حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

المؤثرات التسجيلية في فيلم "بيوتيفول"

أمير العمري

فيلم "بيوتيفول" Biutiful  هو أحدث أفلام المخرج المكسيكي الشهير أليخاندرو إيناريتو جونزاليس صاحب ثلاثية الموت "أموروس بيروس" (ملعون الحب)، "21 جراما"، و"بابل"، والفيلم، على نحو ما، امتداد لتلك الثلاثية. غير أنه الفيلم الأول لمخرجه، الذي لا يكتب له السيناريو الكاتب المكسيكي جيلرمو أرياجا، بل كتبه إيناريتو نفسه بالتعاون مع كاتب أرجنتيني. وهو أيضا فيلمه الأول الذي تدور أحداثه في إسبانيا.

أسلوب الإخراج المميز لأفلام إيناريتو واضح هنا رغم اختلاف طريقة السرد، الذي يقوم على محاور عدة، تلتقي وتتقاطع معا حول شخصية اللابطل، الفرد، المهزوم من البداية، المقضي عليه أيضا بالموت، فهو يعاني من سرطان المثانة ولم يعد أمامه سوى شهرين في الحياة، كما يقول له الأطباء.

"أوكسبال" (الذي يقوم بدوره الممثل الإسباني خافيير بارديم) لا يعاني فقط من المرض العضال الذي يأكل حياته ساعة بعد أخرى، بل من تمزق علاقته بزوجته (عاهرة سابقة، مدمنة خمر، مريضة بمرض ازدواج الرؤية، تعاني من نوبات توتر عصبي حاد).. وقد انفصل عنها منذ فترة، لكنها تتردد على مسكنه الضيق لرؤية طفليها منه، تريد العودة إليه، لكنها لا تستطيع رعاية الطفلين بعد أن قضت المحكمة بإسناد حضانة الطفلين إليه. وهي ايضا تخونه مع شقيقه.

ولكن كيف يعيش "أوكسبال".. هذا الرجل الذي فقد الأب أخيرا، وفقد الزوجة من قبل على نحو ما، والآن هو مهدد بفقدان الحياة نفسها وترك طفليه خلفه؟.

إنه نموذج واقعي تماما للرجل الهامشي الضائع، الذي يعيش على هامش مجتمع الحياة في مدينة برشلونة. من هذا المدخل، أي من مدخل العلاقة بين الرجل والمدينة، يكثف إيناريتو (المكسيكي) رؤيته الخاصة لبرشلونة التي تختلف تماما هنا عن برشلونة "السياحية" الملونة التي رأيناها في فيلم وودي ألين "برشلونة فيكي كريستينا".

إن "برشلونة إيناريتو" يناسبها أكثر الطابع التسجيلي المباشر، الذي يجعل بطله- اللابطل، شاهدا على هذا الواقع، ومنغمسا فيه أيضا: إنها برشلونة المهاجرين غير الشرعيين، والمطاردات بين الشرطة وهؤلاء، وبائعي المخدرات في الزوايا والأركان المظلمة من الشوارع، وكيف امتد الفساد إلى الشرطة، وأصبح هناك من الضباط من يتستر على ممارسات البعض من المهاجرين غير الشرعيين في مجال توزيع المخدرات مقابل الحصول على المال، والظروف الشاقة التي يعيش فيها المهاجرون على هامش الحياة..إلخ.

يبدأ الفيلم بداية شاعرية ناعمة في مشهد يبدو كما لو كان يدور بين الحلم واليقظة، نرى فيه بطلنا "أوكسبال"، يقف في غابة في الصباح الباكر، يتأمل الطبيعة، ويرى جثة بومة ماتت لتوها، ويتبدى له شاب افريقي الأصل، يقول له كيف أن البومة قبل أن تموت تنفث شعيرات من أنفها وتلصقها بالأشجار، لتخلق حياة جديدة، ثم يقلد له أصوات الثعالب والريح.. وتتداعى الصور في مخيلة أوكسبال، الذي أصبح مشرفا على الموت، ويتكرر هذا المشهد عند النهاية، بعد ان أصبح أوكسبال متأهبا لاستقبال الموت.

