حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

أفلام خالدة [22]

دانييل داي لويس يقدم درساً في التمثيل

«عصابات نيويورك» سكورسيزي يخلد مرحلة الفوضى

عبدالستار ناجي

عمل من توقيع مارتن سكورسيزي، يعني تحفة فهذا المبدع لا يرتضي بانصاف الحلول في التجارب التي يخوضها، وهو رغم البصمات التي حققها عبر مسيرته السينمائية، الا انه وفي كل مرة يعود بها يقدم لنا تجربة سينمائية مثيرة للجدل، تجعلنا نرحل في عوالم المتعة السينمائية والمدهشة والفرجة، كما انه يعيد «خلق» الاشياء، وهذا ما تلمسه، حينما يتعاون مع عدد من الكوادر السينمائية وفي فيلم «عصابات نيويورك» يعيد تقديم ليوناردو ديكابيريو بالذات، حينما وضع امامه واحد من أهم نجوم التمثيل في بريطانيا والعالم داينيل داي لويس، والذي ساهم في خلق حالة من التحدي في الفيلم الذي ذهب اليه سكورسيزي من اجل تخليد مرحلة، عمت بها الفوضى انحاء نيويورك، حيث سيطرة العصابات المافيوية ذات الأصول المتعددة.

فيلم «عصابات نيويورك» يعتمد على نص روائي كتبه جاي بوكس وسرعان ما حقق اعلى المبيعات، ليعاد طبعه مرات عدة، ويجد به سكورسيزي ضالته المنشودة، وهو خير من يميل الى تلك الاجواء، والعوالم المشبعة بالشخصيات القادمة من العوالم السفلية من المجتمع في نيويورك، على وجه الخصوص، شخصيات مسحوقة، لا مجال امامها سوى الانفلات في عالم الجنس والجريمة والعنف والتصفيات الجسدية حيث غياب القانون، وسيطرة عصابات المافيا التي تتحرك ضمن قوانينها الخاصة.

تبدأ احداث الفيلم حينما يقوم القديس فالون «ليام ينسون» بحلاقة ذقنه، وفي تلك الاثناء يجرح نفسه لتسقط قطرات من دمه على ابنه «امستردام»، بعدها يقوم ذلك الصبي بوضع الدم في قطعة قماش سوداء، ليحتفظ بها في مكان سري.. ويواصل والده مهمته، حيث يذهب الى اللقاء الموعظة والقيام بالصلاة، ولكن تبدأ المواجهات، وكأن قطرة الدم تلك، كانت مؤشرا لحجم الدماء القادم.

وتكون المواجهة في احدى الساحات في نيويورك، والتي يطلق عليها «النقاط الخمس» لانها تصل الى خمسة شوارع واحياء مختلفة من تلك المدينة والاحداث تجري في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.

وفي اللحظة التي يذهب بها الطفل «امسترادم» ليلهو مع الاطفال تبدأ المواجهة، حيث يصل رجل بملابس زرقاء، وهو «الجزار» بيل، داينيل داي لويس، والذي يضع عيناً زجاجية بعد ان فقأت عينه في احدى المشاجرات وبعد حوار بين القديس «فالون» والجزار زعيم احدى العصابات حول العدالة والانسانية والحرية، وايضا الوصايا والسخرة والضريبة والقوة، وحيما تكون المواجهة، يلقى «القديس» حتفه، ويشهد «امستردام» مشهدية اغتيال والده..

وتمضي السنوات، ففي الوقت الذي يذهب بالطفل «امستردام» الى احدى دور الايتام، تكون اسهم بيل «الجزار» وعصابته قد شهدت الكثير من الارتفاع والسيطرة والهيمنة على قلب نيويورك..

وبعد ستة عشرة عاماً، نشاهد من جديد «امستردام» «ليوناردو وديكابيرو» وقد كبر، وهو لايزال في نيويورك يرصد صعود خصم والده، وبالتالي خصمه، فقد عقد العزم منذ طفولته على الاخذ بثأر والده، وهو يمضي الايام في سراديب دار الايتام، يتدرب ويتعلم ويطور قدراته الجسدية والذهنية، ليصبح قادراً على لحظة المواجهة.

