حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

آفاتار.. عندما تقف الروحانية على أكتاف الفيزياء

مُهنّد يعقوب

هنالك الكثير من الاعمال الفنية العالمية هي في الحقيقة أوسع من تسميتها وجانبها الاجرائي الرسمي الذي يحدده النقد بصيغته المعجمية , فتصيرالأغنية مثلاً او الرقص أبعد من كونهما أغنية ورقصاً , وتكون السينما أبعد من كونها فناً سابعاً , وهكذا الشِعر, والرواية , والقصة , واللوحة , والنقد , بل حتى العلوم الفيزيقية والرياضية . لكن ليست كل الاعمال يمكن معاملتها وفق هذا الانزياح القيمي , وانما بعض تلك الاعمال الفنية والفرضيات العلمية التي تتميز بعالميتها وتنوعها وبهجرتها خارج حدود التسمية المعجمية , وتاريخ تطور الصنعة او العلم حسب موضوعه ضمن عناصر وآليات محددة . لهذا تحصل الدهشة بالطارئ والمفاجئ على مستوى التنوع والتداخل بين إشتغال وآخر, لحظة اتصال هذا العمل الابداعي بعقل وخيال المتلقي , وانفصاله عن ظروف التسمية الرسمية الجامدة المسؤول عن ترسيخها المعجم النقدي نفسه وتصنيفاته . حيث تكون الفواصل بين الحقول المعرفية والجمالية معدومة الى حد كبير داخل منجز كهذا , ويكون التخصص بالكتابة والحديث عن منطقة دون أخرى بين فئة المهتمين متداخلاً , كما تشيرالى ذلك بعض الدراسات والمؤلفات المهمة ككتاب ( صوفيّة الكون ) للكنَدي ( هاوارد ايزنبرغ ) وكتاب ( قوة النية ) لـ ( واين داير) , إذ يجري التفاعل والتداخل بين حقل معرفي وآخر, وبين ما هو مادي وما هو غيبي , وكيف تتلاشى الحدود فيما بينهما الى مستوى يصعب نقضه وتكذيبه على الرغم من تباعدهما واختلافهما ظاهرياً.

