09/2010

 

«صبرا وشاتيلا»: ملف مجزرة

بشار إبراهيم 

الآن.. مع الذكرى المتجددة والنازفة لمجزرة صبرا وشاتيلا (دام ارتكابها ثلاثة أيام بلياليها، فيما بين 14 - 17 أيلول 1982) يبدو أنها باتت للذكرى الباردة!.. لا ليس ثمة من يقف حاني الرأس، ربما سوى من تبقى من أهالي الضحايا، يزورون تلك البقعة التي لا تعرف لها شكلاً، إذا كلما سنحت لك الفرصة بزيارة مخيم شاتيلا ستكتشف استعمالاً مختلفاً للمكان الذي انطوى على جثث قرابة ثلاثة آلاف، أو ما يزيد، من الفلسطينيين واللبنانيين، وبعض العرب، الذين قضوا قتلاً بدم بارد.

الآن.. سيبدو وكأن الفلسطينيين شاغلتهم الوقائع والأحداث.. وربما تكاثرت عليهم المجازر حتى باتوا لا يعرفون لها عدداً.. وكأنما تأتي واحدة لتحل محل أخرى، تمحو وهج دمها الحار، بدم آخر.. حتى كأنما النصال باتت تقع على النصال، في الجسد الفلسطيني المدمى..

ألم تأت مجازر 17 أيلول 1982، لتقع تماماً فوق مجازر 17 أيلول 1970؟.. وتتراكم الجثث على الجثث، وتنز الدماء على الدماء، والفلسطينيون مغرقون في المضي على أتون المركب اللاهب، الذي ما عادوا يدركون إلى أي شطّ يمضي بهم، أو إلى أيّ قاع!..

ننسى أو نتناسى.. ننشغل أو نتشاغل.. وعندما تمر بنا الصورة/ الوثيقة، صورة المجزرة، في هذا الوثائقي أو ذاك، لم تعد تلامسنا رجفة الغضب، ولا لمحة الأسى.. بات الأمر عادياً.. معتاداً.. جثث مشلوحة هنا وهناك.. ودم ينساب بين دمار وأنقاض.. وإذا أردنا الاستذكار ينفتح السجل أمامنا طويلاً عريضاً، تتكاثر فيه المجازر، كما تتكاثر الهموم على ذي محزنة.

الآن.. يأتي أيلولنا، كالعادة.. وعند منتصفه يشتعل الدم الفلسطيني.. خيبة أثر أخرى، ترسم وقع الخطوات على الدرب، الذي أراده الفلسطينيون طريقاً صاعداً نحو تحقيق الحلم بالتحرير والعودة، والشمس التي تشرق على أفياء فلسطين.. فتلوّى، وتشظّى، وتهشّم، ودخل في غياهب، تستعصي على أوسع الخيالات، وأكثرها خصوبة!..

هل بات ثمة من يقف اليوم لينظر إلى تلك اليد التي تخضَّبت مأفونة بالدم، نظرة غضب؛ نظرة غضب فقط؟.. هل ثمة من يحني الرأس للذكرى، للوجوه، للأسماء، للأنفاس، للأحلام.. للبراءات التي سُفحت، والأعراض التي هُتكت؟.. للذين عاشوا مذلين مهانين، مخفورين في مخيم البؤس واللجوء والتعاسة، وماتوا أكثر إذلالاً ومهانة، وقد باتوا أدوات تسلية لصبيان مجرمين؟..

تذهب الذكرى، وتعود.. لا تملّ.. تأتينا في الموعد ذاته كل عام، وقد باتت أكثر عرياً، أكثر جموداً.. باهتة، لا يبثّ فيها الروح كلام إنشاء، أو خطابات ثورية، أو توعدات ثأر وانتقام، ولا حتى وعودات الوفاء للذين بقوا حتى مضوا حتف أنوفهم، بأحطّ الصور التي يمكن للبشرية أن تتخيلها.

ذات مساء، لململت الثورة متاعها، وغادرت تمخر عباب البحار إلى منفى جديد.. ترك الثوار نساءهم وأطفالهم، شيوخهم وفتيانهم وفتياتهم.. تركوا المخيم للعراء.. تلفعوا بالكاكي، ولوحوا بما تبقى في أيديهم من بنادق، وما نفضوا حبات الأزر التي نثرتها النساء المودعات على أمل لقاء قريب.. ولكن أي لقاء، والذئب يتربص، ويشحذ أنيابه، متحيناً الفرصة، التي ستحين عما قريب!..

«وكان ليل.. وكان قتل.. وكانت صبرا وشاتيلا».. وصمة على جبين الزمان، ولطمة على صدر التاريخ، وسبّة في وجه الإنسانية في شهقتها الأخيرة أمام وحشية البشر، وفتكهم، ودناواتهم التي تعفّ عنها الضواري.

سنة أخرى، وتبلغ المجرزة الثلاثين من عمرها، وما استطاعت أن تسحب رائحتها الدائخة في أزقة ما تبقى من مخيم شاتيلا.. ما زالت أصداؤها ترن في الزواريب، وترسم خطوطها على وجوه اليتامى والثكالى والأيامى.. ها هنا قبر، فوق قبر، فوق آخر.. ها هنا ردم مرتو بالدم، ينزّ ما إن تطأ القدم أديمه.. هذه بقايا جدار أسند القتلة ضحاياهم صفاً صفاً قبل أن يطرزوهم بالرصاص الواخز.. وتلك قطعة من حبل شنقوا به ما تيسر لهم من أعناق كان لها أن تشرئب ذات حلم، وتنظر إلى شمس واعدة.

