حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

أراجوزات السياسة لاتزال تتراقص

كتب مها متبولى

يحطم فيلم «تلك الأيام» الأساطير الزائفة لأنصاف الآلهة من المحللين السياسيين ويكشف حيلهم الدنيئة في الظهور علي الفضائيات بهدف التحريض ضد الأنظمة السياسية والهدف الآخر هو تحقيق المكاسب الشخصية لا الانتماء أو الحفاظ علي الوطن والهوية والدين.

سياسيو الفضائيات تماثيل من الهواء تسقط مع أول زلزال فعلي الرغم من اعتدادهم بأنفسهم هم عبارة عن جراثيم متناهية في الصغر شديدة الخبث والدهاء كما أنهم مصدر خطورة علي الجميع.. الفيلم يقدم مذكرة احتجاج ضد هذه النماذج الشيطانية التي تبيع وتبيح كل شيء ويبحث عن مصير الضباط الذين ضحوا في صراعهم مع مخابئ الإرهابيين في حقول القصب بالصعيد.

فرق كبير بين من يعمل من أجل وطنه ومن يستغل ظروف وطنه السياسية ويتاجر بها ليحصل علي الدولارات والإتاوات ويفرح بلعبة الفضائيات التي تمنحه فرصة الظهور.. لكنها لن تتواني في الانقضاض عليه وقت اللزوم.

الفيلم يناقش الأصول الخاصة بلعبة السياسة في الشرق الأوسط ويفضح العملاء والمأجورين والباحثين عن الثراء علي أكتاف الشعوب.

كتب فتحي غانم رواية «تلك الأيام» عام 1963 لترصد أجواء التحول السياسي في الستينيات وصعود الشخصيات الانتهازية إلي السطح لتلعب دوراً مهماً في الرقص علي كل الحبال بالإضافة إلي انطلاق التيارات الدينية لتمثل خيطاً أساسياً في الصراع إلا أن كاتبة السيناريو علا عزالدين لا تدور في فلك حقبة الستينيات بل تقفز بنا 50 عاماً للأمام لترصد أجواء التحول السياسي في العقد الأول من الألفية الثالثة وتعتمد في ذلك علي الخيوط الدرامية الأساسية التي حددتها الرواية، ولكن مع تغيير الإطار المحيط بها حيث تسيطر السياسة الأمريكية علي كل شيء بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وبدء نظام العولمة وتطاول الكيان الصهيوني وبروز الفضائيات كوسيلة إعلامية للتناحر العربي - العربي دون الانتباه لما يحاك ضد الأمة العربية من مؤامرات سياسية ومخططات.

تجربة الفيلم ورؤيته لهما جانبان الأول سياسي يكشف الدور الأمريكي في الشرق الأوسط ومحاولتها الدءوبة في أن يكون لها عملاء يسبحون بحمد خطواتها السياسية ومباركة كل ما تقوم به من أفعال، والجانب الثاني هو الجانب الإنساني الذي يغوص داخل الشخصيات ليكشف تركيبتها النفسية ويبرر ما تتجه إليه من أفعال وتصرفات.

وإذا كان الفيلم يقدم شخصية «سالم عبيد» الانتهازي الذي يجسد دوره محمود حميدة فإنه أيضا يقدم لنا الشخصية المقابلة له وهي شخصية الضابط الذي أفني عمره في مكافحة الإرهاب والذي يجسد دوره أحمد الفيشاوي وفي الوقت الذي يعمل فيه الأول علي الاتجار بمواقفه السياسية يضرب الضابط مثالاً رائعاً علي الانتماء لأنه يتحول من ضابط لمكافحة الإرهاب إلي ضابط لمكافحة الفساد، وتدور أحداث الفيلم حول صراع أكيد بين قوي تستثمر السياسة لحسابها الخاص وقوي أخري تضع مصلحة البلد فوق كل اعتبار.

