حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

عبد الهادي مبارك مخرج تمثيلية ثورة العشرين

السنين إن حكتْ

بقلم: زيد الحلي *

لقد علّمتني التجربة المرّة، إن الصحافة ليست آلات طباعة وقصاصات ورق وأداة شهرة زائفة وليست حروفاً او خطوطاً وألواناً على ورق، إنما هي في الأساس والأصل الصدق والدقة والحرية.

أول حالة “ نفير” فني حقيقي في تأريخ العراق تم سنة 1965 فما هي أسبابها؟.

في ذلك العام، تسلّم العراق، لتوّه أولى أجهزة التسجيل الفيديوي، حيث كانت كل المواد المحلية من برامج وتمثيليات وأغان تبث من "تلفزيون بغداد" على الهواء مباشرة.

مهندسو الشركة المورّدة لتلك الاجهزة بدأوا بنصب معداتهم بمشاركة عدد من الفنيين العراقيين الذين أنهوا دورات تدريبية مكثفة في أروقة تلك الشركة، وسط فرح العاملين في دائرة الاذاعة والتلفزيون. وعندما إنتهى العمل، أراد المسؤولون ان يبدأوا بخطوة فنية كبيرة تتناسب مع الحدث الكبير... وإستقر الرأي على إنتاج عمل فني وطني يرضي مشاعر العراقيين، فكانت تمثيلية طويلة تحاكي ثورة العشرين الكبرى وعهد الى الفنان "عبد الهادي مبارك" لإخراجها بعد ان أصبحت جاهزة تأليفا وسيناريو، وقد حملّت الاسم نفسه "ثورة العشرين" وشارك في تجسيد أدوارها حشد كبير جدا من الفنانات والفنانين العراقيين ومئات من ممثلي الكومبارس... وذلك العمل وفق ميزان ومنظور منتصف ستينات القرن الماضي، كان طفرة كبيرة في مسيرة عمل التلفزيون في العراق، الذي إعتاد ان يقدم جميع أعماله الفنية على الهواء مباشرة في تحد فني قلّ نظيره.

لقد ساهمت الصحف المحلية والصفحات الفنية فيها، في تعبئة المواطنين، لترقّب العمل الفني الوطني المحلي الاول المسجّل فديويا، كان الكل بإنتظار المفاجأة خصوصا ان العراقيين سبق أن شاهدوا أعمالا مصرية بثها "تلفزيون بغداد" مسجلة فديويا وحازت على إعجابهم الشديد، حتى إن موعد عرض تلك الاعمال كان إذانا بما يشبه "منع التجول" مثل مسلسل ”هارب من الايام“ بطولة عبد الله غيث وسميحة أيوب ومسلسل “ابن الحتة لمحمود المليجي وتوفيق الدقن وغيرها من الأعمال، الجميع كانوا يترقبون أعمالا محلية مسجلة على جهاز الفيديو العجيب.

حضرت تصوير بعض مشاهد “ثورة العشرين“ بدعوة من الصديق المخرج عبد الهادي مبارك، حيث تم إختيار أماكن قريبة من محيط بغداد آنذاك فيها بضعة تلال وأظنها كانت الارض القريبة من قصر الزهور، على مبعدة مئات الأمتار من منطقة الحارثية حاليا... لقد لاحظت ان التسجيل الذي تم من خلال سيارة "النقل الخارجي" جرى وفق سياقات العمل في إخراج التمثيليات التي كانت تقدم على الهواء مباشرة، وذلك بسبب إن تلك الأجهزة كانت "عمياء" مهمتها التسجيل فقط ولا غير التسجيل!! بمعنى لا يمكن للمخرج القيام بعمل المونتاج، مثلما يجرى الان... كان على العاملين في تلك التمثيلية ان يقدموها وكأنهاعلى الهواء“ تماما فالخطأ لا مكان له في اجهزة “فديو“ ذلك الزمن... وإذا حدث خروج عن النص او إرباك في التمثيل او الصوت، فإن على المخرج إعادة العمل برمّته من جديد.. لذلك وجدت المخرج يتهاون في الهفوات حتى لا يضطر.. للإعادة.