تباينَ تضمين الخطاب الرؤيوي الباطني , وتضمين الخطاب العلمي بنسخته الحديثة (فيزياء / رياضيات) في السينما العالمية , تارةً بوصفهما موضوعاً معرفياً وفلسفياً لها , وتارةً أخرى بوصفهما (مصدراً للإلهام) واقواساً جامعة , للفن الموسيقي , والادبي , والسينمائي بشكل عام , ولا ينحصرالامر في ذلك على تجربة دون أخرى بين الروحانية والفيزياء. فهناك بعض الافلام على سبيل المثال لا الحصر تناولت الخطاب الاول لوحده ولو بشكل مقتضب باستخدام ثيمة ( الغزال ) كما في فيلم ( صائد الغزلان ) 1978 , وفيلم (باتش آدمز) 1998 باستخدام ثيمة ( الفراشة ) كدال على الوجد , وكذلك فيلم ( التنين الاحمر) 2002 الجزء الثالث ضمن مجموعة ( هانيبال لكتر) باستخدام نفس الثيمة كدال على التحول بالمعنى الفرويدي لرمز( الفراشة ) , بينما تناولت بعض افلام الخيال العلمي وابرزها ( ماتركس ) 2003 الخطاب الروحاني والعلمي معاً مع اهتمام أقل بشطره الاول. ولم يحصل ان تم تناول الاثنين كحقلين متجاورين في عمل سينمائي واحد لرسم نقاط الالتقاء والتداخل بشكل ناضج ومباشر بينهما كما هو حاصل في ( آفاتار) 2009. حيث يتداخل هاذان الخطابان ويتفاعلان للحد الذي يمكن جعلهما واحداً , نظراً للآليات المتقاربة التي تعمل عليهما كلا المنطقتين داخل الفيلم . ويبرز ذلك التجاور والتفاعل من خلال عناصر مركبة ومتعددة , كعنصر الكوكب ( باندورا ) وتراكيبه الفيزيائية والبايلوجية الغريبة , وعنصرالعقائد الروحانية للشعب ( النافي ) , وهذا الاخير يتضمن ثيمات عميقة منها فكرة العالم الآخر, والموتى وطرق الارتباط بهم وسماعهم عبر وسائط أثيرية مشعة تصلهم بالمصدر ( أي - وا ) ذلك الإله الصِفري الخارج عن الاضداد , الذي يرتبط وجوده ( بحفظ التوازن ) ولا يصطف لجهة على حساب جهة أخرى وفق مبدأ الصراع والتنافس الانساني . وعملية طرد ( الانسان الوحش ) والمتطفل على الكوكب التي جرت في النهاية , كانت داخلة لحفظ ذلك التوازن وليست خارجة عنه . والفكرة عموماً تكاد تكون صفة جوهرية موحدة في الكائنات الحية والكون عموماً سواء من الناحية البايلوجية او من الناحية الفيزيائية . فالكائنات بشكل عام تمتلك جهازاً مناعياً تنحصر مهامه في حفظ توازن الاعضاء حال حدوث ما يهدد سلامتها واستمرارها في الحياة . وعلى المستوى الثاني يؤكد علماء الفيزياء ان هناك ما يشبه هذه المركزية لحفظ التوازن في الكون ايضاً , تتمثل ( بالاوتار واهتزازاتها ) حينما يتعرض النسيج الكوني الى تلف وتمزقات ( بسبب عشوائية الجزئيات الناجمة عن كوارث زمانية ومكانية هائلة ) تحصل في الكون , فوظيفة تلك الاوتارهي معالجة العطب الذي يحصل لهذا النسيج الكوني واصلاحه بعد كل حادثة اضطراب او تمزق تحصل له. وفي تصوري لم يأت هذا الاهتمام بتجاور من هذا النوع المثير للجدل بين الخطابين في السينما الا بعد ان ظهرت نظريات الفيزياء الحديثة وتحديداً نظرية ( الكم ) لـ ( ماكس بلانك ) , وكذلك ظهور كتاب ( الكون الانيق ) لـ ( برايان غرين ) او ما تعرف بنظرية ( الاوتار الفائقة ). ولبيان الطبيعة السحرية لهذه النظرية ينبغي التوقف عندها قليلاً لصلاتها بالموضوع. تقول هذه النظرية التي تُعد دمجاً لنسبية انشتاين وميكانيكا الكم المتعارضتين , بوجود عشرة أبعاد الى احد عشر بعداً في الكون منها ستة أبعاد الى سبعة منطوية على نفسها ومضمرة , بخلاف الابعاد المكانية الثلاثة زائداً الزمن , وان فرض وجود مثل هكذا أبعاد متعددة يستلزم وجود عوالم وكائنات متعددة ومتداخلة ايضاً لكل واحد منها نواميسه الخاصة به . وبحسب ويكيبيديا الموسوعة الحرة مع تصرف بسيط (( ان الجزء الواحد في عالمنا قد يكون مشغولاً باكثر من جسم ولكن من عوالم مختلفة , وترى هذه النظرية ان الكون ما هو الا سيمفونية أوتار فائقة متذبذبة , فالكون عزف موسيقي يتصرف على نمط الوتر في الآلات الموسيقية )) (1). ووفقاً لهذه النظرية ذات النسب العالية من الفانتازيا والشِعر, يمكن جعل كوكب ( باندورا ) المتخيل لدى ( جيمس كاميرون ) , والعلاقات الروحانية العميقة التي تحكم قبائل النافي هناك , وارتباطهم بمخلوقات ذلك الكوكب ونباتاته , تطبيقاً بصرياً لتلك النظرية , وتاكيداً على خطاب رؤيوي باطني أنتجته نخبة من ( أعلام الروحانية في عموم الثقافات ) داخل عالم مكتظ بالمشاكل البيئية والاقتصادية والايديولوجية والانسانية عموماً.

