حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

قراءة في واقع السينما السورية:

قصة نجاح وتملص من الرقابة

سوزانه شاندا

ترجمة: رائد الباش    مراجعة: هشام العدم

·     منذ ستة أشهر لم يسمع هيثم حقي أي شيء جديد من الرقابة السورية. ومنذ ذلك الحين ما يزال فيلمه "الليل الطويل" مجمدًا ولا يجوز عرضه في سوريا حتى إشعار آخر.

·         المخرج السوري هيثم حقي - "ما يشغلني هو الدراما الإنسانية، والفيلم لا يعمل بالشعارات السياسية".

·     "فجأة يجد نفسه واقفًا في الشارع" - فيلم "الليل الطويل" الذي يصوِّر إطلاق سراح سجين وعودته إلى أسرته والحياة التي تبدو في ظاهرها حرة.

·     تزداد باستمرار شعبية الأفلام والمسلسلات السورية في العالم العربي. المخرج السوري المعروف حاتم علي، مخرج فيلم "الليل الطويل".

تغزو الأفلام السياسية والمسلسلات التلفزيونية السورية الأسواق العربية. والآن وقع في مصيدة الرقابة فيلم "الليل الطويل" الذي يعتبر أول فيلم روائي سوري يسلِّط الضوء على مصير السجناء السياسيين. ولكن على الرغم من ذلك فإنَّ هذا الفيلم يصل إلى جمهوره عبر القنوات الفضائية وحتى في سوريا. سوزانه شاندا تلقي الضوء على واقع السينما السورية.

أربعة رجال يرتدون ملابس السجن الزرقاء، شعرهم أشعث وشائب وكذلك لحاهم؛ يجلسون في زنزانتهم ويحتسون الشاي. هذه الزنزانة ضوءها معتم، وجدرانها منسلخة. ومنذ عشرين عامًا يقبع هؤلاء الرجال خلف القضبان، وذلك لأنَّهم انتقدوا النظام. وأكبرهم هو كريم الذي يبقى مستلقيًا على سريره المعدني، حيث يحضر له الآخرون الشاي؛ لقد استسلم هنا إلى مصيره. وثم يتم فتح الباب الحديدي الثقيل، ويطلب الحراس من كريم بالذات أن يجمع أغراضه ويأتي معهم، إذ سيتم إطلاق سراحه.

يبدأ فيلم "الليل الطويل" صامتًا وتقريبا من دون أي موسيقى تكسر الصمت. ونشاهد كيف يغسل كريم نفسه وكيف يحلق ذقنه وشعره. وفجأة يجد نفسه واقفًا في الشارع، يرتدي قميصًا وبدلة ويحمل في يده حقيبة جلدية، يستنشق الهواء وينظر من حوله باستغراب. وهذا الفيلم من تأليف الكاتب والمخرج السوري هيثم حقي، الذي يعتبر من أشهر المخرجين السينمائيين في سوريا، وفيلمه هذا لا يركز مثلاً على ظروف الاعتقال في السجون أو الاعتقالات التعسفية وحسب؛ بل يسلط الضوء أيضًا على أفراد أسرة السجين المفرج عنه، الذين توصلوا الآن إلى تسوية مع النظام وأصبحوا متصالحين معه. والإفراج غير المتوقع عن كريم يجعل حياتهم في حالة مشوشة، ويوقظ فيهم تأنيب الضمير ومشاعر الندم.

ليل طويل

"ما يشغلني هو الدراما الإنسانية، والفيلم لا يعمل بالشعارات السياسية"، حسب قول هيثم حقي الذي كتب بنفسه سيناريو الفيلم. وبعدما وافقت الرقابة على هذا السيناريو، تمكَّن المخرج السوري البارز، حاتم علي من تصوير الفيلم مع ممثلين سوريين في سوريا.

ولكن عرض فيلم "الليل الطويل" في دور السينما السورية يحتاج في الواقع إلى موافقة أخرى. ويقول المؤلف: "أشاد المعنيون في الرقابة بالفيلم، ولكن بسبب موضوعه السياسي الحرج، أرسلوه إلى سلطة أعلى من أجل مراجعته والنظر فيه. لقد كان ذلك قبل نحو ستة أشهر. ومنذ ذلك الحين لم أسمع أي شيء".

