حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

«المنام» لمحمد ملص:

الفلسطينيون.. يحلمون أيضا..

بشار إبراهيم - دبي

أنجز المخرج السوري محمد ملص فيلمه «المنام» عام 1987، وهو فيلم وثائقي هام بفكرته وتنفيذه، أي على المستويين المضموني والفني، إذ يبحث المخرج محمد ملص بفنية صافية عن تلك الأحلام التي تغزو الفلسطينيين في نومهم؛ فمن خلال أحلام الليل عندهم، نكتشف أو نستقرئ أحلام النهار، في فيلم متماسك مؤثّر، يُحسن توظيف الكلمة، والصورة، والموسيقى، والأغنية، والقصيدة، والنصوص القرآنية الكريمة.. في سياقه.

هنا نجد، عبر (45 دقيقة) من التسجيلية المتدفقة، أحاديث الفلسطينيين؛ الناس، البسطاء، العاديين، في عمق القاع الشعبي، اللاجئين في المخيمات، وبيوتاتها الصغيرة والفقيرة، وفي القواعد الفدائية ومكامنها، ومقابر الشهداء.. كما نجد الشاعر محمود درويش عبر قصيدته الرائعة «أحمد العربي» ومارسيل خليفة، بموسيقاه وأغنيته الشهيرة «الذكريات تجيء لا تؤذي».. ونستمع لتراتيل قرآنية، تقص من حكاية النبي، «يوسف» عليه السلام.. فيكون هذا العمل مميزاً بفكرته، جميلاً بتنفيذه، غني بتفاصيله وتأثيثاته..

من خارج النسقية الروائية المكتوبة، أو المحكية الشفوية الفلسطينية (الطافحة بتحليلات أو يقينيات أو تأكيدات أو حتميات) يجيء فيلم المخرج محمد ملص «المنام»، لا ليضيف شيئاً على السردية الفلسطينية، المتبناة، ولا ليحاكمها، أو يمتحن علاقتها بالتاريخ الذي يصنعه الكثيرون، سواء كالفلسطينيين بدمهم، أو غيرهم برصاصهم، أو حتى بأموالهم!.. بل إنه ينتهج روايته في سياق مفارق ومواز، حُلمي (من حلم)، وربما مستجدى برغبات ومطامح وتوق، يتكون في عقلية حاضرة، ولا يتجاوز الراهن، بل يتأمل فيه، ليقفز إلى المأمول، وليداخل في تلك الرواية ما بين الممكن الواقعي الحياتي، والمرصود المأمول المشتهى.. ثمة ما يشي بتجاوز تفاصيل الواقع الثقيل، إن لم يكن بتغييره، فبحلم تغييره.. على الأقل.

فيلم «المنام» هو محاولة خاصة، في السينما الفلسطينية، لتبيان ملامح صورة الفلسطيني، حتى ولو بمعزل عن صورة نقيضها الصهيوني، أو بالمقارنة بها!.. نقول إن فيلم «المنام» هو محاولة لنرى سينمائياً صورة الفلسطيني، في الوقت ذاته الذي كانت جعجعة الثورة أعلى من طحنها، وغبارها يخلو من سنابك خيلها، حتى وإن كان البعض يعجن من ذاك الطحن (غير الموجود)، ويرى لمع تلك السنابك (غير الموجودة).. ويعد بالنصر رغم كل ذلك!..

في هذا الفيلم، تأتينا فتاة فلسطينية؛ شابة لاجئة نجت من أصابع الموت والقتل في مخيم تل الزعتر، ومع ذلك جاءها في منامها من يقول لها «إننا انتصرنا».. فهو الوعد الذي عاشت عليه، ولم تملّ من سماعه، ولكن كأن في الأمر (نقصد وعد هؤلاء بالنصر) شيئاً ما، فليس بلا معنى، أو بلا دلالة، أن يحضر استغرابها الذي تقدمه بجملة واحدة: «بهالسرعة هاي؟..»!.. وفي الوقت ذاته تبدي استعدادها (ربما توقها) لأن تتعلم الصلاة، لعلها الحلّ، كأنها بذلك تشير إلى تهاوي وانطفاء كل التنظيرات والأيديولوجيات، التي لازالت روائحها تعبق بين ركام مخيم تل الزعتر!..

