حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

«مهرجان الفيلم اللبناني» يُختتم بفيلم باتريك شيحا «ميدان»

كاميرا هادئة لكنها تشق النفس كمبضع مشتعل

نديم جرجورة

إلى جانب أهمية هدفه، المتمثّل في تقديم عدد لا بأس به من آخر الإنتاجات البصرية والسينمائية اللبنانية، حقّق «مهرجان الفيلم اللبناني»، في ختام دورته التاسعة المنتهية مساء الاثنين الفائت، إنجازاً إضافياً: عرض الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج باتريك شيحا. عنوان الفيلم: «ميدان» (2009). اسم المخرج يُشير إلى أصل لبناني. سيرته المنشورة في كتيّب المهرجان مختصرة: ولد في فيينا في العام 1975. انتقل إلى باريس عند بلوغه الثامنة عشرة من عمره. درس تصميم الأزياء، ثم اختار السينما، فسافر إلى بروكسل والتحق بمعهد «إنساس». أنجز أفلاماً عدّة: «كازا أوغالدي» (روائي قصير، 2004). «السادة» (وثائقي، 2005). «هوم» (متوسّط الطول، 2006). «أين هو آمر السجن؟» (روائي قصير، 2007).

لم أشاهد أياً من هذه الأفلام. الاستعانة بشبكة «إنترنت» مفيدة قليلاً. غير أن «ميدان» أتاح فرصة التعرّف إلى مخرج متميّز بلغته السينمائية. بقدرته على جعل الصورة نصّاً، والحوار تتمة. أو ربما الحوار أصلاً، والصورة استكمالاً له. لن أدخل لعبة التصنيفات. أو الأوصاف بالأحرى. باختصار شديد: «ميدان» فيلم جميلٌ. مليء بمعطيات فنية ودرامية لافتة للانتباه: التصوير (باسكال بوسي). الأداء التمثيلي (بياتريس دال وإساي سلطان تحديداً). التوليف (كارينا ريسّييه). الحبكة (سيناريو باتريك شيحا). لحظات الضعف قليلة: إطالة بعض المشاهد مثلاً. لكن هذا لا يعني انتقاصاً من العمق الإبداعي في النصّ السينمائي: الحكاية. السياق التصاعدي للأحداث. العلاقة القائمة بين امرأة أربعينية وشاب في مقتبل العمر. هذه مسائل أفضت، بفضل براعة الكتابة السينمائية عامّة، إلى الغوص في المشاعر الإنسانية. الاشتغال البصري معقودٌ على ثنائية الحركة الهادئة للكاميرا واعتماد الصمت أداة قول وتعبير. الاشتغال البصري نفسه مرهونٌ للذهاب عميقاً في الذات. للخروج إلى أفق مسدود، وفقاً لقسوة الحالة. أي إن المسار الدرامي للحبكة مرتكز على التضاد الحاصل بين الرغبة في الحياة والذهاب قصداً إلى الخاتمة المؤلمة.

مسائل

العلاقة القائمة بين ناديا (دال) وبيار (سلطان) معروفة. غير جديدة. اختيرت مراراً في روايات وأفلام. سواء كانت المرأة أكبر سنّاً من الطرف الآخر أم العكس، ظلّت علاقة كهذه قابلة للانفتاح على مسائل إنسانية ووجودية وانفعالية شتّى. ناديا محاصرة بألف مأزق وصدمة. أداتها الوحيدة التي تمنحها شعوراً ما بقوة مواجهة العراقيل، كامنةٌ في الكحول. بيار مختلف. مقبلٌ على الحياة. إنه في اللحظة الفاصلة بين المراهقة والشباب. مليء بمشاعر ورغبات وأحلام. كأنه، بناديا، يكتشف العالم. لكنه بعيدٌ عنها جسدياً. بإرادته. أو ربما لكونه مثلي الجنس. احتكاكه الماديّ بها محصورٌ بقبلة أو بلمس شعرها أو خلع حذائها أو اختيار زيّ لها. مهمومٌ بها. لكنه محتاجٌ إلى علاقة روحية فقط معها. الحبّ في مكان آخر، بالنسبة إليه.