ولكن في الحقيقة يعتبر تأثير الرقابة في عصر الفضائيات المعولمة محدودًا. ويقول هيثم حقي الذي أنتج هذا الفيلم لصالح شبكة أوربت Orbit السعودية للإنتاج: "المسألة مجرَّد مسألة وقت إلى أن يتمكَّن الجمهور السوري من مشاهدة هذا الفيلم". ويضيف حقي: "أوربت سوف تبث الفيلم قريبًا على قناة خاصة. وبعد ذلك سنقوم ببيعه لقنوات تلفزيونية أخرى، وهكذا سيتاح عرضه قريبًا في كلِّ مكان، وأيضًا في سوريا. ولا يمكن للرقباء إغلاق الكون". وحتى الآن تم عرض فيلم "الليل الطويل" ومنحه بعض الجوائز في العديد من المهرجانات السينمائية، مثلاً في القاهرة ودلهي وتاورمينا.

الاقتراب من المحظورات

وهيثم حقي مخرج صارم من الناحية السياسية. وبعد سؤاله عمّا إذا كان قد دخل السجن بسبب ذلك؟ يلوح بيده نافيًا ويقول: "لا، غير أنَّني أعرف الكثير من العائلات التي عانت من مآسٍ مماثلة". وهو لا يستحسن الأفلام التي تنشر رسالة سياسية مباشرة. ويقول إنَّ هذه الأفلام غير ممكنة في سوريا.

ويضيف أنَّ بعض النقَّاد العرب اتِّهموه بأنَّ فيلمه "الليل الطويل" لا يتخذ موقفًا واضحًا من الحكومة. وحقي الذي يعتبر نفسه اشتراكيًا ديمقراطيًا، يقول: "هذا لا يهمني. وأعمالي الدرامية الاجتماعية هي دائمًا سياسية، حتى وإن كانت لا تدو حول السياسة بشكل صريح. وإذا كنت تريد التشجيع على تغيير شيء ما، فبإمكانك عرض الأحوال السيئة في المجتمع. وهذا في حد ذاته عمل سياسي".

وقبل عشرة أعوام كانت الرقابة في سوريا أشد بكثير مما هي عليه الحال في يومنا هذا. ومع رئاسة بشار الأسد بعد وفاة والده حافظ الأسد في عام 2000، كانت توجد في البدء بوادر انتقال إلى عصر التحرّر. ولكن ما أصبح يعرف باسم "ربيع دمشق" لم يدم فترة طويلة. وتعلم الفنانون والكتاب والمخرجون كيفية التحايل على الرقابة وممارسة النقد، من دون تسمية الأشياء بأسمائها المباشرة.

ويقول حقي إنَّ هناك خطوطًا حمراء لا يمكن تجاوزها، ولكنها لا تكون دائمًا واضحة. وأحيانًا يمكن أن يتوقَّف إصدار قرار ما على مزاج أو طبيعة الموظف المسؤول في تلك اللحظة. وعلى العموم يتم في العالم العربي حظر هذه التابوهات الثلاثة: الجنس والدين والسياسة. "ولكن لا يمكن إنجاز أي فيلم من دون التطرّق على الأقل إلى هذه الموضوعات. وأنا أقترب دائمًا من هذه المحظورات وأحاول باستمرار توسيع مجال قبولها"، حسب قول هيثم حقي.

تنافس في صناعة الدراما

ومثلما هي الحال في مصر، يتم أيضًا في سوريا إنتاج الكثير من "المسلسلات التلفزيونية الشعبية" الرخيصة، ولكن بالإضافة إلى ذلك يوجد لدى سوريا تقليد يفتخر به من المسلسلات التلفزيونية التي تعرض في قصصها قضايا اجتماعية وتاريخ سوريا الحديث أو بعض القضايا العربية مثل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أو الوضع في العراق، وتحظى من خلال ذلك بشعبية بين الجماهير.

