حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

وائل حمدي يكتب : وجع دماغ

قمت مؤخراً بمراجعة سريعة لمجموعة المقالات، التي كتبتها لهذه المساحة قبل ثلاث سنوات، اندهشت من إصراري وقتها علي بعض المطالب، التي تصورت أنها مفيدة لصناعة السينما.. كنت متحمساً جداً مثلاً للمطالبة بضرورة الإعلان عن الإيرادات الحقيقية للأفلام، عبر جهة أمينة ومحايدة ومستقلة، بعيداً عن البيانات الصحفية لشركات الإنتاج، التي هي أقرب للمزادات العلنية، والتي تضيع معها الحقائق، وتكون نتيجتها الوحيدة أن كل الأفلام رابحة، وكل النجوم ناجحون، وكل الصالات كاملة العدد.. كنت متحمساً أيضاً للشفافية في إعلان التكاليف الحقيقية لكل فيلم، دون الانسياق خلف لمعان تصريحات المنتجين، باعتبار أفلامهم هي الأعلي ميزانية، والأضخم إنتاجاً، والأعلي سقفاً، وكل ما هو منسوب لأفعل التفضيل علي المستوي المالي، قبل أن نري النتيجة علي الشاشة، فإذا بها فقيرة خائبة خابية فاترة.. كنت متحمساً لفكرة التخطيط المستقبلي لكل شركة، وكيف أن صناعة السينما لن تتنفس تنفساً طبيعياً، طالما ظل المنتج لا يفكر فيما سينتجه للعرض في العيد، قبل أن ينتهي من إنتاج ما سيعرضه في الصيف، فإذا ما اقترب العيد، وجد نفسه مزنوقاً مضطراً للبحث عن موضوع فيلم جديد، أي فيلم وأي جديد، المهم أن يلحق بالعيد لينقذ صالات عرضه من الإفلاس.. كنت متحمساً لفكرة خلق مواسم جديدة مبتكرة، وعدم الارتكان للمواسم الثابتة، وهو ما لا يأتي إلا بدراسة لكل شرائح الجمهور ومتطلباتها، والقدرة بالتالي علي مخاطبتها وإغرائها بالنزول إلي الصالات في أي وقت.. كنت ساذجاً، أعترف.

طبعاً لم يتزحزح اقتناعي بأهمية كل ما سبق، إذا كنا نرغب في شيء من النظام والتطور والاستمرارية لصناعة السينما.. لكن السذاجة، كانت في مطالبتي لقطاع السينما دون غيره بعلاج الأخطاء، وتصحيح المسارات، والبحث عن سبل التطوير والتنظيم.

أي شفافية أطلبها في الإعلان عن تكاليف وإيرادات الأفلام، بينما تبدو الرؤية ضبابية أو معتمة، في ميزانيات كل قطاع من قطاعات الدولة؟! ما الفارق بين منتج سينمائي يعلن زيفاً أن فيلمه كان الأعلي ربحاً في سباق الصيف، ورئيس حكومة يعلن زوراً أن عهده شهد نجاحاً ساحقاً علي المستوي الاقتصادي؟ كيف يمكن أن ألوم شركة، ادعت أنها بصدد بناء عشرات دور العرض، وإنشاء عدة استوديوهات، وإنتاج عشرين فيلماً، ثم لا تنجح في إنجاز واحد علي عشرة من كل ذلك.. بينما لا سبيل أمامي للوم رئيس دولة، يتعهد في برنامجه الانتخابي بتوفير ملايين فرص عمل، وتطوير التعليم، والقضاء علي الأمراض المستوطنة، وإرساء مبادئ المواطنة، ومحاربة الفساد الإداري، وتأمين الممارسات الديمقراطية، وتفعيل دور السلطات الرقابية، واحترام حرية التعبير، وعدم المساس بحقوق الإنسان، ثم لا ينجح، ليس في تحقيق الواحد من عشرة، بل إنه لا ينجح في منع تدهور كل ما سبق إلي حال أسوأ مما كان عليه! الأمر برمته لغو في لغو، هراء لا ينتج عنه إلا المزيد من الهراء.. ومن قبيل السذاجة الشديدة، والسطحية البالغة، أن أفكر في خير للسينما أو غيرها، بينما نغرق جميعاً في مستنقع طيني بلا قاع.. هل ما زلنا نتحدث عن صناعة السينما؟ إنها مرآتنا التي لا تكذب، وهي واحدة من مئات المرايا من حولنا، كلها لا تكذب، وحالها المتردي كحالنا تماماً بلا أدني شك.. نستحقها، وتستحقنا.