لقطات عدّة تكرّرت: خروج بيار من المدرسة، والاتصال الهاتفي بناديا، والجملة المعتادة غالباً: «أراك بعد نصف ساعة». النزهة في الحديقة. كلامٌ عام وخاص. لكنه كلام مفتوح على البوح الفعلي أحياناً، وإن بشكل غير مباشر. يوحي السياق الدرامي، مراراً، بأن علاقة جنسية ستنشأ بينهما، لا محالة. أم إن السياق نفسه لا يوحي بهذا؟ الالتباس جميلٌ. الشاب منساق إلى علاقة عاطفية أخرى، لا تظهر إلاّ لتختفي سريعاً. كأن المسألة أبعد من مجرّد علاقة مادية. ذلك أن ما يحدث مع بيار منصبٌ في مجرى اكتشافاته الطفولية للحياة. ناديا مختلفة. امرأة حادّة وقاسية، هشّة وعاطفية في آن واحد. الاختلافات الانفعالية هذه متداخلة بحدّة، بعضها مع البعض الآخر. مُصابة بقلق وانكسار وخيبة. الكحول خلاصها. وموتها أيضاً. بيار خلاصها أيضاً، وموتها في وقت واحد. أميل إلى القول إن السياق التصاعدي لمأزق ناديا مشغول، سينمائياً، بطريقة أفضل، قبل الوصول إلى المحطّة الثانية: النمسا. أي مرحلة انحدارها المدوّي صوب الغياب. النهاية المفتوحة داخل العتمة وظلال الغابة، أجمل من أن توصف كتابةً. لكن ما سبقها من بكائيات مبطّنة وألم داخلي وسقوط في العالم المجهول للموت، لم يكن قادراً على المجاراة السينمائية للشقّ الباريسي. هذا كلّه في مقابل الجمال الأخّاذ للطبيعة النمساوية، أو داخلها بالأحرى، واللقطات البديعة للكاميرا لهذه المشاهد الخلاّبة. كأن هناك سرّاً خفياً في جعل الانحدار إلى الهلاك الأخير (أو الذهاب إلى الموت، أو الغياب، أو الاستقالة من المشهد) متناغماً والجمال الأخّاذ لهذه الطبيعة. التناقض داخل التكامل. أي إن الذهاب إلى تلك البقعة النمساوية الخلاّبة مقصودٌ، للقول إن النهاية المفتوحة على الاحتمالات المتناقضة والمتكاملة كلّها لا تكتمل إلاّ وسط بيئة رائعة كهذه.

حرفية

هذا تحليل شخصي. التقاط المشاهد وتصوير اللقطات داخل السياق الدرامي مشغول بحرفية واضحة. أي إن الكاميرا الهادئــة، التـي تحمل في طيات صُوَرها غلياناً نفـسياً وروحياً قاتلاً، بدت بهدوئها أشبه بمبضع يشقّ النفس البشرية وعلاقاتها. أداء بياتريــس دال منسجم وقوة الخيبة المعتملة في ذات ناديا. تمثيل إساي سلطان متوافقٌ وحضور دال/ ناديا إلى حدّ كبير. هناك لعبة خفية بين ناديا وبيار، خاضها الثنائي دال وسلطان بذكاء وحنكة. ناديا مجروحة. دال مرآة شفّافة لها ولجرحها. بيار مندفع وراغبٌ في فهم ناديا وعــالمها، وفي عيش حياته أيضاً. سلطــان متنــاغم وإياه في هذا كلّه. الشخصيات الجانبية الأخرى استكمال للعالم الخاصّ بهما. كل واحد منها تطلّ سريعاً وتختفي. مؤثّرة هي في سياق الحياة المشتركة بين ناديا وبيار. أو فيهما معاً. أو في كل واحد منهما. لكنها تكتفي بتأثيرات قليلة، وإن كانت عميقة أو جوهرية. أم انها مجرّد شخصيات، يُفترض بها أن تكون هنا، في هذه اللحظة؟
«
ميدان» فيلم أول لمخرج اكتسب اختبارات واضحة في مساره المهني المتواضع. الميل إلى الجانب المظلم في الحياة يحيل النصّ على قراءة سينمائية في تحويل الكاميرا إلى عين ثاقبة وراصدة. إلى عدسة تخترق المحجوب، كي تكشف المبطّن. أو تؤكّد المعلوم. الموت قدرٌ. لكن مواجهة الحياة لا تقلّ خطورة عن بشاعة العجز البشري عن إدراك المجهول. النهاية المعلّقة أو المفتوحة بداية من نوع آخر. ليست معلّقة تماماً. مفتوحة هي على أسئلة الحبّ والجسد والانفعال. على كيفية رؤية الذات والعالم.

