حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

سينما 2010

تقدمها : خيرية البشلاوي

·         ملف السينما الجديدة يعاني أزمة شباك

·         "تلك الأيام" .. ورحلة صعبة للفرجة عليه

·         الرجل الذي فقد ظله .. طبعة أخري في سياق زمني مختلف

·         تجربة طموحة لمخرج يبدأ المشوار بثقة

الأفلام الجديدة لشباب المخرجين التي تتبني أسلوباً فنياً ومواقف فكرية مغايرة للسائد تواجه صعوبة جمة في شباك التذاكر..

هذه حقيقة مؤلمة.. فمنذ أسبوعين وأنا أسعي لمشاهدة فيلم "تلك الأيام" مع الجمهور العادي بعيداً عن العروض الخاصة. وقد حاولت ثلاثپمرات دون أن أوفق لعدم وجود ناس للفرجة.. وتذكرة واحدة لاپتكفي لتكاليف العرض.

يوم الأربعاء انتهزت فرصة وجودي بالإسكندرية واتجهت إلي السينما التي تعرض الفيلم. ولم اذهب قبل أن اتصلپبالتليفون كي أتأكد أن حفلة السادسة شغالة.

قطعت المشوار الطويل إلي وسط المدينة ثم فوجئت بأن الفيلم لن يعرض لنفس السبب. وفي هذه الحالة لجأت إلي المقاومة السلمية وطلبت مقابلة مدير السينما وحكيت له عن المشوار الطويل الذي قطعته. والمكالمة التي أكدت لي عرض الفيلم في الميعاد لكنه رجاني أن أدخل لمشاهدة أي فيلم آخر مجاناً حتي حفلة التاسعة حيث احتمال وجود متفرجين مؤكد. وأفهمته أن كل المعروض عنده شاهدته فعلاً. وأنني مصرة كدافع تذكرة وقاطع مشواراً طويلاً. أن اشاهد الفيلم الذي أريده أخيراً وافق الأستاذ مصطفي مشكوراً علي أمل أن يأتي لاحقاً ولو زبون واحد.

جلست وحدي تماماً في الصالة.. ثم فوجئت في الاستراحة بوجود متفرج ولكنه نائم ولم أرتح لشكله. ولأول مرة أشعر بالخوف من ظلام الصالة.. وعدت أطلب المدير ثانية وأنا داخل الصالة حتي أتخلص من خوفپطارئ وسخيف. ولن يفهم الرجل دوافع المكالمة وهو علي علم بأنني أشاهدپالفيلم فعلاً.

هذه الواقعة أرويها وهي ليست المرة الأولي. وإن كانت الأولي التي أتوجس فيها خوفاً من المتفرج الوحيد في الصالة لأني تصورت انه تحت تأثير مخدر. أرويها حتي يشعر القارئ مدي الصعوبة التي تواجه أي مخرج يسعي للتغيير والخروج خارج السياق القائم والسائد. وبقول أكثر وضوحاً أن يكون فناناً يعبر عن ذاته ورؤيته بحرية ولاپيخضع للمعايير المتسيدة علي صناعة الفيلم!!

مشكلة السينما حالة الجمود العقيم للتوليفة المسيطرة علي الجماهير دافعة التذاكر وعلي مفهوم معظم المنتجين لماهية الفيلم السينمائي.