ومنذ عام 1980 قام المخرج وكاتب السيناريو والمنتج هيثم حقي الذي يبلغ عمره واحدًا وستين عامًا، بإخراج العديد من الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية التي تثير الكثير من الجدل على المستوى السياسي والاجتماعي، وكثيرًا ما انتظر طيلة أعوام الحصول على تصريح بعرضها. مثلما حصل على سبيل المثال في مسلسل "خان الحرير" الذي يتكّون من ثلاث وعشرين حلقة، وهو من تأليف الكاتب السوري نهاد سيريس والمخرج هيثم حقي. ولعامين كاملين احتفظت دائرة الرقابة بسيناريو هذا المسلسل، إلى أن صدر في آخر المطاف في عام 1996 إذن بتصوير المسلسل.

وتدور قصة هذا المسلسل حول الحب والتجارة في سوق حلب وتصوِّر النتائج السلبية التي نجمت عن اتِّحاد سوريا ومصر في الفترة من عام 1958 وحتى عام 1961. ويعتقد هيثم حقي أنَّ "هذا لم يعجب الحكومة. ولكن مع ذلك سُمح في النهاية ببث المسلسل وحتى في أفضل وقت للبث - في شهر رمضان، وحقَّق نجاحًا كبيرًا كما تم عرضه فيما بعد عدة مرات".

وبعد مسلسل "خان الحرير" تم إخراج أعداد متزايدة من المسلسلات التلفزيونية والأفلام السورية، التي حقَّقت نجاحًا كبيرًا خارج حدود سوريا في جميع أنحاء العالم العربي. وقد شكَّل هذا النجاح منافسة لصناعة السينما المصرية التي كانت حتى ذلك الحين مسيطرة على الأسواق العربية. "أدخلنا المنظور السينمائي إلى المسلسلات، وكنا نصوِّر بكاميرا واحدة فقط في مواقع خارج الأستوديو، وكنا نختار موضوعات جريئة"، مثلما شرح هيثم حقي الاستراتيجية الجديدة. وحتى ذلك الحين لم يكن يتم إنتاج المسلسلات التلفزيونية إلاَّ في داخل الأستوديو. "وهذا كان يبدو مثل المسرحيات المصوَّرة، ويجعل الناس يشعرون بالملل".

دعم مالي من قنوات فضائية عربية ليبرالية

وبالإضافة إلى إلهام وشجاعة المخرجين السوريين لعب أيضًا ظهور القنوات الفضائية في دول الخليج العربي منذ منتصف عقد التسعينيات دورًا كبيرًا في ازدهار المسلسلات السورية. وهذا يعني الآن الحصول على الكثير من المال. ويعتبر كلّ من إم بي سي وروتانا وأوربت من أشهر شركات الإعلام العربية التي تستثمر بقوة في إنتاج الأفلام والمسلسلات. ويقول حقي: "في السابق، عندما كان لا يوجد سوى القنوات المحلية في كلِّ قطر، كان يتحتَّم علينا بيع مسلسل ما إلى نحو عشرين قناة أجنبية، من أجل استعادة الأموال التي استثمرناها. واليوم يأتي القسم الأكبر من تمويل المسلسلات من شركات إعلامية في منطقة الخليج العربي، يملكها أمراء سعوديون أو رجال أعمال".

ويقول حقي إنَّ التدخّلات أو حتى ممارسة الرقابة من قبل المستثمرين تعتبر في المقابل قليلة جدًا. وفي البداية كانت هناك بعض المشكلات مع قوانين الآداب الصارمة في المملكة العربية السعودية، ولكن الآن ومنذ أن قامت معظم القنوات بنقل مقراتها إلى الخارج، أصبحت القنوات التي يديرها السعوديون هي القنوات الأكثر تحرّرًا في العالم العربي. ويضيف حقي قائلاً: "من يستثمر الكثير من المال يريد رؤية الأرباح، وهنا تأتي المسائل الإيديولوجية في المرتبة الثانية".

وهكذا لا شكّ في أنَّ مقصات الرقابة لم تعد تصل بنوايا سياسية إلى الموضوعات المرغوبة والمثيرة للجدل، بل على الأرجح نتيجة التنافس في فضاء الأقمار الصناعية غير المحدود. وخير مثال على ذلك فيلم "الليل الطويل"، مثلما يؤكِّد هيثم حقي.