وفي الفيلم أيضاً، نرى شخصية أخرى، إنها الفتاة التي عملت في الثورة، وها هي الآن، بعد شوط من انكسار الحلم، وتأخر تنفيذ الوعد، وابتعاد تحققه، تحضّر نفسها للهجرة، سواء أكانت الهجرة الطوعية، هذه المرة، إلى أيّ دولة في الخليج، أو أي دولة في أي منفى كان!.. وهناك الأم العجوز التي تحمل بندقية (من حديد)، صنعها ابنها الذي مضى شهيداً، ولم يبق من ذاكرته، ربما، سوى هذه القطعة الحديدية التي «بتقوّص»!..

ونرى الشاب الفلسطيني (نضال خليل)، الذي تتطابق صورته مع صورة «جيفارا»، المعلقة على الجدار، كما يتقصد المخرج محمد ملص، من خلال اختياره لزاوية التصوير.. إنه شاب يمكث في سرير العجز والإعاقة، جراء الإصابة في مواجهة ما، أو عدوان ما.. بينما يرى الطفل الواقف بين أكياس رمل (في دشمة) ذاته أكبر من أن يكون طفلاً، فنراه يحلم كيف ينقذ طفلاً من براثن قصف العدو!.. ونرى الكهل الراقد في سريره يتمتم، كأنما يسلم الروح، أكثر مما يسلم إرادته: «هاي عيشتنا».. ويتركنا نتساءل: أي عيشة تلك؟..

كل ما في صورة الفلسطيني مترعة بأحلام أكبر من الواقع الذي يعيشه، وفي واقع أقل من التضحيات التي يقدمها، والفيلم الذي صُوِّر عام 1981، في مخيمات فلسطينية في لبنان، التي كانت تعشش فيها قوى الثورة الفلسطينية المسلحة، والمدججة بالشعارات، لم يشأ أن يخضع أو ينقاد، كعشرات الأفلام المنجزة في تلك الفترة، لخطاب وأيديولوجيا وشعارات تلك اللحظات الموحية بانتصارات عارمة، والتي سرعان ما تهاوت تحت أقدام الاجتياح الصهيوني، بعد أقل من عام من بدء وقت التصوير، وتحولت جثثاً لرجال ونساء وأطفال، تحت ركام مخيمي شاتيلا وصبرا..

ليس أمراً عابراً أن يدخل المخرج محمد ملص في إطار السينما الفلسطينية، حتى وإن كان حينها لم ينجز أياً من أفلامه الروائية الطويلة (أحلام المدينة 1983، الليل 1991) التي نقلته إلى الصفوف الأولى من المخرجين العرب المتميزين، بل لعل نجاحه المتميز في فيلمه الروائي الطويل (أحلام المدينة)، فوزه بجائزة قرطاج الذهبية، في الفترة ما بين بدئه تصوير فيلم «المنام» عام 1981، وإتمامه عام 1987، وعلو كعبه، كان أحد العوامل التي ساهمت في انتشال هذا الفيلم من غياهب النسيان، التي كان من الطبيعي أن تتهدده، على الأقل نظراً للظروف الذاتية والموضوعية، التي شهدتها سنوات الثمانينيات، خاصة ما بين اجتياح لبنان، وحصار بيروت عام 1982، وما تلاه من ويلات خروج الثورة، وتشتتها في المنافي من تونس إلى اليمن، وكارثة مجازر صبرا وشاتيلا، والانشقاق المؤلم الذي أصاب الساحة الفلسطينية، على المستويين السياسي والعسكري.