تحكم الاجناس والانواع على كوكب ( باندورا ) شبكة من العلاقات ( الكهروكيميائية ) المعقدة , وهذه الاجناس والانواع مزودة بمجسات وحواس ذات طبيعة خاصة , فالنافي الازرق مزوّد بوصلة على شكل ضفيرة تفوق مهمام ما متوفر لدينا الان من أجهزة وكبسولات نرتبط من خلالها بشبكة الانترنيت , ومثله مزوّد الحيوان بهذه الوصلات الشَعرية الرقيقة واللطيفة لتأمين قوة اتصال وترابط موجي بين الكائن والآخر, فكل مخلوق على ذلك الكوكب لديه القدرة والاستعداد الموجي على ان يوفر ويجلب ما يستطيع ان يكون في مستوى جلبه والاندماج به , حسب القوة الموجية المتوفرة لديه والمشتقة من ( المصدر). والمثير للاهتمام من خلال هذا التضمين والتداخل السحري , ان جملة من الامكانات التي تحدث عنها الخطاب الروحاني من قبيل , طي او ثني المكان , والانتقال عبرالزمن واختصاره, هي من نفس السمات العلمية التي تحدثت عنها الباراسيكولوجيا فيما يخص الايحاء , والتخاطر , والتنويم المغناطيسي , وهي نفسها كذلك فيما يخص الفيزياء التي تنفي ان تكون المادة هي ذلك الشيء المتمظهر عبر تجسيمات وأبعاد مكانية وله كتلة , بل عبارة عن ترددات موجية تصدر من أوتار مغلقة وأخرى مفتوحة تعمل على نمط الاهتزاز الوتري في الآلات الموسيقية , ولا فرق في ذلك بين مادة متناهية الكبر كالكواكب والنجوم او متناهية الصغر كـ ( الكواركات ) الا في طبيعة الوتر كما يفترض الفيزيائيون . وسيأتي يوم ربما تفترض فيه الفيزياء وجود نسخ بديلة عن الانسان وعموم الكائنات , سواء كانت في البحر او على اليابسة او مجاورة للسحاب , ولا يقتصرالامرعلى الكون البديل ( كواكب / نجوم ) تكون مهام هذه النسخ البديلة اوالتوأم تزويد الانسان الارضي بالمعلومات والطاقة التي يأخذها البديل من ( المصدر). فـ للفيزياء يوتوبياها البديلة كما للخطاب الديني بشكله العام والخاص يوتوبياه البديلة , فله المجرة , والكوكب , والكائن , والطبيعة التوأم , مثلما للفن السابع كل ذلك ايضاً . حيث نرى هذا الكوكب التوأم اوالبديل الذي يفيض بكل انواع الطاقة والحياة الغرائبية معداً لدى (جيمس كاميرون) بدقة فنية , وتقنية , ومعرفية خالصة . جعل عبره الروحانية تقف على أكتاف الفيزياء ومجاورة ومتضمنة لها ولا يوجد فاصل لتماهي أحدهما بالآخر بحيث ما يُعتقد انه ينتمي للروحانية تفسره الفيزياء وما يُعتقد انه من الفيزياء تشير له الروحانية . فنحن امام وجود ذو طبيعة متشاكلة وهلامية واحدة , للنبات والحيوان والحجر فيه خواص الطقس العبادي والعكس صحيح. وفي ذلك كله أهمية في تداول أفكار ظلت لفترات طويلة في مدار النخبة وتعاني من الانفصال , كما يكشف هذا التقارب والتجاور بين المنطقتين تنوع التراكم المعرفي والثقافي المميز لدى صانع الفيلم , واخلاصاً لموهبته الفنية العالية , على طول متواليات الفيلم البصرية والسردية التي تبرز أكثر مع شخصيتين مهمتين هما شخصية ( سيجورني ويفر ) بدور عالمة الاحياء جريس , و( سام روتينجتون ) بدور جاك سولي .