حقوق النشر: قنطرة 2010

موقع "قنطرة" في

12/07/2010

 

الفيلم الإسلامي وتحريم الصور في الإسلام:

"النظرة الغربية عاجزة عن أنْ تنصف التقاليد البصرية للثقافات الأخرى"

هانس بلتينغ

ترجمة: يوسف حجازي   مراجعة: هشام العدم 

·         تحريم الصور في الإسلام قضية إشكالية تجد لها تفسيرات متباينة في الساحة الثقافية الغربية وحتى الإسلامية

·     "إنتاج الفيلم مرهون بتكاليف الإنتاج التي يتوجب دفعها، والتي تُجمعُ الأموال اللازمة لها في أغلب الأحيان من خلال العمل المشترك مع مؤسسات غربية فقط"

هل هناك "سينما إسلامية"؟ يواجه النقد الفني الغربي صعوبات إزاء الفيلم الإسلامي. والجدل الدائر حول تحريم الصور في الإسلام قد استثنى الفيلم حتى الآن. المختص بتاريخ الفنون هانس بلتينغ يتساءل في هذا المقالة يسلط الضوء على هذه القضية الشائكة.

المخرجون من العالم العربي أو من إيران باتوا ظاهرة مألوفة في عالم الفيلم. فمحسن مخملباف مثلاً، الذي يدير مع ابنتيه سميرة وهانا شركة عائلية مزدهرة، يتبوأ منذ فترة طويلة مكانة ثابتة في تجربتنا السينمائية. بالرغم من ذلك، يبقى السؤال عن كيفية تعاطي النقد السينمائي مع مخرجين لا معرفة له بيئتهم، والذين لا تحكم على أعمالهم إلا من خلال التصنيفات المتوفرة عادة للفن السينمائي.

تناولت مجلة Third Text البريطانية للفنون هذا السؤال في عددها الخاص الصادر في كانون الثاني/يناير 2010، وقد أشرف عليه ضيف العدد الصحفي والمؤرخ علي نوبيل أحمد. وبدءًا من اختيار الموضوع الذي حمل عنوان "السينما في المجتمعات الإسلامية" يجري في مقدمة العدد التنويه إلى إشكالية مفادها أنَّ المجتمعات المسلمة في آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا تكاد تكون غير قابلة للمقارنة. ويشرح المحرر لخبيرٍ كان قد رفض الدعوة للمشاركة في هذا العدد الخاص، بأنَّ الهدف هو كشف القناع عن تصنيف "السينما الإسلامية" بوصفِه تنميطًا، نظرًا إلى خلط المجتمعات المختلفة تمامًا ووضعها في سلةٍ واحدةٍ، وكذلك إظهار أنَّ ذلك لا يُشبِع سوى حاجةٍ غربيةٍ في الإبقاء على مسافةٍ إزاء هذه المجتمعات.

الأكاديميون السينمائيون يحفرون قبر السينما

لكنَّ الأمر يتجاوز ذلك ويدور حول النظرة الغربية إلى إنتاج سينمائي ينعكس فيه واقعٌ مختلفٌ تمامًا للمجتمعات التي تُسمى بـ "الإسلامية". حميد دباشي أستاذ مادة "الدراسات الإيرانية" في جامعة كولومبيا في نيويورك ينتقد بشدة في النقاش الدائر حول فيلم "الجنة الآن"، والذي حصل في عام 2005 على جائزة أفضل سيناريو في مهرجان جوائز الفيلم الأوروبي، وفي عام 2006 على جائزة الكرة الذهبية (غولدن غلوب) لأفضل فيلم بلغة أجنبية. وكان حميد دباشي قد سافر مع المخرج هاني أبو أسعد إلى فلسطين وتعرّف على التجارب التي تستند إليها الجماليات القائمة في الفيلم.