وفي ضوء ما تقدم، يمكن للمرء أن يتصور كيف إن الجميع كانوا بإنتظار تمثيليةثورة العشرين“ وفعلا، بعد أسابيع من الإعداد والتصوير الفيديوي أصبح العمل جاهزا.. وتنفس العاملون الصعداء وسجلوا أسماءهم كأول من ساهم في صناعة اول عمل درامي مسجل فديويا في تأريخ العراق... وأتذكر جيدا كيف ان وزير الثقافة والاعلام آنذاك عبد الكريم فرحان، دعيّ لمشاهدة العمل في مبنى الاذاعة والتلفزيون وقد أحاط به عدد من المسؤولين في وزارته بالإضافة الى عدد من أساتذة التاريخ والثقافة وعدد من الصحفيين.. الحدث ليس عاديا إنه عمل "ثورة العشرين" وقد تم تسجيله فديويا، وكرم الوزير على غير العادة، كادر العمل وأثنى على دور الصحافة في تسليط الضوء على منجز كبير سيحقق طفرة في العمل الفني العراقي لاحقا

ويقال ولست من المتأكدين من ذلك إن رئيس الجمهورية عبد السلام عارف جاء ايضا لمشاهدة العمل دون أضواء او إعلام وكذلك رئيس الوزراء طاهر يحيى.

وتم الاعلان عن جاهزية العمل وتقرر ان يعرض يوم الاربعاء 30 حزيران 1965 وسط حملة إعلامية واسعة لتهيئة المواطنين لمشاهدة "ثورة العشرين".

وهنا حدث لي ما لم يكن في الحسبان حيث تحولت مبادرة مني الى كابوس ظل يلاحقني في درب حياتي المهنية طويلا... كيف؟

في أثناء ذلك الوقت كنت اشرف على الصفحة الأخيرة في جريدة “العرب” البغدادية واعلمني عبد الرحمن الربيعي مدير المنهاج التلفزيوني “ليس الصديق القاص عبد الرحمن مجيد الربيعي“ ان عرض هذه التمثيلية، المفاجاة، سيكون ليل الاربعاء -الخميس 30 حزيران على شكل تمثيلية سهرة.

إخباره لي تم يوم الاثنين 28 حزيران اي قبل اليوم المحدد للعرض بيومين وقد اكد إن الاعلان الرسمي للعرض سيتم غدا “الثلاثاء”.. إذن الصديق الربيعي أعلمني بخبر موعد العرض شريطة عدم النشر وقد إلتزمت بذلك، لكني لم التزم بأهم شروط العمل الصحفي وهوالدقة والمصداقية.

لقد إفترفت الخطأ غير المغتفر، في مسيرتي المهنية ، عندما توجهت الى مبنى الجريدة في شارع الصحافة “السموأل“ في منطقة الميدان برصافة بغداد وجلست وراء طاولتي المتواضعة لأعد مادة تنشر صباح يوم الخميس 1 تموز اي بعد العرض “المفترض لتمثيلية السهرة، مباشرة... بدأتها بالسطور التالية “عرض تلفزيون بغداد امس الاربعاء، اول عمل درامي مسجل فديويا هو تمثيلية "ثورة العشرين" وقد ارفقت الخبر متباهيا، بسطور نقدية بسيطة من واقع مشاهدتي السابقة لها مع مجموعة الزملاء... وقد دفعت تلك المادة للاستاذ شاكر علي التكريتي مدير التحرير ولسوء حظي لم ينتبه لما إقترفته من إثم مهني، فدفع بتلك المادة الى التنضيد، ربما كونها مادة فنية لا تستحق التدقيق !! ... وفعلا تم تنضيد الموضوع ودفع مع المواد المهيأة للنشر يوم الخميس.

غادرت الجريدة، مساء الاربعاء، يوم العرض المؤكد، متوجها الى بيتي ومن ثم الى فراشي بوقت مبكر على غير العادة، حيث بدأ الليل يلملم زوايا الضوء ويصادر النور وأنا غير مكترث للعرض كوني شاهدته سابقا، وكلي إطمئنان، إن الجريدة ستصدر غدا، وفيها نقدا للتمثيلية التي طال الحديث عنها، وبذلك تكون الجريدة التي أعمل فيها، اول مطبوع عراقي ينشر، مادة نقدية لعمل، إنتهى عرضه قبل ساعات من صدور الجريدة، ولكوني اعرف، إن التمثيلية، موضوعة الحديث يستمر عرضها لمدة ساعتين، وقد حدد وقت العرض الساعة 11 مساء، إذا سينتهي عرضها الواحدة صباحا، فيما إن عدد الجريدة سيكون في الأكشاك ولدى الباعة الجوالين الساعة 6 مساء.