الدستور المصرية في

23/06/2010

 

وائل حمدي يكتب : وجع دماغ

مشوار عمر

أحياناً لا تحظي بعض الأفلام الجيدة بالشهرة التي تستحقها، نظراً لوقوفها وسط طابور من الأفلام الأكثر جودة، التي أنجزها السينمائي ذاته.. قائمة أعمال المخرج «محمد خان» مثال علي ذلك، غالباً نتذكر روائعه، مثل «موعد علي العشاء، الحريف، خرج ولم يعد، زوجة رجل مهم، أحلام هند وكاميليا، سوبر ماركت»، ونسقط سهواً أفلاماً أخري جيدة تحمل توقيعه، مثل «طائر علي الطريق، عودة مواطن، مشوار عمر».. سنتحدث عن الفيلم الأخير، الذي كان أول نص سينمائي للكاتب «رءوف توفيق».

«عمر» شاب أقرب للتدليل، ابن تاجر ذهب، يضطر والده للاعتماد عليه في مهمة عمل، حيث يرغب في توصيل حقيبة مجوهرات إلي عميل مهم خارج القاهرة.. هذه المهمة بالنسبة لعمر تبدو ممتعة، رغم مسحة التذمر التي بدت علي ملامحه في البداية، وسبب استمتاعه الحقيقي بها، هو أنها تسمح له بمزيد من الاستعراض أمام أكبر عدد من الناس، بسيارته الفارهة والاستثنائية التي حصل عليها مؤخراً.

عندما يركب «عمر» هذه السيارة، يبدو أقرب لكائن من خارج الكوكب.. كل شيء يتم التحكم فيه من خلال الأزرار، كل شئ يبدو قريباً من أطراف أصابعه.. إنه الملك هنا، وكل المارة في الشارع من حوله هم الرعية.. أثناء رحلة "عمر"، هل كان يستمتع بنظرات الفضول والإعجاب والدهشة من البسطاء حوله؟ هذا أكيد.. هل كان يسعي في تصرفاته لاستجلاب هذه النظرات؟ غالباً.. هل كان يدرك أن منظره داخل سيارته لا يثير الفضول والإعجاب فقط، بل يمكن أن يثير الحنق أو السخط أو الحقد أو الحسد لدي بعض المحرومين؟ ربما.. لكنه قطعاً لم يسع أبداً لإثارة هذه المشاعر شديدة السلبية. لم يدرك عمر أن استمتاعه بالتفوق، وزهوه بالتميز عن البسطاء، يستتبع بالضرورة أن يثير حفيظة البعض.. كان يعتقد أن مجرد حصوله علي مثل هذه السيارة، يعني تلقائياً أنه أصبح منتمياً لعالم مختلف، لا تنطبق عليه قوانين عالمنا، ولا يمكن أن يحدث احتكاك بين العالمين.. وهكذا، تزلزل كل شيء بالنسبة لعمر، عندما تعطلت سيارته، ليجد نفسه مضطراً للتعامل والاحتكاك مع نماذج تنتمي للعالم الآخر الذي انعزل عنه بإرادته، بل الأسوأ من ذلك، أنه تعامل مع أولئك الذين استفزهم بزهوه، وقد أصبح بالنسبة لهم صيداً ثميناً يستحيل إفلاته.

قبل أسبوع واحد، كان أحد أصدقائي يفاضل بين شقتين، في منطقتين سكنيتين علي حدود القاهرة، وكانت الميزة الفارقة التي رجحت إحداهما، أنها تقع داخل «كومباوند» متكامل الخدمات، وله سور خاص، ونظام أمني صارم.

في الفيلم، عندما استولي الأشقياء علي سيارة «عمر»، وجد نفسه بلا قيمة حقيقية، فقد كانت قيمته المفترضة مبنية علي انعزاله وانفصاله داخل حصنه المتحرك.. أما وقد تم تجريده من ذلك الحصن، فيمكن للجميع أن يعيد النظر في طريقة التعامل معه.. قيمة ساكن «الكومباوند» لا تختلف كثيراً عن هذا المنطق، إنها قيمة مكتسبة من قدرته علي الانعزال، فماذا لو انفك حزام العزلة إجبارياً؟

في الفيلم، كاد «عمر» يفقد حياته، لأنه لم يدرك أن ما بثه في النفوس من غل وسواد، بتعمده إبراز تميزه، كان أكبر من أن تتم السيطرة عليه.. لقد أخطأ بلا شك عندما خرج بسيارته المستفزة عن مساره اليومي، ودخل إلي عوالم لا تتفهم رغبته في الاختلاف، بينما هم يعانون مع كل شهيق وزفير، لقضاء الحد الأدني من أعباء الحياة.. فهل يضمن ساكن «الكومباوند» عدم الاحتكاك المستفز بالعوالم التي قرر الانعزال عنها؟ هل يضمن ألا تتحول نظرات الفضول، التي يلقيها البعض علي بوابات «الكومباوند»، إلي نظرات غضب، وانتظار للحظة الانقضاض؟

الدستور المصرية في

16/06/2010

 