الحي الذي يقيم فيه "أوكسبال" في برشلونة هو حي معروف بكثرة المهاجرين الوافدين الذين يقيمون فيه، من الآسيويين، والصينيين تحديدا، إلى الأفارقة من السنغال ووسط أفريقيا، إلى الرومانيين والبولنديين، وغيرهم.

تتقاطع حياة أوكسبال تقاطعا أصيلا مع حياة الكثير من هؤلاء المهاجرين، فهو مسؤول عن 24 صينيا استقدمهم للعمل أو ضمن دخولهم البلاد، ولكنه يبقيهم تحت رحمة اثنين من أقرانهم يستغلونهم أبشع استغلال ويبقونهم تحت خط الحياة في مخزن بارد تحت الأرض.

وفي الوقت نفسه يستخدم بعض المهاجرين الافارقة في بيع السلع التي يصنعها الصينيون في الشوارع. وهو بالتالي يلهث طيلة الوقت لتدبير الأمور، الحصول على المقابل المالي من الذين يشغلون الصينيين، ورعاية طفليه، واسكات الشرطي الذي يطالب بالمال وإلا أبلغ عن المخالفات العديدة المتراكمة التي يقوم بها، واللهاث وراء علاج قد يطيل أيام من عمره وهو الذي يتبول دما.

وفي مشهد يمتليء بالحيوية مصور في الشارع، نرى الباعة الأفارقة من المهاجرين غير الشرعيين، يحملون سلالهم الشهيرة، وفجأة تهاجم الشرطة الحي، ويحدث هرج ومرج، وتقع مطاردات وتعتدي الشرطة بوحشية على المهاجرين البؤساء، وتعتقل الكثيرين منهم، ويشهد بطلنا ما يجري وعندما يحاول التدخل يلقى القبض عليه أيضا.

هنا يطغى أسلوب الفيلم التسجيلي على المشهد تماما بكل عناصره: الكاميرا المحمولة على الكتف التي تضفي اهتزازاتها الطابع الواقعي التسجيلي على المشهد كما لو كنا نشاهد لقطات من الجريدة السينمائية أو من التقارير التليفزيونية الاخبارية، وزوايا التصوير المتنوعة التي تساعد في الإحاطة بكافة أركان المشهد، والانتقالات السريعة بين اللقطات، لتغطية المكان بما يحدث فيه في لقطات متنوعة، استخدام المجموعات الحقيقية من المهاجرين وتصوير كيف يتعرضون للمطاردة والمداهمة بالتفصيل وبكل ما يحمله المشهد من عنف بالغ.

وفي مشهد آخر نرى العمال الصينيين وهم يرقدون مكدسين في المخرن البارد، بينهم نساء وأطفال يبكون، وصاحب العمل يوقظهم في غلظة لكي يبدأوا العمل. وإلى مسكن جماعي يقيم فيه عدد كبير من المهاجرين الأفارقة، يتوجه بطلنا لكي يقدم مساعدة مالية لزوجة أحد المقبوض عليهم وكان من ضمن الذين يعملون لحسابه في توزيع المنتجات، ونرى كيف يتكدس المكان بالبشر في ظروف متدنية للغاية، آيات قرآنية معلقة على الحائط، امرأة افريقية تغسل الملابس، دورات مياه قذرة، أطفال يبكون. وعندما ينتهي هذا المشهد، ينتقل المخرج إلى منظر للكاتدرائية الشهيرة المميزة لمدينة برشلونة، أي كاتدرائية "العائلة المقدسة" التي تعد العلامة السياحية الشهيرة للمدينة، تجسيدا للتناقض الفاضح بين العالمين.

وفي مشهد آخر نرى مخيما كبيرا لإيواء المهاجرين الأفارقة، حيث يذهب أوكسبال للبحث عن الرجل السنغالي المسلم الذي ألقي القبض عليه، وهناك يعلم أنهم يقومون بترحيل المهاجرين دون النظر إلى وضعهم العائلي وظروفهم الشخصية، فزوجة هذا الرجل حصلت على اقامة شرعية، وهي ترعة ابنه، وهي التي سيوكل لها أوكسبال في النهاية رعاية طفليه قبيل رحيله عن الحياة، لكن صديق أوكسبال الشرطي يقول له بوضوح إنه لا يمكنه أن يفعل شيئا في هذه الحالة، أي لا يملك أن يغير من قرار الترحيل.