المفكر .. وضابط الشرطة .. والمرأة

هذا الثالوث يصلح لتقديم عشرات الأفلام في صياغات وعلاقات مختلفة ومتباينة. والصياغة التي اختارها أحمد غانم في أول أعماله للسينما الروائية الطويلة تتناول الجانب المجدب في علاقة هذا الثالوث. لأنها علاقة حسب التحليل من إفراز مناخ ثقافي سياسي اجتماعي اقتصادي يغتال البراءة ويرهب "من إرهاب" الصدق ويضع السدود أمام علاقات الحب الايجابية إذا ماتعارضت مع طموح السلطة.. ومن هذا التناول نفهم سيادة الإضاءة المعتمة التي غلفت أجواء الفيلم بغمامة من الغموض والكآبة مما جعله عسير الهضم علي المتلقي التقليدي.. وجعلت "مَتن" الفيلم نقيضاً لعنوانه "تلك الأيام" الذي يستدعي حالة من مشاعر "النوستالجيا" أو الحنين إلي الماضي.. مع أن الأيام المرصودة من ماضي الشخصيات تولد كوابيس تثير الفزع أكثر من الحنين.. القدرة علي الإقدام دفعت المخرج الشاب أن يدوس علي ألغام تنسف التقليدي السهل في طريقة السرد الروائي وتفرض علي المتفرج المستهلك للنوع المعتاد للترفيه الخالي من التعقيد والسفسطة الفلسفية أو النفسية التي تشبع رغبتهم في الترفيه. النسبة الأعظم من المتفرجين لا يحتملون التجريب أو الجهامة عند معالجة موضوع جاد.. هذا الموسم شهد أكثر من تجربة سينمائية لمخرجين يبدأون الخطوة الأولي في مشوارهم السينمائي بروح مختلفة ومعالجات بعيدة عن التيار الذي جرف الجمهور أو جرفه الجمهور في تفاعل متبادل إلي التوليفة الحريفة فاتحة الشهية.

الأدب .. فاعل نافذ

تلك الأيام يكرس من جديد دور الأدب الروائي كفاعل نافذپفي دعم السينما بالحكايات والأفكار والرؤي الواقعية والاجتماعية والفلسفية النفسية. وطبعة أحمد غانم السينمائية برغم اعتمادها علي رواية فتحي غانم التي تحمل نفس الاسم تظل تجربة فيلمية مستقلة لها مالها وعليها ماعليها.
في هذا الثالوث يحتل المفكر سالم عبيد استاذ الجامعة والكاتب الكبير المكان البارز. انه رجل مهم يرتدي عدة اقنعة. فهو رجل لكل العصور.. وانسان فقد ظله. انتهازي حتي النخاع. تسعفه القريحة في كل المناسبات بالكلام المناسب في كل مجال. طموح بلا سقف لطموحه. والغاية عنده تبرر الوسيلة ألعبان وخليط من لاعب السيرك والساحر. شهيته للمال والجاه لا ترتوي ولن يتحقق لها الاشباع حتي لو امتلك الأرض ومن عليها. قاس يدوس علي جماجم ضحاياه دون أن يرمش له جفن عاشق لذاته لدرجة العبادة.. هل هذا النموذج بعيد عن نماذج كثيرة وإن كانت لا تملك بالضرورة وسامة محمود حميدة وتكوينه الفارع. وهل يختلفپمن حيث الجوهر من نموذج الرجل الذي فقد ظله في رواية فتحي غانم التي تحولت إلي أكثر من عمل فني.

المرأة التي التقطها أملاً في علاقة عشق مُرطبة لحياته تصغره بأعوام طويلة. شابه نهمه لمباهج الحياة الدنيا. الخمر والمجوهرات والسيارات والملابس تعوض الجوع الذي عانته أسرتها. ويرغمها طواعية أن تدور في فلك هذا التايكون.

أماپرجل الشرطة فهو هنا شخصية مختلفة عن المألوف في السينما.. فقد دخل في الدائرة الجهنمية للحرب علي الإرهاب داخل وطنه. فصار الاغتيال بضاعته التي يتفوق في ممارستها ومطاردة الإرهابيين شغله الدائب وحركته اللاهثة لاجتثاث جذورهم شغله الشاغل. وقد اعتاد عليها بدرجة جعلته لم يفرق بين اغتيال إرهابي قاتل. وبين رجل قتلپصديقه فأرداه قتيلاً أمام زوجته وابنه الرضيع.

هذا الشرطي المهم واسمه علي النجار يقرر الاستقالة ويفتح محلاً لبيع لعب الأطفال "!" وخروجه من الدائرة المفرغة التي تفرضها رتبته لم تعفه من مطاردة ماضيه والذي يعجز عن الهروب منه. ومن جرائمه المشروعة التي كان ينجزها بمهارة سفاح بارد القلب.