وائل حمدي يكتب: وجع دماغ

فيلم العار 

الدرس الأخلاقي الذي ينتهي إليه فيلم «العار» 1982، يبدو واضحاً للجميع، بمصاحبة الآيات القرآنية للقطة النهاية: «ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها».. من الناحية الفنية، قد يري البعض في ذلك ضعفاً أو فجاجة، بينما أراه إخلاصاً للبناء التراجيدي الذي تبناه المؤلف «محمود أبوزيد»، فقد كان الإغريق القدماء وهم مخترعو الدراما بأنواعها يختتمون مسرحياتهم التراجيدية بنشيد للجوقة، يلخص للمتفرجين الحكم الإلهية فيما شاهدوه، والعبرة المستفادة مما لحق بالأبطال.
أبطال «العار» كانوا نموذجاً للشخصيات التراجيدية، يبدو كل منهم شديد الثقة في مسار حياته، لكن سقطة واحدة تكون كفيلة بالفتك به.. الضابط الصلب، الذي كرس نفسه لمحاربة المخدرات، يسقط أمام احتمال فقدانه الأمان المادي، عقب رحيل والده في حادث مفاجئ.. كذلك الحال بالنسبة للطبيب النفسي، الذي يتعامل يومياً مع المدمنين في عمله بالمصحة.. والمفارقة القدرية، أن حصولهما علي نصيبهما من ميراث الوالد، يتطلب منهما أن يشاركا في إتمام عملية لتهريب المخدرات.. فقد كان الوالد الصالح، يتخذ من محل العطارة ساتراً للتجارة المحرمة، وهذا ما يبلغهما به شقيقهما الأكبر مضطراً، حيث كان الوحيد العالم بسر الوالد، وساعده الأيمن في أعماله.

عندما تنزلق الشخصية التراجيدية خلف اختيار خاطئ، فلا مجال أمامها للتراجع، ولا بد لها أن تتطهر.. وهكذا انتهت رحلة الإخوة إلي تلك النهاية المأساوية، عندما اكتشفوا تآكل صفائح المخدرات بعد أسبوعين من التخزين السيئ، ليصبح كنزهم مفتتاً في قاع الملاحات.. فينهي أحدهما حياته طواعية برصاصة نافذة، بينما يفقد الثاني عقله ويجن تماماً.. هذا العقاب القدري التراجيدي، يظهر أيضاً مع البطلة النسائية في مساحة أقل درامياً، إنها زوجة الشقيق الأكبر، التي من فرط طيبتها وحبها لزوجها، تتبرع بالغوص في مياه البحر ليلاً لتسلم البضاعة، واثقة من إمكاناتها في العوم بناء علي سباحتها في ترعة قريتها.. كانت خطيئتها أن قدرت إمكاناتها بأكثر مما هي عليه، فكان مصيرها الغرق.

المدهش بالنسبة لي في هذا العمل شديد التماسك والروعة، هو شخصية الشقيق الأكبر نفسه.. لاحظ أنه الأدني تعليماً بين إخوته، ورغم انتمائه لعالم الإجرام منذ صغره، فهو يبدو متسقاً ومتصالحاً مع نفسه علي عكسهم، بل هو المتفهم لأوضاعهم الاجتماعية والنفسية، الحريص علي مصالحهم، لدرجة أنه كان يرفض إعلامهم بتجارة الوالد الراحل رأفة بهم.. ليس هذا فحسب، إنه في الحقيقة أكثرهم مثالية.. فهو حنون علي عكس الضابط القاسي، حازم علي عكس الطبيب المتردد.. أمين علي حقوق إخوته، فلم يفكر أبداً في إخراجهم من المعادلة رغم قدرته علي ذلك.. عادل بلا مطامع، فهو يصر علي اجتزاء حصة زوجته الغريقة، ليفرقها باسمها في صدقات جارية.. إنه الشخصية السوية الوحيدة بين الأبطال هنا، لم يصبه ذلك الشرخ التراجيدي الذي أودي بالباقين، حتي عندما تلقي ضربة قاسية، بغرق زوجته الحبيبة، لم ينزلق نحو الغضب والرغبة في الانتقام.

تأمل هذه الشخصية في المشهد الأخير، إنه المتماسك حتي آخر لحظة، لم ينتحر ولم يفقد عقله ولم ييأس، بل تركته الكاميرا في لقطة النهاية وهو غائص في مياه الملاحات يحاول التقاط أي بقايا للبضاعة، لقد كان أكثر صلابة من أن تهشمه الطاحونة التراجيدية.. لا أدعي أبداً أن «أبوزيد» تعمد ذلك، لكن المفارقة تضطرنا للتفكير والتأمل.. من الذي أفلت من الإعصار الأخلاقي والاجتماعي الذي ضرب هذه الأسرة؟ لم يفلت العقلاء ذوو التعليم العالي والوجاهة الاجتماعية، ولم تفلت الزوجة العاشقة بطيبتها وسذاجتها، كانوا جميعاً أضعف من الاختبار، وكانوا شديدي الهشاشة رغم ادعائهم الثقة.. لقد أفلت من انتمي للعالم السفلي عن قناعة منذ البداية... السؤال الأصعب، من الذي أفلت من الإعصار الأخلاقي والاجتماعي الذي ضرب بلداً بأكمله؟

الدستور المصرية في

07/06/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)