أما الرؤية العامة للفيلم فتستمد من الآية القرآنية «وتلك الأيام نداولها بين الناس» من سورة القصص التي تؤكد أن التغير هو سنة الحياة وأن الدنيا ما هي إلا لعبة شطرنج تستبدل فيها القطع الخشبية بأشخاص لها أدوار وتوجهات، ووفق قواعد هذه اللعبة هناك من يتأخر وهناك من يتقدم وهناك من يلقي به خارج الإطار ويفارق الحياة ولا يمكن لأحد أن يتنبأ بالنتيجة لأنه في ظل مفاجآت لعبة الحياة يمكن لصانع الموت أن يلقي حتفه في النهاية والميت يمكن انقاذه وتكتب له شهادة ميلاد جديدة في مضمار الحياة.

ويمزج المخرج أحمد غانم رؤيته السينمائية علي هذا الأساس ففي كل مرة يطالعنا بدوران الطاولة الموضوع عليها الشطرنج يكون ذلك نذيرا بالتحول علي مستوي الأحداث وما بين اللونين الأساسيين للشطرنج وهما الأبيض والأسود يغوص بنا الفلاش باك ليعقد نوعاً من الصلة بين الواقع الراهن والماضي القريب في فترة التسعينيات، حيث اقتحام حقول القصب ومطاردة الإرهابيين ودعم الأمن والاستقرار والفيلم تختلط فيه الرؤية الواقعية بالفانتازيا والحقيقة بالخيال حيث يلتقي د.سالم عبيد السياسي البارز والضابط السابق لمكافحة الإرهاب عند مفترق الطرق وتصبح «أميرة» التي تجسد دورها «ليلي سامي» هي مركز الاهتمام من الطرفين الأول يريد أن يستغلها لمصلحته ويشوه صورتها أمام أهلها والثاني يسعي لإنقاذها كما أنقذها من قبل عندما هاجم الإرهابيون قطار رحلة الطلبة إلي أسوان، ليطرح الفيلم سؤالاً مهماً وهو: من أولي بحب «أميرة» وقلبها.. السياسي المخادع الآفاق أم البطل المناضل؟ الأول يحبسها في حجرات زجاجية ذات قضبان خشبية لا تختلف عن السجن بأي حال من الأحوال والثاني يحاول أن يفك أسرها لا لشيء إلا لأنه يتمتع بالضمير والولاء والانتماء وسرعان ما تكشف لنا رموز الفيلم ورؤيته أن «أميرة» ما هي إلا مصر فعلي الرغم أنها اختارت السلطة والثروة والمال إلا أنها تبحث عن نفسها وسط هذا الركام.

وفي نهاية الفيلم يسقط تمثال سالم عبيد الذي ارتفع مع بداية الأحداث وتسقط كل قطع الشطرنج وتبقي أميرة وتبقي مصر وفارسها ليواصلا الحياة لأن الضابط الذي خاض معركته ضد الإرهاب قرر أن يخوض معركة أخري لا تقل عنها أهمية وهي معركته ضد الفساد والفيلم يكرم ضباط الشرطة ويرفع قامتهم أمام قامة السياسيين الذين يجنون المكاسب الشخصية والشقق الفخمة والسيارات الفارهة بينما يعيش ضابط مكافحة الإرهاب وحيداً.. شريدًا يتذكر الجرح الغائر في يده. ويعقد الفيلم مقارنة بين السياسي الذي يلعب بالأفكار والشعارات والتوجهات لحسابه الخاص وبين الضابط الذي يضحي بكل شيء لينقذ بلده ويحافظ علي أمنها ضد أية تهديدات وهو يحكم ضميره في كل ما يدور حوله من أحداث لدرجة أنه يعيش معذباً بمشاهد القتل وسقوط الضحايا التي تهوي من حوله مثل حبات المطر وترصد الرؤية السينمائية للمخرج نوعاً من الموازاة بين مشاهد سقوط المطر في الفيلم وسقوط القتلي لتؤكد علي الاختلاف لأن المطر يحمل الخير والانتماء بينما سقوط الجثث يعني الدمار الاجتماعي والخراب.