المفكر استاذ الجامعة المرشح لتولي احدي الوزارات. والمرأة التي اشتراها التي تنزع له الحذاء وتقوم بتدليك أقدامه وتضاجعه بلا مشاعر مقابلپالرخاء الذي ترفل فيه. والضابط المطارد بماضيه. هؤلاء الثلاثة تتقاطع خيوط حياتهم علي نحو أو آخر. وبشكل مقبول موضوعياً. أو يحتاج إلي تمهيد أكثر اقناعاً. .. الأول يموت منتحراً. والاثنان الباقيان يديران ظهرهما لحاضر ملغم. ويخرجان سوياً إلي المجهول وكل واحد من الثلاثة ظل مسكوناً ومحاصراً وعاجزاً عن الخلاص الروحي.

محنة سالم المستعصية جاءت بعد لحظة صدق عفوية أثناء تسجيل احد البرامج يكشف اثناءها عن رأيه الحقيقي في الحزب والحكومة لمسئول أمريكي عبر قناة عربية علي الهواء مباشرة. ومحنة علي النجار انكساره وماضيه وصحوة الضمير التي تداهمه وقد دفعته إلي الاستقالة. ونقطة التحول بالنسبة للزوجة الشابة لا تتحقق إلا بعد انتحار الزوج الذي خطط لإيداعها مصحة نفسية أو التخلص منها بالقتل.

الأزمة اذن التي عاشها كل من الشخصيات الثلاثة مركبة. وقد دارتپحولها وحول الشخصياتپأنفسهم أحداث الفيلم. ولم تنفرج رغم ماقد يتصور البعض لأن النهاية لا تحدد ما سوف يجري بعد مصرع "سالم"..

انهم داخل حلقة مفرغة مثل قطع الشطرنج التي تلف حولها الكاميرا في أول مشاهد الفيلم وسط اضاءة تغلب عليها مساحات الظلال فالمزاج العام الذي يسود الفيلم معتماً حتي في لحظات الاحتفال بكشف الستار عن تمثال الأستاذ المفكر. وهو ذات التمثال الذي سقط في مشهد يذكر بما جري لتمثال صدام حسين بعد سقوط العراق.

جميع الشخصيات حتي الثانوية مثل شخصية أم سالم "صفية العمري" التي تعاني من ادراكها لحقيقة ابنها النابغة الانتهازي والزوج الفاشل لامرأة صغيرة تكرهه. ولامرأة أخري أمريكية ترك معها ابنه ولم يعد يعرف عنه شيئاً. وأخيراً يسقط برصاصة أمام عينيها.

والأم الثانية "سمية الألفي" ربما تكون الوحيدة التي ظهرت لثوان فقط وقد ظهرت في سلام مع نفسهاپلولا محنة ابنها التي تواجهها بقوة القيم الدينية التي تستعين بها.

المعادل الدرامي

نجح السيناريو الذي كتبته علا عز الدين بالمشاركة مع المخرج إلي درجة مُرضية في بناء "العقدة" التي تحتل المركز في حبكة الفيلم وذلك من خلال تشخيص مقنع للشخصيات التي عبرت عنها بأداء فاهم وتعبير مناسب وحساس وكرس هذا الاختيار الموفق لطاقم الممثلين. محمود حميدة في دور سالم عبيد يلخص بأقل قدر من الحركات الخارجية محنة داخلية عميقة لرجل اضاع ضميره بعد تجربة حياة صعبة عاشها في شبابه حين كان مشاركاً نشيطاً في الحياة السياسية وتعرض لتعذيب بدني وروحي من قبل رجال الأمن دفعه إلي الانهيار والكشف عن زملائه في نفس النشاط.. هو اذن رد فعل وليس فاعلاً رئيسياً. وعن ردود أفعاله الزواج والحصول علي جواز سفر أمريكي لقد دخل دائرة المال والشهرة والنفوذ السياسي ولم يفلت سوي بالانتحار وأحمد الفيشاوي في دور الضابط الذي تصدي للإرهاب بإرهاب مضاد الأمر الذي جره إلي دائرة الاغتيالات ولم يتخلص منها سوي بالاستقالة. ومنذ اللحظة الأولي لظهوره يعيش الممثل الحالة النفسية لشخصيته التي تخلت طواعية عن سلطة نافذة جلبت له القلق وقلة الراحة والعزلة واستطاع أن يترجم هذه الحالة الداخلية فقط بملامح وجهه وأسلوب حركته وصمته وأحياناً بانفعال فجائي يعكس شلالاً من الانفعالات.