ويكون اللقاء الاول ، بعد غياب سنوات، حينما يلاحظ «امستردام» خصم والده، وهو يدير الحملة الانتخابية لاحد المرشحين وهذا يعني، انه يحتمي بأهل السياسة، وايضا يحرك رجال الشرطة، ومن اجل البقاع على قمة هرم عصابات المافيا في نيويورك.

وقبل ان يشرع في خطة المواجهة يذهب امستردام الى ذلك الكهف حيث وضع دم والده، وفي بداية الفيلم، وفي تلك اللحظة تبدأ مواجهة مع عدد من الرعاع، يذهب بعدها الى الشارع، ليشاهد كيف اصبح حال الرجال الذين يحيطون بالجزار بيل» حيث قام بدعم رجاله ومنحم المال والتجارة من أجل كسب ولائهم.. وخلال عملية المراقبة يكتشف ان احداهن «جيني - كاميرون دياز» قد قامت بسرقته، ويبدأ ملاحقتها ليعرف انها على علاقة مع «الجزار» وهذا ما يجعله يمتلك الفرصة من أجل الوصول الى بيل وسرعان ما يتم اللقاء بعد ان سمع بيل الجزار الكثير من المعلومات عن «امستردام» ويبدأ الرجلان في الاقتراب من بعضهما بعضاً، خصوصا، حينما يثق بيل في ذلك الصبي الذي يقول بكشف الكثير من الرجال الذين يحطيون بيل.

ترتفع أسهم امستردام عند بيل، وتبقى (جيني) حائرة بين من يحميها (بيل) ومن تحبه (امستردام)، وتمضي الأحداث بايقاعها المظلم والمشبع بصيغ الجريمة وسوداويتها الخانقة.

وتشاهد امستردام وهو ينقذ بيل من الاغتيال مرات عدة.

ولكن بيل يظل قلقا من أمر العلاقة التي تربط بين امستردام والصبية جيني، التي يظل امستردام يطاردها بحبه وبغرامياته، وبعد لقائهما ذات مرة، يصل بيل ليشاهد بيل، ولكن بعد ذهاب جيني من لحظة حميمية جمعت بينهما.

وفي ذلك المشهد، يبدأ بيل بالاعتراف، حول علاقته بالقديس فالون، الذي اغتاله، وتفاصيل تلك العلاقة وهذا ما بعد لحظات التفجر بداخل امستردام، الذي يبدأ بالتدريب على لحظة المواجهة.

ويأتي من يخبر بيل بان امستردام هو ابن القديس فالون... وهنا يختار فالون لحظة المواجهة في الحفل الذي تريد تقديمه جيني... حيث حضور امستردام وتبدأ المواجهة... بين بيل وامستردام، في واحد من المشهديات الأكثر عنفا في السينما، الدماء في كل مكان، والسكاكين تتطاير في كل اتجاه، والضربات الموجهة تتزامن مع قرقعة العظام... وفي كل لحظة نعتقد بان الغلبة ستكون لهذا على ذاك او العكس... حتى تأتي الخطة النهائية، حينما يوجه امستردام الضربة القاتلة لبيل، الذي قتل والده.. وقتل المئات وفرض سيطرته وسطوته ورسخ حضور المافيا والعصابات...

وفي الوقت الذي يتم فيه دفن بيل... يتم ترسيخ زعيم جديد هو - امستردام - لتبدأ رحلة عنف جديدة... وهكذا... وكان مارتن سكورسيزي يقوم بان عجلة «العنف» والدماء في نيويورك لم تتوقف منذ ذلك اليوم... عنفا يولد آخر، وعصابات تلد أخرى... وزعيم يورث آخر... وهكذا.

