حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

الفيلم الأفضل في تناوله لحالة نفسية معقدة 'ماراثون':

كوميديا موقف وتوظيف جذاب لـ 'الاوتيزم'

يبدو أن شخصية المصاب بمرض التوحد 'الاوتيزم'، بها من الجاذبية والثراء، ما يحرض المخرجين على الاقتراب منها، وجعلها محورا لإفلامهم، خاصة بعد أن تم استهلاك شخصية المريض النفسي والعقلي التقليدية، التي أخذت مساحة لا بأس بها في الأعمال الدرامية، لدرجة التشبع، وفقدان البريق.

وربما تكون طبيعة المرض، التي تجعل المريض، يجد صعوبة في التأقلم الاجتماعي والتفاعل مع من حوله، وسلوكه وردود الافعال المغايرة لتصرفات الأشخاص العادية، والأقل من عمره الطبيعي، وكونه في كثير من الأحيان يتصرف، كما لو كان إنسانا آليا مبرمجا، ينفذ ما تعلمه بإتقان، بمنطق التكرار، وإعادة إنتاج الفعل المكتسب، وليس الاستيعاب، هو ما يغري المخرجين، ويوفر لهم فرصة لمواقف درامية ثرية، من دون جهد كبير. بالإضافة إلى إمكانية المزج بين التراجيديا، وما يستتبعها من فرص الاستحواذ على المشاهد عاطفيا، وبين كوميديا الموقف، التي تتولد بشكل تلقائي من التصرفات ذات الطابع الطفولي، التي تصدر من شخص يبدو شكلا ناضجا، الأمر الذي يحقق معادلة فنية خاصة، بمقدروها ضمان الجذب والنجاح الجماهيري، خاصة إذا تمت معالجة هذه التيمة بحرفية عالية.

مؤخرا أتيح لي أن أشاهد ثلاثة أفلام تتناول نفس التيمة، تتمحور حول شخصية مريض 'الاوتيزم'، أولها الفيلم الروائي القصير'ألبوم صور' للمخرجة المصرية نورهان متولي، ركز في بنائه على المصير المجهول لهذا المريض، حال بقائه وحيدا، بلا رعاية أسرية، خاصة في ظل مجتمع لا يتعاطف معه، وأنما يلفظه، ويعرضه لمضايقات.

أما الفيلم الثاني الطويل، فهو 'اسمي خان' للمخرج الهندي كاران جوهر، ركز على الشخصية الخارقة للعادة، مع توظيف التعاطف مع هذه الشخصية، لتمرير رسائل ذات طابع سياسي دعائي، تصب في خانة تلوين الصورة الأمريكية، التي تشوهت في أعقاب الممارسات العنصرية، ما بعد أحداث الحادي عشر من ايلول/سبتمبر، واعتبار هذه الممارسات عابرة، طالما حافظ المسلمون على تسامحهم، وصبرهم على الابتلاء.

وربما يكون الفيلم الثالث 'ماراثون' للمخرج الكوري جونج يون شول، هو الأفضل في تناوله لهذه الشخصية.

تنبع قوته من استلهامه لقصة حقيقية، لشاب يعاني من مرض التوحد، عمره 20 عاما، لكن عقله عقل طفل في الخامسة، ومع ذلك يتمكن من منافسة الأسوياء، في ماراثون للجري.

حرص المخرج على وضع بطله في صورة واقعية، من دون زيادة أو افتعال، ما جعلنا نتقبل الشخصية ونقتنع بها، مع بناء درامي متصاعد تدريجيا، يوظف فيه، من وقت لآخر، تقنية 'الفلاش باك' بدقة، لاستحضار مواقف من الماضي، تبدو أشبه بمحفز للبطل، واستدعاء لخبرات سابقة، في فهم عميق لطبيعة هذا المرض.

ولم يكتف المخرج فقط بالتركيز على بناء شخصية بطله فحسب، وإهمال الشخصيات الأخرى المحيطة به، لكنه أعطى الآخرين مساحة من الاهتمام، خاصة شخصية الأم التي برع في تقديمها، وإبراز خلفية ظروفها الاجتماعية، ليستنى لنا فهم إصرارها على إنجاح ابنها المعاق ذهنيا، وجعله في مصاف الأسوياء.