أجهزة التدفئة الرخيصة التي لا تتوفر فيها ضمانات الأمان التي يشتريها أوكسبال لتدفئة المخرن الذي يتكدس فيه العمال الصينيون، تتسبب في مأساة، عندما يتسرب الغاز منها ليلا، فيقضي 24 صينيا بينهم نساء وأطفال، حتفهم في مشهد مروع. وتتفجر الفضيحة في أجهزة الإعلام عندما تطفو جثث الصينيين فوق سطح البحر، ويتضح أن الرجلين الصينيين اللذين يقوما بتشغيلهم قاما بنقل الجثث وألقيا بها في مياه البحر لإخفاء حقيقة ما وقع.

أوكسبال إذن نموذج مكثف للبريء- المذنب، فهو مسؤول عما آلت إليه الأمور، لكنه أيضا البريء الذي يتحايل لكي يساعد نفسه ويساعد الآخرين على النجاة من هذا الواقع الكابوسي الذي يشده إلى أسفل. إنه الأب الذي يكتشف معنى الأبوة متأخرا، ربما بعد أن توفي والده، ويكتشف أنه أهدر حياته فيما لا ينفع، وأن نواياه الطيبة لا تؤدي دائما إلى الخلاص بل يمكن أن تقود إلى المآسي سواء لنفسه أو للآخرين.

 ولعل من مشاكل البناء في الفيلم الافراط كثيرا في التفريعات والتعرجات الدرامية. صحيح أنها تخدم الفكرة، لكنها تنحرف بالفيلم في اتجاهات فرعية بعيدة عن البؤرة الدرامية الأساسية. إننا نرى مثلا، كيف يمتلك أوكسبال، رغم إغراقه في العالم السفلي الواقعي الصرف، قدرة روحية خاصة على محادثة الأرواح والاتصال بها، وكيف يستعين به الكثير من اقاربه ومعارفه لتسكين أرواح أحيائهم قبيل مغادرتهم الحياة وهم على فراش الموت.

ونرى أيضا كيف أنه في غمرة لهاثه من أجل البقاء في الحياة، لا يمانع من بيع قبر والده لشركة تقيم فوقه سوقا تجاريا كبيرا، مقابل الحصول على بعض المال، على أن يقوم بحرق الجثة، رغم ارتباطه الشخصي بوالده الذي توفي حديثا في المكسيك ونقلت جثته إلى اسبانيا.

وهناك أيضا المشهد الطويل الذي يدور في المرقص حيث يذهب للبحث عن شقيقه، والحديث الذي يدور بينه وبين إحدى العاهرات اللاتي يجالسهن شقيقه، وأوكسبال يحدثها عن الموت، وكيف أن نهاية حياته قد اقتربت، في حين تطالبه الفتاة بالرقص وتناول الشراب، دون أن تفهم بالضبط ما يتحدث عنه، وهو من المشاهد الزائدة التي كان من الأفضل التحلص منها.

ولعل أهم ما يبقى في الذاكرة من هذا الفيلم تلك المشاهد الخارجية التسجيلية الطابع التي تصبغ الفيلم بصبغة واقعية وتجعل الشخصية جزءا لا يتجزأ من المكان، من المحيط المتدني، وكأننا نشهد "الجحيم الأرضي" خاصة وأن شخصية أوكسبال تبدو لرجل باحث عن الخلاص، كما أنه يدرك متأخرا أن عليه دينا يتعين تسديده، لولديه أساسا، اللذين يجب أن يترك لهما أكبر مبلغ ممكن من المال قبل أن يودع الحياة.

وشأن افلام إيناريتو الأخرى، ليست هناك مساحة كبيرة للتفاؤل في هذا الفيلم، لكن ليس هناك أيضا فزع من فكرة الموت، فالدنيا التي يصورها لا تغري بالبقاء فيها طويلا، في حين أن الصورة العذبة النقية التي يقدمها في مشهد ما قبل البداية وهو نفسه مشهد النهاية، لعالم ما بعد الموت، تبعث على الإحساس بالراحة والانسجام مع النفس. إنها رؤية الفنان وفلسفته الخاصة تتجسد هنا بأبلغ ما يمكن من خلال الصور واللقطات والموسيقى الحزينة لنغمات البيانو أو الأورج، والإضاءة الشاحبة الداكنة، والأبخرة المتصاعدة في قاع مدينة برشلونة، ولعل المدينة هنا تصبح على نحو ما أيضا، وعاء يحتوي مختلف الأجناس كمعادل للدنيا.

