حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

«محطّم القلوب» والسينما كاستكمال لسيرة غنائية

فانيسا بارادي: لم نجد وقتاً للتفكير.. كان علينا ألاّ نتصنّع

نديم جرجورة

بين الغناء والتمثيل، شكّلت الفرنسية فانيسا بارادي (اسمها الكامل فانيسا شانتال بارادي، مواليد الثاني والعشرين من كانون الأول 1972) حالة فنية فريدة من نوعها، بفضل نبرة صوتية هادئة وعميقة في سحرها ورهافتها، وبفضل أداء متماسك أمام الكاميرا. إطلالتها الأولى كانت في برنامج تلفزيوني عرفه العالم كلّه باسم «مدرسة الهواة»، الذي استقبل مواهب فتيّة جداً، مقدّماً إياها إلى الجمهور الكبير وهي تُغنّي مقاطع من هنا وفقرات من هناك، بعد أن يتبادل مُقدّم البرنامج جاك مارتان وأصحاب هذه المواهب حوارات لم تخلُ، غالباً، من نكات جميلة وأجوبة لاذعة وساخرة أحياناً، قالها الصغار، الذين بدت غالبيتهم الساحقة مشعّة ذكاءً وموهبة. عند بلوغها التاسعة من عمرها، ظهرت بارادي في إحدى حلقات هذا البرنامج، معلنة بداية مسار فني مزج الغناء بالتمثيل. غير أن إطلالتها التمثيلية الأولى انتظرت العام 1989، بمشاركتها في «عرس أبيض» لجان كلود بريسّو: علاقة غريبة بين تلميذة وأستاذ مدرسي، مفتوحة على معاني الحياة والحب والصداقة والتعليم وخفايا العيش اليومي في مواجهة التحدّيات.

قياساً إلى سيرتها الغنائية، ظلّت حياتها التمثيلية بسيطة ومتواضعة. فبين العامين 1989 و2010، عام إطلاق العروض التجارية لفيلمها الأخير «محطِّم القلوب» لباسكال شوماي، أدّت بارادي أدواراً سينمائية في سبعة أفلام (أضف إليها فيلميها الأول والأخير). رقم صغير جداً، سواء أكان الأمر بالنسبة إلى مغنية وجدت في التمثيل استكمالاً لموهبتها الفنية، أم بالنسبة إلى من اختار التمثيل مساراً مهنياً. فهي باتت في الثامنة والثلاثين من عمرها، ولديها حضورٌ غنائي فرنسي وأوروبي وعالمي لا يُستهان به: «أحببت السينما كثيراً. هذا أمر مفروغ منه. منذ بلوغي الخامسة أو السادسة من العمر، شغفت بالكوميديات الموسيقية التي جمعت، بالنسبة إليّ، ثلاثة أمور أحبّها كثيراً: الموسيقى والرقص والسينما». هذا ما قالته بارادي في حوار منشور في المجلّة الفرنسية المتخصّصة «استديو/ سيني لايف» (نيسان 2010). أضافت: «في المقابل، وفي ألبومي الغنائي الأول، لم أكن متورّطة في الصيرورة الإبداعية، كما أصبحتُ الآن. كنتُ حينها مؤدّية شابّة حصلَتْ على أغاني فرانك لانغولف وإتيان رودا ـ جيل كهدايا جميلة». فيلمها الأخير هذا، «محطِّم القلوب»، سرد حكاية شاب وسيم قادر على إغراء النساء وتحطيم العلاقات الزوجية والعاطفية. مُصوَّر على ركيزة الكوميديا الأميركية، ما دفع بفابريس لوكليرك إلى سؤال بارادي عن علاقتها بهذا المشروع: «هل رغبت في هذا النوع من الأفلام، المشغولة على طريقة الكوميديا الأميركية؟». أجابت بارادي: «لم تكن لديّ هذه الرغبة المحدّدة، لكن الرغبة نشأت فيّ عند قراءتي السيناريو. أعجبتني القصّة. بل إنها خاطبتني سريعاً. أحببتُ دائماً هذا النوع من الأفلام التي تُنجَز لمنح المُشاهدين متعة. إنها أفلام تثير شعوراً طيّباً. من ناحية أخرى، انطلقتُ في هذه المغامرة لأني أحببت الرؤية (الفنية والدرامية والإنسانية) للمخرج». وأشارت إلى أن الكلام على «كوميديا أميركية» قد يكون غامضاً أو عامّاً: «أخبرني المخرج عن سينما (بيلي) وايلدر، عن فيلم «أعظم ما فينا» (1933) لجورج كيكور. أمتعتني هذه المراجع. ثم إن باسكال مخرج شاب، و«محطِّم القلوب» فيلمه الأول، حتّى وإن اشتغل كثيراً في السابق في مجالي السينما والإعلانات. إنه رجل واضحٌ، يُتقن الإقناع. كنت مرتاحة».