استنقاذ فيلم «المنام»، أضاف إلى المكتبة السينمائية الفلسطينية، فيلماً يمكن له أن يكون نموذجاً للفيلم السينمائي الوثائقي الذي يدخل عميقاً في صورة الفلسطيني، وثناياها، وينفذ إلى جوهر الأشياء، ودواخل اللاجئ الفلسطيني في شتات المخيمات في لبنان. ويبقى فيلم «المنام»، حتى بعد مرور قرابة ثلاثين سنة طازجاً، كما أنه الفيلم النموذج من ناحية اجتماع مجموعة متميزة من الخبرات العربية، لنتحصل في النهاية على فيلم لائق، إذ علينا الانتباه إلى أنه وفضلاً عن الإخراج لمحمد ملص، فقد توفر في الفيلم جهد المخرج العراقي قيس الزبيدي، والمونتيرة السورية انطواني عازارية، والخبير السينمائي عدنان سلوم، في حين تولى المخرج السوري عمر أميرلاي إدارة الإنتاج، وكان التصوير للقديرين الفلسطيني حازم بياعة، والسوري حنا ورد، والصوت للسوريين حسان سالم وأحمد قاوون، بما يوحي أن ثمة ورشة عمل عربية متنوعة محترفة خبيرة قديرة، اشتغلت في هذا الفيلم بقيادة المخرج محمد ملص، الذي لم ينس توجيه الشكر إلى كثيرين، تعاونوا بشكل أو آخر، حتى ولو على مستوى النقاش والحوار والرأي، من طراز الصحافي طلال سلمان، والسينمائي المصري يسري نصر الله، قبل أن يشرع هو أيضاً، ومن جهته، بإنجاز سينماه المختلفة.

كان زمن ومضى، عندما كانت «دائرة الإعلام والثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية»، تنتبه إلى أهمية سينما من هذا الطراز، وتتمكن من جمع هذه النخبة السينمائية، وتوفر لها فرصة العمل السينمائي الوثائقي في الموضوع الفلسطيني!.. ولعل فيلم «المنام» كان الشهقة السينمائية الأخيرة لدائرة الإعلام والثقافة، ذهبت بعده إلى اختتام مسيرتها المرصعة بأسماء لأفلام كبيرة، حققها كل من المخرج قيس الزبيدي، والمخرج عمر أميرلاي، والفنان التشكيلي إسماعيل شموط، والمخرجة مونيكا ماورر، والمخرجة جوسلين صعب، والمخرج حكمت داوود، والمخرج محمد توفيق، والمخرجة ليالي بدر، والمخرج سمير نمر، والمخرج قاسم حول، والمخرج محمد السوالمة، والمخرج يحيى بركات، والمخرج محمود خليل، والمخرجة عرب لطفي.. تلك المسيرة السينمائية التي أوصلت الكثير من الأفلام إلى أوسع مدى ممكن حينها، داخل الوطن العربي، وخارجه.

فيلم «المنام»، الوثيقة السينمائية الهامة، فيلم كبير، يستحق الاستعادة في كل وقت، وكل حين، ويستدعي التوقف أمامه، والتأمل فيه، والتبصر في قولاته، لعل نرى السياقات التي ذهبت إليها الأحوال الفلسطينية، فيما تلا من أيام وأحداث، بالشكل الذي يبين لنا، كيف كانت أحلام الفلسطينيين ذات وقت، وإلى أين مضت.. بخيباتها وانكساراتها.. مقدمة لبحث إجابة السؤال: لماذا؟!.. وكيف؟!..

الجزيرة الوثائقية في

16/08/2010

 

وثائقي عن فن المزود: سقوط فن الهامش في المركز

كمال الرياحي - تونس  

لم يحدث أن  رأينا في قاعة أفريكا آر جمهورا بذلك العدد الذي هب لمشاهدة فيلم وثائقي بحمل عنوان "فن المزود" للمخرجة سنية الشامخي. (والمزود هو فن شعبي راقص ينتشر في كامل البلاد وخاصة في الأعراس والمناسبات). ومنذ اللحظات الأولى أمام القاعة تأكد الصحفيون الذين حضروا العرض الخاص أنهم أمام تظاهرة خاصة جدا، فالجمهور الذي تدافع للدخول إلى القاعة المعروفة بنخبويتها وعرض أفلام ثقافية  ذات قيمة لم يكن جمهور سينما إنما كان جمهور "المزود"؛ الفن الأكثر شعبية في تونس.