والمؤكد ايضا أن هذا الفيلم ما كان ليأتي على هذا النحو من التجسيد المكثف المعبر الموحي بعشرات المشاعر إلا بفضل الأداء التمثيلي المتميز كثيرا، للممثل الاسباني خاييم بارديم في الدور الرئيسي، فهو يحمل الدور بل الفيلم بأسره، على كتفيه، ويتعايش مع الشخصية من الداخل، ويعبر عن الألم البدني المباشر بتعبيرات الوجه وتأوهات الجسد كابلغ ما يكون، ولذا استحق عن دوره هذا جائزة التمثيل في مهرجان كان.

أخيرا، كلمة "بيوتيفول" (أي جميلة ولكن مكتوبة بخطأ في أحد الأحرف) هي في النهاية تعليق ساخر على الحياة في برشلونة.. التي نراها في هذا الفيلم كما لم نرها من قبل.. وهي كلمة تكتبها ابنة اوكسبال وبها الخطأ الإملائي، تعبيرا عن تلك الصورة المقلوبة للواقع.. الصورة الصادمة التي يقدمها لنا الفيلم.

الجزيرة الوثائقية في

17/08/2010

 

أفلام خالدة [5]

عباس كيارو ستامي يحصد سعفة كان الذهبية

الفيلم الإيراني «طعم الكرز» حيث الألم يدعونا للحياة

عبدالستار ناجي 

تحتل السينما الايرانية اليوم موقعها البارز، على يد مجموعة من ابرز صناع الفن السابع في ايران، والذين راحوا يقدمون تجارب سينمائية، تمتاز بالخصوصية والتفرد، والمقدرة على رصد الواقع، عبر انماط سينمائية تمتلك هويتها ومقدرتها على «البوح» والذهاب الى حيث الألم، ولكن من اجل الدعوة لمزيد من الحياة والأمل. وهذا ما نلمسه في النسبة الاكبر من اعمال عباس كيارو ستامي ومحسن مخملياف وابنته سميرة وجعفر بناهي ومجيد مجيدي.. وقائمة طويلة من الاسماء، التي راحت ترسخ حضور ومكانة السينما الايرانية عبر قضايا تستمد ألمها من الواقع المعاش. وقد شكلت مرحلة مطلع التسعينيات من القرن الماضي، اولى مراحل الاكتشاف، حتى جاء عام 1997 ليشكل نقلة كبرى في تاريخ السينما الايرانية، بالذات مع تجربتي المخرج عباس كيارو ستامي في فيلم «طعم الكرز» ومواطنه مجيد مجيدي مع فيلم «اطفال الجنة».

وإذا كان «أطفال الجنة» قد وجد طريقه للترشح للاوسكار (كأفضل فيلم اجنبي) في عام 1999، فان عباس كيارو ستامي في «طعم الكرز» اقتنص السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي الدولي عام 1997، مناصفة مع المخرج الياباني شوهي ايامورا عن فيلم «الثعبان» ولعل كلاهما يذهب في اتجاه قضايا الانسان، الاول في ايران والثاني في اليابان.

فيلم «طعم الكرز» عن الالم.. فما اكثر الالم في منطقتنا وحينما يذهب كيارو ستامي الى حيث الالم المتفجر، فانه يدعونا في الحين ذاته، الى البحث عن صياغة متجددة للواقع، وهو امر يشكل «المذهب الفكري» الاشمل الذي يتحرك من خلاله كيارو ستامي ورفاقه وتلامذته.. فالالم والحزن والانكسار لا يعني النهاية، بل هو مرحلة لتصور مضامين مستقبلية جديدة.

وفي تجربة «طعم الكرز» هل تريدون ان نذهب الى الفيلم اولا، او الى صانعه.

منهجية الفيلم

ونرى في الذهاب الى المخرج، مدخلا للتعرف على المنهجية التي يعمل بها هذا المخرج الذي يمتاز بتجلياته ومقدرته على تقديم حلول ومضامين للقضايا التي يتصدى لها، وسط ظروف هي الاقسى.. ولربما هي الأخطر.