 

كلاكيت

تعرية الكبار

نديم جرجورة

يبلغ نجوم كبار حدّاً غير معقول من التشاوف. يرتكزون على تاريخ عريق أنجزوه بجهد ملحوظ. لكنهم يظنّون أنهم باتوا فوق القانون. أو في قلب القداسة. يظنّون أنهم باتوا غير ممسوسين. ينتفضون على من يسعى إليهم في كتاب أو فيلم، لسرد الحكاية الشخصية. يذهبون إلى القانون لدرء «خطر» كهذا عنهم، لكنهم يتناسون أنهم تجاوزوه مراراً في حياتهم، لأسباب كثيرة. غير أن القانون الغربي لا يُنصفهم في هذا. سُنَّ، أصلاً، لحماية حرية التفكير والتعبير والقول. ومن وجد إساءة ما في هذا كلّه، يلجأ إلى القانون لاحقاً لحماية نفسه.

أقول «نجوم كبار». لا أشمل الجميع طبعاً. إليزابيت تايلور اعتبرت أنه لا توجد ممثلة واحدة قادرة على تأدية دورها في فيلم يُمكن إنجازه عنها. اكتفت بهذا. قالت ما يُمكن لحكيم أن يقوله. تصرّفت كما يُمكن لعبقري أن يتصرّف. رأت أنها هي أهم امرأة (أم قالت إنها أهم ممثلة؟) تستطيع تأدية دورها. أنها لا تزال حيّة. أن ما من أحد يُشبهها أو يبلغ مرتبتها. بريجيت باردو مختلفة. ثارت على من بدأ الإعداد لتنفيذ مشروع سينمائي يروي سيرتها. ردّت على نبأ المشروع بتعجّب: «فيلمٌ عن حياتي؟ لكنّي لم أمت» («أوروبا 1»، 12 آب الجاري). أضافت، في بيان لها، أنها ستلجأ إلى القضاء لإيقاف المشروع. للتأكّد من أنه لن يرى النور أبداً، طالما أنها لا تزال حيّة تُرزق. قالت إنها لم تُشاهد «غانسبور، حياة بطولية» لجوان سْفار. لهذا، لم تُعلِّق على تأدية لايتيستا كاستا دورها فيه. لن يقف القضاء الفرنسي إلى جانبها. واضحٌ هو: لا رقابة مسبقة. لا مواد قانونية للمنع. لا وجود لمنطق أخلاقي أو قانوني يقوّض حرية التفكير والتعبير والقول. القضاء حاضرٌ لاحقاً.

هذا ما حصل سابقاً مع آلان دولون. في نهاية التسعينيات المنصرمة، بدأ الصحافي الفرنسي برنار فيولي تحقيقات ولقاءات خاصّة بالممثل. بحث عن كل ما له علاقة به. الهدف: وضع كتاب عن سيرته الذاتية والمهنية. رفض دولون: «قصّة حياتي مستحيلة، إلى درجة أن ما من صحافي قادر على كتابتها». أعاق الممثلُ الصحافيَ. وضع عراقيل جمّة. لكن الكتاب صدر في العام ألفين بعنوان «أسرار دولون» (فلاماريون). هذا كلّه يؤدّي إلى خلاصة واحدة: بلغ الغرب مرتبة رفيعة المستوى في حماية الحريات العامة والفردية. هناك تدخّلات كثيرة وصفقات وتحايل. لكن القضاء حاضرٌ لحماية هذه الحريات. الكبار عاجزون عن المنع، مع أنهم عاشوا في عالم الإبداع. أي في عرين الحريات نفسها.