تبهت الذاكرة، فتعيد الصورة/ الوثيقة إنعاشها.. قبضة من أفلام وثائقية، شاء صانعوها، ذات وقت، أن لا تبهت المجرزة، وأن لا تغيب. أن لا تنسى، وأن لا تطويها الأيام، مهما عتت، ولا الليالي مهما أدلهمت. وأن لا تصفح عنها المصافحات، مهما تصافحت، ولا المعانقات، مهما تدانت!..

نعود إلى فيلم «صبرا وشاتيلا» الذي حققه المخرج العراقي «قاسم حَوَل»، عام 1983، ذاك الفيلم الوثائقي متوسط الطول (مدته 35 دقيقة)، والذي نال الجائزة الرئيسية في مهرجان دمشق السينمائي عام 1984، وجائزة فيبريسي من مهرجان لايبزيغ عام 1983، ونتوقف عند الفيلمين الهامين اللذين حققهما المخرج العراقي الكبير «قيس الزبيدي»: فيلم «مواجهة» عام 1983، مدته 28 دقيقة، وفيلم «ملف مجزرة»، عام 1984، مدته 34 دقيقة، هذه الثلاثية الفليمية المبكرة، التي عملت على تقديم قراءة تاريخية للعدوان الصهيوني، الذي بلغ ذروته في اجتياحه لبنان عام 1982، مسلطة الضوء على فيض التفاصيل والمواقف المختلفة عبر اللقاءات والشهادات والتصريحات، وعبر محاولة بناء السياق التاريخي لللأحداث والوقائع والموقف، الذي أفضى إلى المجرزة الدامية، لتبقى الوثيقة شاهدة إن صمت البشر، أو تناسوا، أو غفلوا.

ولن تبتعد المخرجة مي المصري، والمخرج جان شمعون، معاً، عن التردد إلى مخيم شاتيلا، من فيلم آخر، بدءاً من وثائقيهما الأول «تحت الأنقاض» عام 1982، وحتى فيلم «أطفال شاتيلا» عام 1998، وليس انتهاء بفيلم «أحلام المنفى» عام 2001. إنه الهم والاهتمام لديهما، وهو المخيم النموذج المنكود بالنكبات والنكسات والحصارات، والاجتياحات والمجازر، دون أن يفقد أمله لحظة.

لن تذهب مي المصري وجان شمعون إلى المجزرة مباشرة، ليس إلى وقائعها، أو صورها، ولكن المجرزة ستلقي بظلالها الثقيلة. كيف يمكن للأطفال الذين يشبّون في مخيم شاتيلا أن ينسوا؟.. الصور المعلقة على الجدران المتهالكة، القبور فيما تبقى من مساجد، المقبرة الشاسعة، وشبكة الزواريب التي لا تستطيع الفرار من سجن المكان، ولا الاغتسال من رائحة المعشعشة.

أما المخرج السويسري ريتشاند ديندو، فإنه يذهب إلى المجزرة مباشرة، في فيلمه «جينيه شاتيلا» عام 1999. هذا الفيلم الوثائقي الطويل البديع (مدته 105 دقائق)، الذي يدور حول الشاعر الفرنسي جان جينيه، الشهير بعلاقته الوطيدة مع الفلسطينيين، منذ الأيام الأولى للثورة الفلسطينية، وحتى المجزرة الوحشية.

تقع المجرزة في صبرا وشاتيلاً، ويأتي جينيه، ويخوض التجربة التي ستنتهي إلى كتابه «4 ساعات في شاتيلا عاشق فلسطين». ويقتفي المخرج ريتشارد ديندو أثر خطوات جان جينيه الأخيرة، ليخلص إلينا بفيلم وثائقي كبير، يمكن القول إنه أحد أهم الأفلام، عالمياً، التي تناولت القضية الفلسطينية، والثورة الفلسطينية، وبؤرته المجزرة الدامية في صبرا وشاتيلا.

يعتمد المخرج على وجود الراوي (تلعب دوره الممثلة الجزائرية منى الراوي)، وعبر رحلتها من حافة الشاطئ المتوسطي الغربي، حيث قبر جان جينيه، ومرقده الأخيرة، إلى شرق المتوسط، حيث الأردن ولبنان، نقطتي الولادة والوثوب، وربما الانطفاء، للثورة الفلسطينية المسلحة.. هنا وهناك حيث كان لجينيه تجربة معروفة، توجها في مخيم شاتيلاً.

كثيرة هي الشهادات التي يقدمها فيلم «جينيه شاتيلا» لناجين وناجيات من مجرزة صبرا وشاتيلا.. قصص وحكايا تقشعر لها الأبدان.. تجربة لا يطيقها عقل.. تبلغ ذروتها في مشهد لا يُنسى، عندما يجمع المخرج نفراً من هؤلاء الناجين والناجيات ليعرض عليهم صوراً حية من المجزرة!..

لم تغب مجزرة صبرا وشاتيلا عن كثير من الأفلام الوثائقية الفلسطينية، والعربية، والأجنبية.. تناولها كل منها بطريقته الخاصة، فهي خاتمة الفيلم للياباني «سنوات النضال الفلسطيني»، إخراج نونا كاوا، عام 1982، وهي ذاكرة الفلسطينيين المهاجرين إلى الدانمارك في فيلم جمال أمين «حياة الظل» 2002، وهي استكمال صورة موت الفلسطيني في العراء، في فيلم «صورة شمسية» للمخرج فجر يعقوب» 2003، و«متاهته» التي لم تنته بعد، وهي الحكاية من أولها إلى آخرها، في فيلم «سنرجع يوماً» لسمير عبدالله، ووليد شرارة..

الجزيرة الوثائقية في

15/09/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)