ولد عباس كيارو ستامي في طهران العاصمة الايرانية عام 1940، درس الفنون الجميلة، وتخرج من جامعة طهران مع درجة البكالوريوس، ليذهب مباشرة للعمل في مجال التصميم والجرافيك على وجه الخصوص، وفي المرحلة ذاتها، انخرط في مركز تطوير الاطفال والشباب، حيث اسس قسما للسينما هناك، وكان يومها في بداية الثلاثين من عمره، وكانت ايران يومها في واحدة من اهم مراحل التغيير.

ومن خلال ذلك المركز، انطلق سينمائيا، عبر اختيارات ذكية لموضوعات تمس وجدان المشاهد عالميا، وتختزل الالم الايراني بكل مفرداته.

وتجربة بعد اخرى، راح كيارو ستامي يستقطب الاضواء ليصبح لاحقا احد اهم صناع السينما في بلاده، وآسيا.. والعالم. عبر لغته السينمائية التي تمتاز بالمشهديات البصرية المشبعة بالشاعرية والنسق الفني العامر بالخصوصية والخصوبة والتفرد.

والان تعالوا نقتطف جملة مهمة، جاءت على لسان المخرج الفرنسي القدير جان لوك غودار (احد مؤسسي السينما الفرنسية الجديد) حيث قال: «لقد بدأت السينما مع جريفث وانتهت مع عباس كيارو ستامي».

فأي مقولة تلك، وأي شهادة هي.

اما المخرج الاميركي مارتن سكورسيزي فيقول عنه: «تمثل افلام كيارو ستامي اعلى مستوى فني في السينما».

وهذه شهادة اخرى اشمل.

وحينما جاء عام 1997، حيث تجربته مع فيلم «طعم الكرز» التي حصدت السعفة الذهبية.. وشيء من الألم.

الفيلم التحفة

والآن.. نذهب الى الفيلم التحفة.

فما حكاية «طعم الكرز» انه الحديث عن المأساة والالم، حيث حكاية رجل يعيش كل الاكتئاب.. والحزن والألم، يقرر الانتحار.

فأي الأمور توصلنا الى الفكرة الموت والانتحار.. هروبا من الواقع الذي يحيط به، وقد وضع الخطة من اجل بلوغ ذلك الهدف المنشود وهو الموت. عبر رحلة تجول به في عوالم مأساوية، كل شخوصها مثقلة بالتعب والهموم.

وتأتي فكرة ذلك الرجل، من خلال التهام كمية من الحبوب وسيلقي نفسه في حفرة، بانتظار احدهم، كان قد اتفق معه، من اجل ان يردم عليه التراب ويلقى حتفه هربا من حياته، وظروفه.. وتخلصا من لجة الألم التي يدور في فعلها، وسط الظروف التي تحيط به ويعيشها لحظة بعد اخرى.

مهمة قد تبدو سهلة للغاية، للتخلص من الحياة، ولكن من ينفذ تلك المهمة، من يردم عليه قبره.. من يهيل التراب عليه.

وتبدأ مهمته في البحث عمن يقوم بتلك المهمة، عبر بحث يجعلنا في حالة تماس مع كم من الشرائح البشرية التي تدور جميعها في الموقع ذاته الذي اختاره كيارو ستامي كتعبير عن العزلة.

قبر مفتوح في انتظار صاحبه..

قبر مشرع على مصراعيه وصاحبه ينتظر من يسدي اليه الخدمة كي يردم عليه التراب ليموت وكم من الشخصيات من العمال الفقراء الذين يحيطون بالموقع الذين اغراهم بكل شيء من اجل القيام بعملية الموت.

لا شيء سوى فكرة الموت..

لا شيء الا شخوص مثقلون بالهموم والتعب والفقر والحاجة وحالة من الجفاف وشخص يبحث عن حل يتمحور في التخلص من الحياة.

ولكن كل من حوله ورغم ظروفهم التي تتجاوز ألمه ومعانيه الا انهم لا يؤمنون كحل للتخلص من واقع البؤس الذي يغرقون فيه.

حدود الشخصية

فيلم يتجاوز حدود الشخصية وايضا المكان الذي اختاره عباس كيارو ستامي لتقديم عمله الى الفضاء الاكبر والاشمل حيث ايران بكاملها بجميع شرائحها الاجتماعية والاثنية.