كان الفرح يغمرني لأن الجريدة ستصدر، وهي تحمل اول نقد فني لأول عمل فديوي عراقي وكنت كمن يرقص على إيقاع نشوة زائفة.. كان زهوا خاويا، كاد ينهي حياتي المهنية الى الابد، لولا لطف الله ... فالتمثيلية لم تعرض في ليل ذلك اليوم بسبب "خلل فني" أصاب جهاز دوران اشرطة الفيديو المسجلة عليه.

ولم تستطع الجريدة تدارك الامر .. بالرغم من ان صفحتها الاخيرة حملت نقدا للتمثيلية التي لم تعرض على المشاهدين فيما ان المادة المكتوبة تشيىء الى إنها ... عرضت.

كانت تلك إحدى أهم الاخطاء في حياتي المهنية، ولم ينفع معها الاعتذار الذي كتبته لاحقا لـ “الفضيحة“ التي إقترفتها، وأصبح الصحفيون من أصدقائي وغير أصدقائي يتندرون على “السبق الصحفي“. بل وصل الامر الى ان يقوم الصحفي الفكه الاستاذ مجيب حسون صاحب مجلة “المتفرج“ بنشر كاريكاتير على الغلاف حمل عبارة “الحلّي بطل ثورة العشرين“... وهي عبارة هازلة لم استطع تجاوز آثارها إلا بعد .... حين.

لقد تفهم الاستاذان رئيس ومدير تحرير الجريدة نواياي، حيث اوضحت لهما إنني لم اقم بعملي الخاطىء عن قصدّية مهنية، بل كنت اظن اني اقدم شيئا جديدا للقاريء، يحسّسه بان الصحافة تواكب الاحداث ولا تلهث وراءها.. لقد كنت متيقنا ان العمل الذي كتبت عنه نقدا، عن مشاهدة سابقة، سيعرض لا محال كوني وجدّته، كما قلت مثبتا في منهاج يوم 30 حزيران ...لكني، اقول هنا، إن ما قمت به كان خطأ كبيرا، لأنني لم أضع إحتمالا، لعدم عرض هذا العمل.

لقد علّمتني، تلك التجربة المرّة، إن الصحافة ليست آلات طباعة وقصاصات ورق وأداة شهرة زائفة وليست حروفا او خطوطا وألوانا على ورق... إنما هي في الأساس والأصل: الصدق والدقة والحرية.

ففي ذلك الثالوث تحيا الصحافة وبدونها تصبح قصاصات ورق وحروفا بكماء خرساء لا تشع ولا تضيء، تماما مثل مادة النقد التي كتبتها لعمل لم ير النور، إستعجالا لكسب شهرة عرجاء، واقول وأنا أستذّكر سنواتي المهنية الطوال، إن الفخر ليس ان لا تسقط. بل الفخر أن تنهض كلما سقطت، لقد كادت تلك الحادثة، إن تخمد حرائق الاندفاع المهني في دمي، وتسكن الجليد في اروقة شراييني، لكن ذلك لم يحدث والحمد لله، فلم اهرب، بقيت واقفا، صلبا، صحيح اني قلقت في الصباح عندما واجهت أستاذي شاكر علي التكريتي الذي وجّه لي تانيبا شديدا، لكنه كان قلق الصحفي الذي يريد تصحيح ما وقع فيه من فعل كان يظنه صحيحا، فأنتقل الى العكس، وإن شعوري بالندم والذنب لما فعلت، لم أدعه يدوم طويلا، لقناعتي إنه من المشاعر التي على المرء التخلص منها سريعا للبدء من جديد على الطريق الصحيح... ولو خضعت لتلك الانتكاسة، ما إستطعت ان احكي حكاية اول عمل عراقي سجلّه التلفزيون في العام 1965.

إن الانسان والصحفي على وجه الخصوص، الذي يصرّ على عدم تجاوز الخطأ، سيبقى يراوح في ذات المكان الذي بدأ منه وكأنه توقف في حائط .... الحياة.

* صحفي عراقي ميم في دمشق

zaidalhilly@yahoo.com

ميدل إيست أنلاين في

13/05/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)