بمجرد أن علمت بموضوع الفيلم تفاءلت فأنا مؤمن أن مقاربة عالم المزود يمكن أن توصل الباحث أو الفنان إلى أماكن مثيرة فالمزود هو نبض الشارع التونسي وهو ذاكرة هذا الشعب المستبعدة. وتذكّرت أني في بداية مراهقتي كنت أراسل صديقة ايطالية وعندما أرسلت إلي شريطا غنائيا إيطاليا أرسلت إليها شريطا غنائيا للهادي حبوبة (فنان المزود الشعبي الأكثر شهرة في تونس). وبقيت أشرح لها أن هذا الفن هو الفن الشعبي الأول في تونس. كنت يومها في السنوات الأولى من التعليم الثانوي لم أتجاوز الرابعة عشرة وكان المزود ممنوعا في زمن بورقيبة. وأنا في أقصى الريف التونسي. هذا يعني أن المزود وصل لنا معلبا قبل يصلنا الماء ولا الكهرباء . وصلنا المزود صناعة المهمشين ولم تصلنا يد الدولة ومؤسساتها. بعد ذلك بسنوات وصلنا مشروع إزالة الأكواخ وكنا نحفر الأساس ونحطم الأكواخ على صوت المزود الممنوع. كنا مجموعة من المراهقين الملاعين نطارد في الصيف الأعراس في الريف البعيد من خلال ملاحقة صوت المزود. لم يكن يعنيني أن يكون فنا هابطا أو فنا راقيا. كان يعنيني أمر واحد وهو أنه من المتع المحرّمة في التلفزيون الأبيض والأسود الذي يبث بلا توقّف توجيهات السيد الرئيس وأن الرقص وتدوير "المسلان" (الخصر باللهجة التونسية) محرّم في بيئتنا المحافظة على الرجال بل وعورة لذلك كنّا نهرب بشهوتنا إلى القرى البعيدة حيث المزود وحيث تصريف شهوة الرقص على نغمة الفزاني المسكرة (لحن موسيقي شعبي). كنا نصل القرية الصاخبة فنندفع بلا سلام إلى ساحة الرقص بلا استئذان ينادينا النغم المتصاعد من تلك "الشكوة" (قربة مصنوعة من جلد الماعز أو الغنم) الغريبة فيهز أجسادنا كأنما لا يعرف سر اهتزازها غيره.

هذا الحنين الشخصي إلى ليالي الريف جعلني لا أتردد لحظة في قبول دعوة مشاهدة فيلم" فن المزود" بكل مخزوني الذي عشته. وكنت مؤمنا بمقولة المفكر الفرنسي روجيس دوبريه"ان ما تطرده هو ما يتسلط عليك"...

من الوهلة الأولى يبدو أن الفن الذي منعه بورقيبة تمكن من أن ينتزع مكانه في الإعلام ثم يراود الفن السابع  ويصل الأمر بدكتورة في الجامعة اسمها سنية الشامخي بأن تنجز فيلما عن المزود. وسنية الشامخي  مخرجة متحصلة على الدكتوراه في الفنون و علوم الفنون (اختصاص سينما، تلفزيون، فنون سمعية بصرية -جامعة السربون- باريس ) تدرّس جماليات الصورة والتقنيات السمعية البصرية بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس وروائية ومؤلفة درامية، ساهمت في كتابة العديد من الأفلام الروائية والوثائقية.

كما ألفت الشامخي مجموعة من الكتب الأدبية والنقدية منها.  روايتها الأولى بعنوان "ليلى امرأة الفجر وكتابان أحدهما بعنوان: سينما تونسية جديدة والسينما التونسية في ضوء الحداثة و تحصلت هده الكتابات على العديد من الجوائز الوطنية و الإقليمية.

قرأنا ورقة  في الملف الصحفي تقدم فن المزود  والمزاودية :" ولدوا في الضواحي الفقيرة المهمّشة، إنهم أبناء النزوح الريفي الذي كدّس آباءهم على أبواب المدينة النبيلة البرجوازية، المقدّسة، في باب الجديد و باب الأقواس، و حوالي الجبلْ لحمر و الملاّسين، هذه الضواحي الأكثر بؤسًا. إلى هذه الأماكن حملوا آلاتهم "المزود" و الغناء الشعبي الذي يقترن بها ويحمل اسمها، فكان النغم واحدا.