يحدث هذا في فرنسا. أهو خوف من الانكشاف والتعرّي أمام الملأ، أم رغبة في إخفاء ما يعتبره هؤلاء حقّاً شرعياً لهم وحدهم؟ السيرة الحياتية الخاصّة ملكٌ لهم. قادرون هم على منع الصحافة الصفراء من استغلال نجوميتهم مثلاً. لكن الإبداع أمرٌ آخر تماماً.

 

كتــاب

جورج الراسي: «محطّات على طريق السينما اللبنانية والعربية»

في إطار الاحتفال بـ«بيروت عاصمة عالمية للكتاب 2009»، وبالتعاون مع «دار الحوار الجديد»، أصدر الصحافي اللبناني جورج الراسي كتاباً خاصّاً بالسينما في سلسلة «ذاكرة بيروت الثقافية» بعنوان «محطّات على طريق السينما اللبنانية والعربية» (طبعة أولى، 2010). والكتاب هذا، إذ ضمّ في طياته حوارات ومقالات وتعليقات سينمائية لبنانية وعربية وعالمية مشغولة في السبعينيات المنصرمة، يعيد طرح سؤال المغزى النقدي والثقافي والفكري والأخلاقي من استعادة كتابات قديمة مرتبطة بزمنها، بعد مرور سنين طويلة؟

يحتاج السؤال إلى نقاش. لكن مناسبة إصدار هذا الكتاب طرحته، من دون أن يبقى الجواب معلّقاً. لوهلة أولى، يُمكن القول إن مضمون الكتاب أقرب إلى تأريخ اللحظة الماضية. والقارئ المهتمّ يعود إلى تلك اللحظة من وجهة نظر صحافي عمل في الكتابة منذ خمسة وأربعين عاماً، وكانت السينما حاضرة في سيرته المهنية. النقاش النقدي يأتي لاحقاً. غير أن محتوى الكتاب مرآة لزمن مضى. لحركة وسجال ومشاهدة ومعاينة. وهنا، تكمن أهميته الأولى.

السفير اللبنانية في

26/08/2010

 

«روت آيريش» للبريطاني لوتش و«النزوح: لوّحتهم الشمس 2» للروسي ميخالكوف

لا تخشوا الحرب بل المال الدموي وصفاقة بلير الجديدة

زياد الخزاعي 

الرَّبُّ يحمي الجنود، والمؤسّسة العسكرية تؤمِّن موتهم اللاحق. الحروب لعبة كونية لا مكان فيها للعواطف، بل للولاءات والحسم العسكري المسلكي وملحقاته من المرتزقة أو المتورّطين بالمعارك كقدرهم. كفاءات بشرية تصل إلى الاقتناع بأن ساحة الوغى شرف، والرصاص جودة الميتات البطولية. بيد أن هناك تورّطاً أكبر في المنازلات الكبرى، يتمثّل في صفقات الدم وأموالها. مثلها الساطع اليوم (16 آب 2010) مع إعلان رئيس الوزراء البريطاني السابق والعرّاب الثاني في الحربين على أفغانستان والعراق طوني بلير عن قراره الدعائي المدوّي بالتبرّع بعائدات مذكّراته، البالغة 4 ملايين و600 ألف جنيه استرليني (سبعة ملايين ومئتي ألف دولار أميركي) إلى الرابطة الملكية البريطانية، التي تموّل مشروعا ضخما مهمّته إعادة تأهيل أفراد القوات المسلحة البريطانيين، الذين تعرّضوا لإعاقات جسيمة خلال الحربين المذكورتين أعلاه.

صفاقة

لا ريب في أن سابقة بلير تمثّل صفاقة سياسية تربط الضمير بـ«المال الدموي»، وتسعى إلى استخدام الأخير كديّة متأخرة، تُفلته من المساءلة حول تورّطه في مسايرة صنوه في الرعونة السياسية، الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن، وتُضفي عليه هالة السياسي العفيف، الذي لا يكفّ عن ذكر ندائه الشهير «إن التاريخ سينصفني». وهي (السابقة) عنوان حقبة لعينة لا تني تثبت أنها خالية من دهاة السياسة التاريخيين، وتؤكّد أن ما يتسيّد اليوم هو طبائع نذلة تتناسخ الربحيات المالية وصفقاتها، وإن تلوّثت بدماء مسفوكة بجرم جليّ.