إن هاتين الشخصيتين تمثلان نقطة التجاور والالتقاء على أرضية الفيلم بين الخطابين المشار اليهما أعلاه. (جريس) تعكس الاشتغال العلمي والتقني , و(جاك سولي) يعكس الاشتغال الباطني والروحاني , ومهام الاثنين داخل المحيط ( باندورا ) إكمال او تفسير أحدهما الآخر وتقديم الدعم له ليبرز كلقطة مركزية عمل على تأكيدها لنا جيمس كاميرون بإشارات كثيفة أبرزها , لقطة فشل نزول حياة (جريس) في جسد شخص من قبيلة النافي بعد إصابتها ضمن طقوس لا يمكن وصفها بالروحانية والدينية المجردة , وكذلك لا يمكن وصفها بالعلمية الخالصة , وانما بالاثنين معاً نظراً لاختلاف طبيعة الحياة والوجود فيزيائياً وبايلوجياً على الكوكب . و( جريس ) نفسها التي لا تؤمن بحكايات الجنيات كما سخرت من عرض جاك سولي لها بالمساعدة , تتلمس الحقيقة التي أبعد من المختبر والدورق اثناء عملية النقل تلك , كاشفة بذلك عن حقيقة التعاون والتجاور بين خطابين ربما في أحدهما تنازلاً لحساب الآخر من وجهة نظرالمخرج كون إحدى الشخصيتين إضطلع بدورالمخلِّص بالمعنى الديني داخل الفيلم وهو جاك سولي. وهذا الاخيرعاش حالات من التحول على سطح الكوكب الجديد ولكأنه يستعيد نسخته الانسانية التي تنتمي الى ذلك الكوكب من الاصل وليس الى الارض الوهم والطبيعة الخراب , وما هو حقيقي يكمن بالنسبة اليه في الـ (هناك) وليس في الـ ( هنا ) كما عبر. وهو يتمتع بطبيعة انسانية داخلية جعلت أمر إنسجامه مع الطبيعة والحيوان على كوكب ( باندورا ) أمراً اختارته الطبيعة نفسها من خلال لقطة (البذورالنقية لشجرة الارواح المقدسة) وتجمعها حول وعلى جسده , لان طبيعته الشخصية ذات سمة فطرية متفردة ومتفوقة , تسمح بذلك التناغم والانسجام مع الشجرة والحيوان والكائن الاثيري وطريقة اختيار أحدهما الآخر والارتباط به بالإيحاء او عبر وصلة مع انه لا يعرف ماذا يدور حوله , لكنه يعي مناسبات تحوله الجذرية من مرحلة الى أخرى ومن مكان الى آخر بفعل تنوع العلامات والاشارات وعمقها (2). فطبيعة جاك سولي المسالمة كانت بمثابة الخاصيّة التي مكنته من ذلك التحول والانسجام , حيث ينبغي ان تكون هناك جملة من الاستعدادات والخواص الفطرية التي تؤهل الانسان لنيل مكانة اجتماعية وانسانية مختلفة تصل لحد التصرف بالاشياء والتفاعل مع الطبيعة والحيوان لدرجة لا يمكن تعقلها , كما تضمنه الفيلم باشتغالات بصرية مبهرة وضعته في مكانة خارج حدود تسميته كفنٍ سابع.

الهوامش :

(1) ويكيبيديا الموسوعة الحرة - التصنيف الاول .

http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%86%D8%B8%D8%B1%D9%8A%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D8%AA%D8%A7%D8%B1

(2) تحيلنا هذه اللقطة بشكل او بآخر الى حادثة تاريخية وقعت لمحيي الدين ابن عربي في احدى سفراته مع والده وهي حادثة (الحُمُر الوحشية), حيث اقترب منها لحد ان لامس رمحه (أسنمة بعضها) ولم ترفع رؤوسها او تهرب, وتعد هذه الحادثة اهم نقاط تحول ابن عربي في مسيرته الحياتية التي علّل وقوعها بما أسماه هو (بسر المعاملة).

أدب وفن في

16/07/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)