لم يملك نقد الفيلم ولا الدراسات الأنثروبولوجية الأكاديمية "للدراسات البصرية" إلا نظرة واحدة على شكل العمل، الذي يتم إقصاء بُعدَه السياسي، كما يكتب حميد دباشي، مضيفًا أنَّ علوم السينما تُسرِّع بمثل هذا المنهج في "موت السينما" وأنَّ علوم الاثنيات تمسي "جنازة غريبة لكل شكل تتناوله من أشكال الفن"، ذاك لأنها تمتص الحياة بألمها وفرحها وتقوم هذه العلوم بتحييد التمرّد في مادة الفن، ولذلك هناك ضيق النظرة إلى الفيلم الفلسطيني بـ "واقعيته المؤلمة" والذي تظهر فيه "أزمة محاكاة" عميقة لهذا النوع من الأفلام.

هيمنة النظرة الغربية

يتجاوز هذا النقد دوافع صنع الفيلم والفيلم بوصفه وسطًا بحد ذاته، لأنَّه يرفض الحق الأكاديمي في السيادة على التفسير، الذي يخضع له أيضًا الفن المعاصر غير الغربي في عصر العولمة. وتتشكل حتى في ظل الليبرالية والانفتاح فجوة بين المنظور الغربي وبقية العالم، حيث تنتصر السيطرة على الفضول. وتتسع الفجوة هناك، حيث النقد السينمائي والنقد الفني متخلفان في الدول الصاعدة، فيتولى المفسرون القدماء التقييم المهني ثانية. ومع أنَّ النظرة الغربية ليست خطيئة، بل لا مهرب منها بالنسبة لنا في واقع الأمر، لكن ينبغي علينا أنْ لا نفقد الوعي بأنَّ هذه النظرة تخضع لأنماط التفكير الغربية، وأنَّها عاجزةٌ عن أنْ تنصف الثقافات الأخرى وتقاليدها البصرية.

تكمن خصوصية الفيلم في كونه لا يُنتج للسوق الغربي وللمتلقين الغربيين فقط، بل أنَّه يخاطب أيضًا وبالدرجة الأولى جمهورًا عريضًا في مكان إنتاجه. هذا الأمر يجعل عدم التناظر بين تلقي الفيلم في مهرجانات السينما الغربية واستقباله في مكان إنتاجه أكثر وضوحًا. وبهذا تصبح ميزة الفيلم بالمقارنة بعالم الفن نسبية، لأنَّ الفن التشكيلي لا بد من أنْ يُباع في السوق وأنْ يعرض في أماكن لا يزورها إلا جمهور الفن، وهذه غير متوفرة أبدًا حتى الآن في الكثير من البلدان الصاعدة.

إنَّ إنتاج الفيلم مرهون بتكاليف الإنتاج التي يتوجب دفعها، والتي تُجمعُ الأموال اللازمة لها في أغلب الأحيان من خلال العمل المشترك مع مؤسسات غربية فقط. وبالمقارنة بالفن التشكيلي الذي يبقى حتى في الأعمال الفنية التركيبية وسطًا استثنائيًا، نلاحظ أنَّ هناك إدراكاً للفيلم من قِبَلِ المجتمع الذي تم فيه تصوير الفيلم والذي يتوجّه إليه الفيلم.

موضوع الصور المنسي

تندر الإشارة في سياق الحديث عن الفيلم إلى مسألة الصور التي تلاقي حاليًا في النقاش الذي يتناول "الإسلام" رواجًا، لأنه يعد بالتوجيه السريع، بالرغم من أنَّ الفيلم لا يتألف سوى من صور، مما يخوله لأن يتبوأ المرتبة الأولى في هذه المسألة. كما أنَّ انتشار مشاهدة الصور قد فرض نفسه في المجتمعات الإسلامية من خلال وسائل الإعلام الحديثة ومن خلال التلفاز حتى في ظل غياب دور السينما. لكنْ إنتاج الصورة هذا يتبع أعراف المشاهدة كما يخضع للرقابة السياسية أو الرقابة الذاتية أيضًا.