فيلم يتحدث عن الفقر والمعاناة والجهل والسوداوية وغياب الامل والمستقبل عبر شخوص كل منهم يمثل التعب الانساني بأنماطه المتعددة وعبر حكايات أقلها حكاية ذلك الانسان الذي يحدثه عن طعم الكرز وكأن أكل الكرز سيخفف الألم أو سيغير الظروف، لكنه بحث عن أمل وبحث عن صياغة جديدة للواقع عبر طروحات وممارسات ليست هي الحل الناجع لكنها تحمل شيئاً من الحل والدعوة الى النظر الى حياة بأشكال ومضامين مستقبلية جديدة.

طعم الكرز.. يدعونا للسؤال حول مساحة الاستمتاع بالاشياء التي يحتفظ بها لمعرفة مساحة ما يحيط بنا من مضامين قد تكون عندنا ولا نعرف قيمتها وقد تكون بعيدة المنال ولهذا يكون العمل لبلوغها من خلال الاشتغال على الامل والعمل والصيغ المتجددة للنظر الى الواقع.

فيلم خطير يذهب الى نقد وتعرية كل شيء لكنه يأتي من صيغ فلسفية عالية الجودة تجعلنا ننبهر الى الحوار تارة والى الصورة تارة أخرى والى الشخوص والقضايا والمضامين التي تؤكد عليها وحينما يأتي الكرز يعصف بنا الحوار الى أنحاء أشمل وأبعد من حدود ايران والمنطقة الى حيث الانسان في كل مكان.

فيلم يتجاوز معاناة «بادي» الايراني الذي أرهقته الكتابة والحزن والفقر للتفكير في الموت الى الانسان في كل مكان.

فيلم يتجاوز ايران الى كل مكان وكل بقعة في هذا الكون يزمجر بها الهم والتعب والفقر رحلة تحمل «بادي» الايراني للتماس مع كم من الشخصيات وفهم شاب في مقتبل العمر ترك التعليم للانخراط في العسكرية وطالب افغاني يدرس الشريعة في طهران وايضا العجوز التركي حيث الحوار الاهم ذو الابعاد الفلسفية حوار طويل ومتشعب يذهب الى فلسفة الاشياء وفلسفة الالم ومواجهة الحياة وفهم الاشياء وتذوق طعمها من بينها الحديث عن شجرة الكرز، فهل يغير الكرز حياة الانسان؟ وهل يستطيع ذلك الحوار السخي الذي يثني انساناً عن فكرة الموت التي خطط لها ووصل الى قراره الاخير.

انه الحوار القادر على الاقناع الى تغيير وجهة النظر في الامور بل في كل ما حولنا فما اروع ان نتفاءل رغم ضيق الحاجة والألم.

فيلم كبير بل هو تحفة رغم بساطته المتناهية على جميع الاصعدة بالذات موقع التصوير الا ان المضامين الفكرية والطروحات الانسانية التي يحملها هذا الفيلم هي الاهم.. وهي من دفع لجنة التحكيم في مهرجان كان السينمائي لمنح الفيلم جائزة السعفة الذهبية.. ويومها اروي لكم حادثا طريفا، فحينما تقدمت النجمة الفرنسية كاثرين دينوف لتحية عباس كيارو ستامي وتسليمه الجائزة قبلته كتحية تقدير واحترام على خده.

ويومها قامت الدنيا ولم تقعد على تلك القبلة.. بدلا من التحية والتقدير المخرج استطاع ان يخلد اسم ايران ويدخلها تاريخ السينما العالمية، عبر ذلك النصر المحجل ويومها اضطر كيارو ستامي لان يظل بعيدا عن طهران لاكثر من اسبوعين حتى هدأت العاصفة.

فيلم الكبير.. المخرج كبير يمتاز ببصمته واسلوبه وفكره السينمائي الذي يذهب الى قضايا الانسان ولكن بصيغ فلسفية تسعى الى تقديم صياغة جديدة للواقع المعاش.. ومن هنا أهمية كيارو ستامي وفيلمه «طعم الكرز».

anaji_kuwait@hotmail.com

النهار الكويتية في

17/08/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)