بعضهم عرف الكحول و المخدرات و السجن و كلهم وجب عليهم أن يواجهوا الفقر و نظرة الاحتقار التي يرمقهم بها المجتمع، والأسوأ من ذلك الإقصاء الذي تمارسه نخبة عالم الموسيقى والفكر في تونس السبعينات والثمانينات. و بعضهم تحول إلى نجوم محترفين مثال صالح الفرزيط نجم سنوات السبعين الذي أنتج عشرات من الأغاني الناجحة التي عرفتها أجيال متوالية وهو الآن نجمة آفلة رغم الإنتاج الغنائي الوفير والموهبة المؤكدة.

والقليل منهم تجاوز كل الأزمات و عرف تقديرا متواصلا بلغ به حد النجومية مثل الهادي حبوبة و الهادي دنيا و لكن أكثرهم سقط في هوة النسيان مثل مصطفى قتّال الصيد وهو اليوم من آخر أصحاب السلسلة، وهي سلسلة من النوبات الصوفيّة. هذه النوعية الدينية من المزود المخصصة لمدح الأولياء وكانت قديما شديدة الانتشار في الوسط التونسي بما فيه الجالية اليهوديّة وتصاحب بعض الطقوس.

وبعضهم تلقوا عرفانا بالجميل و مجدا لم تهتم به وسائل الإعلام وإن كان مؤكدا وملموسًا مثل محسن الماطري. وغيرهم نجحوا بتألق مثل أشرف و عبد الكريم البنزرتي، هذه النجوم الصاعدة التي عليها أن تحافظ على هذا التفوّق.

والشبّان من هؤلاء يستطلعون نجمهم الصاعد من خلال الحفلات العائليّة والمحلات العمومية (المقاهي، صالونات الشاي، الكباريهات، قاعات العرض...)

فبدءًا من حي التضامن إلى الزهرُوني، لكل حي من هذه الضواحي المتشعبة في العاصمة فرقة المزود والمغنّون و الشعراء و المؤلفون و عازفو المزود و ناقرو الدربوكة و البندير (الطبل) الخاصون به.

هؤلاء بآلتهم و غنائهم و صوتهم و موسيقاهم الصاخبة الماجنة التي تنبثق منها أحيانا عربدة المهمّشين و يأس المشرّدين و حبّ الأم الجنوني وجراح الإهمال أو خيانة المرأة الحبيبة، بكل هذا تغلبوا على الحضر الذي أصاب فنّهم منذ استقلال تونس إلى التسعينات. لقد صنعوا جمهورًا يحبهم ويخلص لهم، جمهورا رفعهم إلى السماء.

إنه تتويج و نجاح شعبي ساطع تم الحفاظ عليه إلى يومنا هذا. إنه نجاح جعل فنّاني المزود يتجاوزون العاصمة التونسية ليكتسحوا البلاد بأكملها و يتخطّوا الحدود إلى طرابلس و الجزائر والدار البيضاء و يغزون العواصم الأوروبيّة التي تقطنها جالية مغاربية كثيفة مثال باريس وبروكسل و برلين ...

بداية العرض

بعد أن دخل جزء من الجمهور الغفير واحتل كل مقاعد القاعة حتى بقي بعضه واقفا قدمت المخرجة المجموعة المساهمة في الفيلم وهم عدد من الفنانين أو المزاودية (كما يسمون في تونس) وعدد من الحرفيين المشتغلين بصناعة الآلة ثم فاجأت المخرجة الجميع بأن العرض سيسبقه عرض قصير لنوبة المزود بفرقة "المزاودي" الشهير صالح الفرزيط وبالفعل اعتلى الفرزيط منصة المسرح مع مجموعته لينطلق صوت المزود يرج أرجاء القاعة في أداء وصلة مشهورة عند الجمهور. وبسرعة سلب المزود هوية القاعة التي انقلبت من قاعة سينما إلى قاعة رقص بعد أن تحرر الجمهور الطفيلي من تحفظه وخرج من اغترابه فبدأ بالتصفيق ثم نهض للرقص الجماعي بتشجيع من المخرجة والمسؤولين عن إدارة العرض.