قراءة الواقع السياسي

د.سالم عبيد الذي حصل من أمريكا علي شهادة الدكتوراه ليعيش علي مبدأ «الغاية تبرر الوسيلة» ومن عبارة ميكا فيللي هذه يردد بطل الفيلم سالم عبيد أقواله ويستشهد بها في حواراته مع الطلبة في الجامعة مثل «إنسان بلا خطة يعيش كما تعيش الحيوانات» بل يتعرض الفيلم لوجهة النظر الغربية تجاه مظاهرات الطلاب في الجامعة من أجل القضية الفلسطينية التي يعتبرها بطل الفيلم خلطًا بين السياسة والدين وأن شعبان عبدالرحيم عندما قال «أنا بكره إسرائيل» كان أذكي من الطلبة لأنه عبر عن مشاعره وليس السياسة، وأن قانون المصلحة الأمريكي هو ميزان د.سالم في تقييم كل الأمور وهذا ما تعلمه خلال رسالة الدكتوراة ليكون مثل «الحرباء» جاهزاً للظهور باللون المناسب في الوقت المناسب.

الواقع السياسي العربي في الفيلم يتوزع بين ثلاثة أطراف الأول هو د.سالم عبيد الانتهازي الذي يجري وراء المكاسب الشخصية والثاني القوي الدبلوماسية الأمريكية المتمثلة في سفيرة بلاد العم سام التي تطالب سالم بفروض الطاعة والولاء لأنه يحمل الجنسية الأمريكية، ومن ثم يجب أن يساند دعمهم الكلي والجزئي لإسرائيل وهو الأمر الذي يتهرب منه، أما الطرف الثالث: فهي الحكومة المصرية التي تمسك بالعصا من المنتصف للحفاظ علي التوازن السياسي في الداخل والخارج وتعاني من القوي العربية التي تطلق ما لديها من فضائيات لتشويه الدور المصري. والمفاجأة أن سالم عبيد لا يلعب لمصلحة أي طرف من هذه الأطراف بل يلعب لحساب مجده الشخصي ورفع رصيدة من الثروة والمال عن طريق ابتزاز الأمراء العرب والحصول منهم علي آلاف الدولارات مقابل تجاوزه عن أخطائهم السياسية وهو لا يقيم وزناً لما يمكن أن يوجه إليه من انتقادات لذلك يقع في الفخ الذي نصبته له إحدي الفضائيات التي تحمل في الفيلم اسم «العرب» حيث يخرج الجميع إلي فاصل بينما يتم بث مكالمته الهاتفية الشخصية علي الهواء ليتضح أمام الجميع أنه شخص أفاق فيسقط تمثاله الذي يعبر عن اعتزازه بنفسه ليبدأ طريق الانهيار والانتحار ويكشف الفيلم تعاون بعض القوي الخارجية مع القنوات الفضائية العربية علي التقليل من أهمية الدور المصري علي الساحة السياسية الإقليمية.

فيلم يحسب له حساب

فيلم «تلك الأيام» يسجل شهادة ميلاد جديدة لمخرج واعد يفكر بلغة الصورة السينمائية، ويعتمد علي خطة فنية محكمة في توزيعه للأدوار فقد اختار لكل شخصية الممثل القادر علي تجسيدها.

وكان اختيار صفية العمري لتجسد دور والدة محمود حميدة في الفيلم موفقا لأن المخرج اراد تأكيد أن ولادة شخصية انتهازية بهذا الذكاء لابد أن يكون وراءها حية ناعمة قد أرضعته الخبث منذ البدايات، وفي الحقيقة أن صفية العمري نجحت في تجسيد هذا المعني لأنها رغم بعدها المكاني عن ولدها تعرف كل ما يدور في ذهنه من أفكار بل تضع له الخطة التي يسير عليها.