في الفيلم أداء رائع، بل عظيم للنجم البريطاني «دابنيل داي لويس» والذي يذهلنا بأدائه، ولعله اليوم احد أهم نجوم التمثيل في العالم، رغم قلة أعماله، وذلك للاختيارات التي يقدمها، وايضا اللغة الاحترافية العالية التي يجسدها في تلك الشخصيات، وهو بشخصية، بيل «الخزار» يبلغ مرحلة بعيدة من الأداء والتقمص والمعايشة.

وفي الفيلم قفزة في أداء «ليوناردو ديكابيريو»، وايضا كاميرون دياز، ومن شاهدهما في هذا العمل، يتأكد (تماما) بانهما يمثلان للمرة الاولى، رغم نجوميتهم وشهرة كل منهما، الا انها في هذا العمل يبلغان مرحلة جيدة من فن التمثيل.

وفي الفيلم ايضا، ديكورات رسمت بعناية، جعلتنا نتحقق باننا نعيش فعلا في تلك الأزمنة وتلك الاحياء، رغم ان جميع المشاهد نفذت داخل الاستديو، وهكذا أزياء العمل وموسيقاه الساحرة وأجوائه التي تذهب بنا في لحظات عدة، الى حبس الأنفاس، حيث يكون الموت هو المعادلة الأسهل في زمن العنف الأرعن.

وقد رشح الفيلم لحصة وافرة من الأوسكارات والجوائز العالمية، كل ذلك ليس للنجوم، او الحكاية، بل لمبدع كبير، استطاع ان يخلد مرحلة، وان يقدم لنا تجربة سينمائية، تذهب الى شواطئ العنف الأرعن، لتكون دروسا تتعلم منها الأجيال، عبر كتابة سينمائية، تعتمد (مشهديات) سينمائية خصبة بالمواجهات والشخصيات التي تتحرك لبلوغ أهدافها، حتى لو كان ذلك بالجريمة.

في «عصابات نيويورك» العدالة للقوة، والسيطرة للقوة، والنجاح «السياسي والاقتصادي... للقوة» وحينما تتفجر تلك القوى، تنسحب سلطة الدين الحقيقية، التي لا تهادن، ويتفجر الثأر عبر أجيال، تجد نفسا لاحقا، امتدادا للجريمة.. بعد ان تلطخت يدها بالدماء.

فيلم يجعلنا نلهث، نتحزب منذ اللحظة الأولى لجانب ذلك الصبي الذي شاهد اغتيال والده، والذي عقد العزم على الثأر، وهو يبلغ الثأر عبر جرائم لا تنتهي... فهل الثأر يبرر الجريمة؟

فيلم كبير... لمخرج كبير، يعرف جيدا، كيف يدير أدواته، ليضع لنا تحفة سينمائية، كلما أعدنا مشاهدتها، اكتشفنا ثراء البصمات التي تركها مارتن سكورسيزي الرائع.

anaji_kuwait@hotmail.com

النهار الكويتية في

06/09/2010

 

فيلم "ثمن الانتظار"... قضم القدس بيتاً بيتاً!..

بشار إبراهيم  

بعد احتلالها بالقوة العسكرية، غداة الخامس من حزيران عام 1967، لم تترك قوات الاحتلال الإسرائيلي، وسلطاته، وسيلةً إلا انتهجتها، ليس من أجل إحكام السيطرة على مدينة القدس، فقط، بل، أولاً وبشكل أساس، من أجل إجراء تغييرات جوهرية تطال طابع المدينة وهويتها، تمحو عنها الصفة العربية والإسلامية، وتؤسس لهوية يهودية إسرائيلية، تتوافق مع المشروع الصهيوني الاستيطاني الاجلائي الاحلالي!..

تحاول المخرجة أماني الخياط في الوثائقي المتوسط الطول فيلمها «ثمن الانتظار»، (عام 2009، مدته 30 دقيقة)، أن  تكشف سياسة الاجراءات الاسرائيلية، وخطورتها، تجاه مدينة القدس، بالعمل على إفراغها من سكانها العرب، والسعي إلى تهويدها، بمختلف الحجج والذرائع والممارسات، المعلنة والسرية، الواضحة والخفية، المشكوفة والغامضة.