انتهت الوصلة وغادر الفرزيط وفرقته الخشبة لكن الجمهور فقد جديته بعد أن دغدغت أجساده أنغام المزود. ومع انطلاق عرض الفيلم انطلقت صفارات الإنذار وتوقف عرض الفيلم فقد اكتشف أن أفرادا من الجمهور الاستثنائي يدخنون في آخر القاعة. تدخل المسؤول وذكرهم أن قاعة السينما يمنع فها التدخين بتاتا وأن صفارات الإنذار ستلتقط أي مدخّن. وعاد العرض.

كل هذه الأجواء كانت تعكس عرض فيلم بملامح خاصة. ظهر الفرزيط في الشاشة. الشاشة التي تشبه الشاشة المحرمة شاشة التلفزيون البورقيبي الآن يأكلها وجه الفرزيط بملامحه الساخرة وبلباسه الشعبي المسمى "دنغري" ذلك اللباس المكروه والممنوع في مؤسسات الدولة وخاصة منها المؤسسات التعليمية.

العرض

الفيلم كان عبارة عن شهادات لمجموعة من الفنانين وبعض المشاهد للشوارع الخلفية لتونس العاصمة التي انحدر منها هؤلاء الفنانين. والحق أن التصوير لم يكن فيه أي جهد فني فقد كان محيادا حتى أننا شعرنا أننا أمام كاميرا تلفزيونية أو كاميرا أعراس تنقل لنا ما يحدث في الحفلات الشعبية بطريقة مسطّحة بمعنى أنها لم تكن كاميرا ذكية تبحث في ما وراء الصورة ولأني أعتبر نفسي عارفا بكواليس المزاودية وطقوسهم قبل العرض وما يخفون تحتهم  وحولهم أثناء الحفل وطرق التحايل على تسريب الخمر في حفلات الأسر المحافظة فإن الكاميرا بدت لي بقيادة "ساذجة" أو لعلها "محافظة" هي أيضا. وهذا يتنافى مع اقتحام تيمة مثل المزود لأنه عالم متكامل للفتوة والعنف والخمر والفن ،عالم محاط بالكثير من حكايا الشطار و"الباندية" (العصابات) كما يسميه الشارع التونسي.

ولم ينف الفرزيط ارتباط المزود بالعنف وغيره وأكّد أن الحذر والعنف أحيانا ضرورة لكي يعود المزاودي سالما وبما تقاضاه في الحفل لأن الفنان مضطر للعمل في مناطق خطرة أحيانا وقد يتعرض للتعنيف أو للسرقة.

والحق أن مساحة الحديث عما التصق بالمزاودي من حكايات وإشاعات كان وراء طرده من مؤسسة المجتمع وملاحقته من قبل البوليس لم تأخذ حيزا مهما. بل إن الفيلم لم يسع إلى تحريك ذاكرة الشخصيات في هذا الاتجاه وربما تعلل ذلك المخرجة بأن همها هو فن المزود وليس المزاودي. ولكن مكي يكون العمل متكاملا من الناحية الفنية عليه اقتحام هذه العوالم كي لا يكون جزئيا خاصة أن الفنان صالح الفرزيط تحدث عن الملاحقات المتكررة من البوليس كلما نجح له حفل أو أغنية وأنه كان يختطف من الشارع كأي مشتبه فيه ليسجن بتهم عادة ما تنتهي بعدم سماع الدعوة.