نجح المخرج في تقديم رؤية بصرية للأحداث تغزل خيوط السيناريو وتترجمه إلي رموز ودلالات بدءا من لوحة المرأة والقط الأعمي ذي العيون السوداء علي الجدار حتي اللعب بمساحات الضوء والظلام والتركيز علي الوجوه وما تعكسه من انفعالات.

وقد اكملت الموسيقي التصويرية عناصر الجمال والاتقان في العمل لأنها فرضت حضورها داخل إطار الأحداث فإذا كان الموسيقار «عبده داغر» ابدع روح هذه الخلفية النغمية، فهو جعل المشاهد يتذوق طعم الصراع الدرامي ويلمس اوتاره بمشاعره.

التمثيل والأداء

 أثبت محمود حميدة أنه ممثل ثري بالطاقات والامكانات الفنية لأنه ظل قادرا علي تجسيد تحولات شخصية سالم عبيد حتي النهاية وهي شخصية مركبة تتغير انفعالاتها من موقف إلي آخر ومن لحظة لأخري كما أنه يرتدي أكثر من وجه وأكثر من قناع ويمتص ما يتعرض له من ضربات وصدمات، واستطاع حميدة أن يقنعنا بضراوة وعنف الشخصية التي يجسدها دون أن يلجأ للزعيق والصراخ والخبط علي الجدران، وإنما بالتمثيل المتقن والأداء المناسب بلا زيادة ولا نقصان ليستحق أن يقلد لقب الأستاذية.

أحمد الفيشاوي يمتلك حضورا كبيرا في تجسيد شخصياته أمام الكاميرا لأنه دائما ما يهرب من الشخصيات التقليدية ويسعي للتمسك بالأدوار التي تضفي عليه نوعا من التألق وتضيف إليه المزيد من الإصرار علي إثبات الذات.. وخلال هذا الدور أكد أنه ممثل متعدد المواهب والطاقات فهو لا يجسد دور ضابط عادي، وإنما ضابط يعيش أزمة نفسية مع ضميره، ويحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الناس، دورًا مركبًا وصعبًا لا يفصل بين خيوطه المتداخلة إلا فنان يعرف كيف يدخل إلي الشخصية ويرتدي كل صفاتها ودوافعها الإنسانية فهو أقرب إلي معاناة المرضي النفسيين المطاردين بعقدة الذنب ويسيطر عليهم التوتر والقلق بعد أن مات صاحبه أمام عينيه وترك له الحسرة والألم وما يترتب علي ذلك من انكسار.

وفي المشهد الذي يلتقي فيه «علي» بـ«أميرة» في شقة يثبت الفيشاوي أنه بركان فني لا يستطيع أن يوقفه إنسان لأنه في هذا المشهد يحاكم «أميرة» محاكمة علنية يثبت خلالها أنه كاره للخيانة ولمن يلعبون علي كل الحبال يطيح بشموعها علي الأرض ويحطم أدوات الزينة التي اجتهدت في وضعها بشقته، لأنه يكره الجمال المزيف ويفضل الصدق مع الذات، يعكس المشهد قدرات الفيشاوي علي الأداء بتلقائية واتقان.

أما «أميرة» أو ليلي سالم فأجادت استخدام تعبيرات وجهها في تجسيد ما يدور في داخلها من مشاعر وانفعالات لتقدم لنا دورا يحسب لها في كل الأحوال ويمنحها الفرصة لتكون نجمة سينمائية وممثلة لها شأن كبير بمرور الوقت.

فيلم «تلك الأيام» بيان سياسي شديد اللهجة ونقد لاذع للانتهازيين والوصوليين، وعندما خرجت من مشاهدة الفيلم مر أمام عيني شريط ممتد من البرامج السياسية التي عرضتها قناة «الجزيرة» وظهر خلالها مفكرون ومذيعون مصريون فكل واحد من هؤلاء فيه جزء من شخصية سالم عبيد الذي كان يعتقد أنه يحرك اللعبة بأصابعه بينما هو في الأساس قطعة شطرنج قابلة للتداعي والانهيار والسقوط.

روز اليوسف اليومية في

20/05/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)