القسط الأول، وربما الأهم من الفيلم، يتمثل في الكشف عن سياسة إسرائيل في قضم القدس بيتاً بيتاً. فمنذ البداية نرى امرأة فلسطينية مقدسية، تعبر عن مخاوفها من ممارسات المستوطنين: «والله يا أختي أنا ما بفتح لحدا. كسروا الباب. فتحوا باب الدار الرئيسي. دخلوا من الباب، ومن ع السطوح». لتكشف عن عمليات اقتحام البيوت الفلسطينية التي تتم تارة بالقوة، وتارة بالتحايل، وأخرى باستغلال غياب أصحاب البيوت، لأي شأن من شؤونهم اليومية، واعتبارها من «أملاك الغائبين»!..

في القدس، بات من الشائع أن يقوم مستوطنون من عتاة الصهيونية باقتحام بيوت عربية، ودخولها، واحتلال غرف منها، أو التمركز على أسطحها، أو في باحاتها، ووضع أشياء من الأثاث، بما يعني في النهاية القيام بعملية وضع اليد على البيت.

تتواطأ الحكومة الإسرائيلية، بأجهزتها المختلفة؛ الجيش، الشرطة، البلدية، وجهات أخرى معلنة ومستترة، في تيسير عمليات قضم البيوت هذه، متذرعين بإمكانية الاحتكام إلى القضاء الإسرائيلي، للبت بالأمر!.. في حين يريد أخرون تحويل الأمر إلى مقايضات، وإغراءات، مقابل تحذيرات، ومضايقات!..
"
إذا جاء مليونير، واشترى بيتاً.. أين المشكلة؟.. هل لأن هذا المليونير يهودي؟".. يقول د.مردخاي كيدار (أستاذ في مركز بيغن للدراسات الاستراتيجية)، في تبسيط فاضح، من المفترض أن لا يليق بمكانته الأكاديمية التي يدعيها. بينما تكشف السيدة جهاد أبو زنيد (نائب في المجلس التشريعي عن القدس)، عن وجود «عصابات، ومستوطنين، ومؤسسات تدفع الملايين من أجل الاستيلاء على بيت صغير في القدس». بما يعني أن الأمر يتجاوز مجرد كون البيت عقاراً، قابلاً للبيع والشراء!..

البيت في القدس ليس مجرد عقار. إنه هوية وحياة ووجود. والمرأة الفلسطينية المقدسية تقول إن المستوطنيين باتوا يأتونها في الأحلام، على شكل كوابيس.. وهي لا تملك سوى الدعاء للرب أن يحميها، ويبقيها في بيتها. وتمضي بقية العمر في دارها.

يعرض الفيلم للعديد من مظاهر معاناة الفلسطينيين المقدسيين، فبينما يؤكد أحد سكان "جبل المكبر"، أنهم يعيشون في بيوت من الصفيح، معزولين، منفيين، ينامون على فرش على الأرض. كأسنان المشط. يصف آخر الظروف المادية الصعبة، والاضطرار إلى الاستدانة من أجل بناء بيت يعيش فيه، يعرف أن البلدية سرعان ما ستهدمه. ويبين ثالث الامتيازات الممنوحة للمستوطنات، مقابل الاهمال الذي يواجهه الحي العربي في القدس.

قضم القدس بيتاً بيتاً، هو ركيزة أساسية لسياسة «الترانسفير الهادئ» الذي يتم بواسطة سياسات ملتوية غير قانونية، كما يقول أحد المحاميين الفلسطينيين. وسيضيف أن الهدف هو «تثبيت الوجود الإسرائيلي في الحي العربي في القدس الشرقية»، في حين تكشف السيدة جهاد أبو زنيد عن خطة إسرائيلية للاستيلاء على 4 آلاف بيت، وهدمها، ومصادرة المزيد من الأراضي، ومنع بناء أي بيت، بحجة أنها «أراض خضراء»!..