أما اليوم فقد عبَرت الأفلام في هذه المجتمعات كل الأنواع، من الفيلم الفولكلوري إلى فيلم الفن السينمائي، ومن أفلام الأساطير إلى الدراما المجازية أو إلى الفيلم الوثائقي، واخترقت حدودًا لم تعُد تعترف بها. بينما نجدُ البديل للفيلم الغربي الذي يريد صنَّاع السينما التخلص من ظله حاضرًا بشكل جلي أو ضمني، بحيث لا يمكن الاستعانة بالمعايير السينمائية التي قرر المخرجون عدم العمل بها، فغدا لا مفر من سوء الفهم على ما يبدو، بالرغم من كل الحماس والإعجاب بالجمالية الغرائبية.

كما يمتلك عدد المجلة الخاص الذي تناولناه في هذا الصدد هنا دلالةً كبيرةً لأنَّه يضم عددًا من الكتَّاب الإنجليز القدرين على النظر إلى أبعد من الحدود المفروضة ثقافيًا. نذكر من هؤلاء الكُتّاب مثلاً الكاتِب المرموق روي أرمس Roy Armes الذي أعدَّ في عام 2008 معجمًا خاصًا بصانعي الأفلام الأفارقة. حيث يكتب في نصه حول "الرؤيا الشعرية" لدى ناصر خمير Nacer Khemir الذي ولد سنة 1948 في تونس، مستندًا إلى تصريحاتٍ خاصةٍ بصانِّع الأفلام قال فيها إنَّ أفلامه السردية تحيى بفعلِ تقاليد السرد الشفهي للقصص وتنافس جمال اللوحات الصغيرة، لدى تصويرها لحلمٍ ما بحديقة غير مرئية على سبيل المثال.

في مقالٍ آخر يجري الحديث عن "العصر الذهبي" للسينما الباكستانية الذي تبعته منذ الثمانينيات موجة سينمائية لأفلام الرعب. راشيل دواير Rachel Dwyer التي تُدرِّس "الثقافات والسينما الهندية" في لندن تبحثُ في موضوع سياسة الصورة الإثنية الجديدة في الفيلم الهندي. وبهذا، سرعان ما تتّضح أهمية التعرّف على الثقافات من خلال الأفلام التي تعبّر هذه الثقافات فيها عن نفسها. وفي النهاية تدحض المجلة بسهولة الصورة النمطية عن "العالم الإسلامي" المتجانس.

نماذج تفكير أصبحت بالية

لقد شيّد رشيد أراعين مؤسس مجلة الفنون "Third Text" وناشرها لسنوات طويلة في عام 1987 بهذه المجلة مؤسسة فريدة من نوعها في العالم تنظر بـ "بمناظير نقدية إلى الفن والثقافة المعاصرين". وبالرغم من أنَّ مصطلح العالم الثالث قد تم تجاوزه اليوم، إلا أنَّ هذا لا ينطبق على المناظير السائدة.

هاجر الفنان في الستينيات من باكستان إلى انجلترا، ووقع هناك في نزاع مع المشهد الفني السائد، بحيث تم منعه من الدخول إلى المعارض، ما دفعه لتنظيم معارض بنفسه أظهر فيها "التاريخ الآخر" للفن الحديث. وقدم نفسه لفترة من الزمن، باعتباره "الفنان الأسود" لكي يؤكد على اختلافه، وذلك تضامنًا مع كل الزملاء الفنانين الذين لاقوا صعوبات مشابهة.

لا يمكن إنكار أدائه بصفته رأس حربة المعارضة ضد ممارسات الإقصاء من قبل القائمين على المشهد الفني الرسمي، الذي يقدم نفسه على أنَّه عالميٌ، ومعارضٌ لوصاية ما يسمى بالحداثة. إنَ مجلته التي حافظت على مستواها الفكري على مدى مائة وعددين بلا مشقة (للأسف من الصعب العثور عليها في المكتبات لدينا)، أفلحت أيضًا في اختراق عزل الفن، وكذلك في فهم الفن والثقافة باعتبارهما وحدةً كما تبيّن مساهمات الكتّاب والفلاسفة في المجلة.

حقوق النشر: صحيفة فرانكفورتر الغماينه تسايتونج/قنطرة 2010

نشر هانس بلتينغ المختص بتاريخ الفنون مؤخرَا كتاب: "فلورنسا وبغداد. تاريخ شرقي-غربي للنظرة".

موقع "قنطرة" في

12/07/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)