فالأم مطلقة، بعد استحالة العشرة بينها وبين زوجها مدمن الخمر، الذي هجرها وتركها وحدها، الأمر الذي تسبب في إحباطها، ما جعلها ترفض الفشل، وتبحث عن الأمل والتحدي في هذا الطفل المعاق، واعتبار دعمه معركتها في الحياة .

وما يزيدها إصرارا هو رفض المجتمع له، وإجبارها على التعامل معه كعار يجب اخفاؤه، أو كمريض أولى أن يلزم بيته.

فتكرس نفسها له، لدرجة انها تهمل طفلها الآخر السوى، ما يولد قدرا من الحقد بين الطفلين، ولوما لها من الابن الآخر فيما بعد. وقد قام المخرج بإدخالنا إلى أجواء عالمه، بشكل جذاب وبسيط للغاية، من خلال لقطة لامرأة باكية في باص، وإلى جوارها طفل يعبث في شعرها، ثم ينقلنا إلى الشارع، حيث الطفل يرفض السير، ثم لقطة ثالثة داخل المنزل، وهو يتمرد على الطعام.

ويستكمل اللقطات التعريفية الخاطفة، بمنظر المطر، وهو يهطل، ثم قيام الأم باصطحاب الطفل الصغير إلى الشارع القارس البرودة، لتجبره على النطق، بشكل يبدو قاسيا، وفي ظل طقس، لا يحتمله حتى الكلب الضال، الذي يكاد يموت بردا، لعدم فهمها أنه غير طبيعي، إلى أن تذهب به لطبيب لعمل اختبارات، وتأكيد إصابته بالاوتيزم.

ولكي لا يتركنا المخرج نسيء الظن بالأم المحبطة، ولا نحكم عليها بالقسوة، يجعلها تفقد طفلها في حديقة الحيوان، ويكاد يجن جنونها، إلى أن تعثر عليه وهو يشاهد الحمار الوحشي باندهاش وإعجاب، فتحتضنه في حنو.

ولا تقتصر دلالة هذا المشهد التأسيسي على إبراز التحول في شخصية الأم من الإحباط المفعم بالغضب، جراء فشل زواجها، إلى الحنان المبالغ فيه والرغبة في تغيير المصير السلبي، بالإصرار والصبر والتحدي، وانما توظيف حقيقة علمية تتمثل في ارتباط مريض التوحد بذكرياته وخبراته الأولى، إذ يتعلق 'تشي وون' بالحمار الوحشي، وهو الرمز الذي يستدعيه دائما، ويكون حافزا له على تعلم الجري، ويكون بمثابة إشارة، أو نبوءة بتفوقه الرياضي، ومصدر إزعاج أيضا تتضح معالمهما فيما بعد.

وينقلنا المخرج خطوات للأمام، حيث تبدأ الأم في إكساب الابن، الذي نضج جسمانيا، وليس عقليا، مهارات الإدراك والتكيف، بأن تصطحبه في نزهات خلوية، لتعريفه بالبيئة الطبيعية، ثم بالبيئة الاجتماعية، بأن تأخذه معها للتسوق. وهنا تتولد كوميديا الموقف، بأن نراه يتصرف كإنسان آلي في جمع متطلبات البيت، حسبما يحفظ، ثم حين يرقص في وسط المتجر، عندما ينتزع آخر عبوة، كادت إحداهن أن تأخذها.