والحق أن اختيار الفرزيط ليكون نجما وحيدا للفيلم تقريبا يدعو إلى التساؤل لماذا استبعد حبوبة وهو الملقب بملك المزود في تونس ولماذا استبعد سمير لوصيف وهو النجم الأول للمزود اليوم وهو شخصية غامضة محاطة بالكثير من القصص الشعبية المشوقة. مع الملاحظة أن اختيار المخرجة لشخصية مصطفى قتال الصيد كان اختيار مهمًّا لأنه مثَّل الذاكرة الحقيقية لفن المزود بجميع مراحلها والفقرات التي ظهر فيها كانت من الحرفية بمكان مما أنقذ الفيلم من الرتابة والسطحية التي تعود مع كل إطلالة لشخصية أخرى من الشخصيات الكثيرة التي حشي بها الفيلم . مما جعل منه يقترب من الريبورتاج عن المزود وليس فيلما وثائقيا. كما عيب على الفيلم غياب نص مصاحب يوثق من جهة لهذا الفن ويرتقي بالصورة واللغة السينمائية. وللمخرجة أن تحتج عن هذه الفكرة بأن النص ليس ضرورة في الفيلم الوثائقي غير أني كمشاهد رأيت ومع مجموعة من المتلقين أن الفيلم كان يحتاج هذا النص الخلفي الذي يرتفع به مع تلك الصور التي اجتهدت المخرجة في الحصول عليها لشخصيات كان لها وزن في تاريخ هذا الفن.

أسئلة ما بعد العرض

الأسئلة التي تبقى مطروحة بعد هذا الفيلم: هل الحرية التي أعطيت لفن المزود وحضوره الحر في الإعلام المرئي والمسموع منذ بداية التسعينات خدم المزود فعلا؟ ما هو الفرق بين مزود الثمانينات الممنوع ومزود اليوم؟ هل جنّدت السلطة هذا الفن ونجومه لصالحها وأفقدته بذلك خصوصيته كفن شعبي يعكس تمرّد الطبقة المسحوقة وأحلامها؟ كيف نفسّر إذن الحضور الكبير للمزود في الحفلات ذات الصبغة السياسية أو التعبوية؟ هل يعني أن المزود تخلّى عن المقموعين والمسحوقين والفقراء ودخل منطقة التزلّف السياسي خاصة أن قادته ونجومه ظلّوا كما كانوا دائما من المتسربين من التعليم. حتى أن عبد الكريم البنزرتي الذي لم يتجاوز الصف السادس ابتدائي مع العلم انه شاب ثلاثيني.

يبقى أن فكرة تناول المزود وعوالمه فكرة خطيرة بمعنى الأهمية لأنه بإمكاننا مقاربة المجتمع التونسي وتحولاته من خلال هذا الفن الذي اقتحم كل البيوت والطبقات الاجتماعية. إلى جانب شخصيات كثيرة ظلت موضوع بحث وقراءة سينماتوغرافية جديدة كشخصية بن قمرة الذي اعتزل في قمة مجده وشهرته ولاذ إلى الأغاني الصوفية بعد أن أدى بمناسك الحج. هل يعني هذا أن المزود انحراف كان يجب أن يتوب عنه؟ لماذا يلوذ الفنانون الوتريون الآن إلى المزود وألحانه للانتشار العربي ولتحقيق النجاح الداخلي ولنا في صابر الرباعي ووبوشناق...أمثلة دالة؟.

وخلاصة الأمر لنا على الفيلم ملاحظات كثيرة منها أن الفيلم كان طويلا وهو ما أسقطه في التكرار في أكثر من مشهد وباستثناء كل من الفرزيط ومصطفى قتال الصيد لم يكن للبقية من ضرورة بل أثقلوا الفيلم بكلام لم يقدم للموضوع أي جديد. كما بدا المزاودية حذرين في كلامهم عن فترة بورقيبة منعوا فيها من الظهور التلفزيوني ولوحقوا كما كانت اعترافاتهم بخصوصية شخصية المزاودي اعترافات تنقصها الجرأة لما عرف عنهم من ممارسات وسلوكات. بل إن الفرزيط بدا محافظا حتى أن زوجته قدمت شهادة عاطفية عنه من وراء حجاب فلم تظهر صورتها.

أما التصوير في كثير من الوقت فقد بدا تصوير هواة ليست فيه رؤية  خاصة فنية عالية، خاصة عندما تعلق بالإحياء الشعبية وحتى الحفلات التي صورت كانت كما لو أنها ملتقطة بكاميرا فيديو منزلي.