إن خطوة بلير تبرّر، بمفاجأتها، النص السجالي الجديد لصاحب «الريح التي تهزّ حقل الشعير» («السعفة الذهبية» في «كان» 2006) و«الأرض والحرية» (1995)، المخرج البريطاني كن لوتش «روت آيريش» (تُرجم بعجالة إلى «الطريق الايرلندية»)، الذي كشف، عند عرضه في المسابقة الرسمية لمهرجان «كان» في أيار الفائت، حقائق مرعبة عن لعبة الحرب والمال الدموي. وذهب نص بول لافيرتي بعيداً في مقاربة الدناءات السياسية التي تستميل شهوة المرتزق إلى المغامرة والثراء والدم، ويطلق قناعته السينمائية في أن عنف المعارك في مدن العراق سيجد سبيله الى أرض الجزيرة البريطانية، ليحيل شوارعها إلى أمكنة ثأر، ومقاصفها إلى مراتع لشحذ الضغينة، وكنائسها إلى شهادات على الغيّ الشخصي الساعي إلى الانتقام المعكوس. هذا الأخير تشعّ مكابداته على شخصية الجنرال كوتوف، بطل القسم الثاني من «لوحتهم الشمس» للروسي الكبير نيكيتا ميخالكوف، الذي يُعدّ أقرب إلى الضحية من الشاب فيرغس (مارك ووماك) بطل لوتش. فالأول ابن سلطة ماحقة مرغمة على مواجهة استحقاق حرب ضروس لعدو عنيد، يجد نفسه متبوعاً بتهمة الخيانة ورسول جوزف ستالين. وبما أن قلب الأب لا يخطئ، فإن العسكري يتراجع قليلاً كي يفسح في المجال لطهاراته الشخصية، التي لوّثتها الحرب المجنونة، ويبدأ سعيه للبحث عن زوجته ماروسيا وابنته ناديا. في المقابل، يكوّن فيرغس شرنقة من الاستحكام العسكري، باعتباره ابن المؤسسة التي أكمل واجباته تجاهها، لكن عليه دفع ضريبة صداقته إلى فرانكي، ابن مدينته ليفربول، الذي قُتل في العراق. وإذ يكشف الشاب المصدوم عن جسامة التشوّه الذي أصاب خلّه، يفتح قناعته على خيانة المؤسسة التي دافع عنها، ليرفض التبرير الرسمي بمقتله، والقبول بديّة دمه.

وبما أن كوتوف (أداء ميخالكوف) لن يجد ضيراً من اكتشاف فظاعتين تمارسان على كيانه: أوتوقراطية روسية متمثّلة بقرار إبقائه في الخطوط الأمامية، على الرغم من إصابته، بل اعتقاله (المشهد الافتتاحي لستالين مع كوتوف وتوجيهاته للرجل الذي تخيّل أنه شارك ذات مرّة في عيد ميلاد القائد، وحلم بأنه دفن شاربي الديكتاتور في قالب الحلوى الكبير)؛ وشوفينية نازية تمتهنه كأسير حرب، قبل أن تدك القنابل المتبادلة موقع روحه. يكتشف فيرغس، بدوره، أن الوطنية التي تلبّسها أثناء أدائه مهامه الحربية، هي كذبة أُلقمت في ظنونه، في وقت استلبته كلمات رفيقه المرتزق فرانكي، الداعية إلى تحيّن الفرصة العظيمة، والحصول على وظيفة تدر عشرة آلاف جنيه استرليني شهرياً من دون خصومات ضرائبية، هي آخر ملاذ يسقط من عقيدته الأولى.