غير أن التكيف ليس سهلا، والقبول الاجتماعي لمثل هذه الشخصيات غائب، ومهمة المرأة ليست بالهينة، وهو ما يجسده المخرج على نحو مدهش وسلس، ويصنع منه صراعا دراميا متصاعدا، بأن يجعل 'تشي وون' الذي بدا كشاب يافع، يترصد لفتاة، تظن في البداية أنه يغازلها، لكن المفارقة تتضح بتعلقه بالحقيبة، التي على كتفها، أو بالاحرى بجلد الحمار الوحشي، فيخطفها، ما يعرض الأم للوم، ومطالبتها بأن تبقيه في البيت. وفي محطة القطار يتكرر المشهد ذاته، لكن على نحو أكثر قسوة، إذ يلاحق فتاة ترتدي فستان مخططا، بشكل مقارب للحمار الوحشي، فيستثيره المشهد، فيتحرش بها، ما يجعل خطيبها ينهال عليه ضربا مبرحا، حتى يسيل دمه.

لكن كل هذه المواقف، لا تثني المرأة عن عزمها، ولا يجعلها تستسلم، وتحبسه بالمنزل، وتفكر في أن تجعله يشارك في نشاط يمتص طاقته، وينجح فيه، طالما من الصعب إلحاقه بالتعليم.

فتذهب به لتعلمه السباحة، غير أنه يتصرف على سجيته، ما يثير استياء من حوله، إذ يظل عاريا تماما، فتشعر الأم بالحرج، وتخرج به سريعا، في موقف كوميدي عفوي.

ولا تيأس المرأة، وتفكر في نشاط آخر، هو الجري، وتبحث له عن مدرب، لكن المدرب غير مقتنع بفكرة تدريب شخص غير سوي، فضلا عن أنه غير متحمس للتدريب في هذه المرحلة، إلا أنها تطارده حتى في بيته.

وهنا تتولد كوميديا الموقف مرة أخرى بتلقائية، بأن يرتدي 'تشي وون' البدلة والكرافت الخاصة بالمدرب، ويتصفح المجلة الجنسية الخاصة به، ويربك الغرفة، ويسقط الحاجيات بها، إلى أن يوافق - مرغما - على تدريبه. ويستهلك المخرج وقتا لا بأس به، غير ضروري، في إظهار التحول في موقف المدرب من النفور إلى الحماس للشاب المعاق ذهنيا، والتعاطف معه، لدرجة معاملته كشخص طبيعي، ومرافقته إلى الحانات لشرب الكحول.

ويبدو إصرار الأم على نجاح ابنها في السباق، هاجسا يسيطر عليها، من دون أن تعي أن الأمر، ربما يكون فوق قدراته، فتصرعلى اشتراكه في السباق، غير أنه يشعر بالإعياء، ويسقط، ولا يستطيع اكمال التنافس، فتشعر بالذنب لأنها تمارس ضغطا عليه، وتبحث عن نجاحها هي، وليس نجاحه هو، فيما هو عاجز عن أن يعبر عن نفسه، ويقول إنه مجهد.

وفي ذات الوقت، تتعرض للوم من ابنها الآخر السليم، لإهمالها له.

وقد سعى المخرج الى أن يجعل من هذا الموقف نقطة تحول، تخرج المرأة من حالة الحلم وتنزلها إلى أرض الواقع، غير أن الأمر لم يكن بالهين، فقد كانت مواجهتها مع نفسها أشبه بالسقوط من عل، وانهيار كل آمالها أمام عينيها فجأة، وهو ما تجسد على مستوى رمزي، بسقوطها في حمام السباحة، وهي تلاحق ابنها، المصر على مواصلة السباق وحده، من دون إدراك أن لكل فعل بداية ونهاية، ثم على مستوى واقعي بدخولها المستشفى، واكتشاف أنها مصابة بالسرطان.

فتهمل نصيحة المدرب لها، بأن شعورها بالذنب ليس في محله، لأن ابنها يعشق الجري فعلا ومتفوق فيه، وتذهب به لمصنع يعمل به اصحاب الحالات الخاصة، غير أن هاجس الجري قد تمكن منه، فصار يمثل له حلم يقظة.

وحين تأتيه دعوة ثانية للمشاركة في الماراثون، يذهب بمفرده، وتسعى الأم لإثنائه عن هذه الخطوة، لكنه يصر في عناد، ويذكرها بحلمها بأن يفوز.