وعمّا إذا تطلّب المشروع وقتاً طويلاً للتنفيذ، قالت فانيسا بارادي إن كل شيء مرّ سريعاً جداً: «العامل الثاني الذي جعلني أغرق في هذا المشروع كامنٌ في اشتغالي مع رومان دوري (ممثل الدور الرجالي الأول في الفيلم نفسه). أحببتُ دائماً ما يفعله». إنه ممثل يُتقن فعل كل شيء: «هذا صحيح. في «محطِّم القلوب»، مثّل كل شيء. الدراما هي دراما مغلوطة. الكوميديا محدّدة تماماً وبدقّة، لكنها مفرطة أيضاً. كان عليه أن يظهر في سلسلة من الأزياء المختلفة أيضاً. باختصار، دوره كان هائلاً كفاية. كان متمكنّاً من تأدية هذا كلّه. لقد خدعني، حقيقة، أثناء التصوير. إنه ممثل يُدرك فعل كل شيء، وليست صدفة أنه موجودٌ في السينما الفرنسية في المكانة التي بات موجوداً فيها الآن». وردّاً على تحليل لوكليرك، القائل بأن الكوميديا هي أيضاً سؤال توقيت وكوريغرافيا، وبأن على المرء ألاّ يُخطئ في خطواته أبداً، وبأن هذه هي المرّة الأولى بالنسبة إلى بارادي التي تؤدّي فيها مثل هذا النوع السينمائي، قالت الممثلة الشابّة: «إنه صعب فعلاً. خصوصاً أن باسكال شوماي جعلنا نعمل بسرعة كبيرة، بهدف المحافظة على شيء من العفوية، بالتأكيد. أحياناً، كنا نصوّر إعادتين فقط من أجل مشهد. كان الأمر فظيعاً بالنسبة إليّ، لكن على الأقلّ لم يكن لديّ وقت للتفكير. كان علينا ألاّ نتصنّع، بل أن نكون ما نحن عليه في اللحظة نفسها، وأن نثق فعلياً بالمخرج. هذه قصّة تكشف أنه في أعماق كل واحد منا هناك تلك الرغبة في الرومنسية».

بالإضافة إلى هذا، قالت فانيسا بارادي إن هناك مخرجين يثيرون فيها الرغبة في العمل معهم من دون قراءة السيناريو أو النصّ السينمائي، كباتريس لوكونت مثلاً: «لكن، حتى معه، هناك مشاريع اقترحها عليّ ولم أرغب في تحقيقها. أنا منشغلة كثيراً في مهنتي. عندما أعود إلى السينما، فإني أريد قبل كل شيء سرد حكاية جميلة، أو تمثيل شخصية ساحرة. هذا ما حصل مثلاً في «المفتاح» لغييوم نيكلو. ليس هذا بالضبط النوع السينمائي المفضّل لديّ، لكنّي أدّيت دوراً ثانوياً، مليئاً بأشياء كثيرة».