لقاء بطلين

يجتمع بطلا لوتش وميخالكوف على إكمال مشواريهما. كوتزف عابراً الوَغى وحومتها، ومحروساً بإيمان شخصي بخلاصه واقترابه من الاثنتين، قبل أن يكتشف أن الشابة هي الوحيدة التي تبقّت له من الأهل مدفوعة بالوصول إلى الذود عن سمعته العسكرية، وإصرارها على أنه لم يدنّسها بالخيانة. وفيرغس عابراً دم صاحبه، ومؤسِّساً في شقته مركزاً حربياً، مُفكِّكاً شيفرات الحوار العراقي على هاتفه النقّال أثناء المعركة (بمساعدة موسيقي كردي)، ليصل عبرها إلى رفيق مشترك، تورّط في إخفاء ملابسات موت فرانكي، قبل أن يمارس عليه، من دون وجل قانوني، طريقة التعذيب الشهيرة «الإيهام بالغرق»، كي يحصل على اعترافه باسم الرأس الكبير الذي جنّدهما وخذلهما من بعد، وليصفّيه بقنبلة موقوتة مع رسالة تقول: «إنك في المكان والزمان الخطأين» في نهاية مطاف فيرغس. يضع الثنائي لوتش لافيرتي إدانتهما الصريحة إلى نموذجه: إن المرتزق الموبوء يخلع طاقمه العسكري وجرائمه، ويتحوّل إلى مدني وديع يتحصّن بحب راشيل صاحبة الراحل ورفقتها التي تحيله إلى رجل عائلي بامتياز. إنها علامة على تخفّي الحرب المحلية المقبلة التي يقودها مرتزقة من أمثاله، بهبات مالية لساسة على شاكلة طوني بلير.

في حالة بطل ميخالكوف، فإن الجنرال لن يحصل على ندمه الشخصي، ويبقى محاطاً برؤوس تماثيل ستالين والسماء السوداء والمزيد من رعب المعارك والجثث، التي سحلتها جنازير المدرّعات الألمانية وسط الصقيع الروسي. كأن هيبة القائد لا تُكسَر، وأن أنفة الحزبي لا تُهزم. وحده المواطن العادي المدفوع بحمية الانتصار يقود الجحافل إلى الموقعة الكبرى اللاحقة في برلين، التي ربما يصلها المقطع الثالث اللاحق من ملحمة ميخالكوف هذه وعنوانه «القلعة». إن بسالة كوتوف في «النزوح»، على النقيض من دوافع بطل لوتش التي يراها واجباً احترافياً مدفوع الثمن، مرهونة بسؤال كوني عن معاني البقاء حياً لا عن كيفية التحايل على الموت، وعن مساعي فرد ما في اللقاء بأي ثمن مع كينونة تمثل جزءاً من عواطفه وتاريخه ونطفته. إنه غرض الحياة نفسها الذي يضعنا جميعنا في مواجهة البحث عن توصيفات معقولة للرعب والمصائب وثقافة الخوف والفكر العدواني: هناك مشهد صادم لجندي روسي يبتهج لسماعه صوت الدبابات، التي يظنّ أنها الشفاعة بالخلاص. وما إن يُسقط قائد إحداها في يده كتاب «كفاحي» مع صورة الفوهرر، يكتشف مع رعبه أن عليه وقف تقدّمها بمدية بندقيته، قبل أن تهرسه وتُبقي منه مفاتيح دارته الريفية.

«روت آيريش» هو الاسم العسكري لطريق مطار بغداد الدولي، والرابط مع المنطقة الخضراء حيث مركز الاحتلال. و«النزوح» هو الجيلان المحموم لكوتوف وسط أرض الحرب، الذي يقوده قريباً إلى مجهول شخصي إن تمكّن من مغافلة الموت، ويقين تاريخي (القضاء على النازي وإنهاء المعارك): هذان الفيلمان حيّزان جغرافيان يجمعان بين مفهومين لحربين، الأولى (العراق) أخفت وراءها قرصنة سياسية عمّدتها «فعلة بلير» الأخيرة، التي تغمز إلى مبدأ توزيع الغنيمة. والأخرى (الجبهة الروسية) حيث ان النصر المقبل تزكية للقائد وحزبه وروح الأمة، التي لن تتردّد أجيالها المقبلة في إغفال السؤال الجوهري: لماذا يقاتل أناس غرباء من أجلنا ويستشهدون؟ أهي العزّة أم الخوف من سطوة الموت المستديم؟