وفضلاً عن الاستيلاء عن البيوت، ووضع اليد عليها بالقوة، أو بالتحايل، تستكمل الحكومة الإسرائيلية إجراءاتها من خلال سحب الهويات من الفلسطينيين المقدسيين، والتمنع عن الموافقة عن طلبات «لمّ الشمل»، ومطاردة حملة هوية الضفة الغربية، من خلال اعتبار وجود المرء منهم غير قانوني، حتى في بيته!.. نعم، في منطق الاحتلال الإسرائيلي، أصبحوا مقيمين غير قانونيين في بيوتهم، التي جرى ضمها.

يختتم الفيلم بالمرأة الفلسطينية المقدسية: «والله خايفة على داري، زي ماني خايفة أكثر من روحي.. هذه حياتي الدار.. لما تعيشي كل حياتك فيها.. كل الأيام الحلوة فيها. بيهون لك فيها؟».. ويبقى سؤالها يتردد، والآذان في صمم!..

**********

ليس ثمة من المبالغة في شيء، القول إن الأفلام، الفلسطينية على الأقل، لم تترك جانباً مما يتعلق بالقدس، إلا تطرقت له بشكل من الأشكال، سواء في الأفلام الوثائقية، أو الروائية القصيرة، وحتى الروائية الطويلة.. الأمر الذي يمكن أن يشكل صعوبة مضافة تواجه من يريد المساهمة في الموضوع، خاصة إذا رام تحاشي التكرار، وتلافي وقوع الحافر على الحافر.. وإذا كان في صلب أهدافه تقديم قول جديد، أو طرح رؤية أخرى، أو تناول تفصيل مما تحفل به القدس؛ مدينة، وقضية، ومصيراً..

وبمقدار ما تمثل القدس قصية محورية، وعنصراً جوهرياً في مسائل الصراع العربي الصهيوني، وبمقدار ما يمكن للقدس أن تكونه ركيزة في أي تحرك مستقبلي في المنطقة، عموماً، ولدى الفلسطينيين، خصوصاً.. فقد كان للقدس أن تأخذ حضورها في وسائل التعبير كافة، من الشعر إلى القصة والرواية، ومن الفن التشكيلي، إلى المسرح والسينما.. ولم تتأخر الفضائيات والشركات الإنتاجية المتخصصة وغير المتخصصة عن المساهمة في هذا الإطار.

في العام 2009، ومع العزم على إنتاج هذا الفيلم، يمكننا النظر إلى المشهد الفيلمي الفلسطيني المنجز بصدد القدس، لنجده يعج بتناولات متعددة، متوازية ومتقاطعة، تتفاوت فيها الاتجاهات والآليات والوسائل والسبل، التي اعتمدتها هذه الأفلام للقول بشأن القدس.

صحيح أن منها أفلام بلغت ذرى درامية سينمائية عالية، ومنها أفلام اكتفت بصيغة التقرير التلفزيوني، والتحقيق الصحفي، إذ احتفت بالمضمون على حساب الشكل، على اعتبار أن الموضوع؛ القدس، غاية في التعقيد بين ما هو ديني ودنيوي، وما هو سياسي ووطني وقومي.. إلى الدرجة التي يمكن القول إن القدس هي تاج القضية الفلسطينية، وهي ركيزتها.. ولكن الصحيح صورة القدس تتوزع بين هذه الأفلام في تقاطعات واسعة، وتشابهات راسخة.

يدخل فيلم «ثمن الانتظار» هذا الحقل، وهو مدرك أن من الصعب العثور على أرض غير محروثة من قبل، سواء أكان المراد الحديث عن الرواية التاريخية للقدس، منذ أقدم العصور إلى اليوم، أو مأساة سقوطها تحت سنابك جند الاحتلال الإسرائيلي، غداة الخامس من حزيران 1967، وصولاً إلى الحديث عن الممارسات الإسرائيلية تجاه مدينة القدس: المدينة المكان، البشر السكان، الهوية الوجود، والمستقبل والمصير..