من ناحية أخرى لم يتطرق الفيلم لنوعية الأغاني التي يغنيها هؤلاء الفنانين وهي جديرة بالدراسة فهي عادة حول الفقر أو الحب المفقود والهجرة أو الأم وعدد منها كان كتب في السجون فهي معظمها تتغنى بالفقدان. وكان يمكن أن تطرق المخرجة إلى طغيان أغاني الام عندما أشار احد المتدخلين إلى الأصل اليهودي لفن المزود.

كما خلا الفيلم من وجهة نظر المتلقي بقي مجرد شهادات للمزاودية ومن ثمة لم نشعر بنبض الشارع وعلاقته وتعلقه بهذا الفن الذي يقول أصحابه أنه فن الشعب.

ولم تقع نقاش حول الفيلم مع الصحفيين والمهتمين مع أن العرض كان يبدو خاصا بهم في ظاهره كما جرت العادة.

وآخر ملاحظاتنا هي عزيف المزود في عرض سينمائي كان عملية لا خير فيها لأننا سمعنا وشاهدنا المزود في الفيلم ولم تكن تلك اللمسة الكرنفالية صائبة ولا ضرورية لأن كل فن عليه أن يدافع عن أحقية حضوره بميكانيزماته لا بالاستعانة والاستنجاد بفنون أخرى خارج اطار العرض إلى جانب ما نتج عن \لك الاختيار من فوضى في القاعة وتسرّب للدخلاء والطفيليين من الجماهير غير المعنية بالفيلم.

*******

*تعريف موسيقى المزود

آلة المزود هي من أهمّ الآلات الموسيقية الّتي تستعمل في المظاهر الاحتفالية الشّعبية الدّنيوية والدّينية في تونس، وتتخذ بالخصوص الإطار الاجتماعي الثقافي (socio-culturel) الذي يحقّق لها شرعيّتها الفنيّة والموسيقيّة من حيث وجودها كآلة تعبر عن أحاسيس ومشاغل مستعمليها والمتفاعلين معها. تمتاز بطبقة صوتية عليا وصوت قوي يجعل منها من الآلات المحبّذة لدى بعض الفيئات المتواجدة في الأحياء الشعبية. تستعمل هذه الآلة في الكثير من الحالات كأداة للتعبير عن الحدث الانفعالي والتلقائي الذي يشهده ويفرضه المظهر الاحتفالي. لا تتجاوز مساحتها الصوتية الخمسة درجات (Sol-re) من السلم الموسيقي وقد تمتد إلى ستة(sol-mi) أو سبعة درجات (sol-fa) حسب ما يبديه العازف من مهارة وقدرة على تحقيق ذلك. تكون درجة ارتكازها sol ويمكن تحويلها إلى la. إن السهرات التي تقدمها فرق المزود في تونس يطلق عليها في التداول اللفظي الشعبي بالربوخ أو المبيتة أو المحفل أو اللمة. أما المواضيع التي تتطرق إليها هذه الفرق في أغانيها فهي الشعور بالحرمان والإقصاء والاغتراب في فضاء المدينة إلى جانب بعد الحبيبة والتغني بصورة الأم الحنون ومواضيع الهجرة وغيرها وجميعها يسمى بالزندالي. وتمتاز أغاني المزاودية ببنية لحنية تتكرر العديد من المرات وبإيقاعات شعبية سريعة وراقصة من أهمها "الغيطة" و"الفزاني" بأنواعه و"البونوارة" و"المربع تونسي" على الطريقة الشعبية. هذا وتتضمن حفلات المزاودية في بعض الأحيان نوبات زيارات الأولياء كاسماعيل الحطاب والسيدة المنوبية وسيدي محرز وغيرهم. ومن أشهر المغنين في تونس في هذا النمط الموسيقي نذكر بالخصوص الهادي حبوبة وصالح الفرزيط ...

يتكون تخت فرق المزاودية من مجموعة آلات إيقاعية شعبية، كالدف والطبلة والدربوكة إلى جانب آلة المزود. يقع التعلم على هذه الآلات بصفة تلقائية وعن طريق المشافهة والسماع والعيش في الإطار الاجتماعي الذي تمارس فيه هذه الآلة.

الجزيرة الوثائقية في

17/08/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)