)لندن(

السفير اللبنانية في

26/08/2010

 

«أمريكا»: رسالة فلسطينية في التسامح والمحبة 

«بدأ اهتمامي بوسائل الاتصال، وبالسينما تحديداً، إبان حرب الخليج الثانية (1991)، وذلك انطلاقاً من كوني فتاة أميركية من أصل فلسطيني، أعيش في بلدة صغيرة في ولاية اوهايو. في ذلك الحين راح والدي، وهو طبيب في تلك البلدة، يفقد زبائنه واحداً بعد الآخر، لأن المرضى الأميركيين لم يعودوا راغبين في أن يداويهم طبيب عربي... بل إننا رحنا في ذلك الحين نتلقى تهديدات يومية بالقتل».

هذا ما تقوله شيرين دعيبس عن فيلمها الروائي الطويل الأول «امريكا» الذي يعرض اليوم على شاشة تلفزيونية فرنسية بعدما لفّ على المهرجانات والصالات، وحقق ما حقق من نجاح بات راسخاً الآن. من ناحية مبدئية، كانت تلك هي التجربة التي أرادت شيرين دعيبس أن تعبّر عنها في فيلمها، ولكن من خلال حكاية تصبح معها حكاية الأب ومهنته الطبية حكاية جانبية. ومن هنا يبدو هذا الفيلم فيلم سيرة ذاتية وإنما في شكل محدود. ذلك أنه لا يعود يدور من حول الفتاة المراهقة التي صارت مخرجة وكاتبة سيناريو لتروي الحكاية بعد ذلك بنحو عقدين من السنين، وإنما من حول أنثى أخرى هي خالتها منى فرح، الفلسطينية المسيحية التي إذ اشتد الضغط السياسي والاجتماعي عليها في مدينة تعيش فيها في فلسطين (رام الله)، لا تجد أمامها إلا أن تهاجر إلى أميركا، مع ابنها المراهق، هرباً - من ناحية - من وضعها الخاص كمطلقة فضّل زوجها عليها امرأة أكثر جمالاً؛ وبحثاً - من ناحية أخرى - عن مستقبل ما لابنها، بعد أن كف هذا المستقبل عن أن يكون واضحاً في فلسطين الممزقة، معنوياً وجغرافياً.

هكذا تأخذ منى ابنها وتهاجر إلى أميركا، حيث تقيم اختها وعائلة هذه الأخيرة، ورب العائلة، نبيل، الطبيب الذي يمكننا أن نكتشف بسهولة أنه مستعار في الفيلم من شخصية والد المخرجة في الحياة. ومن تلك اللحظة، ولأن منى وابنها وصلا الى أميركا في الوقت الخطأ (أي وقت بدء اندلاع المواقف العنصرية ضد العرب والمسلمين أوائل التسعينات من القرن العشرين) ولأنها - أي منى - وصلت خالية الوفاض معتمدة على بضعة دولارات كانت معها - لكنها ضاعت في المطار - وجدت نفسها غير مرحب بها. وهكذا، بين لحظات الأمل القليلة ولحظات القنوط الكثيرة، كان على منى أن تحارب، وأن تكذب، وأن تبكي، بل أن تجد نفسها مهددة بالعودة والطرد، وتجد ابنها مهدداً بالفساد.. كان لابد لهذه السيدة من أن تقاتل وفي شكل مزدوج بل مثلث، حتى تجد لنفسها مكاناً هي الفلسطينية، المنتمية إلى اللامكان.. لكنها من خلال العثور على هذا المكان ستوصل درساً الى الآخرين بمن فيهم ذلك الاستاذ اليهودي الذي سيكون الوحيد الذي يعينها حين تستبد بها الصعوبات في «وطنها» الجديد، فتسحبه الى عالمها ولو في شكل رمزي حافل بالمعاني.

* «تي بي أس ستار»، 19.40 بتوقيت غرينتش.

الأخبار اللبنانية في

26/08/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)