شخصية المرأة الشابة أميرة لعبتها ممثلة تظهر لأول مرة في مغامرة من قبل المخرج محسوبة بميزان فني غير دقيق فهي تحتلپمساحة ليست صغيرة في السيناريو لم تملأها كلها باقناع خاصة المشاهد التي تحتاج إلي التعبير اللفظي الذي يشير إلي احتياجها للتدريب علي الأداء. ويختل الميزان أكثر في حالات الغناء الذي يفترض أنها تشكل معادلاً موضوعياً للحالة التي تعيشها هذه الزوجة المأزومة. فالغناء هنا لا يضيف لأن عناصر أزمتها واضحة عبر تفاصيل السيناريو ولاپالسياقپالذي جاءت فيه هذه الاغنيات يبدو متآلفاً مع باقي عناصر المشهد. فالممثلة تمتلك وجهاً مصرياً معبراً. وهي صورة من فتيات في مثل سنها. وقد يكون صوتها صالحاً للغناء والمشكلة في توظيفه في سياق مناسب. وحتي عادل أمين في دور الشخصية النافذة لعمله رئيس وزراء أو رئيس أي حاجة المهم انه لعبپدوره بإقناع. وجاء مشهد ظهوره مناسباً لإضافة رتوش اجتماعية إضافية لصورة الأستاذ المفكر صاحب النفوذ.

نشاز لافت

إن اختيار الأحداث والملابسات في مجملها مقنعة إلا في حالتين علي درجة كبيرة من الأهمية في تطور الأحداث وأشير بصفة خاصة إلي المشهد الذي حدث سهواً وأدي إلي وقوع الشخصية في شرك أعماله داخل الاستوديو في برنامج علي الهواء فمثل هذه الشخصية الداهية لا تقع في هذه المطبات القاتلة هكذا بسذاجة..

أيضاً صورة السفيرة الأمريكية التي بدت دخيلة بل ومعوقة للتفاعل مع أزماتپباقي الشخصيات والمعني المقصود من وجودها متحقق عبر تفاصيل أخري في السيناريو مفهومة ضمنياً.

* شخصية الأم صفية العمري تحتاج إلي مكياج مختلف يوافق بين مضمون الشخصية وشكلها الخارجي وتتفق مع وضعها كفلاحة محنكة وتمتلك ثقافة فطرية وأخري مكتسبة من خلال علاقتها مع ابنها الذي يعتبر مدرسة في الانتهازية السياسية والفساد الأخلاقي.

* سمية الألفي اعتقد أنها ظهرت في هذا الفيلم ربما مجاملة لابنها أحمد الفيشاوي. وقد شكل ظهورها بالشكل الذي بدت عليه "عنواناً" لمرحلة مختلفة من العمر تعيشها الآن بعيداً عن الأضواء.

* وعلي الجانب الفني نجح الفيلم في تحقيق بنية توافقية إن صح التعبير بين الماضي والحاضر وتأثير التداخل بينهما علي ردود أفعال الشخصيات وبنائها السيكلوجي الشيء الذي يلزم الاشارة إلي عمل المونتاج "أحمد داود" لا يوجد توافق من داخل الفيلم يبرر العلاقة الحميمة السريعة بين "أميرة" و"علي". وإنما تبريرها يأتي من خارج الفيلم لو فكرنا أننا أمامپزوجة مفرغة من أي اشباع روحي وغارقة في ماديات مظهرية لا تغني عن مشاعر الحب. وشاب مكسور نفسياً ولديه مازال حس أخلاقي وحساسية انسانية ولذا فهي ضعيفة جداً أمام شاب تعتقد أنه بطل فقد سبق أن أنقذها من موت محقق دون أن تعرفه أو يعرفها ومن هنا التبرير الذي كان يحتاج من قبل كتاب السيناريو إلي قدر من الإسهاب في رسم العلاقة.

إن العمل في مجمله تجربة مهمة في ملف السينما الجديدة التي قد تفتح أمام الفيلم المصري نافذة إلي عالم ربما يتفهم أكثر هذه التجارب التي تعبر عن "أزمة" لا يقبل عليها المتفرج العادي في مصر.. كثير من التجارب الجديدة غير الجماهيرية وجدت طريقها إلي المهرجانات العالمية. وفي هذا عزاء لصناعها إلي حين اشعار آخر.

المساء المصرية في

30/05/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)