لاشك أن الفيلم يلفت النظر منذ البداية إلى أنه يتمتع بتصوير مميز، أمكنه أن يظهر القدس مدينة أصيلة، راسخة الوجود والحضور. ولعل اعتماد الفيلم على البناء الصوتي أساساً سمح للصورة أن تتحرك بحرية، وطلاقة، دون كثير من التقيد، حتى بدا أن جزءاً من الفيلم، وبمصاحبة الشهادات والآراء الصوتية، أتى على شكل استعراضات بصرية تقدم القدس، بيوتاتها، وحاراتها، وأزقتها، ودكاكينها.. جدرانها، وأرضياتها، وألوانها..

منذ اللحظات الأولى يكشف الفيلم أن عماده الأساس هو القول، إلى درجة أنه يقدم في مشاهدة الأولى تمهيداً أولياً يقوم على مونتاج صوتي لأقوال فلسطينية وإسرائيلية، ووجهات نظر متناقضة، تكاد تلخص الفيلم كله.. وفي الوقت الذي يمكن استغراب هذا الأمر، على اعتبار أنه غير متعارف عليه في الفيلم الوثائقي، خاصة السينمائي.. إلا أنه لا يمكن رفضه، خاصة وأن ينجح في شد انتباه المشاهد، ودفعه إلى المتابعة، ربما بالفضول..

يقوم الفيلم على صوتين أساسيين، يتوزعان بنية الفيلم: الصوت الأول هو للفلسطيني المنكود بالاحتلال، والمرصود بالطرد والتهجير، ولعل هذا الذي جعل صوته في الفيلم يدور حول تفاصيل واقع الحال الراهنة، والمشكلات التي يبرع الاحتلال ودولته وسلطاته في اختراعها.. أما الصوت الثاني فهو للإسرائيلي الساعي للقفز فوق واقعة الاحتلال، بالادعاء بأحقيته التاريخية في القدس منذ ثلاثة آلاف عام، باعتبارها «أرض الميعاد».

وفي حين ينبغي الانتباه إلى أن صورة الفيلم تهتم بإبراز الهوية الفلسطينية للمكان، بمواجهة الوجود الإسرائيلي الغريب، والنافر عن المكان، سواء تبدى من خلال الأعلام المرفوعة، والأسلاك الموضوعة، أو الجنود المنتشرين، أو المستوطنين المأفونين.. فإن ثمة صوتاً يقدمه الفيلم على أنه إسرائيلي (د. دووف حنين)، يبدو محاولاً التوازن بين القول بحق الفلسطينيين بالحياة في بيوتهم، من جهة، وحق إسرائيل في أخذ الاعتبارات الأمنية، التي تقلقها..

لا يتوقف الفيلم عند تفصيل ما، ويشبعه قراءة أو رصداً أو تحليلاً.. بل إنه يمر على كل ما يمكنه من تفاصيل، تبدأ من السيطرة على البيوت بالقوة، أو بالاحتيال، ويتحدث عن المصادرة والمنع والطرد والتسفير، وأشكال الحصار والضغط، من فرض الضرائب الباهظة على المحلات والدكاكين، إلى الاستملاك، ووضع اليد، وليس انتهاء بالمشكلة الديمغرافية التي تنفخ في كيرها المحتل.

تبقى المشكلة الأكبر أن وضع الصوت الفلسطيني في مواجهة الصوت الإسرائيلي، على النحو الذي ظهر في الفيلم، لم يكن موفقاً بالشكل المناسب!.. الفلسطيني يشكو من سوء الحال، وبؤس الواقع، واجحاف الممارسات.. بينما الإسرائيلي يستحضر التاريخ، ويتحجج بالقوانين، ويتلطى وراء القضاء!..

«ليس هناك سبب للتنازل عن القدس»، يقول مردخاي كيدار.. وعلينا القول إن الجهود الشعبية الفلسطينية لأهالي القدس جميعها، لا تكفي وحدها.. وبالتالي لا بد من دعم المقدسيين، وتمكينهم من البقاء في القدس.. وإلا فلنبدأ منذ الآن كتابة بيان نعي القدس!..

الجزيرة الوثائقية في

06/09/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)