ويشكل مشهد الماراثون ذروة الأحداث، وقد تمت صياغته بحرفية عالية، حاملا معنى الترقب والتشويق، واستدعاء لحظات من الماضي تحفز البطل على التحدي والمواصلة، ويبدأه المخرج بلقطة بانورامية واسعة لمئات المتسابقين وهم يهرلون، من الأمام والخلف، ثم نتبين وجود البطل، إلى أن يلحق به مدربه، ويذكره بحوار قديم بينهما لتحفيزه، عن قوة حيوان 'الشيتا'، وليس الحمار الوحشي، وضرورة تنظيم نفسه، وزيادة سرعته تدريجيا، وأنه حين يفوز سيهطل المطر، حيث اللغة التي يفهمها، وخبرات الماضي، التي تعلمها مع الأم.

ويكثف المخرج هذا المعنى، وعلاقة الشاب المكتسبة بالبيئة الطبيعية، بأن يقطع باستمرار عليه، وهو يجري، في لقطة مقربة 'كلوز آب' لوجهه، أو قدمه، ثم لقطة للغابة الخضراء، أو للبحر.

ثم يقطع بالتوازي عليه، وعلى جموع المتسابقين، فمدربه، ثم نراه يردد تعليمات المدرب، وهو يواصل الجري، إلى أن يسمع صوت سيارة إسعاف، فيتوتر وتخور قواه، ويجلس على الأرض، لأنه لم يعتد هذا الصوت، ما مثل له فزعا، أبرزه المخرج بلقطة مكبرة، وهو يصم أذنيه بيديه، ما زاد الموقف الدرامي توترا، ويقترب منه أحد المتسابقين، فيعطيه قطعة شوكولاته، ما يمثل له حافزا كالأطفال، فيستدعي صورة الأم، فينهض ويكمل السباق، ويستدعي مقولة المدرب أن 'المطر وقت جيد للجري'، فيتخذ منها حافزا، أقوى من الشوكولاته، التي يلقي بها، فيما الموسيقى يعلو صوتها، وتعكس بقوة حالة الترقب، وصولا إلى انتهاء السباق وفوزه.

غير أن المخرج لم يرد أن تكون النهاية تقليدية، فأتى بنهايتين الأولى أقرب إلى الفانتازيا، وتؤكد في نفس الوقت، على حقيقة علمية أن هؤلاء المعاقين ذهنيا، إن كانوا يتفوقون، فلأنهم يقومون بعمل مبرمج، وليس عن إدراك واع، إذ يواصل 'شو ووان' الجري إلى المتجر، والجموع تصفق له، ثم إلى حمام السباحة، فالشارع، والكل يرحب به، حتى رجل المرور، الذين كانوا يعاملونه بعنف وإنكار، حتى يصل للغابة، حيث حيوانه المفضل 'الحمار الوحشي'.

وربما أراد المخرج من خلال هذا المشهد أن يرسل رسالة للمجتمع، بأن مريض التوحد، بإمكانه تحقيق إنجاز ما، يجعل الجميع يحتفي به، إذا ما أُعطي فرصة، وحظي بالرعاية والتقبل، علاوة على أنه إنسان يشعر بما حوله ويتأثر.

أما النهاية الأخرى، فتعيدنا إلى الواقع، حيث الأخ والأم عند نهاية الخط، ينتظرانه ليأخذانه بالأحضان، بينما تنهمر الدموع في مشهد مؤثر، يخرجنا منه بلقطة كوميدية، حيث يأتي الأب الغائب لتصويره، فيتذكر حين كانت أمه تعلمه كيف يبتسم، في لقطة 'كلوز آب'، يتم القطع عليها، للانتقال إلى شهادة تقدير، فتجول الكاميرا في البيت، وتقف عند بدلة أنيقة معلقة، في إشارة إلى تحقيق كل أحلام 'شو ووان'، التي هي في الأساس حلم الأم، وثمرة جهدها، ورهان حياتها.

' كاتب وناقد مصري

mabdelreheem@hotmail.com

القدس العربي في

15/07/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)