 

كلاكيت

أسمهان وشيريهان

نديم جرجورة

العيش على حافة الدنيا. على التخوم الواهية للموت. العيش مع الموت أعواماً عدّة. مرافقته في اللحظات كلّها. الانتصار للذات على الجماعة هدفٌ. السقوط في الجحيم الأرضي قدرٌ. كما النهوض مجدّداً من قعر البئر الجافّة للحياة. الاستمرار في مقارعة المظالم. انتظار الخاتمة بتحدّيها. هذه صُوَر مشتهاة، بالنسبة إليّ. تعكس سلوك أفراد مشوا في حقول القتل، من دون أن يخشوه. أدركوا، منذ البداية، معنى التفلّت من قيد أو قاعدة أو نظام ابتكره أرضيون، أو هبط من عل. أو أتاهم الإدراك لاحقاً. أي ان المرء يمضي أعواماً عدّة في ممارسة ما يراه ملائماً لذاته، من دون أن ينتبه أو يحلّل أو يُبرّر ما تفعله ذاته، المنقادة إلى انفعالاتها وأهوائها ورغباتها إزاء الآخر. أو إزاء الجماعة. هذه صُوَر تعكس، بالنسبة إليّ، أجمل تعابير الذات الفردية. أراها في نماذج قليلة. أتماهى بها في لحظات عيش ملتبس، أقضيها حالماً ببلوغ تلك المرتبة الأبهى للتمرّد، من دون جدوى. أليست أحلامي أوهامٌ وخيبات؟

النماذج قليلة. أكثرها التصاقاً بحساسيتي (أو هذا ما أشعر به، على الأقلّ)، متمثّلٌ بامرأتين جميلتين وآسرتين: أسمهان وشيريهان. الفرق شاسعٌ بينهما، إنسانياً وفنياً. التشابه واضحٌ بينهما، في عناوين أساسية أرّخت منعطفات عيشهما على تلك الحافة، أو في قلب التخوم. عاشت أسمهان في دائرة الخطر اليومي. جمالها وجاذبيتها وبراعتها في اختراق الممنوع، المفروض عليها، من أجل ذاتها وحريتها وشغفها بحياة متفلّتة من أي قيد، أمورٌ جعلتها إيقونة تمرّد على الجماعة من داخلها. شيريهان مختلفة. الاستماع إلى بعض المرويّ عن سيرتها، يحيل المستمع إلى عالم من القهر والجنون والغضب والصدمات، فُرض عليها، فانكسرت فيه، مع أنها عرفت كيفية الخروج، مراراً، من انكساراتها، الجسدية والنفسية، إلى اختبارات جديدة. أو شُبِّه لها هذا. أم إنه الوهم، هنا أيضاً؟ شيريهان إيقونة تمرّد من نوع آخر. تمرّدها صامت. أو باطني. متجلّ هو في إصرارها على العيش، على الرغم من الموت اللاحق بها دائماً.

ضغط الجماعة، الهادف إلى تطويع الخارج عليها وجعله منصاعاً لقواعدها، أفضى بأسمهان إلى الغرق في التخبّط والارتباك والقلق والألم، قبل الغرق في مجرى نهريّ. الجماعة المتسلّطة على شيريهان أصغر. لا يُلغي هذا ضغطاً نفسياً حادّاً، دفع المرأة الشابّة إلى الاغتسال بنار الجحيم الأرضيّ يومياً. جماعة أسمهان لم تستكن إلى خروج المرأة عليها. لديها أصول دينية واجتماعية وثقافية حريصة على احترامها. جماعة شيريهان متنوّعة الجوانب. بعضها مرتبط بالعائلة الضيّقة. بعضها الآخر انقضّ عليها من الخارج. عانت شيريهان آلاماً جسدية حادّة. ضغط الجماعة أدّى بها إلى تخبّط مريع في القهر والوجع والإحباط. لعلّ المرض الذي أصابها منذ أعوام عدّة، شكّل حماية لها من جور الحياة والأقارب والمعارف. مع أن المرض نتاج جور الحياة. جور هؤلاء جميعهم أيضاً. لعلّ الموت المادي لأسمهان منحها خاتمة قاسية لتخبّطها المريع.

تُرى، ما هــو شعور العائــش على حافة الموت؟ أو فيه؟

السفير اللبنانية في

03/07/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)